وهكذا تعود نديم أن يكون معه فرغلي دائما. ولم يكن غريبا أن يرى طلبة الكلية فرغلي، وهو لا يخلو إلا إلى نديم.
ونظام الأقسام الذي تسير عليه الكليات، ويطلق عليه كلمة السكشن التي أصبحت عربية لانفرادها في التعبير عن هذا النظام، لم يستطع أن يجعل فرغلي يصادق أحدا آخر من زملاء السكشن، فهم بالنسبة إليه معارف، ويظلون كذلك لا أكثر. وظل فرغلي ونديم على علاقاتهما النسائية، ولم يمنع الاتفاق الجديد الذي تم بينه وبين أمين الشبراوي استمراره في خروجه مع نديم ومصاحبته للفتيات اللواتي يتكفل نديم وحده بالحصول عليهن.
ولكن نديما يفاجئه يوما بشيء جديد، وكان فرغلي قد اختلط بالحياة اختلاطا يصعب معه أن يواجه الدهشة، ولكن هذا ميدان جديد. - ماذا تقول؟ - كبرنا على شغل العيال هذا. - ماذا تقصد؟ - اسمع لا بد لنا من شقة. - ماذا؟ - شقة. - طبعا أنت تعرف أنني لا أستطيع المشاركة في إيجارها. - كيف؟ - أنت تعرف ضيق مواردي. - إنها شقة صغيرة لا تكلفنا أكثر من ثلاثة جنيهات أو أربعة كل شهر. - ولا مليم واحد. - لا عليك أدفعها، ولكن تأثيث هذه الشقة لا بد له من مبلغ. - ولا مليم. - يا نهارك أسود. - ما أوله شرط آخره نور. - لا تكن باردا واشتر سريرك على الأقل. - إن كان على قد السرير أشتريه وأمري إلى الله.
وتم المشروع في سهولة ويسر، فما أسرع ما وجدا شقة بمنطقة باب اللوق! وما أسرع ما فرشت، فقد كان فرغلي منذ اتفاقه مع أمين الشبراوي في حالة مالية منتعشة استطاع بها أن يصبح ذا مبلغ مدخر، ثمن السرير بالنسبة إليه زهيد لا ينقص من شأنه. ولو عرف الحقيقة لتبين له أنه أكثر يسرا من نديم ومن أبيه، ولكن أسماء العائلات طالما سترت حقائق البيوت التي يتكون من مجموعها هذه الأسرات. •••
كان فرغلي حين استأجر الشقة مع نديم ينتوي في نفسه أمرا لم يطلع صديقه عليه، إلا أمرا واحدا كان يقف عقبة بينه وبين ما ينتويه؛ ولذلك لم يكن عجيبا أن يقول لنديم فجأة: يا أخي أمرك عجب. - وما العجب؟ - أنت دائما تعرفني بالنساء ولا تعرفني بالرجال. - عجيبة؟! - العجيبة منك أنت. - يا أخي لقد مرت على صداقتنا سنوات وأوشكنا أن نصل إلى السنة النهائية، وأنت لا تفكر في صداقة أحد من زملائنا منذ كنا في الثانوي، فماذا حدث؟ - الناس تتغير. - حتى أنت؟ - ألست من الناس؟ - فيها شك.
ومنذ ذلك اليوم أصبح فرغلي يصحب نديما في الجلسات الرجالي أيضا، وتعرف بأصدقاء نديم الذين كانوا دائما مندهشين أنه يتباعد عنهم. كان أصدقاء نديم كثيرين، ولكن ثلاثة منهم كانوا يجتمعون أغلب أيام الأسبوع في مكانين محددين لا يتغيران؛ قهوة بوديجا شتاء وكازينور صيفا. وكانت هذه اللقاءات تتوقف دائما عندما تقترب الامتحانات. وحين انضم فرغلي إلى هذه الجلسات كان يذهب دائما متأخرا، وكان نديم وحده يعرف السبب، وكان الثلاثة الآخرون لا يهتمون بهذا السبب. كان الشباب هم فتحي الرويعي وفاضل مبروك ومنصور ممتاز، وكان ثلاثتهم في كلية التجارة، وكانوا جميعا يعاملون فرغلي معاملة زميل يوشك أن يصبح صديقا إلا فتحي الرويعي فقد لاحظ فرغلي منذ أول يوم جلس إليهم فيه أنه يحاول أن يتقرب منه ويوثق صلته به.
حرص نديم منذ اليوم الأول لتأثيث الشقة أن يعلن البشرى لأصدقائه ودعاهم في اليوم التالي إلى تناول العشاء بها. - عشاء فقط؟ - عمى في عينك وماذا تريد غير هذا؟ - يجب أن يستعمل الشيء لما خلق له. - اعملوا حسابكم هذه أول مرة تدخلون فيها الشقة وهي بإذن الله الأخيرة. - لا بأس، ولكن اجعل القعدة مقبولة بعض الشيء. - هو العشاء فقط يا فتحي. موافق أم ألغي العزومة كلها. - موافق ... موافق ...
والواقع أن فتحي وحده هو الذي كان يهمه أن يستخدم هذه الشقة، أما فاضل ومنصور فكانا في غير حاجة إليها. وتمت العزومة ونسي الأصدقاء بعد أيام قليلة أمر الشقة وعادوا إلى مألوف حديثهم. وكان الحديث في هذه الأيام يدور بين الشباب في كل شيء، فمنهم من يحب الأدب ويقرؤه بينهم، وكانوا الآخرون لا ينصرفون عن هذا الحديث إذا بدأه فاضل مبروك، فيهم أيضا هواة وليس بين خمستهم من لم يقرأ كتابا لطه حسين أو توفيق الحكيم أو العقاد أو هيكل؛ فالحديث في الأدب غير ثقيل عليهم، وكان المتحدث لبقا يعرف متى يميلون إلى الحديث ومتى يميلون عنه، وقد يأخذ منه منصور طرف الحديث فيتكلم عن صراع الأحزاب، وعن أغلبية حزب الوفد، وعن صمود الحزب ضد السراي وأحزاب الأقلية، كما يحب الوفد أن يسمي الأحزاب الأخرى. ولا بد أن يتكلم فتحي عن وجوب القضاء على كل هذه الأحزاب وقتل زعمائهم حتى يحكم الشعب، والشعب عند فتحي هم الفلاحون والعمال الذين لن تحل الأمور إلا على أيديهم.
فالحديث متنوع لا أثقال فيه على أحد، وكل شخص منهم مشارك فيه لا يضيق بالاستماع ولا يضيق به إخوانه إن تحدث، وكان نديم باشتراكه في هذه الأحاديث يكون، دون أن يدري، ثقافته العامة؛ فهو لم يكن من هواة القراءة، وقد كان أمثاله كثيرين، إلا أن الجو العام الذي يعيشون فيه يرغمهم أن يكونوا على قدر لا بأس به من الإلمام باليسير من كل شيء، وكان جميعهم مشاركا في سياسة مصر بالحديث إن لم يكن بالانتماء إلى الأحزاب أو التجمعات.
وكان فرغلي خيرا من نديم في هذا الشأن، فقد مكنه اتصاله بأمين أن يكون على صلة وثيقة بكثير من الأحداث، كما استطاع أن يتعرف منه على أسماء الشخصيات التي تحرك السياسة المصرية، وكان حكمه عليها هو حكم أمين وحده، ولم يعن أن يحاول التعمق في حقائقهم ولا فيما يقف وراء كل منهم من ماض مكن له أن يكون ذا شأن في سياسة مصر.
صفحة غير معروفة