كان يراهم حين يأتي بهم أبوهم من حين إلى آخر مدعيا أنه يزوره ويرى أخته ولكنهم كانوا بالنسبة إليه عدما من العدم. عرف أسماءهم لأنه وجد أنه لا بد أن يحفظ أسماءهم، كانوا فاروق ويحيى ومسعود ونبوية. ولم يكونوا عنده إلا هذه الأسماء ثم هم بعد ذلك بلا معالم فهو لا يعرف من فاروق ولا من يحيى، ويميز نبوية بضفيرتيها، ولكنه يعرف مسعود أنه الطفل الذي ما زالت أمه تحطه على كتفيها. ومع ذلك فهو لا يرى، أو هو لا يهمه، أن يرى أي فارق في الملامح بين أحدهم والآخر.
وقليلا ما كانت تدوم زيارة الأب وزوجه وأبناؤه ثم تعود الحياة إلى طريقها الذي تعود أن يسير فيه، وقد كان اعتذاره عن عدم الذهاب إلى البلدة في الإجازة حاضرا عن قريب. فهو يقول لأبيه إنه لا يستطيع أن يترك مكانه في المكتبة، وكان أبوه وزوجته يصدقانه، وكانا يريدان أن يصدقاه.
كان جالسا بالمكتبة في ظهيرة يوم من أيام الإجازة حين جاء أمين الشبراوي على غير موعد، وكان الشيخ سمهان قد ذهب إلى الجامع ... الحر شديد، وأمين الشبراوي يبدو وكأنه امتص أشعة الشمس كلها فالعرق يسيل على وجهه ويقطر من لحيته، وحين يصل إلى عتبة المكتبة يقفز إليها مستجيرا بظلها من حر الطريق. - الحقني بكوب ماء. - أحضر لك حاجة ساقعة؟ - احضر ما تشاء. فقط الحقني أولا بكوب ماء.
وحين شرب وطفر الماء عرقا إلى جبهته ووجهه راح يجفف البحار المنبجسة منه، ثم أخذ يهفهف بالمنديل حتى استرد أنفاسه وراح ينعم النظر في فرغلي وعلى جبينه حديث يكاد يطفر مثل العرق. ورأى فرغلي الحديث ولكنه لم يقرأه ... كهمهمة تلوح في خلجات ولا ترتعش بها شفاه. كمعنى يعرف أنه موجود ولكنه لا يستطيع أن يغوص إلى مداه ولا يستطيع أن يستبين منه لمحة.
وحين أصبح فرغلي على يقين أن حديثا خطيرا في طريقه إليه من أمين رأى في عينيه وميضا ثابتا؛ فهو شعاع نافذ، فيه نور وفيه إصرار وفيه توقع وفيه إرادة، وتتجمع هذه المشاعر لتكون لونا من التصميم. - ألم تفكر مطلقا لماذا أزور الحاج سمهان؟ - أنا لا أفكر في شيء أنا واثق أنني لن أصل فيه إلى نتيجة. - على الأقل حاولت. - ولم أحاول؟ - ولا تريد أن تعرف؟ - يا أستاذ أمين أنا هنا لأستعين بمرتب الحاج سمهان على المعاش. والذي يحتال على المعاش لا يصرف فكره إلى شيء. - هذا كلام ظاهره العقل. - وباطنه أيضا. - لا، أما باطنه فشيء آخر. - أتعرف علم الباطن يا أستاذ أمين؟ - أعرف الناس يا أستاذ فرغلي. - لماذا لا تقول ما تريد؟ - لكل كلام مقدمة. - أطلت التقديم. - لعل الموضوع يحتاج إلى هذا. - ولكنك تعرف الناس. - ومع ذلك أحتاج إلى تقديم طويل. - أنت أدرى بما تخفي. - ألست مؤمنا بالله؟ - أيبدو علي عدم الإيمان؟ - ولا يبدو عليك الإيمان أيضا. - أمن علم الباطن هذا؟ - من الشواهد. - مثل ماذا ؟ - أنت لا تصلي. - وكيف عرفت؟ - أنا ... أنا أعرف. - المفروض أن تكون صلاتي لله وليس لك. - أستعفر الله؛ إنما أقصد أنى لم أرك تصلي. - وكيف يمكن أن تراني؟ - لي سنوات وأنا أعرفك. - إنك قلما تجيء إلا بعد صلاة المغرب، فأي فرض يمكن أن تراني أصليه؟ - فأنت تصلي إذن. - هذا بيني وبين صاحب الصلاة. - يهمني أن أعرف. - لا يمكن أن تعرف. - سأصدقك إن قلت. - هبني أصلي. - فأكمل دينك. - بالزواج؟ - بل بالجهاد. - أهناك حرب إسلامية؟ - الحرب الإسلامية لا تنتهي. - أنا لا أعرفها. - عملي أن أعرفك بها. - في أي ميدان؟ - في الوطن. - وما الوسيلة؟ - هذا عملي أيضا. - ولكن الحرب، أي حرب تحتاج إلى أدوات. - نعرف ذلك؛ كيف نكون في حرب ولا نعرف أن لكل حرب أدواتها. - وماذا عندكم من أدواتها؟ - كل أدواتها. - أتعرف أهم عنصر فيها؟ - الروح الإسلامية. - هذه مفروضة في كل من يشترك معكم. - فأي عنصر تقصد. - لا بد أنك تعرفه. - إن جهادنا حتى اليوم اللقاءات والأحاديث والمنشورات. - وهذه جميعا ميسورة. - لعلك تقصد ... - المال. - موجود. - إذن فقد اكتملت عندكم أدوات الحرب. - هي مكتملة. - وأنا معكم على بركة الله. - ستدخل في اختبارات كثيرة. - وأنا مستعد بإذن الله. - إذن نلتقي اليوم بعد أن تقفل المطبعة. - أنكتم الخبر عن الحاج سمهان؟ - المفروض أنني الوسيط بين كل العاملين، وليس من المفروض أن يعرف أحد منهم الآخر. - ولكن العلاقة بيني وبين الحاج سمهان ... - لا شأن لهذه العلاقة بما ستقوم به. - ربما غضب. - أولا هو لن يعلم، وثانيا ما أهمية غضبه. - يقطع عيشي. - لا يستطيع، إنه لن يفعل ذلك، وهو من أهم جنودنا. - ولكنني أعرف أنه منكم وهو لا يعرف. - لقد عرفت هذا بحكم عملك فليس من المحتم أن يعرف هو؛ ما دمنا نستطيع أن نخفي الأمر عنه فلا بد أن نخفيه. - أين نلتقي؟ - في جامع الرفاعي. - وهو كذلك.
وهناك عرف فرغلي أن دوره في أول الأمر سيقتصر على توزيع المنشورات وبث الدعوة بين إخوانه ومن يعرفهم، وأن أول مرتب له سيكون عشرة جنيهات شهرية يستعين بها على التنقل وإكرام الأصدقاء.
8
في الجامعة أشياء غير العلم
حين دخل فرغلي كلية التجارة حرص أن تكون علاقاته مع زملائه أكثر تباعدا من علاقاته بالمدرسة؛ فالكلية فيها سعة من الأبهاء، والمدرج يستطيع أن يستوعب مئات الطلاب قد يبلغون الألف، والصداقة بين بعض الطلاب والبعض الآخر تأتي جاهزة من المدرسة الثانوية، وهكذا كان نديم وحده هو الصديق الذي يعرفه فرغلي، أما التلاميذ الآخرون الذين كانوا زملاء لهما في مدرسة الخديوي إسماعيل فقد يكون بعض منهم صديقا لنديم ولكنهم بالنسبة لفرغلي معارف وليسوا أصدقاء، وظل فرغلي حريصا ألا تزيد العلاقة بينه وبينهم عن هذا.
نديم وحده هو الذي كان يخرج معه ويشاركه صلاته بالبنات. وبطبيعة الأمور كانت سهام وقدرية قد تزوجتا، ولكن نديم دائما كان قادرا على اجتذاب مثيلات لهما، وكان يحرص أن يكون فرغلي رفيقه في مغامراته. فقد أدرك نديم أن صمت فرغلي، وهذا الجمود الرابض على وجهه يجعل الفتيات يغرمن به ويحاولن أن يخرجنه من القفص الحديدي الذي يستوي بداخله. وكانت هذه المحاولات تجعل الجلسة مليئة بالحياة، وهو أمر طبيعي يحدث دائما حين يكون بين الحاضرين شخص لا يشبه الناس في مألوف ما يصنعه الناس، وأي شذوذ أكثر من شاب في ريق العمر لا يبتسم ولا تصفو نفسه في جلسة أنس، وهو في الوقت نفسه يغازل ويتقرب من الفتاة التي يوزعها عليه نديم.
صفحة غير معروفة