الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
صفحة غير معروفة
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
صفحة غير معروفة
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
خارج الحريم
خارج الحريم
صفحة غير معروفة
تأليف
أمين الريحاني
الفصل الأول
أمر طمحت إليه جهان فجال في أحلامها، وشغل أعماق جنانها المتقد، أمر تفرد جليا ساطعا بين أمانيها، فاتجهت إليه بكل كيانها.
كان قبلتها في صلاتها، كان كعبة آمالها الروحية والعقلية والاجتماعية، كان رمزا فيه وعد لناشده ووعيد، بل شارة تأميل وتهديد، تراءى لها في الرؤيا، وصورته في الحلم، وكانت تهدس به في ساعاتها العصيبة.
إنما هي الحرية، كتبت رسالتها بأحرف من ذهب على سماء سحماء، وبخطوط من دم على ظلمات زائلة، نقشت على لوح النفس بعد ما أمحت عنه التقاليد القديمة.
الحرية، وسواء كانت متشحة ثوب الحداد، أو ثوب الجهاد، أو ثوب النصر - سوداء الصبغة كانت أو حمراء أو زهراء - فكانت جهان تقتبلها، وترحب بها، وتجلها في كل حال من الأحوال.
ولكن آلهة تراءت لها في الأحلام مرتدية رداء شديد الاخضرار، شاهرة سيفا أحدب، وعلى جبينها هلال من الياقوت - آلهة إسلامية متوشحة ألوان العلم النبوي الداعي إلى الجهاد - كأنها تدعو جهان إلى حرب مقدسة لا على النصارى الكافرين، بل على كفر الرجل وطغيانه؛ لتهب الحرية أخواتها في الرق والعبودية؛ لتهب الأم التركية، بل الأمة العثمانية، بل المسلمين قاطبة تلك الهبة السماوية.
وجهان ابنة رضا باشا وامرأة الأمير سيف الدين إنما هي مسلمة في لبها الإسلام الحقيقي بالرغم من أنها هجرت منذ ثلاثة أشهر قصر زوجها المشيد على ضفاف البوسفور؛ لأنه حنث بيمينه أنه لا يتخذ لنفسه امرأة أخرى، ولا يقاسم قلبه غيرها، ولهذا عادت جهان إلى بيت أبيها بما في قلبها من الغم، وبما في روحها من الأحلام، وآلت على نفسها إصلاح الحريم.
ومنذ ذاك الحين شرعت تسعى سنة كاملة سعيا متواصلا أثمر قليلا، وأكسبها شهرة جنت أكثر من مرة عليها، وقد دعت جهان نفسها «ابنة الثورة»، وكانت إذا حدثها أبوها في أمر تسيبها شكري بك تبسم غير مبالية، وتقول: «إني متزوجة من الحرية.»
صفحة غير معروفة
وكرت الأيام حتى جاء يوم فيه تعرفت بالجنرال فون والنستين المشير في الأستانة، ومنذ ذلك اليوم داخل حبها الصحيح ريبة قليلة، فكانت تقف مرارا ناظرة إلى تلك الصدفة المزعجة، راغبة بعض الرغبة بشكري بك، ولكن طموحها إلى السيادة بعدما تعرفت بالجنرال قد احتل شطرا من قلبها إلى الحرية.
في ذات مساء بعد ما تنافرت وأباها أرسلت حوذيها برسالة سرية لم تدرك مغبتها في تلك الساعة، ثم جلست وهي متسربلة سربال الليل على ديوانها الفاخر، قلقة البال، فاقدة الصبر، مضطربة العقل والنفس، تتربص رجوع الرسول، ولكي تخفف من وساوسها تناولت «نيتشى» الذي كانت تحل أقواله المحل الأول، وتقرؤه بلغته الألمانية الأصلية، ولكنها لم تلبث أن أخذت عيناها ترحل عن الصفحة، فنهضت وعليها سيماء الملل، والتفت بعباءة من الحرير زرقاء اللون موشاة بالذهب، ثم فتحت درفة الشباك، ووقفت في رواقه تتنشق الهواء النقي.
وكانت ليلة من ليالي الصيف الثقيلة الظل لا هواء يحرك الأغصان في الجنينة، ولا نسيم يمازج روائح الياسمين، وزهر الليمون، فيخفف من نفحاتها التي تؤثر في النفس تأثير البنج.
وتمثل أمامها القرن الذهبي سلسلة من القوارب والسواري كأنها أنسجة من العنكبوت متعرشة على أسوار غير منظورة، وأشعة الهلال تنعكس على مآذن جامع أيوب مرة فأخرى كلما لاح من خلال السحاب، والسرو في الجبانة القريبة أضاع شكله ومزيته، فبدا كأشباح من ظلام الرجاء الذي هو رمزه.
سرحت جهان نظرها في هذا المشهد المدلهم، فوقعت في قلبها وحشة تلك الليلة وقع خطب جسيم، ولم تكن تسمع شيئا من خلال السكينة المخيمة حولها - وهي تصغي بانتباه، وصبر كاد يفرغ مترقبة عودة الرسول - إلا وقع قوائم الجواد في الشارع المجاور، وظلت جهان في الرواق مراقبة حتى دخلت العربة، واجتازت حائط الجنينة، إذ ذاك تنبهت من قرع السوط ثلاث مرات متتابعة إلى ما سيأتيها بثلاث ساعات من النوم بعدما ركنت هواجسها إذ تسلمت الرسالة.
إلا أنها بعد قليل استيقظت متأففة مغمومة غاضبة من نفسها، ومن متحشر زنيم دب إلى سريرها ووسادتها، فلامس خديها وجبينها؛ ولهذا نهضت جهان لتحجب عنها أشعة الشمس، ولكنها ما أطلت من النافذة إلا ودخلت في يقظة فجائية إذ شاهدت المشهد ذاته، وقد استحال جمالا مهيبا، فقد كانت قبب جامع أيوب البيضاء تشع بالشمس، والسرو يتمايل بخطرات النسيم الفجرية بعد ما انقشع الظلام عن زهوه الطبيعي، والقوارب تبعث على تسريح الطرف وانشراح الصدر؛ والقرن الذهبي اللاذوردي تحجبه التموجات الفضية الشفافة الضاربة فيها الخيوط الذهبية، والعصافير تنتقل من جذع إلى آخر في الجنينة، مزقزقة مغردة تداعب بعضها بعضا، وصوت المؤذن وهو يدعو المؤمنين إلى الصلاة يلبس مظاهر الابتهاج خشوعا، وهذا ما سلب النعاس من عيني جهان، فلم تعد لها قدرة على المنام إذ تنبهت روحها في داخلها، فلبت مبتهجة متخشعة دعوة الشمس التي تحرك أسمى الآمال في أدنى البشر، وتلمس أجنحة الأحلام المتواهية بإكسير الحياة.
وقفت في الرواق كالشمس المشعة على قبب إسطمبول كأن وجهها كون من النور، وعينيها من ازرقاق السماء سماء الشرق، وجدائل شعرها المسترسل على كتفيها العاريتين من ذهب الشفق المحاط بالغيوم البيضاء، ولو تسنى لأحد الناس أن يرمقها وهي على تلك الهيئة - وذلك ضرب من المحال؛ لأن النافذة مطلة على الجنينة - لقال إنها إلهة ولا غرو، وهي تلك التي وصفها الشاعر التركي العصري إذ قال:
شمس تخترق جدران سجنها، وردة تطلع من خلال الشقوق في صخرة طالعها.
ولكن جهان كسرت سلاسل الحريم، وكانت آنئذ أقل اهتماما بجمالها الرائع من مواهبها العقلية، فقد ملأت كيانها تلك الأمنية التي عقدت النية على إحرازها لنفسها ولأمتها، وهي أمنية تجلت لها كوحي إلهي، تجلت لها في هذا الفجر المنبثق نورا، فصعدت بفكرها إلى قمم الروح وآمالها، وهي تشعر أن الشمس لم توقظها في يوم من الأيام كما أيقظتها في ذلك اليوم.
تبارك يوم فتح أبوابا ذهبية لنفسها، لعقلها، لروحها، لقلبها، وقلب أمتها الناهضة، تبارك سحر لبس سحره نفس فتاة شرقية متمردة، فرأت فيه تحقيق آمال لها ولأخواتها الطامحات إلى الحرية والنور، ولها ولإخوانها المجاهدين دفاعا عن الملة والوطن.
صفحة غير معروفة
أحنت جهان رأسها أمام الشمس المتصاعدة تسبح الله وتتلو الفاتحة، ثم قالت في سرها: كل ما يأتينا به اليوم هو من لدنك أيها الرحمن الرحيم رب العالمين.
ولكن عقل جهان عقل غربي التهذيب، عقل تسعرت فيه الثورة والتمرد، غربي المعرفة، له صلاة خاصة تلتها في ذلك الصباح عندما وقفت في الرواق، ووجهها مرفوع نحو الشمس.
أيها الرب الكريم القدير، أنت الزارع فينا بذور الأماني الخالدة فلا تلعنا إذا تدبرناها بالتربية، أنت مبدع الحب والحرية فلا ترذلنا إذا حطمنا جدران سجننا، أنت متناه رحمة وعدلا، فلا تسخط علينا إذا قاومنا كفر الرجل وطغيانه.
ثم هزت رأسها قائلة: كلا، كأنها تريد أن تقتاد الشريعة الإلهية بيدها، وأعادت قولها: كلا، بصوت متقطع كأنها تجديف بعد صلاتها «كلا، إننا لن نخضع منذ اليوم لطغيان الرجل وجبره، ولا فرق إن كان زوجا أو أخا أو أبا، أو صاحب تاج وصولجان.»
قالت هذا وخطت نحو منضدتها لتراجع المذكرة التي كانت تدون فيها ما يطلب منها من الأعمال، فكان يومها هذا الذي تبتدئ فيه قصتنا كثير المواعيد ساعاته رهينة أعمال شتى، فإن شغلها في المستشفى يتناول ساعات الصباح، وبعد الظهر عليها أن تلقي عظة في إحدى مدارس البنات في إسطمبول، وفي المساء تبيع أزهارا في السوق الخيرية في جنائن تقسيم.
وكان عليها أيضا أن تنجز مقالة في موضوع الجهاد لجريدة طنين، ناهيك بفرضها اليومي من كتاب نيتشى «هكذا قال زاراتوسترا»، الذي كانت تنقله إلى اللغة التركية، ولكنها أهملته أياما، فهذا القدر من العمل لامرأة تركية ما يستوجب الإعجاب، ولكن ثقة جهان بنفسها لمن الأمور المدهشة، وفي كلا الأمرين لم تكن شرقية، على أنها لم تتجاوز في نشاطها وإقدامها كونها امرأة، وكثيرا ما حال إعجابها بجمالها دون ثقتها بنفسها.
كانت جهان سليمة الطوية، مخلصة فيما تقول وتفعل، وكانت فوق ذلك ذات حنكة عجيبة، كثيرة المعرفة بأساليب الاجتماع والسياسة، جديرة بأن تكون زعيمة من زعيمات أميركا المطالبات بالحقوق النسائية، أو نبيلة من نبيلات لندره، أو صاحبة صالون في باريس، ولكنها تركية المولد، وقد قضي عليها أن تقيم في وسط تقاليده قديمة قاسية، ناهيك بما ورثته عن الأجداد مما كان يحول دون أميالها العصرية، ويزعزع معقولا تشرب التهذيب الأجنبي، وطالما تجاذبت هذه الأضداد نفسها فأحدثت فيها حيرة الانتقاء والتفضيل، بل طالما قاست أشد العذابات الروحية والعقلية وهي تسعى في التوفيق بين عناصر متباينة متضاربة، ولم يكن لامرأة تركية، بل لامرئ شرقي فيما مضى من الزمان أن يتوفق في مثل هذا السير.
هكذا كانت جهان غريبة الأطوار متباينة الأميال والآمال، ولكنها ذات صلاح وفطنة، وقد كان الدين متأصلا في قلبها، ولكنها كانت بعيدة عن التظاهر بالتقوى، ولا تكترث بالخرافات والترهات الدينية، ولقد كانت وهي تسعى لإتمام مقاصدها الجليلة متأنية متسرعة معا، ثابتة حينا، وحينا مترددة، أديبة بارعة، تقية متعقلة، طامحة شاردة، ناشدة حب وإيمان وسيادة، كأن قلبها دائرة للأدب والأدباء، وعقلها ديوان للسياسة والسياسيين، ونفسها جامع للعصريين من المؤمنين، فضلا عن ذلك أن الجنرال فون والنستين كان قد سعى لها بإنعام من الإمبراطور، فزادها ذلك نشاطا وعزما، وأكسب حماستها الشرقية أجنحة غربية، وطلى معدن عجبها القليل من الذهب.
لبست ثيابها صباح ذاك اليوم وهي تقول: «تبارك هذا الفجر» ولكنها لما اقتربت من منضدتها وقع نظرها على كتاب نيتشى وفيه صحيفة ظاهر طرفها وضعتها علامة لمطالعتها، صحيفة خط فيها ما يفسد كل مساعيها لو اكترثت به، خط فيها ما يلاشي كل آمالها وأمانيها الحديثة والقديمة، لو قرأت مذعنة طائعة، وكانت تلك العلامة موضوعة في الكتاب منذ ثلاثة أيام، ولهذا كانت عرضة لاطلاعها ثلاث مرات، ولإثارة تمردها ثلاث مرات أيضا.
وجاءت ليلة أمس فانفجرت شعلة غضب من مصدر تلك الأوامر التي أخذت تقرأها جهان مرة أخرى.
صفحة غير معروفة
من رضا باشا إلى ابنته جهان:
يجب عليك من الآن فصاعدا ألا تخرجي حاسرة القناع أو دون حاجب من الحجاب، وألا تفرطي بالكلام في الأماكن العمومية، وألا تتدخلي بالسياسة، وألا تنشري من مقالاتك في الجرائد، وعدا هذا كله يجب عليك أن تمتنعي عن مقابلة الجنرال فون والنستين، وعن مراسلته.
قرأت ما تقدم، واسترسلت إلى التأمل؛ إن أباها ولا شك مخطئ بآخر ما جاء في أوامره، ولهذا وجب عليها أن تقنعه بخطئه فلا يهتم بذلك الأمر، ولو كانت فعلت لما تجرأت أن تبوح بسر قلبها، ولكنها امرأة ولم تكن تؤكد أنها إذا حان الوقت تستطيع أن تجمع قوة من نفسها كافية لتدير مقصدها من ذلك السر، وكشرقية مسلمة تعتقد بالقضاء والقدر تركت الأمور تجري مجراها، موكلة أمرها إلى الله على أنها كانت تحب أباها وتجله إجلالا، فوطنت النية أن تذعن ولو لبعض أوامره.
أعادت العلامة إلى الكتاب، وراحت تنادي جاريتها فوجدت الباب موصدا، عالجت الغال فلم يذعن لإرادتها، ففتشت على المفتاح فلم تجده، فلبثت مفكرة محتارة بأمرها، من قفل الباب ترى؟ ألا يمكن أن تكون هي نفسها قد أوصدت الباب، وأحكمت قفله أثناء غضبها الليلة البارحة؟ وعلى فرض أنها هي التي فعلت ذلك فأين المفتاح؟ أهذه نتيجة صبرها ثلاثة أيام؟
لبت الجارية نداء مولاتها ولكنها لم تجسر أن تخبرها عن قفل الباب، وجاء غيرها من الخدام أيضا فأظهروا استغرابهم، وتجاهلوا الأمر، حتى إن خصيها العبد الأمين سليمان الذي أنصت لصوت سيدته داخل غرفتها قد هز رأسه متأسفا وتنحى: عجبا أجهان سجينة في غرفتها الخاصة؟ ولماذا؟
لم يجبها أحد من الخدام؛ لأن الأوامر صدرت إليهم مشددة بأن يحافظوا على الصمت التام، وأن لا يتداخلوا فيما لا يعنيهم.
الفصل الثاني
رضا باشا شيخ في الخامسة والسبعين من العمر، رديني القامة مستويها، طلق المحيا، مهاب الطلعة، كبير الهمة، عصبي المزاج، حاد الذهن، سريع الحركة والكلام، وفي وجهه الأشعث المستطيل نضارة تنفي حجة السن عليه، وعيناه العسليتان الحادتان ترسلان بشاشة تحت حاجبين عريضين هما أبدا على وشك الانزواء غضبا وغيظا، أما شعره المفروق في منتصف الرأس، ولحيته التي كان لا ينفك يعدل نموها لمما تنطق عن روح فيه كيسة، ونفس لم تزل خضراء، فهو من أولئك الشرقيين السمر البشرة، الأقوياء الأجسام، الشديدي البأس، الشبيهة رجوليتهم بمزية بالآلهة، خصت بالخلود فلا السنون تقوى عليها، ولا التنعم في دار الحريم يؤثر فيها.
ولو كان للأتراك أن يدركوا نسبهم ويسلسلوا الأسر فيهم لربما توصل رضا باشا في أصله إلى أولئك التتر الأشاوس الذين تسوروا جدران بزنطية، ورفعوا علم النبي على قبب «أجيا صوفيا».
على أنه من رجال الدور القديم، فقد كان يقدر الأشياء الحديثة أو الأوروبية حق قدرها، ولا نريد بهذا أنه كان مجردا من التعصب، كلا، فالحقيقة أنه كان يرغب بالروح العصرية وهي في بيت غيره لا في بيته، تركي عصري تارة، وتارة قديم، صلب العود، متشبث الرأي، غير متساهل في إدارة أموره الخاصة والعامة، وقد كان حرا للجهة شديدها، يخدع أحيانا بصراحة قوله أكثر من التركي المعروف بتمويهه ودهائه.
صفحة غير معروفة
ومن هذا القبيل لم يكن ليسر كرهه الألمان، وطالما قد عضد سياسة إنكلترا وفرنسا بصورة رسمية في الباب العالي، وحاز النصر مرارا في ساحات السياسة، وساحات الوغى، فقد كان في مقدمة سياسي ومشيري الدولة في الدور الماضي، ولكنه أخلص النصح لعبد الحميد، فلم يطق طويلا حول العرش، ومع أن شدة لهجته وحرية قوله نظرا لمزاجه وإخلاصه كانا يروقان ذلك الطاغية، فرجال يلديز، وأرباب الباب العالي كانوا يسرون له العداء، ويجهرون به في الأحايين، وطالما قد دسوا له الدسائس، وتألبوا عليه حتى إنه أفضى أخيرا وهو في شيخوخته إلى بلاد اليمن، وظل في منفاه حتى الدور الجديد إذ تأسس ثانية الدستور، وخلع عبد الحميد، فأعيد رضا باشا إلى العاصمة باحتفاء وإجلال، مكرما تكريم الأبطال، وأسند إليه منصبه القديم رأسا على الجيش، ولكنه ما كاد يتقلد هذا المنصب حتى اختلف مع رجال تركيا الفتاة الذين قبلوا استقالته راضين عن بقائه في الأستانة إكراما لشيخوخته، وتقديرا لخدماته السابقة.
إلا أن سيف رضا باشا لم يصدأ في قرابه، فإن مجيد بك أصغر أنجاله، وشقيق جهان استله في شبه جزيرة غليبولي، فأكسبه شرفا جديدا ومجدا، وكان رضا باشا وهو جندي لا غبار على عثمانيته قد فادى بأرواح أبنائه الثلاثة الآخرين حبا بالوطن، فالابن الأول دفن في اليمن، والثاني في طرابلس الغرب، وسقط الثالث صريعا عند أبواب أدرنه.
أجل، إنما رضا باشا شيخ كثير الأحزان والأشجان، ولكنه اقتبل مصائبه كلها وأحزانه كأب حبيب، وخيبة آماله كرجل عمومي صادق، بصبر وثبات جأش هما شعار المسلم الشديد إيمانه بالله، ومع أنه لم يخدم حكومة العهد الجديد بذاته فقد كان يغار على مصالح الدولة، ويود من صميم فؤاده حفظ كيانها، ولو كان له عشرة أبناء لقدمهم ضحية على مذبح الأمة راضيا بأن تسلم له ابنته جهان، وأن يصونها الله من الروح الأوروبية الخبيثة، ومن روح فلاسفة أوروبا العصرية، وأخصهم نيتشى الذي كان يخاف منه على نفس ابنته وعقلها.
ولدت جهان وأخوها مجيد بك في باريس حيث كان رضا باشا وهو في الأربعين من عمره ملحقا عسكريا في السفارة العثمانية، وكلاهما ولدا له من سليمة أحب نسائه إليه، وكانت سليمة هذه حسناء ذكية الفؤاد، كبيرة النفس والخلق، لطيفة المعشر والذوق، مهذبة بارعة تحسن الإفرنسية كما تحسن لغتها التركية، وكان يسمح لها بعلها أن تستقبل الزائرين من الرجال في بيته حاسرة القناع؛ لأنه وإن كان شديد التمسك بتقاليد دينه في بلاده فقد كان متساهلا خارج البلاد التركية، وقد توفيت سليمة وهي مع بعلها في المنفى.
أما جهان فهي آخر أولاده وأولهم في قلبه، شاخ ولم يشخ حبه، بل كان يزداد كلما ازدادت سنوه، وتعاظمت أحزانه، وحقا إنها كانت بنت دلال كما يقال، وولد أبيها المدلع، نشأت في صباها كالزهرة البرية لا في حقل الحرية كما يتبادر للذهن، بل ضمن جدران الحريم، ولكنها كانت أبدا فوق سيادة أمها وخالاتها تنبذ من أجلها التقاليد والعادات، ويحسب كل يوم لا تسمع فيه ضحكتها يوم شؤم.
ولم يدخر رضا باشا عناء، ولا ضن بمال في تهذيبها وتربيتها على الأسلوب الأوروبي العصري، فقد كان كأترابه الأتراك قصير النظر، ضعيف الرأي من هذا القبيل، وإلا لاستدرك نتائج هذا التهذيب، خذ لك مثلا من نقيض أمياله وأذواقه، فقد كان يروقه منظر البيانو في منزله، ولكنه كان يستسمج صوته، وكان ينظر إلى مكتبة ابنته كما ينظر إلى مجموعة سلاحه كلتاهما للفرجة لا للاستعمال، وما كاد يفاخر بنبوغها الفطري حتى استعاذ بالله عندما رأى اسمها في الجرائد؛ إذ استغرب ذلك أيما استغراب، ونفر منه أيما نفور كأنه شاهدها في السوق كاشفة الحجاب.
ولكن هذه ثمار تهذيب استقته جهان من معلمة إفرنسية، ومربية ألمانية، على أنها وإن كانت أوروبية العقل فكان أبوها يتعزى باعتقاده أنها لم تزل مسلمة الروح والعقيدة. والحق يقال: إنها ولئن كانت إفرنسية المشرب والذوق فقد كانت تركية الطبع والخلق، وقد برهنت على وطنيتها وإخلاصها لأمتها بتهليلها للألمان ما أموا الأستانة كأحلاف تركيا الوحيدين، ودافعت عن الإسلام بغيرة شيخ من مشايخه، وبفصاحة عالم من علمائه، حتى إنها كانت تقاوم أباها في دعوة الجهاد، فإن رضا باشا لم يغتر بتغرير الألمان؛ ولهذا لم يكن من المستصوبين أمر الجهاد، وقد جاهر برأيه على عادته، وكاد أن يقع في قبضة أعدائه، ولكن الجنرال فون والنستين الذي كان له الحول والطول في وزارة الداخلية، بل في الباب العالي حتى وفي نفس يلديز لم يسمح - لأسباب خصوصية - بمحاكمة والد جهان، وطالما صد عنه الأعداء من الاتحاديين محدثا نفسه بما يأتي: ألم تقم ابنته بأشرف الأعمال نحو الجنود؟ أولا يحارب ابنه الآن ببسالة الأبطال في غاليبولي؟
هذان اثنان من بيت رضا باشا يعملان بإخلاص ونشاط في سبيل الوطن، وقد يكون ذلك في سبيل الجنرال فون والنستين نفسه.
لماذا لا يرخص للأب إذن أن يقضي بقية حياته المتداعية في أمن وسلام؟
اجتمع الجنرال الألماني بجهان للمرة الأولى في مستشفى الجنود، فجاء بعد ثلاثة أيام يزور أباها زيارة رسمية، ولكن جهان لم تحضر لاستقباله، ثم أعاد الزيارة، ولكل زورة يختلق حجة سياسية، ويسأل أثناء الحديث عن الفتاة ، فوافت البهو في زورة الجنرال الثالثة وهي بالزي التركي، ولكنها حاسرة القناع كما كانت تفعل أمها في باريس؛ فسر الجنرال سرورا متناهيا، وظن هذا الإكرام من لطف الأب وتساهله، أما جهان فحلت من نفسه المحل الأول.
صفحة غير معروفة
جهان: إن امرأة الجنرال التي توفيت قبل إعلان الحرب بأسبوع، والتي كانت أشهر أترابها جمالا وأدبا ليتأكل الحسد قلبها لوضعها اجتماع، وهذه المرأة التركية الذكية الفؤاد والكاملة الصفات.
قال هذا الجنرال في سره - وفي سره كان يردد اسمها، ويمثل جمالها: جهان! ساحرة تركية، ذات قد أهيف، ومحيا فائق في الحسن، ولحظات تخترق الجماد، ولفتات تشف عن غنج بعيد المقاصد غريبها، في ناظريها نور العطف، ونور المعرفة، وفي أنفها الإباء والشمم، وفي ثنايا فمها اللطيفة إيناس كثير الأسرار، آدابها إفرنسية، ولكن جمالها الذهبي المهيب شبيه بالجمال الألماني، وفي كلا الأمرين فتنة جردت الجنرال لأول نظرة من كل قواه؛ قوى الهجوم، وقوى الدفاع، فحدث نفسه قائلا: ولم لا أرغب بامرأة مسلمة وهي أوروبية التربية والذوق والجمال؟
ولكن هنا شكري بك يبسم له المستقبل، وتذلل أمامه بواسطة جهان المناصب العالية، على أنه أبى يوما ملاحظة أبداها له الجنرال فون والنستين، فخرج من حضرته سامد الرأس شامخا دون أن يلقي ما يتوجب على ضابط في الجيش من السلام، فغضب الجنرال وبدل أن يقدمه لوظيفة كاتم أسرار في وزارة الحربية وفاء بوعده لجهان عزم على إرساله إلى ساحة الحرب، فلو كان مزاحم الجنرال من أكفائه لما طاقه عثرة في سبيله، فكيف به هو ضابط توجب عليه طوع أوامره؟
صدر الأمر إلى شكري بك أن يلازم فرقته في غاليبولي، صدر بعد الظهر فلم تعلم به جهان حتى المساء، الذي حدث فيه نزاع بينها وبين والدها بخصوص الجنرال فون والنستين، ولهذا الغرض عينه كانت قد بعثت برسالتها السرية مع حوذيها تسأل فيها ابن عمها ألا يغادر الأستانة قبل أن تراه والجنرال فون والنستين في اليوم التالي، وكان الحوذي قد أشار بقرعه السوط ثلاث مرات أن قد بلغ الرسالة، وأما أبوها وقد علم بالرسالة هذه من أحد الخدم، وظن أنها مرسلة إلى الجنرال الألماني، فأقسم بالله وبالنبي أن هذا الموعد لا يكون، فأوصد الباب على جهان بين هي كانت في الرواق تترقب أوبة الرسول، ثم خرج باكرا في الصباح متروضا على عادته، مصطحبا عبده الأمين.
ولكن جهان لم تدر بذلك، فارتدت ثيابها بسرعة ورشاقة، وأمرت جاريتها أن تستدعي أباها، وهي تعلم أن ليس من عادته أن يخرج باكرا، فاستولت الحيرة عليها إذ علمت عكس ذلك، وكادت تصدق ما داخلها من الريب والظنون، على أنها لما أمرت الجارية أن تجيئها بمفتاح آخر فتفتح به الباب أدركت الحقيقة المؤلمة، فإن الخدم لم يتجاسروا على أن يخالفوا أمر سيد البيت.
الفصل الثالث
استشاطت جهان غيظا، واستولى عليها الغم، فصاحت يا للعار، ثم سألت نفسها: ولم يا ترى يعاملني أبي بمثل هذه المعاملة؟
لم يكن لها أن تقارن بين هذا التصرف منه، ورصانة فيه معروفة، ولم تقرأ مرة في مطالعتها القصص الأوروبية التي تصف الحياة التركية أن باشا من باشاوات الدولة، أو شريفا من أشراف بني عثمان يلجأ إلى مثل هذه الطريقة في تأديب بنيه.
يا للعار! أيعاملها أبوها كتلميذة مدرسة وهي السيدة التي ينظر إليها نساء الأستانة بعين الإكرام والإجلال؟ أيذلها هذا الإذلال وهي زعيمة بنات جنسها، ترفع أمامهن مشعال نور جديد، وتعمل على تحطيم قيود الحريم؟ يا للفظاعة! أجهان صديقة النواب والوزراء، مدبجة المقالات السياسية، ربة المنبر منبر الحرية، صاحبة الرأي الذي طالما أنار قوما، وأحرق آخرين، نصيرة مبدأ أحدث ثورة في العقول، وحمل الرجال والنساء على العمل في سبيل الحق والحرية، أجهان تسجن في حجرتها؟ إنه لعار وأي عار! أولم تكن هي أول سيدة تركية مشت في شوارع الأستانة سافرة الوجه؟ أولم تكن هي أول سيدة تركية وقفت أمام الساحات الكبرى فمزقت قناعها الأبيض الحاجب وجهها، الحاجب نفسها، وحيت الشمس شمس الحرية؟ والآن هي أسيرة حجرتها الخاصة بأمر من أبيها، فقد شق عليها هذا الأمر، فرمت نفسها على الديوان وكبرها وإباؤها يستحيلان دموعا سخية.
لبثت على هذه الحال برهة من الزمن تلوم طورا أباها وتارة تختلق له الأعذار وهي تترقب عودته مرددة في نفسها؛ لعله فعل ما فعل مسيئا فهمها، أو عملا بتهمة باطلة، ثم تناولت قلما وكتبت إلى شكري بك مذكرة ثانية، وإذ ختمت الظرف قرعت الجارية الباب، ودفعت إليها كتابا من ابن عمها يقول فيه أن قد صدرت إليه الأوامر أن يغادر الأستانة ظهر ذاك النهار عينه، وخشية أن يفاجئها بوداعه يود أن يراها الساعة العاشرة والنصف.
صفحة غير معروفة
فمزقت جهان مذكرتها، وكتبت إليه عجالة أخرى، وقد كانت تخشى قدومه إليها قبل أن يعود أبوها، وهي تأبى أن يشاهد ما هي فيه من الذل والغم؛ ولهذا اقتضبت العجالة بما يأتي: لا تزعج نفسك بالقدوم؛ فإني ذاهبة لمقابلة الجنرال فون والنستين في منزله، وسأراك بعدئذ، وفي أية حالة من الأحوال لا تبرح منزلك قبل الظهر.
ثم كتبت مذكرة إلى الجنرال، وأخرى إلى وزير الحربية ملتمسة من كليهما السماح لشكري بك أن يبقى يوما آخر إلى أن تتمكن من مقابلتهما بعد الظهر، وقد بعثت بالمذكرتين مع سليم عبدها الأمين، ونحو الساعة العاشرة عندما دنت الجارية من الباب لتنبهها أن كاتم الأسرار الخصوصي في وزارة الحربية يرغب في مخاطبتها بالتليفون كان أبوها لم يزل خارجا.
فقالت لجاريتها: قولي له يا زليقة، إنني في الحمام، وأصغ جيدا لما يكون جوابه.
وللحال عادت زليقة، وقالت لها: إن سعادته يتأسف جدا أنه ليس في إمكانه قضاء الحاجة التي سألته قضاءها.
وعاد سليم بعد هنيهة، وبيده جواب من الجنرال فون والنستين، وبه يعد جهان «الحسناء البارعة» بأن سيخاطب في الحال وزير الحربية بالتليفون، ويطلب إليه أن يقضي ملتمسها، فتنفست جهان الصعداء وهي تشكر الله، وقد عرفت عندئذ معنى كلام وزير الحربية، وأيقنت أن كلمة فون والنستين شرع في القسطنطينية فإنه ذو السلطة العليا، والحكم الحاكم النافذ حتى إن البادشاه ذاته كان يستشيره قبل إصدار إرادة سنية؛ ولهذا لم يكن لها أدنى شك في أن ستجاب طلبتها.
الفصل الرابع
فلما خرج شيطان الوساوس معنا إذا طلبنا النزهة فرارا منه، وإذا فعل بعد أن يكون قد نال منا مراده فلا يعتم أن ينفصل عنا إذا ثابرنا في الطريق ماشين، وإننا في ابتغائنا البعد منه، ومن أنفسنا المشتعلة غيظا إنما نبتغي في الحقيقة ملاشات هاجس مزعج، أو فكرة منكرة، عاملين بها السياط كأنها أتان منهوكة، وإن هي إلا أتان الشيطان نمتطيها رواحا، فنقتلها ونعود على الأقدام مستبشرين راضين، تصحبنا رفيقة صالحة أمينة يدعوها الناس «الحكمة».
عاد رضا باشا إلى منزله مرددا المثل المأثور: «العجلة من الشيطان»؛ لأن نزهة الصباح أثمرت خيرا في نفسه، فسرت عنه قليلا، وأعادت إليه عطفه الوالدي، ورأفته المعهودة، ولما فتح الباب على جهان كانت نار غلوائه قد همدت تماما، ومع أن ما بدر منه مساء البارح لا يستوجب الندم في حال غير الحال الحاضرة، فأشفق أن يدفع بابنته جهان إلى تطرف في تصرفها فتفسد عليه أقصى أمانيه، كيف لا وقد وطن النفس أن ينقل من الأستانة إلى قونية العاصمة العثمانية القديمة حيث يود أن يقضي آخر أيام حياته بسلام الله ورضائه، مصطحبا ابنته وصهره المقبل شكري بك؛ ولذلك رأى أن يداري جهان، ويطيب خاطرها.
كانت جهان جالسة على مقعد قرب منضدتها، ورأسها مطأطئ على صدرها، وقد شبكت يديها حول ركبتها، مطرقة مفكرة، ولما دخل أبوها وتقدم نحوها وهي على هذه الصورة، دافعا إليها المفتاح، ولكنها لم تتحرك ولم ترفع نظرها إليه، فجلس بالرغم من ذلك على كرسي بجانبها، وأخذ يدها بيده قائلا: جهان - عزيزتي - تأسفت كثيرا لما حدث، وعسى أن لا يعود مثله، ولن يعود إن شاء الله.
ثم تصدر أمامها وقال: تطلعي إلي الآن، وقولي لي: أبين البنات حتى القرويات منهن من تخاطب أباها كما خاطبتني ليلة أمس؟ ألا ينتظر منك وأنت السيدة المهذبة ذات المواهب السامية أن ترعي البر، وتقيمي على الطاعة البنوية التي هي من مزايا عنصرنا الخاصة، ومن أقدس تقاليدنا؟ وماذا يقولون عنك الذين يقرءون كتاباتك في الجرائد، والذين يسمعون خطاباتك، والذين ينظرون إليك كحاملة نبراس النور والمعرفة إذا أخبرتهم اليوم أن جهان تعصي أوامر أبيها، وتستخف بكلامه، وتقاوم رغائبه، بل هي لا تحترمه ولا تحبه، حتى إنها لا توجد من نفسها رادعا عن أن تسمعه المهين من الكلام.
صفحة غير معروفة
فالتفتت نحوه جهان وعيناها مغرورقتان بالدموع: «ليس هذا بصحيح يا أبي، معاذ الله أن أكون عقوقة.» - ولكنك يا حبيبتي جهان لم تعودي تكترثين بأوامري كالسابق، بل تتنحين عني، ولا تستنصحينني أو تستشيرينني بما تفعلين، ولم تعودي على الأقل تقرئين أمامي ما تكتبين. - ذلك لأنك لم تكن قاسيا جائرا كما أنت اليوم، واعذرني إذا قلت إنك مقاوم آرائي ومقاصدي اليوم على غير عادة منك في الماضي. - أفلا ترين أن الجواسيس ملئوا المدينة - ألمان وأتراك - حتى أصبح المرء مسالما كان أو مشاغبا لا يستطيع أن يعيش بطمأنينة، وليس من الناس من يأمن على حياته في هذه الأيام، أفيحسن منك - والحالة هذه - أن تتدخلي بالشئون السياسية وأنت ابنة رضا باشا، أو يليق بشرف محتدك ومقامك أن تترددي إلى الباب العالي، وإلى النوادي، والنزل في بارا؟ أيجوز أن تذهبي لمقابلة الجنرال فون والنستين؟ أوتظنين أن المرأة الأوروبية تستحسن مثل هذا التصرف منك؟ - ذهبت مرة واحدة لقضاء شغل يتعلق بالمستشفى. - كان حريا بك أن تكتبي إليه عن ذلك. - ولكنه أمر مهم ضروري، ولم يكن لي منفسح من الوقت. - إذن كان عليك أن تبعثي رسولا.
فتململت جهان، وانتقلت من كرسيها إلى الديوان، وقالت: بدرم لماذا تعذبني ثانية بشأن هذا الرجل؟ - لا أكتمك أني أكرهه، وأوجس شرا من تردده إلى منزلنا، وأعيد عليك ما قلته الليلة البارحة: «إن ما تذيعه الصحافة عنك وعنه عار لاسمي»، لم أبحث معك قبلا بمحالفتنا مع ألمانيا، تلك المحالفة التي لا أزال أعتقد أنها جريمة على أمتنا، بل جريمة على الإسلام والمسلمين قاطبة، فلك ما ترتأينه في هذا الموضوع، ولكني أضطر أن أعيد ما قلت البارح، إن محالفة بيتية مع ألماني لضرب من المستحيل، ولا مراء أنك توافقينني على الأقل بأنها مجردة من كل حكمة، ولا تظني أني أقاومها لأسباب دينية، كلا فلست من رجال الدين، ولا من رجال الفقه، ولكني لا أريدها لأسباب حسية وعقلية، أنت يا جهان عاقلة حكيمة، ذات رأي أصيل، فماذا تقولين في هذا الرجل؟ إنه اليوم الحاكم بأمره في الأستانة، ينبغي أن نتقرب منه، أليس غريبا هو عن حياتنا وعاداتنا، ولغتنا وأخلاقنا، وديانتنا وتقاليدنا؟ وعدا هذا فهو أرمل، وعمره ضعف عمرك. - بدرم، أوافقك على كل ما ذكرت، ولكن ...
قالت هذا واستسلمت للتأمل. - ولكن ماذا؟ - لا أدري، بدرم، فإني لا أجد كلمة تعبر عن عواطفي، والحق أني لا أفهم عواطفي. - لا يليق بك مثل هذا العذر، أفصحي عما يجول في خاطرك، ولا تخفي شيئا عني. - أخاف أن تزدري بي. - معاذ الله، أنت امرأة حصيفة ولا أرى ما يدعوك إلى الخوف من توقع الازدراء. - حسن، مساء اليوم الذي به قابلت هذا الرجل لأول مرة تراءت لي رؤيا، ليست حلما، بل رؤيا، وكنت إذ ذاك جالسة وراء منضدتي أترجم نيتشى، فأسدل سجل على عيني فجأة، وأصبح عقلي كخلية النحل غليانا، وابتدأت أرى نقطا صفراء تتراقص أمامي على صفحات الكتاب، فسقط القلم من يدي، ورأيت هذه الغرفة تدريجا تمتلئ ... ولكن ما الفائدة؟ تهز رأسك قائلا: إنها أضغاث أحلام.
فأجاب الباشا وعلى وجهه أمائر الرغبة باستماع الحديث: أنا مصغ تمام الإصغاء، كملي حديثك. - خيل لي في هذه الغرفة شبح امراة كأنها والدتي، وقد شاهدت الشبح جليا، ثم ابتدأ يتضاعف عدده، وتتكاثر الأشباح كلما حدقت بها بصري حتى رأيت أمامي مئات من النساء مرتديات أردية سوداء راسفات بالسلاسل والقيود، وعيون الكل منصوبة نحوي ملؤها استرحام كأنهن يرغبن بمخاطبتي بإبلاغي حقيقة هائلة، بالتماس عمل ذي شأن، وقد أرسلن إلى مسمعي هذه الكلمات «إما تضحية أو انتقاما»، وهي كلمات لفظها صوت طالما اعتادت أذناي استماعه، كأنه صوت أمي. انظر، فقد كتبت الكلمات كما سمعتها.
أما أبوها، فكان يلهو بسبحته ليهدئ ثائر أفكاره، وبعد أن شزر الوريقة التي أرته إياها سألها قائلا: ما فحوى هذا؟ - اعلم أن ذاك الصوت إنما هو صوت الأم، أم عنصرنا، أم ألوف من الأجيال أم ماضينا، هو صوت يدعوني إلى المفاداة في سبيل أم مستقبلنا، وهو عمل خطير لا بد أن تتمه إحدى نسائنا إن لم يكن أنا فغيري «إما تضحية وإما انتقاما»، هذا تفسيري تلك الرؤيا التي ما تراءت لي إلا وشعرت أن شيئا فائق القوى الطبيعية يقودني نحو هذا الرجل، ولقد كذبتك إذ قلت إني ذهبت لمقابلته مرة واحدة فقد زرته في منزله ثلاث مرات منذ آخر زيارته لنا. - أأنت ذهبت إلى منزله؟ جهان ابنتي؟ - نعم ذهبت ولكن زياراتي كانت لشئون تتعلق بالأمة.
لعبت النار في عين رضا باشا، ولكنه جمع من نفسه قوة لتسكين جيشانه، ثم سألها: أوتحبينه حقيقة؟ - كلا. - أوتقصدين إذن أن تقترني به لسبب من الأسباب؟ - كلا. - إذن؟ - بدرم، أناشدك الله ألا تسألني سؤالا آخر عن هذا الأمر، فإني لا أستطيع، لا أستطيع أن أجيب، لا أدري كيف أجيب ...
فصاح بها وفي صوته غصة وارتعاش: جهان ابنتي؟ والله لقد صدقت ظنوني، صدقت والله ظنوني. قال هذا ونزع عنه طربوشه ليمسح العرق عن جبينه.
عندئذ تقدمت إليه جهان فجثت حياله باكية، وكلمته بصوت مضطرب: كلا، كلا، يا أبتاه ليس الأمر ما ظننت، أقسم لك بالله وبالنبي إن الأمر ليس كما ظننت، لقد أسأت فهمي، فصدقني إن حقيقة الحال ليست كما تتوهم، أجهان ابنة رضا باشا، أواه! تقسو بي بدرم إلى هذا الحد بالظنون الباطلة؟ - إذن ما معنى كتابتك السرية إليه الليلة البارحة؟ - أوظننتها للجنرال فون والنستين؟ - إذن لمن؟ - لشكري.
تنفس الأب الصعداء، واستبشرت الابنة بشيء من الفرج، وكلاهما وقف عند هذا الحد من الحديث لاجئا إلى السكوت كما يلجأ الإنسان إلى مخبأ من العاصفة؟ وظلا كذلك برهة، ثم قال الأب: ولم المكاتبة السرية مع شكري، وعلى الأخص في ساعة كهذه؟ - لأنه تلقى أمرا عسكريا بأن يسرع إلى ساحة الحرب، وموعد ذلك اليوم بعد الظهر.
ما سمع الباشا هذا الخبر إلا وانتصب على قدميه ثانية قابضا على لحيته بيده المرتجفة، وشرار السخط والغضب تبرق في عينيه. - ولكني كتبت إليه أن لا يبرح قبل أن يراني، وهو ذا مذكرته التي استلمتها منه باكرا في هذا الصباح. - قسما بالله ونبيه، لن يسير شكري بك إلى ميدان القتال، لقد وهبت الأمة ثلاثة أبناء، وهو ذا رابعهم أيضا في ساحات الوغى، وقد لا يعود لي حيا، وقد لا أراه مرة أخرى، وقد كان باستطاعتي أن أوقد شرار ثورة تقضي على الألمان، أو تقصيهم بيوم واحد عن الأستانة، لقد طفح الكيل، ولم يعد ضباطنا يحتملون غطرسة الألمان وتفوقهم، لم يعد بإمكانهم أن يذعنوا لأوامرهم الوحشية، أما أنا فقد أخلدت إلى السكينة لا لأجلهم، بل لأجل سيدي ومولاي البادشاه الذي لا أحني هامي مطيعا لسواه، وإني ذاهب في الحال لأسعى بمقابلة جلالته ... شكري بك لن يسير إلى ساحة الحرب ليخدم هواء ظالم أجنبي. - ولكني كتبت إليه. - إلى من؟ - إلى الرجل الذي ذكرته الآن، وقد وعدني أن يلغي هذا الأمر أو أن يؤجله. - كان ينبغي لك أن تستشيريني قبل أن تفعلي ذلك، فإن كتابتك إليه في هذا الأمر لا تأتي بفائدة ما؛ فهو إذا تباطأ في استكشافه حقيقة ما بينك وبين شكري لا يتباطأ في اتخاذ الوسائط التي تفسد عليك مساعيك، وسيرسل شكري إلى ساحة الحرب، وربما كان إلى حتفه، موقنا أن في ذلك ينال منا مراده، ألا إنه لمخطئ، فشكري لن يذهب إلى ساحة الحرب حتى وإن حكم عرفيا لعصيانه، وأنت ستتزوجين منه غدا، لا بل اليوم، اليوم. - أتزوج منه، ثم يرسل إلى قبره أليس كذلك؟ - قلت لك لن يذهب إلى ساحة الحرب.
صفحة غير معروفة
عقب ذلك سكوت جاءت أثناءه الجارية تدعوهما إلى الغداء.
اتفق الاثنان - الأب وابنته - نهائيا على أن يتخذا سائر التدابير اللازمة لإلغاء الأمر في سفر شكري بك، أو تأجيله، ومما فاه به الباشا على المائدة إذ عاد إلى الموضوع قوله: «متى يعلم هؤلاء الألمان أنه مهما عظم نفوذهم يجب أن ينتهي عند سلاملك التركي؟ يمكنهم أن يستبدوا بأمورنا في الباب العالي حتى وفي يلديز أيضا، ولكنهم والله والنبي لن يستبدوا بأمورنا في منازلنا.»
كان رضا باشا لم يزل وابنته يتناولان الغداء إذ جاء الخادم يعلن قدوم ياور الجنرال فون والنستين. - قدم إليه السيكارات، وقل: إني قادم لمقابلته في الحال.
أحنى الخادم رأسه طوعا، ثم لمس فمه وجبينه بيده تسليما وتنحى، وما هو إلا ربع ساعة من الزمن حتى ذهب الباشا إلى السلاملك حيث كان الياور بالانتظار، وهناك قدم الضابط الألماني الرسالة التي جاء بها، وأتبعها بهذه الكلمات، وسعادة الجنرال قادم بذاته عند الساعة الرابعة بعد ظهر اليوم ليقوم بواجب التهاني لسعادتكم.
ففض رضا باشا الرسالة، وأعارها نظرة، ثم أدخلها جيبه دون أن يهتم بما حوته، وقال وهو لم يزل واقفا: أبلغ سعادة الجنرال أننا نرحب بقدومه، ونتأهل به.
وعاد إلى ابنته، وعلى طرف فيه ابتسامة صفراوية، وقال لها: تأملي يا جهان، إن ذاك الألماني متبع قواعدنا؛ فهو يرشونا ليكسب ثقتنا.
أما الرسالة فقد كانت مكتوبة بالتركية بيد لم تمارس الكتابة بتلك اللغة، فكأنها يد متتلمذ رفعته الضرورة إلى مقام كتامة الأسرار في الأستانة، ولا يبعد أن يكون أحد أولئك المتتلمذين الذين كانوا يتلقون اللغات الشرقية، وقد جاءتهم الحرب الحاضرة خير مريح لهم من عناء الدرس.
لم تقرأ جهان الرسالة كما قرأها أبوها بروح الازدراء، بل بشعور وامتنان حقيقيين، على أنها لو جاءت في غير هذا الوقت متضمنة غير ما احتوته لكانت جهان لا شك تنقد عبارتها البتراء، واقتضاب ترجمتها، وركاكة تركيبها، وخلوها من آيات التبجيل والإكرام مما يمجه الذوق التركي، إلا أن «جلالة الإمبراطور قد أنعم بالصليب الحديدي على نجلك مجيد بك لبسالته في ساحة الوغى.»
كلمات رنحت جهان افتخارا بأخيها المحبوب، وقد أملت أن تكون الرسالة التالية من الجنرال فون والنستين حاملة إليها إنعاما عليها من الإمبراطور.
ثم أشار إليها أبوها بإيناس وبشاشة قائلا: لك أن تستقبلي الجنرال بعد الظهر، وهذا سرورك برسالته، فإنك لا تضطرين أن تتظاهري بغير الطلاقة والترحاب، أما أنا فلن أكون حاضرا، فإني ذاهب إلى يلديز.
صفحة غير معروفة
لما كان ياور الجنرال فون والنستين مجتازا البوابة والعربة تهيأ لركوبه، إذا ببائع جرائد قد دخل بصحيفة يومية رفعها الخادم إلى رضا باشا، فقرأ فقرة من مقالة التحرير في الصفحة الأولى، وفتح الجريدة ليطالع الأنباء الرسمية والمحلية في الصفحة الثانية، وإذ وقع بصره على جدول كبير من أسماء القتلى في الأسبوع الماضي، فنظر فيه قليلا وللحال قدم الصفحة إلى عينيه مرتعشا ليدقق النظر فيها، فشهق شهقة طويلة مرتميا على الديوان مرددا: مستحيل، مستحيل!
أما اسم مجيد بك ابن رضا باشا فلم يكن بين أسماء الأسرى ولا الجرحى، بل بين القتلى.
وفي عمود آخر من الجريدة فقرة خاصة عن بسالة العقيد، وإقدامه في ساحة الحرب استرسل بها قلم الجريدة إلى تعزية والده الشيخ الجليل، ولهذا لم يعد من باب للشك لدى رضا باشا، فتنهد قائلا: «لتكن إرادة الله تعالى، إلا أن نعمته لتأتينا إما متيسرة وإما بطيئة يوم لا نستحقها، ويوم نكون في غنى عنها.»
قال هذا وقد ترقرقت في عينيه الدموع، أما جهان فكانت ترسل من أعماق قلبها تنهدات ارتعش لها بدنها وهي جالسة على الكرسي، ساد على الأب والابنة سكون الحزن، وفي خلاله جاء الخادم معلنا قدوم شكري بك، فدعي إلى «الدارخانة»، أو للبهو الخاص، ولما مثل أمام الباشا قبل يده، وضغط على يد جهان بكلتا يديه مظهرا حزنه بعبارات متقطعة أثارها غضب مازجته الأحزان. - جئت الآن من وزارة الحربية حيث تناقل الموظفون من الوزير إلى أقل كاتب في الوزارة الخبر المشئوم، وكل ينهال باللعنات على الألمان مستنزلا عليهم غضب الله ... يا لها من فظاعة! رماه الأمير بالرصاص خطأ؛ ما شاء الله! الألمان لا يرمون أحدا بالرصاص خطأ، كذب كذب وافتراء، فقد استقيت الحقيقة من كاتم أسرار وزارة الحربية وهي هذه.
أمرت القيادة الجنود أن يهجموا على خط من خنادق الأعداء، ويستولوا عليه عنوة مهما كلف الأمر؛ فلما تراجع قسم منهم شاهدوا مسدسات ضباطهم مصوبة عليهم، فاحتج الأمير آلاي مجيد بك - وأنت تعلمين أخلاقه وإباءة نفسه - وقد رفض أن يطيع أمر ضابطه الأعلى قائلا: أنا لا أطيق أن أرى ألمانيا مصوبا مسدسا على جندي عثماني، فكان جواب الضابط الألماني وجيزا قاطعا؛ فقد صرع الأمير آلاي مجيد برصاصتين أصابتا قلبه، أما فرقته فقد وقفت بجانبه، متمردة على هذه الوحشية، ولكن - وا أسفاه - إن الذين بقوا في قيد الحياة منها بعد تلك الوقفة الباسلة قد هلكوا بمتفجرات مدافعنا. - أولم يبلغ الجنرال فون والنستين هذا الخبر؟ - لا مراء في أن يكون قد بلغه الخبر حال وصوله وزارة الحربية. - لا لا لا أظن بلغه الخبر، وإلا لما كتب هذا الكتاب، ولاستغنى عن إرسال وسام الصليب الحديدي، بل لكان حفظه لآخر. - الألماني يرمي بالرصاص بطلا عثمانيا! يا للفظاعة يا للعار! كفى ما احتملنا منهم!
دخل الخادم معلنا قدوم الجنرال فون والنستين، فنهضت جهان منتصبة، أما شكري فظل جامدا في مكانه. - أنا أقابله. - اذهبي يا ابنتي إلى غرفتك. - لا بل يجب أن أراه. - لن تريه اليوم يا ابنتي، اصبري ريثما يهدأ غضبك، واذهبي الآن إلى غرفتك.
فسقطت جهان في كرسيها وهي تستر وجهها بيديها، وسلم رضا باشا الجريدة إلى شكري بك قائلا: أره هذه الفقرة، وقل له إنني لا أستطيع أن أقابله اليوم.
كان الجنرال فون والنستين مصحوبا بمستشاره وياوره مرتديا لباسه الحربي، وعلى رأسه خوذة بيضاء، وفي رجله جزمة سوداء يشع مهمازها، وقد كاد يفرغ صبره وهو ينتظر في غرفة السلاملك كاظما غيظه؛ لأن الباشا - وقد علم بهذه الزيارة الشبيهة بالرسمية - لم يسرع لمقابلته عند الباب، وشد ما كان اندهاشه عندما جاء شكري بك لتأدية السلام، بل ليقدم إليه رسالة للباشا.
اطلع الجنرال على الخبر في الصحيفة، وأعادها متجاهلا الأمر، فقال: يا للأسف؛ ثم قطب حاجبيه، ونظر إلى شكري بك نظرة استنكاف قائلا: وما السبب في بقائك هنا حتى الآن؟ - سأبرح غدا إن شاء الله. - ولكن الأوامر صدرت إليك أن تبرح اليوم، وكان يجب أن تكون في طريقك. - لم أستطع أن أكمل استعداداتي للرحيل. - على الجندي أن يكون دائما مستعدا للانصياع إلى الأوامر أي ساعة من النهار أو الليل، عملك هذا مخالف للنظام.
ومر إذ ذاك بالضابط التركي، وعلى وجهه أمائر التذمر، وقد خرج من البيت تغلي في صدره مراجل السخط والغضب أقلها من سوء معاملة رضا باشا له، وأكثرها من عصيان شكري بك أوامره.
صفحة غير معروفة
وإن مات ابنه أليس في إنعام الإمبراطور ما يعزيه، إنعام هو شرف لبيته، ومجد سلالته، يعززه ويفتخر به على مرور الأحقاب؟ وقد أعمل الفكرة الجنرال بهذا الشعور، واستمر يحدث نفسه: «حتى بمثل هذه الساعة كان أولى به أن يقتبل التهاني.»
سارت العربة وهو فيها يستعر حنقا وغضبا، أتحقير وامتهان من تركي إلى قائد ألماني؟ إنها لفظاعة، أويستخف تركي بإنعام الإمبراطور؟ إنه لجرم لا يغتفر، إلا أن الجنرال فون والنستين قد جاء لزيارة الباشا بشرف أعظم لو أدرك ذلك ووعى، فإنه جاء ليزف اسمه إلى اسم ابنته جهان؛ ولهذا إكراما لخاطرها سيحاول أن يطفئ نار غضبه، وإكراما لها سيهضم هذه الإهانة، وسيحتملها إلى حين.
وهكذا كان، فإنه لما عاد إلى بيته كتب إلى جهان رسالة تعزية، وقد أنبأها أنه قادم لمشاهدتها في الغد.
الفصل الخامس
إن موت مجيد بك في ساحة القتال على تلك الصورة الفظيعة لمما زعزع في جهان إعجابها بالألمان، ولكنها تنسمت في الجنرال فون والنستين سرا، لم تستطع أن تدرك كنهه، فإذا كان هو مصدرا ذلك الأمر المسبب تلك الفاجعة، فما معنى رسائله الودية إليها، وإلى أبيها، وما معنى تردده إلى منزلهم بهذه الجسارة والجرأة كأنه لم يأت أمرا فريا، ومما تيقنته أن الجنرال لم يكاشف وزير الحربية بشأن شكري بك كما وعدها بذلك الصباح، وليست هذه بالمرة الأولى التي أخلف بوعد وعدها إياه.
ولما كان المساء جلست وأباها يتناولان العشاء، فقرأت أمامه الكتاب الذي تلقته من الجنرال فون والنستين، ثم سألته قائلة: بدرم، أعطني رأيك في هذا. - يجب أن لا تستقبليه إذا جاءنا زائرا.
فلم تنبس جهان ببنت شفة، ولكن شكري بك الجالس قبالتها أقدم على الاعتراض فقال: ولكن الجنرال لا سواه يستطيع أن يؤجل الأمر العسكري أو يلغيه.
وشكري بك شاب جميل المحيا، رضي الطلعة، رقيق الجانب، مهذب تهذيبا عصريا، ولكنه في فمه وناظريه سيماء طبع يجمع بين القسوة والتزلف، وهو إذا كلم أحدا قلما ينظر إليه وجها لوجه.
التفت إليه رضا باشا، وخاطبه قائلا: أنت تعلم يا بني أننا معشر الترك مشهورون لدى الأوروبيين بالاحتيال والتزلف والجور، وقد جر علينا هذه المعايب أولئك الذين يديرون دفة أمورنا، فهم المسئولون عن هذا العار اللاحق بالأمة جمعاء، أويستطيع الفرد أن يدرأ عارا لحق بالمجموع؟ أما أنا فلم تكن المراوغة أبدا من شأني، ولم أكن خاضعا خضوعا أعمى حتى لسيدي ومولاي السلطان، فهل تريد أن أقف اليوم في باب ألماني أسأله صدقة، وأنا في آخر عمري، لا وتربة أجدادي، لا أفعل ذلك، إذا كان هذا الرجل مثل أولياء الأمر فينا مراوغة واحتيالا، فإني أدعه وشأنه، ولا أتدخل بأمر من أموره، أما أنت فلا تذهب إلى ساحة الوغى، اللهم إذا كانت كلمة رضا باشا مسموعة في يلديز، أنا ذاهب غدا لأقابل جلالة السلطان، وبعد أن يلغي الأمر نسافر كلنا إلى قونية، ولقد أمرت الخدم أن يتأهبوا للرحيل، نعم سأرحل من جهنم الأستانة، وسنقيم في قونية بعيدين عن الألمان ومطاياهم، قوادنا الملاعين، هناك أريد أن أقضي بقية أيام حياتي بسلام، حتى إذا حل القضاء بي تغمض أنت وجهان عيني، وتكونان حولي في مأتمي، وأتأمل أن لا أرى من أيكما مقاومة لرغبتي هذه.
إلا أن جهان قالت لشكري بك، وقد اختلت به في الدارخانة: ولكني لا أقدر أن أذهب إلى قونية؛ لأن أمامي أعمالا عديدة في الأستانة، نحن الآن في أشد وأعظم أزمة في تاريخنا؛ ولذا أرغب بالبقاء في وسط العاصفة حتى النهاية، لن أفارق أخواتي الطامحات إلى الحرية، لا والله ولا أترك إخواني الجرحى في المستشفى، إن للأمة وللحكومة علي حقوقا، وعليك أيضا يا شكري، فإننا لم نزل أحدث سنا من أن نعتزل في آسيا الصغرى، وندفن أنفسنا في مجاهل الأناضول. - ولكني موقن أن الأمر لن يلغى، وأرى أني مسير غدا لا محالة، وقد لا أعود أراك؛ فإنك لتعلمين أن ليس لجلالة السلطان إلا القليل من السلطة في هذه الأيام، وهذا الألماني هو سالبه تلك القوة، وليس بين وزرائنا حتى مشايخنا أو شيخ الإسلام من يقاوم كلمته، ألم تتأملي بهذا؟ أولا تظنين بأن الحكمة تقضي بأن نلاينه ونداريه؟ قد يمكن أن أكون تسرعت بتصرفي معه، ولكن لا أحتمل أن أرى أيا كان من الناس يضمر في نفسه السوء لنساء عنصري، ناهيك بأن الرجل ألماني، بل مسيحي.
صفحة غير معروفة
أنصتت جهان لحظة استرسلت فيها إلى التأمل، ثم قالت وفي صوتها حدة مشفوعة بقطع الأمل: لا أستطيع أن أطرق باب هذا الرجل بعد الآن، فليس لي حق يخولني سؤاله حاجة ما، ويلوح لي أنه أساء تفسير سكوتي في الماضي، ولكنه لن يستطيع أن يسيء تفسيره اليوم. وقالت متبعة كلامها كأنها تخاطب نفسها: وإن لم أقابله غدا فينفر مني مغتاظا، ونصبح كلنا تحت رحمته؛ أنت، ووالدي، وأنا تحت رحمة الألمان ... كذا كنت أقول لك دائما.
ولكني لست بهذا المقدار قليلة الإدراك والتمييز حتى أحسب أن مصلحتي الذاتية، ومصالح أمتي سيان. - ستقابلينه إذن لأجلي، لأجلنا كلنا. - يلوح لي أنك شديد الحيرة، وأنك تخاف الذهاب إلى ساحة الحرب؟ - أنا؟ ما شاء الله! كنت أخال جهان تحسن الظن بي، ألم تقولي أنت نفسك: إن شغلي في دائرة الحربية؟ أولم تبوحي لي مرة أنك لا تحتملين فراقي؟ - بلى قلت ذلك مرة. - أوتغيرت الآن؟ - يا عزيزي شكري، كل شيء يتغير في هذه الأيام، ولا يستطيع أي كان في زمن الحرب هذه أن يثبت على رأي من يوم إلى آخر، بل كلنا ضحايا تلك القوة الضاغطة الشريرة، تلك القوة العلوية أو السفلية التي تجسم فيها الشر والخير، والتي أدعوها «إلهة التلون». - أهذا ما يعلمك إياه فيلسوفك الألماني؟
فنظرت إليه جهان نظرة الأنوف الغضوب قائلة: إياك والتهكم على آرائي. - أما أنا فلم أتغير، أنا لا أزال أحبك، أنا مغرم بك، وأقسم بالله أن لا امرأة سواك تقاسمني قلبي، وتشاركك في الحريم. - ذكرتني بالأمير سيف الدين. - ولكني لن أحنث بوعدي أقسم بالله وبنبيه. - التقلب إله الزمان! - بربك يا جهان لا تعذبيني. - أنت تعذب نفسك. - إذن عديني، إذا ذهبت إلى ساحة الوغى ...
فقاطعته قائلة: لا أستطيع أن أعدك شيئا. - أتقترني بي قبل مغادرتي غدا؟ - لا وقت عندي للاقتران هذه الأيام. - والله إن هذا الألماني ... - هو لسوء الحظ أرفع منك مكانة، وعليك أن تصدع لأوامره.
كان شكري بك يتمشى في الغرفة مطرقا وجهان محتبية على الديوان.
وبعد فترة دنا منها جالسا حيالها، وقال: حكمي عقلك، لا أخالك تكسرين قلب والدك، ولا أخالك تعذبين عبد هواك، أنا ذاهب إلى ساحة الحرب إذا كان هذا يرضيك، والحق أني كنت قد عزمت على المسير قبل أن استلمت مذكرتك، فلماذا الآن تطلبين إلي أن أؤجل رحيلي، حكمي عقلك، أمكث معك في الأستانة إذا كنت لا تشائين الذهاب إلى قونية، قابلي الجنرال فون والنستين غدا من أجلي، فإني أرغب بتأخير يومين فقط، وأرضى إذا كان سعادته يعد ... - نعم ولئن كان سعادته ألمانيا فقد تلقن علم السياسة في مدرستنا؛ ولذا أنا نفسي لا أومن بما يعد به بعد الآن. - إذن علينا أن نعامله بمثل ما يعاملنا، فنسود على مراوغته.
قال هذا مطمئنا وقد وضع يديه في جيبيه، ووقف في وسط القاعة كمن أفحم غريمه. - أرى يا عزيزي شكري أن تصدع بالأمر الصادر إليك، والآن أرجو لك مساء سعيدا.
قالت هذا وخطت نحو الباب فناداها شكري: قفي قفي، لا تسيئي فهمي، فأنت تعلمين شدة حبي لك، وما أود أن أضحيه لأجلك إلا أن المرء إذا وقع بين الواجب والحب ... - على المرء أن يكون في الأزمات الأهلية في طليعة الوطنيين. - ما كنت أسمع منك مثل هذا الكلام قبلا، ماذا جرى؟ وبماذا أسأت إليك؟ أوتظنين أني خال من الوطنية حتى تعيريني وتوبخيني؟ لا أستطيع احتمال هذا، كلا والله، أنت متقلبة قاسية القلب، ولا تراعين شعوري.
فأشارت إليه جهان بيدها أن يسكت، ثم قالت: أرى يا عزيزي شكري أنك أكثر أهلية في ساحة الحرب منك في إدارة الحربية، فلست بذي دهاء لتكون سياسيا فضلا عن أن وجودك في ساحة الحرب في هذه الأحوال أسلم لك عاقبة، فاذهب وتأهب، وإذا عدت بطلا أقترن بك. - أعلم أنك تستبدين بي؛ لأني أذعن لك محترما كل أمر من أوامرك حتى أدنى رغبة من رغباتك. - أخطأت القصد مرة أخرى، وقد لا تهتدي لأغراضي، ولو وضحت على أنني لا أدري كيف أوضح لك حقيقة أمري، ناهيك الآن بقصر الوقت لدي، فنحن في الساعة العاشرة، وعلي تكملة موضوع لجريدة طنين، وكل ما أستطيع أن أقوله هو أني أشعر بوجوب ذهابك إلى ساحة القتال لتذود عن بلادك، أرجو لك ليلة سعيدة، ودعني أقبلك مودعة!
الكلمة الأخيرة منها استثارت في شكري بك حرمة الرجال إذا امتهنتها امرأة، تلك الحرمة التي تظهر في أحقر الشرقيين، وأضعفهم كما تظهر في أشدهم وأعظمهم، فوقف بعيدا عنها سامد الرأس جاحظ العينين.
صفحة غير معروفة
فهزت جهان كتفيها، وعلى شفتيها ابتسامة فيها رضاء يمازجه ازدراء، وذهبت إلى غرفتها، أما شكري بك فعاد إلى منزله مضطرب النفس، مشتت البال، يصب لعناته على الروح الأوروبية، ويقول ...
الفصل السادس
دعت جهان الخصي سليما إلى غرفتها وقالت: لم يعد ينفع هذا المسحوق، ولا تأثير له علي، أفليس عند صاحبك الصيدلي شيء أشد منه فعلا؟ أحب أن أنام هذه الليلة يا سليم. - بلى مولاتي، عنده سائل يقتاد النوم اقتياد العبد الذليل، فيأتيك به على أجنحة الليل، ولو كان وراء سبعة أبحار ولكن ... - ولكن ماذا؟ ألا تستطيع أن تجيئني به هذه الليلة؟ - بلى خانم، إن شاء الله، وإنما قصدت أن أحذرك يا سيدتي أن لا تأخذي منه جرعات عديدة، فإن له تأثيرا سيئا على القلب. - ليس هذا من شأنك يا سليم؛ اذهب وأتني به في الحال. - السمع والطاعة يا مولاتي.
وما هي إلا بضع دقائق حتى كان العبد الغليظ الشفتين الطويل القامة يزرع خطاه في الشوارع اللولبية وهو بضخامة جسمه وانتصابه يشبه المارد الأسود الذي كثيرا ما يأتي ذكره في أقاصيص الجن سائرا إلى كهف سيده الساحر.
أما جهان، فقد ارتاحت إلى أمل بالنوم تلك الليلة ارتياحها إلى الهبة العلوية، ولكن عقلها كان كالبحر الهائج وهي ترقب عودة سليم بصبر كاد يفرغ وقفت عند ذكر شكري بك فأملت على الأقل أنه لن يسير إلى ساحة الوغى، ثم أخذت تفكر ماذا عساه يضحي لأجلها، أو ماذا يستطيعه من التضحية، ولكن هل يضحي التركي شيئا في سبيل امرأة؟ أويقبل التركي المهذب الذي يفاخر بكونه عصريا وأوروبي الروح أن يقترن بسيدة تركية حرة؟ أويكون شكري بك أمينا بعهده أن لا يتزوج إلا امرأة واحدة؟ أوعنده شيء يذكر من الجرأة الأدبية، والإرادة، والبسالة، وروح التضحية؟ ولم كان شديد الرغبة في الحصول على تأخير الأمر العسكري؟ أوظن يا ترى أنه يستظهر عليها بالكلام، أو أنه يجبرها على الاقتران به خلال يومين، أو أنه عاهد أباها أن يحملها على الذهاب معهما إلى قونية؟ إلا أنه كان يليق به أن يسلك في حضرتها على الأقل سلوك الجندي الصادق الوطنية، وكان يجب ألا يكون رقيق الشعور إلى حد التخنث؛ لأن جهان تحتقر الشاب التركي الذي يذوب ولها، ويستسلم للتافه من عواطفه.
ولقد أعجبت بشكري بك لما عرضت عليه قبلتها، فأباها مغتاظا إلا أنها كانت فترة قصيرة ظهر فيها مظهر الرجل الذي تطمع في السيادة عليه، وبالرغم من هذا شعرت في تلك اللحظة أن دافعا يدفعها إلى ذل العشق، فودت أن تنطرح على قدميه فتقبل يده وركبته كأنها محظية، وتستسلم وهي على صدره إلى ما فيه سرور سيدها وحبوره.
إلا أن هذه الروح الموروثة التي استحوذت على قلبها، وجعلتها كئيبة النفس أليفة الهم والغم، التي طالما صارعت روحها الطامحة إلى التحرر، فحاولت عبثا أن تعيدها إلى ذل الحريم وعبوديته، بل إلى ما رسمته أمام نظرها البعيد من الرسوم الذهبية لما في الحريم من الترف والفخامة، والرخاء والكيف، والاستسلام والراحة، والسكون والهدوء اللذين تتخللهما نغمات العود السحرية، أو قرقرة النارجيلة الفضية التي يفوح منها شذا الورد، وما فيه أيضا من قال وقيل وحق ويقين، مما يثلج له صدر المرأة إذ تهمس وراء الستار، أو تسقط «كما تسقط الثمرة الناضجة» من شفاه الخصيان التي لم تتعود الأذى، وما يتبعها من فترات يضحكن فيها تسلية من تمويهات الرجال، وحقيقة حالهم في مواقف يلذ للنساء نقدها وتزييفها، ناهيك بما يجمعهن من الأخوية في حظ هن فيه على السواء، يدلهن على فضيلة الإذعان لأمر الرجل، ويلطف مر التقاليد بالتهكم والضحك، تلك هي روح الوراثة التي كانت تمثل الحريم هذا التمثيل الباهر، والتي كانت جهان تنتصر عليه ليلا بمنومات عبدها سليم، ونهارا عند اشتداد أمره بما عندها من حماسة في سبيل الحرية، وثبات في ممارسة ما تظنه حقا، وإرادة في إتمام مقاصدها السامية.
ولكن أي ابن امرأة تركية، أي شاب تركي يسير وإياها الطريق كلها فيحبها ويجلها ويحسن فهمها؟ بل يشعر معها بأسمى رغائبها، ولا يزدري أحلامها المقدسة؟ وبعبارة أقصر وأوضح: أي تركي يستطيع أن يكون لها صديقا ورفيقا وقرينا معا؟
ولهذا لم تكن تثق بشكري بك، بل كان يأخذها في أمره كثير من الريب، كيف لا وهي ترغب أن يملأ عقلها وقلبها معا؟ إلا أنها بالرغم من ريبها في ذلك فقد كانت الليلة البارحة شديدة الرغبة في إيصال رسالتها إليه توقفه بها عن الذهاب إلى ساحة الحرب، إلا أن كل ما جرى فهو من أجل والدي لا غير، قالت هذا لتسري عنها قليلا، وهي تعتقد بما نطقت شفتاها، وتستعيذ بالله من شعورها.
وإن حالة عقلية كالحالة التي كانت فيها جهان لهي أدعى إلى الخيبة، ولهذا وقفت فجأة بينا يتجاذبها تيار الأفكار لترى إذا كانت تفهم حق الفهم ما تتطلبه لنفسها، ولكنها بدلا من أن تخوض عباب ما هاج فيها من النفسيات وجدت حالها في سطحيات الأمور، والفكر منها متجه إلى ناحية أخرى، وهناك في البعيد مما تراءى لها تجسم أمامها شبح ذلك الطاغية؛ ذلك الألماني الشديد البأس، ذلك الداهية الذي قد يعتنق الإسلام من أجلها، فهو على الأقل سليل الشهامة والبسالة، يقبل يدها ويجلسها إلى يمينه على الديوان أو في العربة، وهي تقاليد لم يتلقنها العثماني، ولن يقبلها .
صفحة غير معروفة
يا للعجب العجاب! كيف تؤثر علي هذه الأشياء التافهة، إن هذه الشهامة إلا تقليدا ميتا كأكثر تقاليدنا، إن هي إلا مظهرا يظهر فوق رداء الجندي، بهرجة فارغة، فخفخة فانية.
أما أطوار المرأة، فلئن تكن وقتية متقطعة فهي ملازمة الترداد، وحقيقية كالصدر الذي يعي أسرارها، حقيقية كالشفاه التي تفصح عنها، أصلية كالزهيرات على حافة الطريق تبرعم في السحر، وتذبل فترجع إلى الأرض ريها، وتعيد إلى الشمس خواصها الذي لا يباع ولا يشترى، وهي تظمأ وتجوع كالصنوبر الشامخ كبرا، كالكرمة المتعرشة المخيمة مجدا، أطوار المرأة وإن كانت تافهة فهي جوهرية تماما، فإنها تستقي من ينبوع الحياة أسمى الهامات النفسية التي تولدها الوساوس الغريبة والطباع العجيبة، ولهذا إن شفتي رجل تلثمان يد هذه المرأة التي خلقت لتقبل يد الرجل استرعتا منها كبير الأهمية، بلى فقد أهاجتا منها ساكنا لا تحركه أخلص قبلات الحبيب وأحرها، وهو أمر جاءها مثالا لمبدأ نيتشى الذي يقول بعكس القياسات المألوفة، أو بنفي الوضعيات من الفضائل والمكارم، وطالما اشتهت من مظاهر السيادة ذلك الإجلال الذي حرم على أمهات شعبها.
عادت جهان تفكر بما كان يجول في رأسها وهي متمسكة بقلبها، متحفظة، فقالت: وناهيك بالجنرال فون والنستين من رجل لا يصدق ظاهره عمره، فهو كبير الخلق، ولم يزل شديد البنية، مهاب الطلعة، جذاب المحيا، وهو رجل بعيد الصيت، ويل الهائمة المسكينة من وجنتيه الحمراوين الضاربتين إلى السمرة، وعينيه الشهلاوين البرقيتين، وأرديته الحربية الفاخرة فهي كلها تهزأ بسنيه، وبما أثقله به الزمان.
ولكنها عادت إلى أحلامها طامحة مستبسلة، فسألت قائلة: ويكون ذلك انتقاما يا ترى أم تضحية؟ أيجب عليها أن تبيع شرفها في سبيل الحرية التي تطمح إليها؟ ألا وهي الحرية في انتخاب أب لولدها، ولو أدى الأمر إلى هدم معاهد شعبها، وتقاليده المقدسة، فإن أمها بل أمهات عنصرها اللواتي تراءين لها بالقيود قد طلبن إليها أن تقتص لهن بهذه الطريقة، فقد رسخ في عقلها أنها هي المنشودة لهذا العمل الخطير الجليل، وأنها كسيف نقمة يشهر له على طغيان الرجال، كذلك فسرت الرسالة السرية، وهذا ما فهمته من تلك الرؤيا.
وقفت متيقنة مترددة، إذ ماذا يحدث يا ترى إذا انكسر سيف الانتقام في ضربة واحدة؟ تستل إذ ذاك سيف التضحية، ولم تكد تشحذ قصدها حتى انتقلت بخيالها من عالم الأحلام إلى عالم الحقيقة، وجهان ابنة معقول كما أنها ابنة خيال تنتقل من حال إلى حال بسهولة غريبة، فإذا قبح عقلها الوقاد الضعيف معا أوهامها عادت إليه، وإذا نفرت من مكروهات الحياة لجأت إلى أحلامها عادت الآن إلى معقولها؛ فرفعت صوتها قائلة: كلا، لا تضحية ولا انتقاما، بل سعيا في سبيل سعادتي، وطاعة لأوامر حلمي بالحرية، حرية الانتخاب إذا أحببت أن أكون أما، حريتي في والد ولدي ولا فرق إذ جاءتني بفتى أو بفتاة، فالفتاة تستطيع أن تتحداني في تحرير المرأة التركية وتكمل عملي، والفتى - بعون الله - ينشأ بطلا؛ فيكون جنديا وطنيا نافعا، منقذا أمتنا، ومرمما دولتنا المتداعية؛ وقد يستحيل تحقيق آمالي برجل من شعبي، ثم صاحت قائلة: «يا لله من الوحش الأشقر!»
1
قالت هذا وانقطعت عن الكلام ترتعش رعبا كالمرء في الغاب، وقد صادف حيوانا ضاريا في منعرج طريقه، فودت لذلك أن يعود سليم في الحال إليها.
تمددت على الديوان وهي تحاول حبس أفكارها؛ خوفا من أن تجرها إلى المخاوف والمكربات، ودت أن لا ترى شيئا، وأن لا تشعر، وأن لا تفكر بشيء، ولكنها ضعفت عند وساوسها عزما، فجرها الفكر هذه المرة إلى أبيها، فهي تحب أباها حبا لا يفسده مبدأ نيتشى القائل بعكس القياسات المألوفة، وبنفي الفضائل الوضعية؛ لذلك تكره أن تزيد ببلواه، وتحب أن تذعن لبعض أوامره، فعليها إذن أن تضرب صفحا عن عصيانه، وأن تسكت على الأقل إذا نطقت الأنانية بلسانه، وأن تقيم على عهود البر وهو في شيخوخته، فتكون له كما كانت في الماضي رفيقة قلبه الوحيدة، ومرهما لجروحات نفسه. ولكن من المستحيل أن تذهب وإياه إلى قونية، وتقصي نفسها في وقت كهذا إلى مجاهل الأناضول، من المستحيل! فإنها لا تستطيع أن تضحي في سبيل حبها البنوي تضحية عظيمة كهذه، ولكن ... ولكن هب أن شكري بك يسير إلى ساحة القتال، وأن الجنرال فون والنستين يأبى إلا الاقتران بها، أو أن أمرا آخر ... ربي ما لي وهذه الأفكار الآن، فإذا كان لا بد من حدوث المكاره من عسف هذا الألماني فهناك طريق أخرى، طريقها الخاصة طريق حريتها التي يجب أن يسير فيها راضيا أو مكرها.
وقد كانت هذه الهواجس تتزاحم في صدرها، وتلتهب ساعة دق على الباب سليم، ودخل مقدما إليها علبة صغيرة فتحها أمامها في الحال. - هذا القدر فقط يا سيدتي (قال هذا مشيرا إلى بياض ظفره) ذوبيه بقليل من الماء، أو إذا كنت تؤثرين فنجانا من القهوة. - كلا يا سليم، قليل من الماء يكفي، يمكن أن تنصرف.
ولكنها ظلت إلى حين أسيرة هواجسها وهي في سريرها بين يقظى ونائمة، فإن ذلك الداهية الذي ينحدر من عالم الظلام غامسا جناحيه الأسودين بشعاع القمر ليأتي متلصصا أبواب النيام، كان يسمعها تناجي نفسها بعدما تسرب المنوم إلى عروقها، فتقول: ولد من بروسياني، من هذا الالماني، إما تضحية وإما انتقاما.
صفحة غير معروفة
الفصل السابع
كان الجنرال فون والنستين شديد الإعجاب بأصدقائه الأتراك حتى إنه حبا باستمالتهم إليه تماما أخذ عنهم شيئا من عاداتهم، فأصبح في بعض أطواره تركيا، وبالرغم من أن مقامه يوجب عليهم الرصانة والتحفظ فكثيرا ما كان ينقاد إلى ظواهر الأمور سمحا متساهلا، وهي خطة قد لا تجيزها القيادة الألمانية العامة، وقد تضر بالمصالح الألمانية في تركيا، ولكنها أكسبته مكانة في الباب العالي ويلدبز، وإنك تراه آنا رصينا متحفظا قليل الكلام عندما يوافق ذلك مقاصده، وآنا يلجأ إلى السياسة فيراوغ ويموه كأصدقائه الأتراك الذين عرفوا بهذه المزايا، وتفردوا بها بين سائر الأمم، ولكن ما كان يشكل أمره عليهم من أخلاق الجنرال هو حذقه العجيب في تدبير الأمور وفقا للساعة والحال، فكان في نظرهم من هذه الوجهة رجل التغاير والمدهشات؛ فإنه وإن كان ذا عزم ثابت لا يتزعزع عن قصده، وعنيدا لا يشفق ولا يلين في تنفيذ أوامره، فقد أدرك مذ أم العاصمة العثمانية أنه في الشرق حيث لا تنفع القسوة كثيرا، ولا الشدة تفيد؛ كيف لا وصاحب الصولة والاقتدار نفسه يلجأ غالبا للمراوغة والمداراة.
أجل حتى السلطان في هذه الأيام يؤثر اللين على الشدة؛ والحكيم من استعان على أموره بالتأني، ولذلك عول الجنرال فون والنستين أن يسلك هذا المسلك معللا نفسه بملك آسيوي أملا أن يصبح حلم السيادة الذي كان يحلمه كل يوم، وطالما ردد في قلبه، من يروصه إلى بغداد، يا لها من مملكة واسعة الأرجاء! فإذا أمست هذه البلاد تحت حماية الدولة الألمانية يصبح الجنرال إذ ذاك أرفع مقاما، وأبعد صولة من ملوك ألمانيا المقيدين؛ لأنه في صفته نائب جلالة الإمبراطور لدى السلطان، لا بد أن يولى على هذه المقاطعة؛ وإذا كان نابليون رغب يوما في الإسلام فهو يتجاوزه إقداما، ويفوقه حكمة فيتزوج من امرأة مسلمة تركية.
وكان فكره مطمئنا من أمر جهان، فلم يكن يداخله شيء من الريب أنها ترفض شرف اسمه ومحتده، ومجد صيته ومقامه، ولم ير لها في الرفض سببا واحدا من الأسباب، أو عذرا واحدا من الأعذار، وقد فاتحها بالأمر مرات، فكانت تارة تظل ساكتة، وطورا تعرب له عن نصف الحقيقة فقط، أو أنها تحوله عن الحديث في هذا الشأن فتستزيده من معالجة الشئون العامة، فاستنتج الجنرال من هذه المداعبة أنها كسائر النساء لا تجسر أن تبوح بما يكنه قلبها؛ ناهيك بجهان من امراة غريبة عنه جنسا ودينا، على أنه كان متيقنا أنها راضية ضمنا، ولا بد أن تقبل الشرف الذي سيخلعه عليها، فلا يبقى حينئذ إلا أن يعلن الأمر إلى أبيها، ويدعو شيخ الإسلام ليعقد عليهما وفقا للأصول الإسلامية، ولم يكن هذا التعطف بل هذا التساهل من الجنرال حبا بعروسه التركية فقط، بل إكراما لشعبها أيضا، فإن في عمله هذا ضربا من السياسة والدهاء، يقرب في مثل هذا الوقت الأتراك من الألمان، ويوثق بينهما عرى الوداد والولاء.
تجاذبت هذه التأملات عقله وقلبه إذ كان قادما لزيارة جهان، وعندما فطن لمصرع أخيها أسف أسفا حقيقيا، وكان في نيته أن ينكر أمامها عمل الضابط الأعلى في ساحة القتال، إلا أن هذا الأمر لم يكن ذا شأن في نظره، وما ظنه أنه سيحول دون رغبته، فخاطب نفسه قائلا: سأعلن لها قصدي مفصحا عن شيء من خطتي في المستقبل، وسأرسل كاتم أسراري في اليوم التالي أطلب رضاء أبيها، وفي هذا من الإكرام والتعطف ما قلما يستحقه تركي مهما عظم شأنه.
جاء هذه المرة مرتديا ثوبه المدني، لابسا طربوشا قرمزي اللون، وعندما ترجل من العربة التي لم يكن فيها سواه استقبله الخادم عند الباب، وتقدمه إلى البهو الكبير حيث ظل الجنرال واقفا يجيل نظره في الألواح المعلقة على الجدران، وقد نقشت عليها بالذهب آيات من القرآن.
لم يتعود الجنرال الانتظار في مقابلة أحد في الأستانة؛ ولم يكن فيها من يجسر أن يوقفه في البهو منتظرا دقيقة واحدة، ولكن سلطان الحب فوق كل سلطان، وما يغتفر لجهان لا يغتفر لغيرها؛ لذلك لم يتبرم ويمتعض، بل بات يترقب قدومها مسرورا مستبشرا، فتأمل ما كان من شدة دهشته وغيظه حين شاهد في الباب لا جهان ذات الجمال الذهبي الباهر، بل أباها الشيخ وقد ارتدى ثوبه الرسمي، والسترة منه مزررة حتى طوقها، ولم يكن لينسى الجنرال سوء تصرف الباشا في اليوم السابق، ولم يتوقع قطعا مثل هذه المقابلة الفجائية، على أنه حاضر الخاطر، ثابت الجأش، وهو دائما على استعداد لشواذ الأمور، وشوارد الحوادث، فاستجمع في الحال ما تشتت من عقله لأول وهلة متظاهرا بما ليس فيه، وتقدم بضع خطوات وعلى فمه ابتسامة الرياء، فصافح الباشا في وسط البهو، وتقدم وإياه إلى الصدر، فأشار الباشا يمينا إلى مجلس على ديوان الشرف، وقد حنى رأسه إجلالا لضيفه.
جلس الجنرال وافتتح الحديث بالإفرنسية؛ لأن رضا باشا يجهل الألمانية، فقال: أتأمل أن تكون قد تناولت السيدة جهان خبر تلك الفاجعة الأليمة بصبر وثبات جأش، وآمل أن تكون معافاة هذا الصباح؟ - نعم، إنها معافاة، شكرا لك. - وأنت يا سعادة الباشا ولئن كان القولغاسي مجيد بك آخر من لاقى حتفه من أنجالك في ميدان الحرب حبا بالوطن - قال هذا وهو يلفظ كل كلمة مليا، ويقف عندها مبطئا ليحسن ارتجال خطاب - ينبغي لك أن تعالج مصيبتك بالصبر وأنت الجندي الصادق الوطنية، الكبير النفس والخلق، فضلا عن أن نجلك قد مات بطلا، وقد كوفئ على مآثره الحسنة بإنعام من جلالة الإمبراطور، وما ضر أن جاء ذلك الإنعام بعد ما قضي الأمر. - إن الجندي الصادق الوطنية لا يأسف لوفاة ابن له يا سعادة الجنرال، اللهم إذا صرع في معركة صرع الأبطال متمما واجباته العسكرية، وإن لم تعتبر بطولته، ولم يكرم لأجلها، ولكنه إذا مات في المعمعة شهيد واجب مقدس، بل واجب هو أقدس عنده من وطنه ودينه إذا مات مدافعا عن إخوانه الشاكين السلاح، ثائرا على القائد الأعلى الذي أظهر من الوحشية والخيانة ...
وقف الباشا عند هذه الكلمة إذ رأى الخادم واقفا في الباب حاملا على يديه طبقا فضيا عليه كأس من شراب الورد، فأشار إليه الباشا أن يدخل، فدخل وقدم الكأس إلى الجنرال، فتناولها ورفعها إلى شفتيه المتقلصتين غيظا، فما لطفت حلاوتها كلمات هم أن ينطق بها وهي أشد مرارة من كلمات الباشا.
شرب ورفع يده إلى طربوشه شاكرا مضيفه، ثم قال: كمل حديثك يا صاحب السعادة، ولكني أعترف أنني لا أفهم ما تقول، أوتريدني أن أزيدك إفصاحا؟ عجبا أوتريد أن أعيد على مسمعك يا سعادة الجنرال ما أنت عالم به حق العلم؟
صفحة غير معروفة
قال هذا الباشا وحاجباه يقتربان قليلا قليلا حتى أصبح خطا أسود متواصلا فوق عينيه، أما الجنرال فكان يربت ركبته بأنامله وهو يستملك الحنق والحقد. - آذن إذن أن أكلمك بحرية لا تعرف المواربة، فأسألك بشرفك ألم يتصل بك خبر الفاجعة في ساحة القتال؟ - أية ساحة؟ وأية فاجعة؟
قال هذا الجنرال وهو يحاول كظم غيظه والتمويه في مقاصده: ما بالك تروغ مني، وتتجاهل الأمر؟ - ليس هذا الكلام في محله يا صاحب السعادة. - أتريد يا سعادة الجنرال أن تخفي عني الحقيقة؟ لا مراء أن الإذاعة التي وردت على وزراة الحربية وقد منع نشرها قانون المراقبة قد اتصلت بك، وجاءك تقرير عنها من ساحة الحرب أن الضابط الألماني الذي رمى ولدي برصاصة هو وحش ضار، ونذل جبان، ولا يستحق رصاصة جندي، المشنقة لأمثاله! - سكن جأشك يا صاحب السعادة، ولا تسترسل إلى المبالغة والأوهام، ودعني أنبئك أن ما اتصل بك من خبر الرواية لا صحة له، إنها لإذاعة كاذبة، فإن موت ابنك كان حادثا فجائيا يؤسف له شديد الأسف. - والأمر الذي صدر، ومؤداه أن يرمى بالرصاص كل جندي يتراجع، ذلك الأمر الذي احتج عليه ولدي ومن أجله تمرد، الأمر الذي كان سببا لما تدعوه حادثا فجائيا، الأمر الذي لم يستطع ولدي أن يعمل بموجبه ...
ومع ما جاش في صدر الجنرال فون والنستين من الغيظ والغضب ظل مدركا مقامه، مالكا صوابه، فرأى أن الباشا قد نصب لنفسه فخا في آخر ما جاء من جيشانه فقال: إذن أنت كجندي تذنب ابنك لتمرده، وتقاضه على عصيانه الأوامر العسكرية. - أها أها، إنما هذه هي الحقيقة، إن ولدي قد رمي بالرصاص لعصيانه الأوامر العسكرية، ولم يمت مجاهدا جهاد الأبطال، ولا شك أنك يا سعادة الجنرال كنت عالما بذلك حينما كتبت تنبئني بإنعام جلالة الإمبراطور على ولدي، فلو كنت كريما لأخفيته عني بعد مصرعه، ولو كنت شفيقا لرثيت لحالة شيخ تركي مخلد إلى السكينة والسلام، ولاستغنيت عن هذا الهزء والسخرية، وفوق ذلك يا سعادة الجنرال فإن صليبك الحديدي مكافأة نيئة، وتعزية حقيرة لأب خسر ابنه.
وفي هذه اللحظة جاء الخادم بالقهوة ولفائف التبغ، ولكن الجنرال أبى قبولها، وانتصب هاما بالانصراف، وعلى وجهه الأحمر الضارب إلى السمرة خطوط زرقاء حنقا وغيظا. - أرجو أن تعذرني يا صاحب السعادة لرفضي البحث في هذا الموضوع.
وكانت لهجته لهجة محرق الأرم، وقد وقف وقفة المتوعد المهدد أمام العثماني الذي ظل جالسا في مكانه، والاضطراب لم يزل مستحوذا عليه، وتابع كلامه قائلا: فإن هذه المسألة حربية محضة، وهي من خصائص أولياء الأمور العسكرية. - أتعني أنها ليست من خصائصي؟ ألا يهم الأب مقتل ابن له ؟
قال هذا رضا باشا بصوت أجش، وقد هم بالنهوض.
في أية شريعة حربية أم أدبية أم سياسية كتب ذلك؟ إنه والله لأمر غريب، لم يسمع بمثله قبل اليوم.
وحدث سكوت قصير تكلم فيه بالتهديد والوعيد، والجنرال يداه مشبوكتان وراء ظهره جامد لا يتحرك، ثم اقترب منه الباشا وحاجباه يرقصان غيظا، والشرر يقدح من عينيه. - وأغرب من هذا تصرفك أيها الجنرال؛ فقد أنعمت على ولدي بالصليب الحديدي بعد ما بلغك رميه بالرصاص لعصيانه الأوامر العسكرية، ثم أتيت الآن تقابلني وتقول لي إنه ليس من شأني استجلاء الأمر، بل جئت لتهنئني بمصرع ولدي! أهذا هو القصد من زيارتك؟ يا للأسف!
سمع الجنرال هذا الكلام والتفت بحدة مجتازا البهو، وقد كانت طرة طربوشه تتمايل من طرف إلى آخر وهو يهز رأسه مرددا كلمة الباشا: يا للأسف! ولما وصل إلى الباب أحنى رأسه مودعا سعادته الذي ظل وسط البهو واقفا واجما.
الفصل الثامن
صفحة غير معروفة
أفاقت جهان ذلك الصباح مكدرة مغتاظة، ناقمة على نفسها والكون، وكانت كل أفكارها من صبغة واحدة سوداء، ومن صيغة واحدة مكسرة مشوشة، وقفت في الرواق تتنشق الهواء النقي فبدا لها ذلك المنظر البديع خاليا من مظاهر الجمال التي أخذت بمجامع لبها في اليوم السابق، في حين أن الشمس وقد انعكست أشعتها على قبب المآذن، وتلألأت على وجه القرن الذهبي وقواربه كانت أعظم جمالا وأبهة من الماضي، ولكن حزن جهان على أخيها حال دون بصيرتها، والمنظر البهيج البديع، وقد تراءى لها أخوها في الحلم واضعا سيفه بين يديها، وجهان امرأة تعتقد بصحة الأحلام، وعلى الأخص الأحلام المنذرة بالشؤم وسوء العاقبة، وطالما تحققت صحتها، فزاد ذلك الآن في اضطراب نفسها.
ومع ذلك فهي لا تجاذف بيومها أن يذهب ضحية الهواجس، ولا تحب أن تضيعه في المجادلات العقيمة كما أضاعت أيامها الماضية، لا ولن تقضيه في الحزن والكآبة؛ ولهذا قد لامت نفسها إذ سمحت لأمورها الخاصة أن تشغلها عن العمل الكبير العمومي الذي تقدسه، فإن سار شكري بك إلى ميدان الحرب أم لم يسر ، وإن سر الجنرال فون والنستين منها ومن أبيها أو استاء، وإن كان مصرع أخيها انتقاما أو تضحية، وكثيرا ما كانت تردد هذه الكلمات في حلم مزعج، فهذه كلها أمور ثانوية لا ينبغي أن تصرفها عن مساعيها الخيرية والعمومية؛ ولهذا عليها إذن أن تسكن روعها، وتستجمع قواها ومعقولها لتنظر فيما يتطلب منها اليوم من الأعمال.
أمرت بإحضار عربتها الخاصة، وأرسلت الجارية إلى الجنينة لتجيئها بسلة من الأزهار، وارتدت للحال فستانها الأسود المصنوع على الزي الباريسي، وغطت رأسها بقبعة سوداء من المخمل محاطة بالشرائط الرفيعة، وقد تدلى من أطرافها برقع شفاف يرسف على وجهها من جبينها إلى ذقنها، وهو زي أوروبي، واصطلاح في الحداد، ثم خرجت من غرفتها عزومة متيقظة، خفيفة الحركة، ثابتة الخطى، تلوح للرائي كأنها مالكة أمرها، فائزة في قصدها، منتصرة على هواجسها.
أما أبوها، فقد حبذ فكرتها في تخلفها عن المنزل ذلك الصباح، ولهذا لم يعترض على ذهابها إلى المستشفى، لولا ذلك لطلب إليها أن تذهب إما للتنزه في العربة، أو لزيارة إحدى صديقاتها، ولكن الحكمة في تصرفها راقت له، فإن عملها في المستشفى عذر كاف للتخلف عن مقابلة أي كان وإن كان أسمى مقاما من الجنرال فون والنستين، على أن رضا باشا لم يتسلح بهذا العذر، فإنه عندما جاء الجنرال فون والنستين لزيارتهم أمر خادمه أن يقول له: إن جهان غائبة عن المنزل، وإنها في المستشفى، ثم عاد لداع من الدواعي فاستدعى الخادم، وذهب بنفسه إلى البهو، إلا أن الجنرال كما لا يخفى على القارئ لم يتنازل أن يسأل عن جهان، وعن عدم قدومها للقائه، والباشا لم يشأ من تلقاء نفسه أن يعرب له عن واقعة الحال.
قلنا قبل هذه العبارة المعترضة إن رضا باشا سر لعمل ابنته ذلك الصباح، فما كان نقابها الأوروبي، ومركبتها المقفلة، ورضاؤها بمرافقة سليم لها كما أمر إلا إذعانا لإرادة والدها، فإن جهان لم تكن مجردة تماما من تلك الخلة؛ خلة المداراة التي تميز أية امرأة تركية دونها أدبا وتهذيبا وحكمة، فضلا عن أنها كانت ماهرة بارعة في التوفيق بين سخافات الأمور، والمهم منها الجوهري، فهي مولودة في مهد السياسة، ولا نعني بذلك أنها كانت ترغب دائما في التسليم والإذعان، أو أن التساهل كان دينها كما يقول الأتراك، ففي موضوع واحد على الأقل يتفرع منه مواضيع عديدة، كحرية المرأة، وانعتاق الحريم، والاكتفاء بزوجة واحدة، والجهاد على كفر الزوج التركي، وولوعه بالتنوع والتعدد من النساء ... إلخ إلخ. ففي هذه الأمور كانت جهان ثابتة العقيدة لا يزعزعها فيها حال أو زمان أو سلطان، ولا تعرف فيها المداراة ولا المراوغة ولا التساهل.
ولم تكن هذه الخلة التي اقتبستها جهان من الغرب مخالفة روح الجنرال فون والنستين الغربية الغريزية فيه، إلا أنه سلك مسلكا شرقيا كما أنها سلكت مسلكا غربيا، توصلا لما في كليهما من المطامح العلوية، فاختلفا واسطة، واتفقا غاية، وما أدركا أنهما يضحيان في سبيل مطامعهما ما فطر كل منهما عليه من السجايا النفسية الثابتة الأسباب، تخلق كل منهما بخلق الآخر؛ رغبة بتحقيق أمل كبير حبا برقي اجتماعي أو أدبي، غاية جهان القصوى مثلا وأسبابها غربية إنما هي لتحقيق حلم عقلي، وغاية الجنرال وأسبابها شريفة إنما هي لتحقيق حلم سياسي، وكلا الحلمين جميل - إذا صحت الأحلام - ولكن مسألة التخلق هذه أو الاجتهاد في التخلق إنما هي مسألة دقيقة يلذ للمفكر درس أسبابها ونتائجها، فهل يفوز يا ترى امرؤ غربي وامرأة شرقية بأمنية ما تذكر إذا لجآ إلى المداهنة والتمليق يخادعان بعضهما بعضا، ويخادعان أنفسهما أيضا؟ وبعبارة أخرى: ماذا ينتظر من اثنين راقيين كل منهما يعمل لنفسه فقط أن يبلغا من أوطار الروح العلوية؟ كيف يمكنهما أن يوفقا بين المقتبس والموروث من سجاياهما الغربية والشرقية؛ ليتم التوازن والتقارن بين الاثنين، ويتم بذلك ما ينشده كل منهما من السعادة والحبور، ومن السيادة والمجد؟ في هذه الرواية مثال لهذه القضية الغامضة، لا وسيلة عقلية أو اجتماعية لحلها.
كانت جهان أحب المؤاسيات للجرحى في المستشفى، وأقربهن من قلوبهم ألمانيات كن أو عثمانيات، مسيحيات أو مسلمات، بل كانت سلطانة يجلونها ، إلهة يعبدونها، وكان ذلك اليوم الذي لا يرون فيه وجهها يوم وحشة مظلمة، بل يوم شؤم عظيم، كما قال أحدهم: فلئن أشرقت مائة شمس في كبد السماء لم يكن لهم غير جهان شمسا ساطعة علوية، هي رأس التفاؤل في أعينهم، هي البلسم الشافي لجروحهم، هي معبودتهم بعد الله والنبي. - لقد عادت إلي صحتي يا خانم.
قال هذا جندي أسمر البشرة، مقبلا وردة تناولها من جهان وهو يضغط على اليد الكريمة التي جادت عليه بعلبة من اللفائف، ثم قال: وسأعود غدا إلى ساحة الحرب، وقد لا أعود أراك مرة ثانية في هذا المستشفى ولكن جنبي هذه الوردة فإنها تحاكي جمالك، سأذب عن الوطن باسمك، وإذا قدر لي أن أعود محمولا إلى المستشفى فسأكون سعيدا بمشاهدتك يا مولاتي قبل أن أموت.
فرفعت جهان قناعها، وقبلت خديه مودعة.
ثم تقدمت نحو ضابط كان جالسا على كرسي فألبست صدره وردة، فقال لها: قرأت مقالتك في تصوير أفكار يا لها من مقالة جميلة تأخذ بمجامع القلوب، فقد أصبت بها كبد الحقيقة خانم وأنا أذهب مذهبك، فأرى أن الجيل الجديد يجب أن ينشأ في مهد الحب المقدس بعيدا عن العبودية، وأشهد لك يا سيدتي أنني لن أتزوج أكثر من امرأة واحدة، ففي الاكتفاء بزوجة طريق نهوضنا وإصلاحنا. - ومن هو الأحمق الأرعن، بل من هو الأعمى الذي يسمح لامرأة أخرى أن تقاسم هذه السيدة النبيلة سعادتها؟
صفحة غير معروفة