ثم اعلم أن المتوصل بها إلى الفقه إنما هو المجتهد، إذ الفقه هو العلم بالأحكام من الأدلة، وليس دليل المقلد منها، فلذا لم يذكر مباحث التقليد والاستفتاء في كتب الحنفية. وأما من ذكرهما فقد صرح بأن البحث عنهما إنما وقع من جهة كونه مقابلا للاجتهاد.
تنبيه
بعد ما تقرر أن أصول الفقه لقب للعلم المخصوص لا حاجة إلى إضافة العلم إليه إلا أن يقصد زيادة بيان وتوضيح كشجر الأراك. وفي إرشاد القاصد للشيخ شمس الدين: أصول الفقه علم يتعرف منه تقرير مطلب الأحكام الشرعية العملية وطرق استنباطها ومواد حججها واستخراجها بالنظر، انتهى.
وموضوعه الأدلة الشرعية والأحكام؛ توضيحه أن كل دليل من الأدلة الشرعية إنما يثبت به الحكم إذا كان مشتملا على شرائط وقيود مخصوصة، فالقضية الكلية المذكورة إنما تصدق كلية إذا اشتملت على هذه الشرائط والقيود، فالعلم بالمباحث المتعلقة بهذه الشرائط والقيود يكون علما بتلك القضية الكلية، فتكون تلك المباحث من مسائل أصول الفقه. هذا بالنظر إلى الدليل، وأما بالنظر إلى المدلول وهو الحكم، فإن القضية المذكورة إنما يمكن إثباتها كلية إذا عرف أنواع الحكم، وأن أي نوع من الأحكام يثبت بأي نوع من الأدلة بخصوصية ثابتة من الحكم، ككون هذا الشيء علة لذلك الشيء، فإن هذا الحكم لا يمكن إثباته بالقياس.
ثم المباحث المتعلقة بالمحكوم به، وهو فعل المكلف ككونه عبادة أو عقوبة ونحو ذلك مما يندرج في كلية تلك القضية، فإن الأحكام مختلفة باختلاف أفعال المكلفين، فإن العقوبات لا يمكن إيجابها بالقياس.
ثم المباحث المتعلقة بالمحكوم عليه وهو المكلف كمعرفة الأهلية ونحوها مندرجة تحت تلك القضية الكلية أيضا، لاختلاف الأحكام باختلاف المحكوم عليه، وبالنظر إلى وجود العوارض وعدمها. فيكون تركيب الدليل على إثبات مسائل الفقه بالشكل الأول هكذا: هذا الحكم ثابت لأنه حكم هذا شأنه، متعلق بفعل هذا شأنه، وهذا الفعل صادر من مكلف هذا شأنه، ولم توجد العوارض المانعة من ثبوت هذا الحكم، ويدل على ثبوت هذا الحكم قياس هذا شأنه. هذا هو الصغرى، ثم الكبرى وهو قولنا: وكل حكم موصوف بالصفات المذكورة ويدل على ثبوته القياس الموصوف فهو ثابت، فهذه القضية الأخيرة من مسائل أصول الفقه؛ وبطريق الملازمة هكذا كلما وجد قياس موصوف بهذه الصفات دال على حكم موصوف بهذه الصفات يثبت ذلك الحكم، لكنه وجد القياس الموصوف الخ، فعلم أن جميع المباحث المتقدمة مندرجة تحت تلك القضية الكلية «1» المذكورة، فهذا معنى التوصل القريب المذكور.
وإذا علم أن جميع مسائل الأصول راجعة إلى قولنا كل حكم كذا يدل على ثبوته دليل كذا فهو ثابت، أو كلما وجد دليل كذا دال على حكم كذا يثبت ذلك الحكم، علم أنه يبحث في هذا العلم عن الأدلة الشرعية والأحكام الكليتين من حيث إن الأولى مثبتة للثانية، والثانية ثابتة بالأولى، والمباحث
صفحة ٣٩