أيقظت جاريتها، وأمرتها بإعداد حمام فاتر، فجاءها ذلك ببعض الراحة، ثم أخذت كأسا من شراب الورد فأنعشها، وقويت نفسها نوعا على هجمات العوامل الروحية، عندئذ تحقق لديها أنها هي في حجرتها الخصوصية، وكل ما كان أمامها في محله، ولم يعد الهواء ثقيلا فاسدا سيئ الرائحة، وهناك على منضدتها كتبها ومجموعة أوراقها، وفوق المنضدة لوح ذو إطار عليه آية قرآنية في الزواج طرزته بيدها تطريزا بديعا، تطريزا من الذهب على حرير أزرق سماوي اللون، أما الآية فهي:
فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة
قرأتها مرة أخرى وهي تردد: فواحدة! واحدة! وما عسى أن يكون عدل الرجل نحو المرأة؟ أيسمح له النبي بأربع زوجات، ثم يسأله أن يكون عادلا، إن هذا تنازل منه وتلطف، زه! زه!
وحولت نظرها من الإطار إلى الأوراق على منضدتها، فقلبتها واحدة واحدة، وفيها من الحكم الإنكليزية، والأقوال الفرنسوية، والحقائق الهائلة الألمانية، مما كانت تترجمه إلى التركية، متراكمة بعضها فوق بعض، مبعثرة شذر مذر مع عدد من مقالاتها التي حبرها قلمها السيال، بل نتف من مقالات لم تنجزها، وخطرات من هنا وهناك تصور روحها الطامحة إلى العلى، وعقلها المشغوف بالبيان، وقد عثرت بين هي تنقب في الأوراق والبصيرة منها شاردة على صورة الأمر الذي أصدره أبوها، وفي آخره هذه العبارة: «يجب عليك أن تمتنعي عن مقابلة الجنرال فون والنستين وعن مراسلته.»
وما عسى أن يقول والدي إذا عرف بأمري؟ يا لله! كيف أستطيع مقابلته وجها لوجه؟ ماذا أقول له، أأخادعه؟ أأكذب عليه؟ كلا، كلا، سأصدقه الخبر، سأنبئه الحقيقة بتمامها، ولكن أية حقيقة؟ أنها دفعت من شرفها ثمن حريته؟ أنها قبلت من يد الألماني الدنسة آخر سني حياته القليلة؟ بلى ولكن ذلك ليس بالحقيقة كلها، فإن الجزء المهم فيها إنما هو الحرية، بل حياة الحرية التي ستوجدها في شعبها، الحرية التي جعلت جهان أما، أيفهم هذا يا ترى أبوها، ويصفح عنها، أو لعله يطردها باصقا في وجهها كأنها من رعاع النساء؟ أوليست هي مسلمة؟ أوتطرح المسلمة إلى خنزير كافر؟ يا لله! وإلى أين تذهب؟ بل ماذا يقول الناس عنها؟
كانت تردد هذه السؤالات، فذكرتها بأولئك الذين كانوا في الجوامع، وقد نقل عبدها سليم حديثهم إليها، فشبكت يديها حول رأسها مكبة على المنضدة، والمخاوف تتجاذبها، وحدث بعد ذلك هدوء في نفسها شبيه بما يلي العواصف، فأذعنت مرغمة للقضاء والقدر، راضية بما قسم الله لها، متوكلة عليه تعالى الذي هو أول وآخر ملجأ يلجأ إليه المسلمون، ولكنها ما لبثت أن ذعرت ثانية إذ تراءى لها الوحش الأشقر.
وكان أمامها على المنضدة كافور فتناولته، وفركت به جبينها، وما فوق جفنيها، ثم تناولت أول كتاب وصلت إليه يدها، فكان كتاب نيتشى «هكذا قال زاراتوسترا»، فقلبت في صفحاته آملة أن تدني المطالعة منها النعاس، فيريح جفنيها الملتهبتين بشيء من النوم، ولكن مطالعة نيتشى جاءتها بكعس ما أملت، ولم تؤثر فيها كما أثرت أول مرة طالعت ذلك الكتاب، أنبي؟ نعم، وما الفائدة من نبي لامرأة تعتقد بآية من القرآن؟ وما الفائدة من تعدد الأنبياء؟ بل ما المقصد من نبي آخر حين أن كل الأنبياء واحد، ورأيهم في المرأة واحد؟ الحب، الشفقة، الرحمة، العدل، كل هذه سواء عن المرأة من لدن الرجل شرقيا أم غربيا، نبيا كان أم شاعرا أم حمالا.
لا تصحب المرأة إلا والسوط معها!
هذا ما يقوله أول الأنبياء وآخرهم، الواحد يردد صدى الأول، أويكون يا ترى الصوت أبا الحرية المولودة من امرأة؟ يا لله! أجاء هذا الوحش الأشقر من الشمال قضاء وقدرا ليذلني، ويجعلني أما؟ أتتولد الأجنحة الذهبية من جروح في نفسي دامية؟
لا تصحب المرأة إلا والسوط معها!
صفحة غير معروفة