هذه الصورة النقدية التي رسمها المؤلف، لما يجب أن يكون عليه المضمون الفني والاجتماعي في القصة، لا تختلف عن الصورة التي نرتضيها ونريدها لمثل هذا المضمون؛ فهو مثلا لم يغفل عن وجوب العناية بالناحية التكنيكية - وهي التي عبر عنها بالمتعة الجمالية - إلى جانب العناية بالناحية الاتجاهية؛ ذلك لأنه يؤمن معنا بأن التضحية بالأصول الفنية لكتابة القصة في سبيل إبراز مضمون قصصي ملتزم، هي في الواقع تضحية بهذا المضمون نفسه، حين يقف «وحده» عاجزا عن إتمام عملية حفر عميقة في كيان مجتمع قابل للتطور. وهو من جهة أخرى لم يقصر نجاح الالتزام القصصي على تصوير الشخصيات الإيجابية، الثائرة بطبيعتها على أوضاع اجتماعية معينة، بل جعل المرجع في ذلك إلى قدرة القصاص نفسه على الإيحاء والتوجيه والإثارة، بمعنى أن هذا القصاص يستطيع أن يشيع في أعماق القارئ كل هذه القيم الإيجابية، ولو كان أبطاله من السلبيين، وحسبه في ذلك أن يقدمهم من خلال أحداث ومواقف تجسم فيها المشكلة، بحيث نثور نحن من أجلهم ولو كانوا هم في حالة ضعف وعجز عن الثورة؛ وعلى هذا الأساس الأخير مضى المؤلف ليناقش في غير تجن ولا مجاملة، ما وقع عليه اختياره من أعمال توفيق الحكيم ومحمد فريد أبو حديد، ويوسف السباعي ومحمد عبد الحليم عبد الله.
والمؤلف بعد العرض الأمين لمضمون هذه القصص الثلاث: «إني راحلة» و«أزهار الشوك» و«بعد الغروب»، وهو العرض القائم على التلخيص بما يتخلله من وقفات نقدية متأنية أمام الأخطاء والمآخذ في محيط الاتجاه والتكنيك، ينتهي إلى أن هذه القصص:
قد اتفقت اتفاقا طريفا في رسم الشخصيات وبناء الأحداث، فالشخصيات جميعها سالبة، والصراع لا وجود له، والمصادفة هي التي تحرك الأحداث وتتحكم فيها، وثقافة المؤلف تظهر بوضوح تام وتطغى على تفكير الشخصيات الروائية، وسلوكها الذي يتسم بقدر كبير من المثالية الزائفة. وهذا الاتفاق لا يمكن أن يكون نتيجة اتباع لمذهب معين، أو تفضيلا لأسلوب خاص في القصص، بل هو تعبير عن السلبية الغالبة في المجتمع بمثلها وقيمها الخلقية، وهو تعبير عن تلك السلبية الكامنة في شخصيات المؤلفين أنفسهم، إذ كانوا جزءا من مجتمعهم يدينون بما يدين به.
إزاء هذا الرأي - وعلى ضوء دراستنا الشخصية لهذه القصص الثلاث - لا نملك إلا أن نوافق المؤلف على ما ذهب إليه؛ والواقع أننا إذا ما أردنا أن نبحث عن مناطق الفراغ في الوجود الفني لأصحاب هذه القصص، لأدركنا بعد جولة فكرية دارسة أن هذه المناطق متشابهة من حيث الشكل، تبعا لوحدة المسالك المؤدية إلى حقيقتها الموضوعية. فالمؤلفون الثلاثة مثلا يتفقون في أن كلا منهم، لا يلم إلماما كافيا بالمنهج التصميمي لكتابة القصة، وذلك لضآلة الثقافة الفنية في هذا المجال من جهة، ولانعدام الممارسة العملية لأي تجربة إبداعية من جهة أخرى، وينتج عن هذه الظاهرة أنهم يكتبون القصة بأسلوب اجتهادي، لا تستطيع الموهبة - حتى ولو توفرت لهم - أن تملأ بقية الجوانب في منطقة الفراغ. بل ويترتب على نفس الظاهرة أيضا، تكرارية هذا الأسلوب الذاتي بصورة ملحوظة، بحيث تصبح أعمالهم القصصية - رغم تنوعها الموضوعي - نسخا مكررة من ناحية التصميم الفني العام؛ وفي رأينا أن عنصر السلبية الاتجاهية كما حدده المؤلف في نقده لهذه القصص الثلاث، يرجع إلى ضعف القابلية التطورية لدى المؤلفين من ناحية التجاوب الاجتماعي الصاعد، كنتيجة مباشرة لضعف القابلية نفسها، من ناحية التفاعل الفني مع المفاهيم الأدبية الجديدة. ولا بد من نقلة أخرى تدفعنا إلى أن نقف مع المؤلف - متفقين حينا ومختلفين حينا آخر - أمام المسرح الذهني لتوفيق الحكيم.
إن السلبية في مسرحية «أوديب»، ومن دور التجاربخلال العدسة المقربة في منظار المؤلف، تتلخص في أن القالب الفكري الذي صب فيه توفيق الحكيم تركيبة أوديب الإنسانية، لا يصلح كرمز لذلك الترقب الإنساني - بقيمه الهادفة - لانبلاج صبح الحقيقة؛ ذلك لأن أوديب في هذه المسرحية قد شارك «ترسياس» في مؤامرة، أخفيت فيها الحقيقة عن الشعب، وخدعت عنها حتى زوجته وأولاده، وعاش هذا الباحث عن الحقيقة سبعة عشر عاما في ظلال زيف متصل الحلقات. هذا بالإضافة إلى أن الكاتب لم يعالج الاتجاه المسرحي، بمحاولة تخليصه من الجبرية الصارمة والقدرية المهزومة. أما السلبية في «أهل الكهف» فتتركز في ذلك الصراع الرئيسي، الذي أقامه توفيق الحكيم بين القلب والزمن ... بين الثلاثمائة عام التي قضاها «ميشيلينا» في ظلام الكهف، وغيرت طعم القيم الحياتية في فم وجوده بعد البعث، وبين قلب «بريسكا» الذي طوى القرون الثلاثة، ليصل الماضي بالحاضر في قصة حب مثيرة. لقد أراد الكاتب لهذا القلب أن ينتصر على الزمن، فأنهى الصراع بانتحار «بريسكا»، بأن دفنت نفسها حية مع «ميشيلينا»، ليتم الاتحاد العاطفي في عالم الموت، بعد أن عجزت يد الحياة عن صنع هذه المعجزة؛ إنه ليس انتصارا في رأي الناقد، ولكنه صورة مجسمة للهزيمة، هذا إلى جانب بعض مظاهر السلبية الأخرى في الحوار، مثل إشارة الكاتب إلى إخفاق مصر في مقاومة الزمن وانتقام التاريخ. وإذا ما سعينا وراء السلبية في «بجماليون» فهي هناك، في ذلك الصراع الذي أدار الحكيم أحداث المسرحية ومواقفها حول محوره، وهو الصراع بين المثل الأعلى والواقع المادي بالنسبة إلى الفنان، حيث ينتهي هذا الصراع أيضا بأن يحطم المثال تمثاله الرائع، ثم يفارق الحياة وهو يسير في قافلة من اليأس، كان حداؤها الشك والفرار من مواجهة القوى الدافعة. والحق أن المؤلف في دراسته لعناصر السلبية في هذه المسرحيات الثلاث، قد بذل جهدا ملحوظا في رصد هذه العناصر، وتحليلها على ضوء المفاهيم الإيجابية التي حددها كمقاييس في مقدمة كتابه، ومع ذلك فلا مناص من أن نختلف معه في بعض الجوانب الموقفية، التي سلط عليها أضواءه الكاشفة «من بعيد»، وأن نختلف معه مرة أخرى في تفسيره للفكرة الرمزية في «شهرزاد»، وما ترتب على هذا التفسير من حكم ظلمت معه في رأينا الحقيقة الفنية.
لقد وقف الدكتور القط عند المعنى القريب في المضمون الفكري لمسرحية «شهرزاد»، ولم ينفذ إلى ما وراء المعنى القريب من رمز بعيد؛ فهو مثلا قد ظن أن شخصية شهرزاد ما هي إلا شخصية امرأة مغلفة بالأسرار، يسعى كل من «شهريار» و«قمر» إلى الكشف عن حقيقتها، بحيث ينظر إليها الأول على أنها عقل كبير، وحيث ينظر إليها الثاني على أنها قلب كبير، بينما هي من وجهة نظر «العبد» لم تكن إلا جسدا جميلا. واعتمد المؤلف في هذا التفسير الذي لم يحالفه الصواب على هذه العبارة التي قالتها شهرزاد لكل منهم وهي ساخرة: «أنت تراني في مرآة نفسك.» وينتهي إلى أن هذا المفتاح التعبيري هو جوهر المضمون الفكري للمسرحية، وخلاصته «أن الحقيقة لا حقيقة لها إن صح هذا التعبير»، واعتمادا على هذه النظرة أصدر المؤلف حكما، ظلمت معه الحقيقة الفنية كما سبق القول، ومدار هذا الحكم هو أن شخصية شهريار شخصية سالبة؛ لأنه فشل على يد الكاتب في الوصول إلى حقيقة شهرزاد، وعاد من نقطة النهاية إلى نقطة البداية وهو مهزوم.
ولا ندري كيف لم يفطن الدكتور القط - على وفرة لقطاته الواعية - إلى حقيقة الفكرة الرمزية في «شهرزاد»، مع أن هناك أكثر من مفتاح تعبيري لفتح الأبواب المؤدية إلى هذه الفكرة؛ يقول شهريار في أحد المواضع من المسرحية موجها حديثه إلى شهرزاد: «أنت لست امرأة ككل النساء.» فإذا ما أجابته قائلة: «أتمدحني أم تذمني؟» كان تعقيبه هو هذا المفتاح الأول: «لست أدري، بل قد لا تكونين امرأة!» ومفتاح آخر عندما يقول شهريار أيضا كاشفا عن قلقه وحيرته: «إن شهرزاد مثل الطبيعة، تبدي لنا محاسنها وتخفي عنا أسرارها.» ومفتاح ثالث في موضع ثالث، حين يقول معبرا عن شكه ويأسه: «لست أحب الجلوس إلى هذه الأرض؛ دائما هذه الأرض، لا شيء غير الأرض، هذا السجن الذي يدور، إنا لا نسير، لا نتقدم ولا نتأخر، لا نرتفع ولا ننخفض، إنما نحن ندور، كل شيء يدور، تلك هي الأبدية، يا لها من خدعة؛ نسأل الطبيعة عن سرها فتجيبنا «باللف» والدوران!»
هذه المفاتيح الثلاثة وغيرها مضافة إلى اتجاه المضمون الفكري في جملته، تطلعنا على جوهر الفكرة الرمزية؛ وهي أن شهرزاد قد رمز بها توفيق الحكيم إلى سر الطبيعة، أو سر الأبدية، أو سر الوجود على أي تسمية من هذه التسميات؛ ومن هذا المنبع الرمزي تدفقت كل الرموز الأخرى في المسرحية، حيث يصبح شهرزاد رمزا أصيلا لهذه المجموعة البشرية، التي تنظر إلى سر الطبيعة من نافذة «العقل»، فتتعرض تبعا لذلك لهزات عنيفة من أعاصير الشك والقلق والحيرة، وحيث يصبح قمر رمزا آخر لتلك المجموعة البشرية، التي تنظر إلى سر الطبيعة من نافذة «القلب»، فهي عنوان صادق لذلك الإيمان الأعمى، الذي يسلم بكل ما يراه، وحيث يصبح العبد رمزا ثالثا لمجموعة بشرية ثالثة، لا تنظر إلى الطبيعة إلا من نافذة «الحواس»، فهي أسيرة المظهر المادي الذي يعود عليها بكل متعة حسية ، ومن هنا آمن العبد بجسد شهرزاد فاستمتع، وآمن قمر بقداسة شهرزاد فاطمأن، وشك شهريار في هذه القداسة فشك في حقيقة شهرزاد كلها، ومضى يجوب الأرض باحثا عن سرها فلم يظفر بغير الإخفاق، وهذه النهاية تعد في رأينا طبيعية بالنسبة إلى كل النماذج البشرية التي يمثلها شهريار، وبالنسبة إلى المضمون الاتجاهي الذي تمثله مسرحية توفيق الحكيم؛ لأنه مضمون «وجودي» بحت، يرمز إلى الموقف الكوني للإنسان، بصورة لا يمكن أن تتسع لأي خط اجتماعي هادف؛ مما يتعذر معها أن يوصف الكاتب بأنه كان سلبيا أو قريبا إلى السلبية.
ومن الجوانب الموقفية التي يدور حولها الخلاف بيننا وبين المؤلف، هذا الحوار مثلا كما أطلقه توفيق الحكيم على لسان كل من «بجماليون» و«جالاتيا»، حيث يقول بجماليون: «معاني التقدير لمحتها في عينيك هذا الصباح، وأنت تنظرين إلى أولئك الحطابين في الغابة، والعرق يتصبب من جباههم.» وتقول جالاتيا معقبة على هذا الاعتراض: «كل كد جدير بالتقدير.» فيقول بجماليون مرة أخرى محددا موقفه: «كل زوجة لا تستريح حتى ترى جبين زوجها يتعفر بتراب العمل والشقاء، إنك تعرفين أني لست في حاجة إلى أن أعمل وأشقى.» وهنا يصدر الدكتور القط حكما نهائيا على اتجاه الكاتب في نطاق هذا الجانب الموقفي، فيقرر أن توفيق الحكيم: «قد جعل اضطرار الناس إلى العمل رمزا لما في الحياة من تبذل وامتهان، وهو رأي يمثل فكرة الفنان الذي يعيش في برجه العاجي، دون أن يحس بما للعمل من فضل على الحياة وعليه هو نفسه، حين يهيئ له ذلك البرج العاجي الأنيق، الذي يعيش فيه بمعزل عن الكادحين.»
الحق أننا نشفق من «نهائية» الأحكام النقدية في مثل هذا الموقف، الذي نخرج فيه من الحوار برأيين متعارضين، يحمل كل منهما في أحشائه وجهة نظر فنية تعبر عن اتجاه فكري محدد؛ فإذا قال المؤلف - وبطريقة حاسمة - إن وجهة نظر بجماليون بالنسبة للعمل والكادحين، هي وجهة نظر الفنان المنعزل الذي يمثله توفيق الحكيم، جاز لنا أن نقول أيضا إن توفيق الحكيم قد يكون معترضا - وبطريقة إيحائية - على موقف بجماليون، من خلال وجهة النظر الأخرى التي تعبر عن موقف جالاتيا، وهي تهتف في انفعال صادق: «كل كد جدير بالتقدير»، ومعنى هذا أنه ما دام هناك احتمال ممكن لوجود تفسيرين لجزئية مضمون اتجاهي، فينبغي للناقد أن يتجنب الأحكام النهائية.
صفحة غير معروفة