بادئ الرأي. وقد نبه بتقييد اللفظ بالعربي وإطلاقه في قوله: يطابق اللفظ، على أن تخصيص البحث باللفظ العربي مجرد اصطلاح، وإلا فيطابق بها مطلق اللفظ لمقتضى الحال، وبها يرتفع شأن كل مقال؛ ولهذا لم يضمر فاعل المطابقة، فاتجه أن الأحوال الشاملة بغير اللفظ العربي، كيف تكون من الأحوال التي تبحث في العلم، ولا تبحث فيه إلا عن الأعراض الذاتية، ولا يندفع إلا بما ذكره المحقق التفتازاني في بعض تصانيفه من أن اشتراط البحث عن الأعراض الذاتية إنما هو عند الفلسفي. وأما أرباب تدوين العربية فربما لا يتم في علومهم هذا إلا بمزيد تكلف، كذا في الأطول؛ ولا يخفى أن هذا الإيراد إنما هو على مذهب المتقدمين الذاهبين إلى أن اللاحق بواسطة الجزء الأعم من الأعراض الغريبة، وأما على مذهب المتأخرين الذاهبين إلى أنه من الاعراض الذاتية فلا إيراد.
وقد عرف صاحب المفتاح «1» [علم] «2» المعاني بأنه تتبع خواص تراكيب الكلام في الإفادة وما يتصل بها من الاستحسان وغيره ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق ما يقتضي الحال ذكره، والتعريف الأول أخصر وأوضح كما لا يخفى. وأيضا التعريف بالتتبع تعريف بالمباين إذ التتبع ليس بعلم ولا صادق عليه، وإن شئت التوضيح فارجع إلى المطول والاطول.
علم البيان
وهو علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه، كذا ذكر الخطيب في التلخيص. فالعلم جنس، وقوله يعرف به إيراد المعنى الواحد، أي علم يعرف به إيراد كل معنى واحد يدخل في قصد المتكلم، على أن اللام في المعنى للاستغراق العرفي، وهذا هو العرف في وصف العلوم بمعرفة الجزئيات بها، فلو عرف من ليس له هذه الملكة أو الأصول أو الإدراك على اختلاف معاني العلم كالعربي المتكلم بالسليقة إيراد معنى قولنا: زيد جواد بطرق مختلفة، لم يكن عالما بعلم البيان، وفسر القوم المعنى الواحد بما يدل عليه الكلام الذي روعي فيه المطابقة لمقتضى الحال، واعترض عليه بأنه مما لا يفهم من العبارة، ويخرج البحث عن المجاز المفرد مع أنه من البيان، ويمكن دفعه بأن تخصيص المعنى الواحد بمعنى الكلام البليغ لاشتهار أن موضوع الفن اللفظ البليغ، على أن وصف المعنى بالواحد يحتمل أن يكون باعتبار وحدة تحصل للمعنى باعتبار ترتيبه في النفس بحيث لا يصح تقديم جزء على جزء، فهذا هو الوحدة المعتبرة في نظر البليغ. وأما المجاز المفرد وأمثاله، فالبحث عنه راجع إلى البحث عن الكلام البليغ، وقد احترز به عن ملكة الاقتدار على إيراد المعنى العاري عن الترتيب الذي يصير به المعنى معنى الكلام المطابق لمقتضى الحال بالطرق المذكورة، فإنها ليست من علم البيان. وهذه الفائدة أقوى مما ذكره السيد السند من أن فيما ذكره القوم تنبيه على أن علم البيان ينبغي أن يتأخر عن علم المعاني في الاستعمال، وذلك لأنه يعلم منه هذه الفائدة أيضا، فإن رعاية مراتب الدلالة في الوضوح والخفاء على المعنى ينبغي أن يكون بعد رعاية مطابقته لمقتضى الحال، فإن هذه كالأصل في المقصودية وتلك فرع وتتمة لها؛ وكذا خرج به ملكة الاقتدار على معنى الشجاع بألفاظ مختلفة [في الوضوح] «3» كالأسد والغضنفر والليث
صفحة ٢٦