وكم ذا بمصر من المضحكات
ولكنه ضحك كالبكا
والأصح أن الضحك لغة تعبر عن كثير من الحالات كما قدمنا في الفصل السابق، وليس من اللازم أن يقابله البكاء في كل حالة، وقد قال الشاعر بيرون وغيره: «إنني أضحك لكي لا أبكي.» كأنما يقولون إن الضحك بدل من البكاء في بعض الأحوال، ويشبه هذا من بعيد قولنا في تلك الخاطرة إن بعض الناس يتكلفون الجلد والسكون حتى في الفجائع الفادحة، كأنهم يأبون الإقرار بالانقهار.
ونقول إنه شبه بعيد؛ لأن الذي يضحك «لكي لا يبكي» يضحك حقا ولا يتكلف الجلد، بل يقدر على الضحك لأنه يكشف من أسبابه ما ليس يكشفه غيره، أو لأنه يوسع النظر إلى المسألة ولا يحصرها في أضيق حدودها، فهو ضاحك لأسباب أوسع من الأسباب التي تبكي غيره، وإن لم تتناقض هذه الأسباب وتلك الأسباب.
وقد كان آخر ما دونته في خلاصة اليومية عن الضحك كلمة في الصفحة السادسة والثمانين، فحواها أن قوة الاستحضار في الذهن لها شأن في الشعور بالمضحكات وغيرها، «فمن أهل هذا الخاطر السريع من تبلغ به قوة الاستحضار أن يستحضر أمرا مضى فيضحك أو يبكي كما كان الأمر قد وقع له فعلا في ذلك الحين ...»
وفي ختام هذه الخاطرة أقول: إن «الرحمة ليست إذن حيلة اخترعها الضعفاء لمصلحتهم كما افترض النيتشيون، ولكنها طبيعة من طبائع الإنسان، والفرق فيها بينه وبين الحيوان فرق بين دماغ ودماغ، فذهن الإنسان لارتقاء تركيبه يأخذ الشبيه بالشبيه، وذلك ما لم يصل إليه الحيوان.»
وفحوى هذه الآراء في مجموعها أن الشعور بالمضحكات والمحزنات ملكة إنسانية وجدت في الإنسان ولم توجد في الحيوانات؛ لأنه يدرك المشابهة ويحس بالتعاطف ويستدعي الخواطر من قريب أو بعيد.
ملكة السخرية
ولست أحصي تطور هذه الآراء خلال الفترة التي تلت طبع «خلاصة اليومية» سنة 1912.
ولم أقصد خلال هذه الفترة إلى كتابة شيء أبسط فيه القول عن أسباب الضحك في عمومه، وإنما كنت أعود على الموضوع كلما استدعاه التعقيب على مسألة تمت إليه، كسخرية أبي العلاء والصور الفكاهية «في المرآة» من تأليف الأستاذ عبد العزيز البشري رحمه الله.
صفحة غير معروفة