46

كلمات في الأدب

تصانيف

وجانب موقفي آخر حين استجابت الآلهة لدعاء بجماليون، فأحالت التمثال الرخامي البارد إلى «جالاتيا» البشرية المتدفقة بالحياة، لقد طلبت جالاتيا الجديدة إلى بجماليون أن يفترق كل منهما عن الآخر؛ لأنها تشفق من ذلك اليوم الذي سيعرض شعرها للشيب ووجهها للتجاعيد، في تلك المرحلة من العمر التي تبهت فيها الصورة الجميلة تحت لفح الشيخوخة، وعندئذ يتعرض وجودها الإنساني - ومن خلال نظرته المتذوقة - إلى الإذلال والهوان. وحين يجيبها بجماليون في فزع، بأنه لا يستطيع أن يتخيل هذا الذي سيحدث، تجابهه هي بهذه القضية الفكرية الناصعة: «لقد لفظت الحقيقة الساعة يا بجماليون. إنني لست عملك الفني، ولا أستطيع أن أكون كذلك، ينبغي أن تفكر أيضا بشيء آخر هو احتمال موتي، وبه يمحي كل أثر لعبقريتك.» لقد عقب الدكتور القط على مضمون هذا الحوار بأنه: «فلسفة مخطئة عن الفن والحياة، مردها تصور المؤلف الحياة كما تتمثل في كائن حي واحد يشيخ ويموت، وإغفاله لحقيقة الحياة الممتدة الباقية من جيل إلى جيل. إن الحياة باقية وكذلك الفن؛ لأنه يستمد منها وجوده، أما الذي يفنى فهو الكائن الحي في نطاق عمره المحدود، وكذلك يفنى الأثر الفني، فما يمنع أن يتحطم التمثال ويعود قطعا لا معنى لها، من العاج أو الرخام؟»

وهذا في رأينا تفسير بعيد عما قصد إليه توفيق الحكيم، إن نقطة الارتكاز في هذه القضية الفكرية، هي هذه العبارة في المضمون الحواري، حين تقول جالاتيا لبجماليون: «إني لست عملك الفني، ولا أستطيع أن أكون كذلك»، والمعنى البعيد الكامن وراء العبارة، هو أن العمل الفني إذا لم يكن من صنع الفنان ومن خلق يديه، فهو عمل معرض للفناء «المعنوي»، بحيث لا يستطيع أن يجد لصاحبه مكانا في سجل الخلود؛ ذلك لأنه منسوب بغير حق إلى صاحبه، وهو من صنع الآخرين، وكل التعبيرات الواردة في الحوار عن الشيب والتجاعيد، وتغير الصورة الجميلة بفعل الشيخوخة وفنائها بفعل الموت، هي في حقيقتها رموز معنوية أراد توفيق الحكيم، أن يصل إليها فوق معبر فني من «مادية» الكلمات.

ونحن مع الدكتور القط بعد ذلك في القسم الثاني من كتابه، حيث خصص هذا القسم للإيجابية بمفهومها الفني والاجتماعي، كما حدده في القسم الأول؛ وهو هنا يسجل أدوار المرحلة الانتقالية، التي مر بها الأدب المصري المعاصر ليواجه الدور الأخير، وهو دور التجاوب مع حركة المد الجديدة، المندفعة إلى ربط الأدب بمشكلات عصره. ويتخطى المؤلف هذا الدور ليصل إلى الساحة النقدية، التي يمكن أن يمارس فيها عملية التطبيق، على أربعة أعمال فنية حاول أصحابها - جهد طاقتهم - أن يربطوها بعجلة الأدب الملتزم. وهذه الأعمال التي اختارها المؤلف كنماذج للمحاولة هي: رواية «أنا الشعب» لمحمد فريد أبو حديد، ومسرحية «غروب الأندلس» الشعرية لعزيز أباظة، ومجموعة من القصص القصيرة بعنوان «السماء السوداء» لمحمود السعدني، وديوان من الشعر هو «أغاني أفريقيا» لمحمد الفيتوري.

أما رواية فريد أبو حديد فقد انعكست على صفحة المرآة النقدية للمؤلف، في تلك الصورة التي رسمنا خطوطها التعبيرية من قبل، حين قلنا إن عدم الإلمام بالأصول الفنية لكتابة القصة، هو في الواقع تضحية بالمضمون الاتجاهي نفسه، حين يقف وحده عاجزا عن عملية حفر عميقة في نفوس الجماهير. وتتكرر الصورة مرة أخرى بالنسبة إلى المضمون الاتجاهي أيضا في مسرحية عزيز أباظة، تبعا لانعدام الوعي بالتكنيك المسرحي أولا، وللحذلقة اللغوية التي يلجأ إليها الشاعر ثانيا، ويشعر معها النظارة بحاجتهم إلى القواميس، ويرغم معها القراء على الرجوع إلى الهوامش الشارحة. ونحن معجبون مع المؤلف بكثير من جوانب الملكة القاصة عند محمود السعدني، وإن كان هذا القصاص الشاب في رأينا، ينقصه التنويع في عرض المستويات النفسية لنماذجه الكادحة، حتى تكون هذه النماذج في جملتها تجميعا صادقا في بؤرة العدسة اللاقطة لنظائرها الحية في المجتمع المصري. وإذا ما اهتم هذا القصاص بعملية التطوير الموقفي للأحداث، لتخرج بعض قصصه من نطاق «الصورة» إلى نطاق «المشكلة» المكتملة العناصر، فليس من شك في أن إنتاجه يصبح كسبا كبيرا للقصة المصرية القصيرة. ولقد أنصف المؤلف شعر الفيتوري وهو في رأينا جدير بالإنصاف.

أزمة الجنس في القصة العربية

أن ندرس العمل الفني من الداخل فتلك هي مهمة الناقد، أما أن ندرس العمل الفني من الخارج فهذه هي مهمة الباحث. وكل من الباحث والناقد - من ناحية التكامل الازدواجي للكاتب - مطلوبان كصفتين بارزتين، في مجال التقييم الحقيقي لمختلف الأعمال الفنية.

إننا ندرس العمل الفني من الداخل، لنحكم على عملية بنائه كتركيب عضوي، ينمو ويمتد من خلال حركة دينامية متطورة؛ وعلى هذا الأساس من توفر عنصر الإيجاب والسلب، نهيئ أول جانب من أركان المعادلة التقييمية للعمل الفني عبر لمسات النقد؛ نهيئه في حدود قطاع واحد هو القطاع الداخلي، ونعني به قطاع الملكة الناقدة، أما ذلك الجانب الآخر من أركان المعادلة، فإننا نهيئه في حدود القطاع الخارجي أو قطاع الملكة الباحثة، إذا ما نظرنا إلى العمل الفني على أنه وليد شرعي، لما يحيط به من عوامل التكوين، تلك التي تتمثل في الدوافع المؤثرة والتيارات الموجهة.

من هنا يتحتم علينا ونحن ندرس في أعمال الآخرين مشكلة من المشكلات أو نبحث ظاهرة من الظواهر، ألا ننظر إلى المشكلة أو الظاهرة، وهي معزولة عن واقعها الاجتماعي وجذورها التاريخية؛ إن هذا العزل لو حدث، لترتب عليه أن يقتصر الكاتب - بطريقة مرغمة - على الرصد التسجيلي الذي ينقصه التفسير والتبرير. إن المشكلة أو الظاهرة نتاج مباشر لعديد من الأوضاع، التي تشكل في مجموعها هيكل مرحلة حضارية متطورة الملامح، ولكنها على التحقيق تستمد الجوهر الأصيل لملامحها - على مدار تجمد الترسيب أو تكيفه - من مراحل أخرى سابقة، هي نقط الانطلاق الأولى لهذه المرحلة الحضارية الممتدة.

من هذه الزاوية يتاح لنا أن نرصد المشكلة، وأن نحدد أبعادها الموضوعية من جهة، وأن نضع أيدينا - من جهة أخرى - على مصادر هذه الأبعاد؛ على المنابع التي تفسر لنا جريان النهر الحياتي للمشكلة، واندفاعه في اتجاه معين، عبر مسالك العمل الفني الرامز إلى مرحلة حضارية. وقد يكون العمل الفني تجسيما لواقع تاريخي يتشابه مع واقع تاريخي آخر، ينشئ بينهما نوعا من التجاوب الفكري والعاطفي في الفن، بحيث ينشئ بدوره نوعا من التكرار لظاهرة اتجاهية محددة؛ يحدث هذا على اختلاف البعد الزمني والمكاني، بين نوعي الأرضية التاريخية التي تدور فوقها الأحداث.

غالي شكري في كتابه الجديد «أزمة الجنس في القصة العربية»، يحقق الكثير من هذا التكامل الازدواجي للكاتب، حين يجمع بين الباحث والناقد على صعيد الرؤية الإدراكية للعمل الفني من الداخل والخارج؛ يحقق هذا الكثير في المقدمة الطويلة، التي مهد بها لبحثه النقدي تحت عنوان: «محور الفن منذ فجر التاريخ» و«تطور مفهوم الجنس عبر العصور»، ثم وهو يطبق اتجاهه المنهجي على مشكلة الجنس في القصة العربية المعاصرة، عند كتابها من أمثال نجيب محفوظ ويحيى حقي ويوسف إدريس، ومحمود البدوي وسهيل إدريس وإحسان عبد القدوس، وعند كاتباتها من أمثال كوليت خوري وليلى بعلبكي وصوفي عبد الله.

صفحة غير معروفة