وكان ترتيب هياكلهم وقصورهم بوجه عام على ما يرى في آل آشور (قلعة شرقاط الحالية)، وكلح (غرود الحالية في جوار الموصل)، ونينوى (كوى أنجق)، ودور شروكين (خرساباد)، مطابقا للنظام الذي يشاهد في هياكل الكلدان وقصورهم، من أفنية قوراء، وغرف معقودة، ودهاليز مطوقة يتحدر نورها من الكوس، وزقورات ملونة، إلا أنه يظهر أن الزخرف في الخارج والداخل كان أغنى وأزهى مما كان عند الكلدان، وكانت الأبواب مزينة بثيران رءوسها رءوس بشر، وتماثيل ضخمة تمثل البطل جلجامس يخنق أسدا، وكانت أسافل الحيطان مزينة بعض الأحيان بنطاق من حجارة، وفتحات الأبواب مؤطرة بإطار من الآجر الملون، يزيد رونقا وزهوا على رأس العقد، حيث تجتمع التصاوير الرمزية، وعند مدخل من مداخل حرم خرساباد كانت نخلتان من الشبه المذهب والنوافذ النادرة التي كانت تشرع في الطبقة العليا من الأبراج كانت مزينة بعمد خفيفة، يقرب طرز تيجانها من الطرز اليوناني، وعلى النوافذ جلفق (محجل أو درابزون) من الخشب المنقوش حفرا، وكانت حيطان حجرات الاستقبال مغشاة إلى الحجرات برسوم محفورة في الحجارة، تمثل المعارك والملاحم وصيد الملك الباني لذلك القصر.
أما النحت عندهم فكان تتمة النحت الكلداني وتقدمه ورقيه، إلا أن التماثيل نادرة؛ لأنها نحتت من مواد سريعة التلف، كالجص، والمرمر الكلسي، والحواري، والهيصمي، والبلنط، بخلاف المستماز الذي استعمله الكلدان. وأشهر هذه التماثيل تمثال آشور نرز هبل، فإنه محكم الصنع، يدل على مهارة ناحته، فإن محل رأسه من الملامح الناطقة بسرائر الضمير وإتقان التعبير ما لا يرى مثيله في رءوس تماثيل الكلدان، إلا أنه ذهب بمحاسنه ما يشاهد على رأسه وفي لحيته من وفرة الشعر المغضن المجعد. هذا، والجسم ممشوق حسن التناسب والسمت مهيب المقتبل، وإن كان عليه رداء قد التف به التفافا من العنق إلى الرجلين. فلا جرم أن الصانع أفرغ ما في مجهوده لتخليص منحوته من شوائب الشناعة والسماجة، وبعكس التماثيل فإن الصور المحفورة كثيرة، وتدل على مهارة في الصناعة وحرية في العمل وأنفة في نفس صاحبها، حتى لتبلغ مبلغا عظيما في التأثير على الناظر، مع أنه لم يكن لصانعها إلا وسائل في منتهى البساطة، وطرائق غير تامة. ومفعول ظهور المصورات كالأصل يبين في طور نشوئه، ولم يراع فيها تناسب الأشياء بموجب اتصالها بعضها ببعض، وإن شئت فقل إنه روعي فيها خطورة ما يراد عرضه على الناظر؛ فإن الناس الممثلين فيها هم بطول الأشجار. والذي ينظر إلى العساكر المشاة عند هجومهم على القلاع والحصون يخيل له أنهم أعظم منها. ومهما تكن عيوب هذه الرسوم فإن التصاوير المحفورة الآشورية تبقي في النفس أثرا لا ينشأ إلا في من ينظر إلى خلائق متحركة أو حية؛ فإنك تشاهد هناك أناسا يتقاتلون ويتحاربون ويتذابحون، وأناسا يتصايدون ويتداعبون ويتمازحون، وجميع الوقائع التي تمثل حسنة الالتحام والارتباط، حتى إن الصانع الماهر في يومنا هذا لا يحتاج أن ينقح فيها شيئا كثيرا إذا أراد أن يحلها من نفس الناظر المحل الذي يناسب تقدم عصرنا في هذا الفن، ويعرضها على الناظرين معرض ألواح مصورة. ومن خصائصها أنه قد رسم عليها رسما متقنا دقائق الأمور كجلائلها، حتى لتظهر لنا المعيشة الآشورية بمظهرها الحقيقي مع جميع تفاصيلها، فهي من هذا القبيل بمنزلة شاهد تاريخي يعتمد عليه في كتابة الوقائع، فضلا عن أنها تحفة من تحف الصناعة ذات فضل لا ينكر.
وأما صنائع المهن عند الكلدان والآشوريين والحفر على الخشب وحياكة الطنافس وصناعة الآنية الخزفية، فليس لنا منها إلا الشيء النزر. إلا أننا نعلم أن الآشوريين - ولا سيما الكلدان - نبغوا في التطريز، حتى إنهم كانوا يصورون على الأنسجة الصور التي نراها على جدران قصورهم، لكن صروف الزمان أفنت جميع ما صورته الإبرة. وكان الرومان واليونان يقضون منها العجب العجاب، ولقد صبر على تصاريف الدهر بقايا من مهنهم المعدنية، وأغلبها يشهد على حذق ولياقة؛ فإن الأوزان المتخذة من الشبه بصورة أسد رابض تدل على براعة صانعها، ولا سيما الرأس، فإنه يمثل الحقيقة تمثيلا لا يبقي لك فيها مطمعا. ومما يعد في المقام الأول من المهارة في الصنع تميثيلات الأرباب والمعبودات والتمائم وقطع النقوش التي تلصق على الكراسي والسرر؛ فإن فيها من محكم الحفر على المعدن ما يأخذ بمجامع القلوب. وأبواب قصر شلمناسر في بلوات، وهي أبواب من خشب كانت مزينة بضبات من الشبه علوها 26 سنتيمترا، وقد نقش عليها نقشا ناتئا زحفات الملك. وأحسن طائفة منها معروضة في أروقة دار التحف الإنكليزية في لندن، وهي نفس الأمثلة التي تشاهد على صفائح الرخام الكلسي، من معركة، وحصار، وطرد العدو، واللحاق به خلال بلاد الغابات والجبال ومعابر الأنهر، والمقادير فيها مصغرة، لكن صنعها شيء واحد، ويدل على حذق أصحابها في التصرف في المعدن، ويرى مثل هذا الإتقان والإحكام في مصنوعات العاج النادرة الوجود التي أفلتت من يد الضياع والتلف، ولا سيما في اللوالب والخواتم المتخذة من الحجر الأصم على اختلاف أنواعه، وتجمع من أخربة مدن كثيرة قديمة، ونحت المصنوعات الدقيقة لم يكن أدنى إتقانا من النحت الكبير؛ ولهذا كان للصناعة الكلدانية الآشورية مقام في عالم الحضارة القديم بجانب الصناعة المصرية في مختلف عصورها. (20-3) في ديار اليونان
كانت الريازة في عصر أبطال اليونان في نشوئها الأول، ولم يكن في قصورهم ومعابدهم شيء يذكر. وأما بعد حرب تروادة بأربعة أو خمسة قرون فكانت تتخذ الأبنية من الخشب، ومنذ الأولنبياذة الأولى (أي 776ق.م) أخذت الريازة تتقدم تقدما حثيثا في إغريقية، فشيد في كورنثس وأجينة ومغارة ودلفس وأولنبية وديلس وأثينة مبان جليلة فخمة. فهذه ثلاثة أطوار، وأما الطور الرابع - وهو بين سنة 479 و336ق.م - فإن الزيارة بلغت أبعد شأو أمكن للبشر أن يبلغوه؛ فإن اليونان تخلصوا في ذلك العهد من الفرس، فنبغ فيهم رازة تعقد عليهم الخناصر، ومن جملتهم : كليكراتس، وأكتينس، ومناسكلس، وكريبس، وأوبوليمس، وميتاجينس، وبوليكليتس، وزينكلس، فإنهم شادوا أبنية خالصة الطرز، منها: هيكل أيلون الديدمي في مليطس، ومعبد مينرفة بليادة في بريانة، وزون بخس في مغنيسية، ولا سيما هيكل ثسياس والبرثينون في أثينة، فإنها كلها مما يخلد الذكر لرازتها النوابغ، وحرب البيلوبونيس وإن كانت طامة عظيمة على مباني إغريقية إلا أنها لم توقف حركة الفن عن إتمام طريقه، وفي هذا العهد قامت أحسن المسارح وأبهاها: إغريقية، وصقلية، وإيطالية، وآسية الصغرى، ونشروا ألوية الزهو والتأنق في تشييد المصارع؛ أي ميادين الصراع المسماة عندهم بالسترا، والمراوض؛ أي ميادين الرياضة الجسدية المعروفة عندهم باسم الجمناسيون، وأفرغت قوالبهما إفراغا بحيث صارت معروفة، لا يتجاوز أحد حدودها ولا أحكامها. ومنذ أن تسلط المكدونيون على الإغريق (اليونان) دخلت الريازة طورها الخامس، وفيه فسد الذوق وأخذ يسير إلى الانحطاط؛ إذ فشت في البلاد الحروب الداخلية، فغادرها أمهر رازتها، وشخصوا إلى مصر وآسية لينحازوا إلى خلفاء الإسكندر، فرحب بهم بطليموس كل الترحيب، وبنى قصرا وشيد السرافيون ومنارة الإسكندرية الشهيرة، ودعا السلوقيون أيضا رازة ونحاتين يونانا فحسنوا مدن أنطاكية وأفامية وسلوقية التي أسسوها، وكذلك فعل أمراء برغامون.
إلا أن الحروب التي خاضوا عبابها مع الرومان أوقفت سير الفن، فحاول بعض خلفاء الإسكندر تعويض الضرر الذي لحق بالهلاس، فشرعوا ببناء هيكل ومسرح فخم في تيجية، وأعيد بناء هيكل المشتري الأولنبي ومراض في أثينة، وزينت ديلس بهياكل وتماثيل، ثم حانت ساعة قومية اليونان الأخيرة بسبب الحرب التي ثار نقيعها بين الآخيين والإيتوليين، فأخربت عدة مدن وكثيرا من الآثار الجليلة القديمة، فلم يبق فيلبس آخر ملوك مكدونية حجرا على حجر في برغامون، وهدم أكاذمية أثينة، والهياكل التي كانت تحيط بها. وكلما ساد الرومان في البلاد كانوا يعرونها من بدائعها ، وينقلون منها إلى إيطالية شيئا كثيرا وكل ما كان يقع في أيديهم من الطرف. ولما أخذ سلا أثينة هدم البيرة والمباني التي كانت تجاورها، ونقل إلى رومة طائفة من عواميد مقدس المشتري الأولنبي ليزين بها المشتري الكابيتولي، ولم يحترم الرومان آسية الصغرى ولا إغريقية الكبرى، فكان بذلك نهاية الريازة اليونانية.
وأما من جهة سائر العلوم المستظرفة فإن اليونان يدعون أنهم اخترعوها كلها، ومن جملتها النحت والتصوير والنقش، وهذا محض تبجح واختلاق؛ لأننا رأينا المصريين والكلدان والآشوريين واقفين على هذه الفنون، بينما كان اليونان غائصين في بحر ظلمات الجهل والهمجية. ويرجح أهل البحث والتحقيق أن المصريين علموا اليونان مبادئ صنع التماثيل. ولا جرم أن ككربس مؤسس أثينة أخذ معه من أرض الفراعنة صناعا مهرة أكفاء لبناء وتزيين هياكل مينرفة وسائر المعبودات التي أدخل عبادتها ذلك الصقع من بلاد اليونان. ومما لا ريب فيه أن آثار الريازة والنحت القديمة التي أقامها اليونان بادئ بدء في بلادهم تشاكل كل المشاكلة ما يجانسها في ديار الفراعنة، إلا أن ثم فرقا مهما، وهو أنه بينما كانت هذه الصنائع واقفة جامدة في ربوع مصر، كانت تسرع كل السرعة في أرجاء اليونان، حتى بلغت أبعد مدى من كمالها ورقيها.
وأول من عرف من اليونان بالنحت هو ديدال ابن حفيد أرختة ملك أثينة. وقد ذهب بعضهم إلى أن ديدال هذا هو اسم شامل لجماعة من الناحتين، وبعد حرب تروادة ارتقت النحاتة رقيا ظاهرا، ويظن أن فريقا منهم أخذوا من آسية الصغرى إلى بلاد اليونان ليقيموا هناك آثارا تخلد مآثر فاتحيهم، وكانت هذه الصناعة قد خطت خطوة بعيدة هناك في ميدان الإتقان. على أن مصنوعات هذا الفن لم تجلب إليها الأنظار جلبا صادقا إلا في القرن الثامن قبل الميلاد، فارتقى صب المعادن في ذلك العهد، وكذلك الحفر عليها. وفي القرن السادس ق.م طرأ انقلاب عظيم في أفكار أهل الحذق من المصورين، حتى بلغت مصنوعاتهم إتقانا لا ينسى، ونبغ في كثير من المدن من مهرة الصناع رجال معدودون، ولا سيما في ساموس (سيسام)، وخيو (ساقص)، وسكيونا، وقد فتحت فيها مدارس لتلقي أصول هذه الصناعة وأحكامها. وما زالت النحاتة في رقي حتى كان ليسبس (المتوفى في القرن الرابع ق.م)، وبراكسيتيلس (المولود سنة 390ق.م)، فبلغ الإتقان على أيديهما مبلغا أي مبلغ ، حتى قيل عنهما إنهما أتيا المعجزات بمحاكاة الطبيعة، ولم يأت بعدهما من قاربهما في الصناعة. وقد أذن الإسكندر لليسبس أن ينحت تمثاله كما أذن لإبلس أن يصور صورته، فانتهى هذان الفنان في عصرهما، ثم لما كان عهد السلوقيين تدهورت الفنون والصنائع من قللها حتى ماتت. (20-4) في بلاد الرومان
لم يكن للرومان صنائع مستظرفة أو جميلة في يد دولتهم؛ لأنهم كانوا مشتغلين مدة أزمان متطاولة بالدفاع عن أنفسهم من هجمات أقوام إيطالية الوسطى، وبالحمل عليها حملات تنكل بهم تنكيلا وتمثل بهم تمثيلا. ولم يكن لهم ذوق للعقليات، ولم يكن لهم وقت يتفرغون لها، ولما احتكوا باليونان نهضوا يحاكونهم في جميع أعمالهم وآدابهم ومصنوعاتهم، لكنهم لم يفوقوهم البتة، بل ساووهم فيها وساووهم نادرا. وقد قلنا إن الرومان كانوا يخربون مباني اليونان البديعة في ديارهم وينقلونها إلى ربوعهم، فلما اغتنت رومية بمحاسن إغريقية وآسية حاولت أن تحصل على أبنية فخمة ضخمة واسعة كثيرة الزخرف، ففضلت لهذه الغاية الطرز الكورنثي الذي كان يمتاز عن سائر ضروب الطروز بوفرة الزخرف. بيد أن الطرز الروماني بقي معتبرا في نظر أهل الفن طرزا يونانيا فاسدا، مع ما فيه من الجلالة والفخامة والعظمة التي لا تنكر. قال فتروفس: «إن رازة اليونان كانوا واقفين على جميع العلوم التي كانت تساعدهم على إتقان صناعتهم، وكانوا قبل أن يشرعوا ببناء يخططون رسمه ومنظره، وينقشونه بألوان، ويصورونه أيضا صورة مصغرة.» وكان فريق منهم كتب رسائل جليلة بخصوص الأبنية التي شادوها، ولم تكن كتبا نظرية ككتاب فتروفس، بل كتب تروي ذكر الأشغال التي تمت على أيديهم، والأسباب التي حدت بهم إلى اختيار ذلك البناء من غيره، لكن لم يصلنا أحد هذه الكتب التي وصفها فتروفس لسوء الطالع. ومما امتازت به الريازة الرومانية عن اليونانية أنهم اتخذوا العقود في أبنيتهم؛ أي فن وضع الحجارة المنحوتة بعضها يدعم بعضا على شكل قوس مربع؛ فبالعقود تسنى لهم أن يقيموا أبنية أوسع وأكثر تفننا من أبنية اليونان.
وما يقال عن الريازة والنحت يقال أيضا عن سائر الفنون المستظرفة، مثل التصوير، والنقش، والرسم؛ فإن الرومان بلغوا في إكرامهم لنوابغ اليونان في هذه الفنون مبلغا كان يقرب من العبادة، وهذا ما اضطر القياصرة إلى جلب جماعة منهم إلى رومة ليفتحوا فيها مدارس يعلمون فيها أصول هذه الفنون، ففعلوا، لكن لم يفلح فيها الرومان كما أفلح اليونان، وبقي قصب السبق بأيديهم بدون أن ينزعه منها أحد من غير عنصرهم.
الجزء الثاني
صفحة غير معروفة