أحوال المدالث الفراتية الجغرافية ومقابلتها بمدالث
1
مصر وبنجاب (1) الجزيرة القديمة
المراد بالجزيرة عند العرب: الأرض التي تحيط بها المياه من كل جانب أو تكاد، فهي تنطبق على ما يسمى بالجزيرة حقيقة، وعلى ما يسمى بشبه الجزيرة أيضا. ولم ينظر العرب إلى نوعية هذا الماء المحدق بتلك الأرض، فسواء كان عندهم ذلك الماء ماء بحر أو ماء نهر؛ ولهذا قد أطلقوا منذ القديم اسم الجزيرة على ما يسميه الإفرنج «ميسو بوتاميا»؛ أي بين النهرين. وهذا الذي نريده هنا بلفظ الجزيرة، فهي الديار الممتدة، من هضاب أرمينية إلى مصب شط العرب. (2) أحوال المدالث الفراتية الجغرافية
تعال نركب طيارة تحلق بنا في الجو، ونذهب بها إلى المحل الذي ينبع منه الفراتان: دجلة، والفرات، فإذا صعدنا مجرى كل منهما نرى ماءهما ينبط من محل في أرمينية من أسفل جبل كان يعرف عند الأقدمين باسم «نغاطس »، وهو الذي يسميه العرب في عهدنا هذا جبل نمرود، أو جبل ذي القرتين، وعند الترك «كلشن طاغ»، وهو أعلى الجبال التي تطرد بين البحر الأسود ونجد إيران، وفي بعض المواضع منه يبقى الثلج على مدار السنة. أما ماء الفرات فيتجمع من واديي مراد وقرمصو، فإذا جمع بينهما هرب بمياههما إلى الشرق، ثم يفر بها إلى الغرب دافعا إياها في مختنقات جبال وعرة وأودية ضيقة، فإذا جاوز ملطية قفز قفزة فجائية كأنه يحاول الفرار إلى الجنوب الغربي، فيخدس لنفسه معبرا في الطورس، طالبا بحر الروم الذي يميل إليه كل الميل، ثم كمن يرعوي عن غيه يعود إلى الجنوب الشرقي في جهة خليج فارس. أما دجلة فإن مخرج رأسه من «جوار مراد»، لكنه يجري في الغرب إلى الشرق في جهة مخالفة لجهة شقيقه، فإذا خرج من الجبال يميل إلى الجنوب، ويحاول أن يدنو من أخيه الفرات رويدا رويدا، فإذا صار في جوار بغداد أخذ كل واحد منهما يحاول مصافحة أخيه كأن الواحد يقول لشقيقه: تعال نجتمع في هذه المدينة القديمة ونتعاهد على ألا نتفارق، فيكاد كل واحد منهما يتفق مع الآخر؛ إذ لا يفصل الواحد عن الآخر إلا مسافة بضع ساعات في سهل مطمئن، وكأن عدوا سمع ما ينجم من اتفاقهما إذا ما اجتمعا في بغداد، جاء فوشى بالواحد بعد الآخر إلى صاحبه وفرق بينهما، فأخذ كل منهما يسير على موازاة شقيقه وهو ينظر إليه شزرا مسافة 20 إلى 30 ميلا، ثم يعودان فيفترقان ولا يتفقان إلا بعد أن ينحدرا نحو ثمانين ساعة؛ إذ يتحققان أن الفراق لا يفضي إلا إلى هلاك كل منهما في الفلوات المحرقة، فيتصافحان عند القرنة، ومن هناك ينحدران مشتركي القوى ليصبا في خليج فارس.
والفرات يرحب من جهة يساره عند وسط مجراه بزائرين، وهما: البليخ، والخابور، ومنذ اتصل به الخابور إلى أن اجتمع بأخيه لا يزوره أحد، أما دجلة فإن زواره أكثر من ذلك، فإن الزابين الأعلى والأسفل يأتيان فيرويانه بمياههما، ثم يجاريهما في هداياهما عظيم وديالي، وكل من الفراتين تجري فيهما السفن في أغلب قسم من منحدرهما، فالسفن تجري في الفرات من سميساط، وفي دجلة من الموصل، وعند ذوبان الثلوج - ويكون ذلك في أوائل نيسان أو أواسطه - يغتاظ الفراتان، فيرغوان ويزبدان ويحبلان غصبا من الربيع؛ فيطفحان بمياههما ويطغيان على ما جاورهما من الأرضين، فاعلين ما يفعل النيل في ديار مصر، ولا يعودان إلى مألوف مجراهما إلا في أواخر أيار أو أوائل حزيران، عندما يبتدئ الحر بكسر شوكة هذين الشقيقين المستبدين. (3) تكون أرض العراق
لم يكن منظر الفراتين في كل عصر على ما نشاهده اليوم؛ لأنهما عند خروجهما من الجبال ما كانا يرويان في العهد السابق للتاريخ إلا السهل الممتد أمامهما فقط، وهو سهل ثانوي التكون يعرف بالجزيرة، وأرضها في غاية الخصب عند ضففهما وضفف سواعدهما وفي الأمكنة التي تنبط فيها العيون، وفيما سوى ذلك فإنها قفرة جردة. والطرف الجنوبي من السهل كان بمنزلة شاطئ البحر، وكان الرافدان يدفعان فيه والواحد عن الآخر على مسافة عشرين ساعة في خليج يحده من الشرق آخر إسناد جبال إيران، ومن الغرب جبال الرمال التي تتأخر نجد بلاد العرب.
والقسم الأسفل من سقي الفراتين أرض حديثة النشوء بالنسبة إلى غيرها مما يجاورهما من الشمال، وقد أنشأها تراكم غريل الرافدين وسائر الأنهر، كعظيم، وديالي، وكرخا (خواسب) التي كانت تجري على هواها حيثما شاءت، ثم ينتهي بها الأمر إلى إفراغ مياهها في البحر. أما اليوم فإنها أصبحت من سواعد دجلة ومن ممداته بمياهها، وفي عهدنا هذا نرى مدالث شط العرب (دجلة العوراء سابقا) تتقدم بسرعة، ويظهر جرف جديد قدره زهاء 1500 متر كل سبعين سنة، أما في الأعصر الخالية فكان نموه أبين مما هو اليوم، ولعله كان يرتفع 1500 متر في كل سبعين سنة.
في العصر الذي أقام أجداد الكلدان الأولون في وادي الفراتين كان خليج فارس داخلا في البر نحو مسافة أربعين ساعة عما هو عليه الآن، وكان الفراتان يدفعان في البحر متوازيين غير متحدين، ولم تختلط مياههما إلا بعد ذلك بألوف من السنين. (4) مدالث النيل وبنجاب
وما يقال عن الفراتين يكاد يقال عن النيل وبنجاب، فإن النيل ينبع من أرض وراء خط الاستواء، وإذا جرى مسافة جاءته جميع المياه التي تجري من البحيرات الكبرى الواقعة في أفريقيا الوسطى، ودفعتها إلى نحو الشمال خلال فلوات عظيمة تقطعها غابات ومستنقعات، ثم يدفع فيه من اليسرى بحر الغزال ما يطفح منه، وعن يمناه مصب فيه نهر سبات والنيل الأزرق والتكزة، وهي مياه تنزل كلها من جبال بلاد الحبش، ثم يصطدم بعد ذلك بنجد الصحراء الكلسي، ويحفر فيه لنفسه فراشا متمعجا تقطعه خمس مرار شلالات، ثم ينحدر رويدا رويدا نحو بحر الروم بدون أن يزيده ماء أحد السواعد. والقسم الشمالي من واديه بين شلال أسوان والبحر أنشأ في كل وقت أرض مصر الشهيرة في التاريخ، وهو يطغى كما يطغى الفراتان، ويكون طغيانه من الأمطار الغزيرة التي تنزل في شباط كل سنة على أنحاء البحيرات العظام، وحينئذ يعظم النيل ويخرج من مجراه، فينشر الطغيان بسرعة من الجنوب إلى الشمال، وفي بضعة أشهر ينتشر في الوادي كله، وفي نحو أواخر نيسان يصل إلى بلدة الخرطوم، حيث يزداد بما يمد من النيل الأزرق، ثم يسير رويدا رويدا خلال بلاد النوبة، ويصل ديار مصر في أوائل حزيران فينبه عليه في أسوان في نحو 8 منه، وفي 17 من الشهر المذكور يصل إلى مصر القاهرة، وبعد يومين يعم المدالث كلها.
صفحة غير معروفة