1 - الكلمة والضحكة
2 - لماذا نضحك؟
3 - ثلاثة آراء في الضحك
4 - الضحك في الكتب الدينية
5 - الإنسانية والفكاهة
6 - جحا ونوادره
7 - 60 نادرة
8 - موازين غير محكمة
9 - جحا في الأدب
10 - خلاصة تاريخية
1 - الكلمة والضحكة
2 - لماذا نضحك؟
3 - ثلاثة آراء في الضحك
4 - الضحك في الكتب الدينية
5 - الإنسانية والفكاهة
6 - جحا ونوادره
7 - 60 نادرة
8 - موازين غير محكمة
9 - جحا في الأدب
10 - خلاصة تاريخية
جحا الضاحك المضحك
جحا الضاحك المضحك
تأليف
عباس محمود العقاد
الفصل الأول
الكلمة والضحكة
الكلمة أكبر الفتوح الإنسانية في عالم الكشف والاختراع، لو لم يخترعها الإنسان لوجب أن يخترع ما يساويها وينوب عنها؛ لأنه لا حياة له بغير التفاهم بينه وبين أبناء نوعه، ولا تفاهم على شيء من الأشياء بغير الكلمة أو ما يدل دلالتها ...
أنقول على شيء من الأشياء وكفى؟
كلا، بل نعمم القول على الأشياء وما ليس بشيء من الأشياء، ونضرب المثل بيوم الأربعاء أو يوم الخميس أو يوم من الأيام في الشهر الأول من السنة الحاضرة.
ما هو ذلك اليوم؟ وما هو ذلك الشهر؟ وما هي تلك السنة؟
يصعب علينا أن نسميها شيئا من الأشياء يتأتى لنا أن نشير إليه كما نشير إلى كل شيء نراه أو نحصره.
مسافة من الفلك تدور فيها الأرض حول نفسها، وليست هي بالمسافة الثابتة التي تعود إلى مكانها في مجرى المنظومة الشمسية من أجواز الفضاء!
شيء أو لا شيء ...
ولكنه على ذلك اسم لا بد منه لمن يذكر التاريخ، ولمن يعمل في ساعته الحاضرة، ولمن ينظر إلى المستقبل ويقرر له المواعيد والمواقيت.
والاسم في اللغة هو الذي استطاع أن يصطاد للعقل هذه المسافة المجهولة من الفضاء الأبدي ويعطيها الدلالة التي لا غنى عنها.
ولكنها ليست بالدلالة الوحيدة التي لا غنى عنها.
كل ما تدل عليه اللغة لا غنى عنه للإنسان، ومنه هذه المحسوسات التي نلمسها ونراها بالعين، كالطريق والمركبة والكرسي والإناء، فإننا نجرب الاستغناء عن اللغة يوما ونحاول أن نتفاهم عليها وهي غائبة عنا لا نستطيع أن نشير إليها.
لا سبيل!
وصدق القرآن الكريم، كل علم هو علم الأسماء، والله علم آدم الأسماء كلها؛ لأنها هي العلم الإنساني من مبدئه إلى منتهاه.
إلا أنه علم الإنسان.
وكل علم للإنسان يعرض له النقص من بعض نواحيه، فإذا قال لنفسه: لا بد لي من اللغة! فلا ينس أن يقول لنفسه: نعم. وحذار من هذه اللغة؛ فإن النفع منها للعقل عظيم جد عظيم، ولكن الضرر منها غير قليل وغير مأمون.
من منافعها أنها تحصر المارد المنطلق فتحبسه في القمقم المرصود مطيعا حيث يراد.
ومن أضرارها أنها تحبس المردة الكثيرة في قمقم واحد؛ فتنطلق مرة واحدة حيث يراد واحد منها، وتنحبس مرة واحدة حيث نريد أن نطلق منها هذا وندع منها ذاك.
عودتنا اللغة أن نحسب كل اسم علما على شيء واحد، وكثيرا ما يكون هذا الاسم كالقمقم الذي يحتوي فيه عشرات المردة بعلامة واحدة، وما من شبه بينها غير تلك العلامة لضرورة التمييز والتقسيم.
تعودنا أن نسأل: ما العلم؟ ما الفهم؟ ما الحس؟ ما الضمير؟ وتعودنا أن نسأل: كيف نعلم؟ ما وسيلة الفهم؟ ولماذا نحس؟ وما بالنا نصغي للضمير؟
تعودنا ذلك، وتعودنا أن نجيب بجواب واحد، وكأننا نسأل في جميع هذه الأحوال عن شيء واحد.
وما نسأل في الحقيقة إلا عن أشياء كثيرة تنبئ عنها كلمة واحدة.
ما نسأل في الحقيقة إلا عن عشرين ماردا أو أكثر من عشرين، يجمعهم القمقم الواحد الذي نشير إليه.
وفي سياق هذه الرسالة - رسالتنا عن حكمة جحا أمير المضحكين - نسأل كما تعودنا من كل كلمة: ما الضحك؟
ولماذا نضحك؟
وما الضحك بشيء واحد ...
وما نضحك بسبب واحد ...
وما نفكر في الضحك على نحو واحد ...
ولكنها الكلمة التي لا غنى عنها، ولا أمان منها كذلك ما لم نعرف سر الرصد المسحور.
وها نحن أولاء في هذه الرسالة نعرف سر هذا الرصد في كلمة واحدة - كلمة الضحك - لنعرف منها أمير المضحكين بين المضحكين، ونعرف منها أضاحيكه بين أشتات المضحكات.
الضحك ضحوك عدة إذا صح هذا التعبير، وليس بضحك واحد ونحن نضحك لأسباب كثيرة، ولسنا نضحك لسبب فرد لا يتعدد، ويوشك أن يكون لكل حالة من حالات ضحكتها التي تصدر عنها ولا تصدر عن حالة غيرها، كأنما هي لغة كاملة على أسلوبها في التعبير.
هناك ضحك السرور والرضا، وهناك ضحك السخرية والازدراء، وهناك ضحك المزاح والطرب، وهناك ضحك العجب والإعجاب، وهناك ضحك العطف والمودة، وهناك ضحك الشماتة والعداوة، وهناك ضحك المفاجأة والدهشة، وهناك ضحك المقرور، وضحك المشنوج، وضحك السذاجة، وضحك البلاهة، وما يختاره الضاحك وما ينبعث منه على غير اضطرار.
بل ربما كان لكل مضحكة من هذه المضحكات ألوان لا تتشابه في جميع الأحوال.
فالضاحك المسرور قد يكون سروره زهوا بنفسه واحتقارا لغيره، وقد يكون سروره فرحا بغيره، لا زهو فيه بالنفس ولا احتقار للآخرين.
والضاحك الساخر قد يضحك من عيوب الناس؛ لأنه يبحث عن تلك العيوب ويستريح إليها، ولا يتمنى خلاص أحد منها، وقد يضحك من تلك العيوب؛ لأنه ينفس عن عاطفة لا يستريح إليها عامة بين إخوانه الآدميين، ولا خاصة في أحد يعنيه من أولئك الإخوان.
والضاحك من عيوب السخف والحماقة قد يضحك من السخيف الأحمق أو يضحك من الذي يحكيه في سخافته وحمقه، فيعرف كيف يحكيه، وكلاهما باعث من بواعث الضحك مخالف لغيره في أثره وداعيه ومعناه.
هذه المسألة وضعت موضع التجربة العلمية بعد انتشار الصحافة، وتنوع موضوعاتها، واختصاص طائفة منها بموضوع الفكاهيات والمضحكات، وتنافس الكتاب في ابتداع فن جديد من أساليب الفكاهة والضحك، كلما ألف القراء أسلوبا منها وسئموه أو اشتاقوا إلى غيره، فظهرت الفوارق بين النكات التي تدعو إلى الضحك، وتمايزت بأسمائها وعلاماتها، وأوشك الكتاب الفكاهيون أن يتمايزوا بالتفوق في كل باب من هذه الأبواب، واستطاعوا أن يفرقوا بينها بالتعريفات أو بالحدود المفهومة.
ولعلنا نطالب هؤلاء الكتاب بما ليس عندهم إذا سألناهم أن يرجعوا بهذه الفكاهات المختلفة إلى مصادرها من الطبيعة البشرية والعلل الفلسفية، ولكننا نستطيع أن نعتمد على تجربتهم في التنويع والافتنان؛ لأنه عمل يزاولونه كل يوم، ويعرفون خطوات الانتقال فيه من فن إلى فن، ومن أسلوب إلى أسلوب، ولو لم يكن هذا الاختلاف في الأساليب إلا اختلافا في التعبير والتنميق.
ومن أمثلة الاجتهاد في التفرقة بين موضوعات الضحك والفكاهة كتاب مزاج الفكاهة
The Humour of Humour
لمؤلفه إيفان إيسار
Evan Esar
الذي اشتغل زمنا بكتابة الفكاهات وتقسيمها وترتيب أقسامها، وأراد بكتابه هذا من عنوانه إلى خاتمته أن يكون تطبيقا لآرائه واختباراته؛ لأن العنوان نفسه يشتمل لعبا بالألفاظ كاللعب الذي يدخل في النكات الجناسية؛ لأن كلمة «هيومر» بالإنجليزية تأتي بمعنى المزاج، وتأتي بمعنى الفكاهة، وتدل على أخلاط الجسم في مذهب الأقدمين، كما تدل على وسائل تعديل هذه الأخلاط بالدواء أو بتطييب الخواطر وتنزيه النفوس.
ولا تحصى أفانين الضحك والفكاهة كما شرحها المؤلف في كتابه، ولكننا نشير إلى بعضها على سبيل التمثيل، وندع للقارئ أن يقيس عليها من تجاربه ما يشاء. •••
فمن هذه الأفانين «الملاحظة المزدوجة أو الملاحظة اللاذعة»، ومثالها كلمة تقال عن الزواج من أجل المال: «إنه يصلح أبا لها بسنه، وزوجا لها بثروته»، أو كلمة تقال عن البخيل: «إنه يضع نقوده في الحشية ليجد تحته شيئا يستند إليه.»
ومن هذه الأفانين «الآبدة»، أو العبارة الشاردة، والفرق بينها وبين الملاحظات السابقة أنها أقرب إلى المثل السائر الذي يسهل تعميمه ولا يخص أحدا بعينه. وأما الملاحظات السابقة فأكثرها يقال عن الأشخاص أفرادا بغير تعميم، ويدور على شئونهم ولا يدور على المواقف والأطوار.
ومن أمثلة النكتة الآبدة أو العبارة الشاردة أن «الأخلاق طلاء تمسحه الخمر»، وأن «السن تخون أصحابها»؛ لأنها تدل على السنين، وأن «الحكيم حين تقنعه حكمته بأن يتزوج يصبح الأحمق زوجا وله أبناء»، وأن «لابس النظارة منظره بغيرها أحسن ونظره بغيرها أقبح»، وأن الأمريكيين أحرار لأنهم «يأخذون» حريات كثيرة!
ومنها اللغز، وعماده على المغالطة، أو على جمع المتشابهات التي تختلف في الحقيقة أبعد اختلاف.
ومثاله أن يسأل السائل: «لماذا وضعوا واشنطون على تل؟» فيجيب المجيب: «لأنه مات».
أو يسأل السائل: «ما ذلك الشيء الذي يصنعه الرجل واقفا وتصنعه المرأة جالسة ويصنعه الكلب على ثلاث؟»
والجواب: «المصافحة أو تحية السلام عند اللقاء».
ومن أفانين الفكاهة الجناس اللفظي، وهو يشبه اللغز في السؤال والتورية.
يسأل السائل: «ما وجه الشبه بين الفلاسفة والمرايا؟»
والجواب: «التأمل والنظر!»
أو يسأل السائل: «ما وجه الشبه بين الكتاب والشجرة؟»
والجواب: «كلاهما له ورق!»
أو يسأل السائل: «ترى هل يحاسب الرجل على قتل الوقت إذا حطم الساعة؟»
والجواب: «كلا، إذا ضربت الساعة أولا».
ومن هذه الأفانين المساجلة والمحاورة، وقد يكون السائل فيها هو المجيب.
تقول لي: «لماذا تشرب الخمر؟ ... قل لي ماذا تقترح أن أصنع بها؟»
وتسألني: «أي الدجاج أطول رقادا؟ كيف؟ ألا تعلم؟ ... الذي مات!»
ومنها الظن المختلف، وهو يتوقف على الموقف، وتعدد المشتركين فيه، ووجود اللبس الذي يدعو إلى اختلاف الظنون، ومثاله قصة عن أربعة في مقصورة قطار: فتاة حسناء، وامرأة عجوز، وكهل فرنسي، وضابط ألماني أثناء احتلال الألمان باريس. ودخل القطار نفقا فسمع في المقصورة صوت قبلة وصفعة، ثم خرج القطار من النفق وهم صامتون وعلى وجه الضابط الألماني أثر صفعة، فقالت المرأة العجوز لنفسها: «ما أطهرها من فتاة!» وقالت الفتاة الحسناء لنفسها: «عجبا له! يقبل العجوز ولا يقبلني؟» وقال الضابط الألماني: «يا له من فرنسي خبيث! غنم القبلة، وغنمت أنا الصفعة!» وقال الفرنسي: «لقد نجوت بها، قبلت ظاهر كفي وصفعت الألماني، ولم يتهمني أحد!»
ومنها النادرة، وهي نكتة لا بد لها من قصة تتعلق بصناعة أصحابها أو بعملهم وقواعده المتعارف عليها. كان مارك توين - الكاتب الفكاهي المشهور - يعمل في إحدى الصحف، وتكاد الديون تستغرق مرتبه، وكان من عادته أن يهمل كل إنذار يأتيه من صاحب دين، واتفق يوما أن كاتبا من مساعديه كان إلى جانبه وهو يهم بأن يلقي بعض هذه النذر في سلة المهملات، فنبهه الكاتب قائلا: «انتظر يا سيدي، فإن في ظهر الورقة كلاما يقول فيه صاحب الدين إنه سيقاضيك إن لم تسرع إلى السداد» فقال له مارك توين كأنه ماض في عمله: «ألا تعلم يا صاح أن الورقة التي تكتب على وجهين تهمل في هذا المكان؟!» •••
ومنها الكلمة التي تقال وتفهم على معنيين؛ أحدهما يسر، والآخر يزعج أو يخيف. وتشبهها كلمات الجناس كلما دلت على نقيضين.
يقول الرجل لزميله في بلاد «النيام نيام» آكلة البشر: «إن الزعيم يريدك للغداء».
أو يقول فرنكلين وهم يكتبون وثيقة الاستقلال: «يجب أن يتعلق بعضنا ببعض وإلا تعلقنا على انفراد».
أو يقول الشيطان: «الفضيلة في الوسط»، وهو يجلس بين رجلين من رجال السياسة!
أو يقول قدح الماء للبرشامة: «تقدمي وأنا بعدك»، وفيها مثل لظاهر التحية وباطن الاشتراك في البلاء!
أو تقول الفتاة لمن يغازلها: «أنا كالقاطرة، إن لمستني صرخت!»
ومما أحصاه الفكاهيون المعاصرون من أساليب التعبير الفكاهي أسلوب القلب والعكس، ومن أمثلته: «إن الحب يذهب بالزمن، وإن الزمن يذهب بالحب»، ومنها: «إن بعضهم يحب أن يشاهد الصور المتحركة، وبعضهم يشاهد الصور المتحركة ليحب»، ومنها: «إن الإنسان يخلق المتاعب، وإن المتاعب تخلق الإنسان»، ومنها: «إن من يتعمق إلى أساس الأمور ترفعه الأمور إلى الذروة العليا»، ومنها: «ليس الضحك بداية سيئة للصداقة ولكنه نهاية حسنة».
وتكرار الكلمة في مواضعها فن من فنون الفكاهة، كتكرار ذكر الذكاء في هذه العبارة: «الفتاة الذكية أذكى مما يبدو عليها؛ لأن الفتاة الذكية لا تبدي ذكاءها ...»
أو هذه العبارة: «غير المتوقع يقع أحيانا حين لا تتوقع من المرء ما هو خليق أن يقع منه».
أو هذه العبارة: «علينا أن ننسى أنفسنا لنشعر بالسعادة، ولكننا لا نسعد إذا نسينا أن ننسى أنفسنا».
والنسيان المعهود في العلماء والمعلمين يضحك أو يحسب من أسباب الفكاهة، وتروى لذلك قصص كثيرة هذه أمثلة منها:
جلس أستاذ في مكتبه بالمنزل وهو في قلق شديد على زوجته التي أدركها المخاض، وإذا بقريبة له تقتحم المكتب لتبشره بولادتها وتصيح به: «إنه ولد» ... ويكون قد ذهل عما حوله فيسألها: «وماذا يريد؟!»
وذهب أستاذ إلى طبيب فقال له: «أخرج لسانك»، ثم قال له: «لسانك في حالة حسنة، ولكن ما هذا الطابع الذي عليه؟» فابتسم الأستاذ وقال: «أهو هناك وأنا أحسبني وضعته على الغلاف؟!»
وأكذوبة إبريل وما جرى مجراها فن من هذه الفنون الفكاهية. يقول مارك توين: «إن أول إبريل يوم واحد في السنة يذكرنا بغفلتنا في جميع الأيام ...»
ويقول المتندرون بهذا اليوم: إن الذين يولدون فيه يكتمون تاريخ ميلادهم ليثبتوا وجودهم ويستريحوا من ولع الناس بتذكيرهم ما يحاولون كتمانه، وكذلك من يولد في اليوم التالي أو اليوم السابق ... ولكنهم يطلقون اسم مغفل إبريل على كل ضحية تجوز عليه الأكاذيب في يوم مجعول لهذه الأكاذيب.
والعثرة اللسانية أو القلمية تضحك وتهيئ النفس للفكاهة، ومن قبيلها قول بعض الخطباء على إثر حفلة موسيقية من الحفلات التي لا تكثر في القرى: «إنها لحسن الحظ حفلة نادرة»، ويشبه هذه العثرة أن طبيبا كتب شهادة وفاة فوضع اسمه في موضع سبب الوفاة بدلا من موضع التوقيع!
والغلطة مع حسن النية تثير الغيظ فيمن يصاب بها وتثير الضحك فيمن يشاهدها، وإحدى النوادر المروية عن هذه الغلطات أن صاحب حانة كان يقف وراء البنك في حانته إذ هجم عليه قادم مستعجل وسأله في لهفة: «أعندك شيء يزيل الفواق؟» فلم يجبه صاحب الحانة ولكنه ضربه بالفوطة المبلولة على وجهه، فنظر الرجل إليه شزرا وهم أن يبطش به لولا أن بادره صاحب الحانة معتذرا، وقال له إنني أرحتك بهذه الضربة من الفواق ... ثم ظهر أن الرجل لم يكن به فواق، وإنما طلب الشراب الذي يزيله لزوجته التي كانت في السيارة عند الباب!
وقد يتبع الغلطة حسن التخلص فتضيف إليها فكاهة على فكاهة.
أخذ بعض المدعوين إلى إحدى الولائم في حديث مع جارته، وأحب أن يبدأه بالغيبة والنقد؛ لأنها من الأحاديث المحبوبة في أمثال هذه المجتمعات، فأنحى بالذم والوقيعة في رجل لا يعرفه على مسافة منهما، وفاجأته السيدة قائلة: «ويحك! إنك تعني زوجي!» قال: «نعم، ولهذا أكرهه!»
وأراد طبيب مستشفى المجانين أن يتصل برقم يحتاج إلى التحدث مع صاحبه على عجل، فجن جنونه لإهمال العاملة ومراوغتها في الجواب، وصاح بها محتدما: «ويلك! أتعلمين من أنا؟» قالت: «لا، ولكني أعلم أين أنت!»
والغلطة المطبعية إحدى الغلطات الفكاهية أو المضحكة، وهي خاصة بكل لغة، وقلما تصلح للترجمة إلى لغة أخرى، ولكننا نضرب لها الأمثلة بما عرفناه من غلطات المطبعة عندنا، وإحداها غلطة الصفاف في نقل السطور بين إعلانات الزواج وإعلانات الوفيات، فإذا بالخبر يقرأ أن العروس تقبل التهنئة من المدعوين ثم شيعوه بالرحمات والدعوات!
وحدث في الاحتفال برفع الستار عن تمثال نهضة مصر أن حكمدار العاصمة وقف على مقربة من كبار الرؤساء وقبعته على رأسه ومنشته في يده؛ فعلقنا على ذلك في كتابة أخبار الحفلة، واضطربت السطور بين يدي الصفاف فجرى الخبر على هذا المثال: «وحضر فلان وفلان وصاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر، ولوحظ عليه أنه كان يلبس قبعته ويعبث بمنشته وهو على مقربة من كبار ولاة الأمور.»
وكتب بعض المخبرين حديثا مع مستر فريدريك، فإذا به يسمى مستر فريد بك!
وغلطات المطبعة من هذا القبيل لا تحصى في جميع اللغات، ولكنها تزداد في اللغة العربية لتشابه بعض الحروف.
وحسن التخلص وحده قد يحول الموقف من الغضب إلى الضحك، ولو عرف السامع أنه ملفق للخلاص من الحرج واللوم.
ذهب عريس مع عروسه إلى محطة السكة الحديد للسفر إلى ضاحية يقضيان فيها شهر العسل، ثم عاد إلى عروسه من شباك التذاكر ومعه تذكرة واحدة فصاحت به مغضبة: ما هذا يا عزيزي؟ تذكرة واحدة؟!
فما كان أسرع منه إلى الاعتذار بالكلمة الوحيدة التي تخطر على البال، ولا يخفى على الزوجة أنها عذر مختلق للخلاص من هذا المأزق الأليم في مطلع شهر العسل. قال: ما هذا يا عزيزتي؟ لقد أنسيتني نفسي!
وفوجئ موظف في مصرف وقد أغمض عينيه وكاد أن يستسلم للنعاس، قال الرئيس: «أنائم في أول النهار؟»
قال الموظف «اليقظ»: «على رسلك يا سيدي الرئيس، ألا أستطيع أن أغمض عيني لحظة للصلاة قبل بدء العمل؟» •••
ويذكرون من ضروب الضحك خيبة الحيلة وارتدادها على صاحبها، أو ظهور الخديعة على من يفرط في الذكاء فلا يلبث أن يبدو لنفسه ولغيره كأنه مفرط في الغباء.
دخل رجل على طبيب في «عيادته» فاعتقد الطبيب أن الزائر مريض يطلب العلاج، وأراد أن يوحي إليه بمقدار أجرته في غير مساومة، فعمد إلى التليفون وأداره وراح يقول لمحدثه المزعوم: «نعم! أنا الدكتور جونسون، إنني مشغول جدا ... تسأل عن القيمة المطلوبة؟ إنها كما أخبرتك خمسمائة ريال ... وأنت تذكر هذا؟ حسن ... إلى اللقاء إذن!»
ثم وضع سماعة التليفون والتفت إلى الزائر متسائلا: «ماذا أستطيع أن أصنع لك يا سيدي؟»
فأجابه الزائر: «لا شيء، إنني موظف مصلحة التليفونات الذي طلبت لإصلاح تليفونك!»
وكان موظفان يعملان في مكتب واحد، يفرغ أحدهما من عمله نحو الساعة الرابعة كل يوم، ويبقى الآخر بعده ساعتين أو أكثر لإنجاز عمله، فسأل هذا صاحبه ذات يوم: «كيف تنجز عملك في هذا الموعد؟!» قال صاحبه: «إنني لا أنجزه أيها الزميل، ولكنني كلما صادفت مسألة معضلة كتبت على الورقة: «يعرض على مستر سمث»، ولا بد أن يكون في هذا المكتب «مستر سمث» واحد على كل حال!»
فخلع صاحبه سترته ونظر إليه متحديا وهو يقول كمن نشط من عقال: «الآن تبقى أنت للساعة السادسة ... أنا مستر سمث الذي تجهله، فاعرفه بعد اليوم!»
ومن أساليب الفكاهة الأقضية التي يسمونها بالأقضية السليمانية:
اتهم رجل بالسرقة، فأراد المحامي أن يجر القاضي إلى شرك يغريه بالوقوع فيه، وتحذلق في دفاعه متعمدا فقال: «إنكم تعاقبون رجلا كاملا بعمل ذراع واحدة هي التي جذبت السلعة المأخوذة من وراء القضبان.»
قال القاضي وهو يظن أنه أوقع المحامي في شركه: «حسن! نحن نحكم على الذراع بالسجن ستة أشهر، ولينطلق صاحبها حيث يريد.»
فخلع المتهم ذراعه المصنوعة وهم بالانصراف!
والمفارقة إحدى هذه المضحكات، وعلى نحوها نصيحة الناصح: «لا تقص على الأصلع حكاية يقف لها الشعر، فهو جهد ضائع»، وعلى نحوها تحذير المحذر: «لا تقتل الرجل الذي قبل زوجتك اليوم، فإنك لم تقبلها منذ سنة!»
ويأتي الضحك من تناقض المعاني الكثيرة في هذا التحذير.
فمنها أن الرجل الذي قبل الزوجة لقي عقوبته التي تساوي القتل.
ومنها أنه قام بواجب أهمله الزوج.
ومنها أنه لازم في المستقبل.
ومنها أشباه ذلك كثير ...
وعلى نحوها: «إن غاية الكسل أن تستيقظ عند الفجر لكي تجد وقتا طويلا للدوران».
والصورة الهزلية في الكلام أهم هذه المضحكات، ومن هذه الصور أن فلانا بلغ من طول وجهه أن الحلاق يتقاضاه أجر الحلاقة ضعفين، وأن فلانا بلغ من ضخامته أن ظله وقع على رجل فمات، وأن فلانا بلغ من طوله أنه يصعد على كرسي ليغسل أسنانه!
وسرعة الجواب مع المغالطة فيه لون من ألوان الفكاهة وتهيئة النفس للضحك.
مصور له أولاد قباح، يداعبه ناقد فيعجب له كيف يصنع أولاده بهذا القبح ويصنع صوره بذلك الجمال.
والمصور يجيب: «لا عجب يا سيدي، أولادي أصنعهم في الظلام وصوري أصنعها في النور!»
وتقول فتاة لزميلتها: «لقد رفضت الزواج من فلان، وهو منذ ثلاثة أشهر عاكف على الشراب.»
فتقول الزميلة وهي تصطنع الجد في الجواب: «هذا الذي نسميه مبالغة في إحياء الأفراح!»
وتهزأ سيدة من زميلتها المؤلفة فتسألها: «من الذي ألف لك كتابك الأخير؟ إنه بديع!»
وجواب المؤلفة من جنس السؤال: «سرني والله أنه أعجبك، من الذي قرأه لك؟» •••
وتعد «المقالب» من بواعث الضحك، وهي الأكذوبة التي توقع السامع في بعض الغرم أو بعض التعب، دون أن يصحبها ضرر أليم، والمبالغة فيها كاختلاق أخبار النعي، والاعتدال فيها كالدعوة إلى وليمة، ولا وليمة! أو تقديم الحلوى وفيها دواء ... غير مطلوب.
ومن الفكاهة إتباع الحكمة بحكمة أخرى توافق مقدماتها ولا تخطر في الحسبان، ومن أمثلتها أن الألفة في الحب تولد الاحتقار ... والأطفال، وأن الفتاة التي تشبه الكتاب المقروء توضع مثله على الرف، وأن تفاحة في اليوم تبعد عنك الطبيب، ولكن بصلة في اليوم مفعولها أكيد ... تبعد عنك كل إنسان، وأن اثنين لازمان للشجار، ولازمان أيضا للزواج، وأن المال ينطق ... والمال يخرس!
والسخرية إحدى هذه الألوان، ومن السخرية أن يقول القائل جادا كأنه يعني ما يقول: «ما بال فلان ينتقم مني كل هذا الانتقام؟! إنني لم أحسن إليه كل هذا الإحسان؟!»
وذهب فتى إلى شباك البريد، فوجد الموظفتين في شاغل عنه بحديث طويل عن زي فستان السهرة الذي كانت تلبسه إحداهما، فتأنق الفتى في الوصف والرجاء، وطلب إلى إحداهما أن تتفضل بإعطائه طابعا قرمزي الوسط وردي الحافة منقوش الأطراف والجوانب، ومشغولا كله، ولا يساوي مع هذا أكثر من ثلاثة مليمات!
والمحاكاة باب من أبواب السخرية، تتشابه الأمثلة عليها، ويدخل فيها التهكم والمجاراة.
خلا أحد المدعوين بإحدى المدعوات في سهرة الرقص فقبلها، واستجابت لقبلته لحظة غير قصيرة، ثم قالت له بعد أن افترقت شفتاها وشفتاه: «أتعلم أنها أول قبلة رضيت بها في حياتي؟» فقال الفتى كأنه يجاريها: «نعم، لأنك على ما يظهر ورثت الشيء الكثير بغير تعليم.»
وتحدث بعض الجلساء في دعوة عامة عن الثروة ووسائل جمعها، كأنه يوهم السامعين أنه من أصحابها، فأثنت إحدى الجالسات على سرعة فهمه؛ لأنه يعرف الكثير عن المكاسب مع قلة ما يكسب! •••
والنصائح المطردة، مع القياس الظاهر، مع استحالتها بعد التأمل اليسير، أحد هذه الأقسام التي اصطلحوا على تقسيمها في الصحافة الفكاهية، ومن قبيلها هذه النصائح:
قل لا لمن يهمون بالزواج.
وقل لا لمن يهمون بالطلاق.
وقل لا لمن يهمون بالموت.
وقل لا لمن يهمون بالولادة.
ويتمشى على أسلوب هذه النصائح الهازلة جواب رجل أصيب بالزكام وأشار عليه صديق بوصفة ناجعة، فقال له: «نعم، اليوم أعمل بوصفة جونس، وغدا بوصفة سميث، وبعد غد بوصفة براون، فإن بقيت مني بقية لوصفتك يوم الأحد فهو دورك!»
وقد تطرد الوصايا التالية مع هذا النسق من النصيحة:
لا تطرد الذبابة من جبهة امرأتك بمطرقة!
لا تقلق إذا علمت أن كل شيء يذهب في الغسيل، حتى البدلة!
لا تنتفخ وأنت تعلم أن الصفر أسمن الأرقام!
لا تحمل هم الزبدة، إنك تصنعها من حشائش الأرض، متى تيسرت البقرة!
لا تتردد في بذل النصيحة، لا أحد سيسمعها.
لا تعمل بنصيحة، وأولها هذه! •••
وعندهم فكاهة يسمونها فكاهة «قبل وبعد» مدارها على المقابلة بين هذين الطرفين في مسائل الزواج على الخصوص، وهذه أمثلة منها:
قبل الزواج تقبل الفتاة الفتى لتربطه، وبعد الزواج تربطه لتقبله.
قبل الزواج يأخذ الرجل بيد المرأة حبا، وبعد الزواج يأخذ بيدها دفاعا عن النفس.
قبل الزواج يقول الرجل: لا بد أن ينفذ أمري في منزلي أو أعرف السبب، وبعد الزواج يعرف السبب!
قبل الزواج يسعى الرجل إلى المرأة، وبعد الزواج يسعى للمرأة!
قلما يكون الرجل بالمزايا التي تراها فيه المرأة قبل الزواج، وقلما يكون بالعيوب التي تراها فيه بعد الزواج.
في بعض البلاد الشرقية لا يرى الزوج امرأته قبل الزواج، وفي البلاد الغربية لا يراها بعده!
ويلحق بهذه الزوجيات تهكم المحدثات والمحدثين من بنات «الدقة القديمة» كما يقال في مصر باللغة «البلدية»، ومنه أمثال هذه المقارنة:
البنت من الدقة القديمة تحمر إذا خجلت، وبنتها العصرية تخجل إذا احمرت!
والبنت من الدقة القديمة كانت تذهب إلى المدينة وتقف عند جماعة الشابات المسيحيات، أما بنتها العصرية فإنها تذهب إلى المدينة ولا تقف عند شيء!
والبنت من الدقة القديمة كانت تشعر بالإهانة إذا عرض عليها الشراب، وأما بنتها العصرية فتبلع الإهانة.
والبنت من الدقة القديمة كانت لا تجسر على تناول يد فتاها، ولكن بنتها العصرية لا تجسر على تركها.
والرجل من الدقة القديمة له رأس يصلح للحسابات، ولكن ابنه العصري له عين تنظر إليها!
وهم يصطلحون على تسمية إنسان مشهور ينسبون إليه الحكمة التي يخترعونها لساعتها من قبيل قول الشرقيين «قال الراوي» عند إسناد الكلام الذي يعلم السامعون أنهم مخترعوه.
وأشهر هؤلاء الحكماء المختارين للإسناد الصادق والمدعى حكيم الصين كونفشيوس.
فمن كلامه المزعوم، قال كونفشيوس: «الرجل الذي يسوق بيد واحدة يصطدم بالكنيسة.»
وهم يعنون بذلك خطر الزواج؛ لأن الرجل الذي يسوق بيد واحدة يخاصر امرأة معه في سيارة باليد الأخرى.
ومن كلامه المزعوم، قال كونفشيوس: «الفتاة التي لها مستقبل تحذر الرجل الذي له ماض.»
ومن كلامه: «الرجل الذي يغازل المرأة على المصعد ليس في مستواها!»
ومن الأضاحيك ضرب المزاح الفارغ الذي يشبه ما يسمى في الزجل العربي الحديث بالدور المجنون.
يسأل السائل محدثه: «ألم أرك في بلدة بفالو؟»
فيجيبه محدثه: «لم أذهب قط إلى تلك البلدة.»
ويعود السائل فيقول: «ولا أنا!»
ويجري الحوار بين اثنين على هذا المنوال: - ماذا تصنع؟ - أبحث عن ورقة ضائعة. - أين سقطت منك؟ - في الشارع الثامن والثلاثين. - لكننا في الشارع الأربعين! - نعم، أعلم ذلك، ولكن هنا نور!
والحكمة التي «يفلت» منها درسها محسوبة في هذه الأضاحيك:
تقص المدرسة على الأطفال قصة الحمل الذي لم يسمع كلام أمه فأكله الذئب، فيقول أحد الأطفال في براءة أو في خبث: «والحمل الذي سمع كلامها أكلناه نحن!»
أو يقول المدرس لتلاميذه الصغار: «إن العصفور المبكر يلتقط الدودة.»
فيقول أحدهم: «والدودة المبكرة يلتقطها العصفور!»
ومن المفيد أن نلاحظ هنا أن هذه «التقسيمات» لا تبدو غريبة للقارئ العربي الذي ألم بعلوم البيان والمعاني والبديع؛ لأن الكثير منها مقرر بتعريفاته وأمثلته وشواهده في تلك العلوم، وما من قارئ عربي ألم بعلوم البلاغة بعض الإلمام إلا وهو يعرف التورية والمقابلة والمشاكلة والهزل الذي يراد به الجد، وتأكيد المدح بما يشبه الذم، وتجاهل العارف، والإضمار في مقام الإظهار، وإخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، والتشبيه الملفوف والمفروق، والفصل والوصل، والقلب والالتفات والتغليب، والكناية والتحريف والتصحيف.
كل هذا مألوف للقارئ العربي من بلاغة لغته، كما يألف من كتب الصناعة اللغوية جميعا محكم القول في جوامع الكلم والفرائد والأوابد والمثل السائر واللحن الذي يحسب من الألغاز، والألغاز التي تحسب من ضروب الرمز أو الإيهام والتعمية.
إلا أننا لم نشأ أن نطلق هذه التقسيمات والتعريفات على ضروب الفكاهة المصطلح عليها بين المشتغلين بالكتابة الصحفية وما إليها؛ لأن مصطلحات الصناعة اللغوية وضعت في لغة العرب لتمييز درجات البلاغة ومعانيها، ولم توضع هذه المصطلحات الحديثة عند الغربيين لشيء من ذلك وإنما وضعت للتفرقة بين موضوع وموضوع من مادة الصحافة الفكاهية.
وأمر آخر يباعد بين هذه المصطلحات الحديثة وبين مصطلحات علوم البلاغة العربية، وذاك أن المصطلحات الحديثة لفنون الأضاحيك لم تزل على فجاجتها الأولى، ولم تبلغ بعد من الدقة في الأسماء والتعريفات والشواهد مبلغ نظائرها في علوم البديع والمعاني والبيان، وقد يختلط بعضها لاتفاقه في مصدر الشعور وأثره، فلا يتم التعريف بينها إلا بحكم العادة بين المشتغلين بعمل واحد يعرفون مواده وأجزاءه بالإشارة والنظرة العابرة، ولا يلزم أن يقيموا الحدود بينها بالفواصل المنطقية أو النفسانية.
على أن الاختلاف بين عناوين الفكاهات - ولو بحكم العادة - جدير أن نتوقف عنده وننظر ما يليه من التعريفات والتقسيمات التي ترجع إلى اختلاف في أصول الموضوعات أو اختلاف في طبيعة الشعور، وسوف يأتي الوقت الذي نميز فيه بين ضحكة وضحكة كما نميز بين كلمة وكلمة، ونعني بذلك تمييز الفهم والتفسير ولا نقصر الأمر على الشعور والتلبية النفسانية، فإننا الآن نميز بشعورنا بين ضحكات مختلفات كما كان آباؤنا وأجدادنا يميزون بينها بتبادل الشعور والتلبية بين نفس ونفس، وليس هذا ما يعنيه طلاب التمييز بين أفانين الفكاهات والمضحكات في الدراسات العصرية، سواء قصدوا من هذا التمييز تيسير العمل بين المشتركين فيه كما يتيسر للعاملين في حانوت واحد أن يميزوا أنواعه بحرف مرقوم على الرف أو علامة منقوشة على الصندوق، أو قصدوا من هذا التمييز أن ينفذوا إلى ينابيع الشعور المتعمقة في النفس البشرية، حيث تصدر المضحكات والمبكيات وتكمن أسباب الغرائب والمألوفات، وما ينبغي لنا أن نزعم أننا نفهم نفوسنا حق فهمها ونحن نجهل الفرق بين ما يضحكها وما يبكيها وما يقع منها موقع الألفة أو موقع الغرابة في أعمق الأعماق.
وربما كان اسم «الضحك» مغريا بالاستخفاف منافيا للجد في بواعثه ومعانيه.
ولكن البحث عن أسباب الضحك جد كأصدق الجد الذي يعرفنا بنفوسنا كما يعرفنا بها أعظم العظائم وأفدح المحزنات، بل ربما كان الأمر «المحزن» يسير التعليل؛ لأننا لا نحار فيه ولا يخفى علينا أنه يرجع إلى حب السلامة وكراهة الضرر والإصابة، وربما كان لنا - نحن الآدميين - شركاء في الشعور بالمحزنات بين الحيوانات العليا وبعض الحيوانات الدنيا؛ لأن الحزن عندها بمثابة رد الفعل الجسداني لكل ألم وكل مكروه. أما الضحك فليس من سهولة التفسير بهذه المنزلة، ولا سيما الضحك الذي يتشعب ويتفرع وتتباعد مصادره من النفس أو تتقارب - مع التفرقة بينها في الأسماء - حتى يلتبس موضوع منها بموضوع وعنوان بعنوان.
هذه عوارض نفسية يختص بها الإنسان ولا يشاركه فيها حيوان من الحيوانات السفلى أو العليا، بل يعتقد الكثيرون من علماء الأجناس البشرية أن القبائل البدائية من الناس لا تضحك ولا تدرك الضحك، وأن هذه الظاهرة المترقية في سلم الإنسانية لا تشاهد بين الهمج إلا بعوارض العصبية التي لا تدخل في حيز الإرادة، كأنها ضحكة المقرور أو ضحكة المتشنج، وحتى هذه الضحكات التي تشبه العوارض المرضية لا تشاهد بين الهمج على كثرة تجعلهم يلتفتون إليها ويسمونها بكلمة من كلماتهم القليلة، فهي والتخبط من الصرع عندهم سواء.
لا جرم يجد الفلاسفة غاية الجد في النظر إلى الضحك وأسبابه منذ عهد بعيد، ولا يجدون اليوم وغدا في هذه الدراسة بين نفسانيين واجتماعيين ونقاد للفنون والآداب.
ونحن في هذه الرسالة نريد أن نعرف «جحا» ونريد أن نعرف الإنسانية كلها بهذه المعرفة. •••
وربما كان بعض ما تقدم من التعريفات مفيدا لنا في وضع جحا بموضعه من الحياة الإنسانية؛ حيث كانت في كل مجتمع وكل حقبة وكل عنصر وكل قبيل، فإن بعض هذه التعريفات يرينا أن «جحا» ليس بالغريب المجهول في بيئة من البيئات التي تضحك كما نضحك، وتستغرب من نوادر جحا وبوادره ما نستغرب، وبعض الأمثلة التي تقدمت نستطيع أن ننسبها إلى جحا، فلا تخالف في معدنها ما ينسب إليه، وهذه إحدى العلامات على سريان الضحك مسرى اللغة بين بني الإنسان، فهو كاللغة يؤدي لجميع الناس معاني مشتركة يتقاربون بها على تباعد المنازل والأجناس، وهو كاللغة يختلف بين وطن ووطن وبين جنس وجنس، كما يختلف بين قائل وقائل في مناهج التعبير بين المتكلمين بلسان واحد في أسرة واحدة.
وسنعرف «جحا» حقا حين نعرف لماذا يضحك الناس عامة بغير اختلاف، ونعرف لماذا يضحكون خاصة من شيء دون شيء، ومن إنسان دون إنسان.
وسنجد «جحا» واحدا، ولكنه «جحا» الناس أجمعين؛ لأن الناس أجمعين يضحكون منه وإن لم يظهر في غير موطن واحد أو مواطن متشابهة تحسب كالوطن الواحد؛ لأن الإنسان حيوان ضاحك حيث كان، ولعله ضحك آلاف السنين ولم يفهم بعد أسباب الضحك على جليتها، وسنرى - بعد - مقدار ما فهمه ويفهمه.
وسنضحك من بعضها وهي صحيحة أو باطلة، فنتعلم من الضحك كيف نتلقى تلكم الأسباب.
الفصل الثاني
لماذا نضحك؟
بعض الناس يحبون المتعة ولا يعنيهم لماذا يستمتعون بها، وبعضهم تتم متعته بها إذا عرف أسبابها.
قلت في الكلام عن سارة وهمام من قصة سارة: «تتسرب إلى المنزل أنباء الأصيل بالاستقراء لا بالمشاهدة في معظم الأيام، فيقرآن أو يسمعان بعض الأغاني، أو يلعبان الدومينة قليلا، وهي لعبة تحذقها سارة، ويعتقد همام أنها أصح الألعاب وأشدها مطابقة للحياة؛ فالشطرنج والضامة يعولان على الحيلة، وكل شيء فيهما مكشوف بعد ذلك، والنرد يعول على المصادفة والذكاء، وكل شيء فيه مكشوف بعد ذلك، والورق إما مصادفة وإما صراع قلما يشبه صراع الحياة ... أما الدومينة ففيها حساب للمصادفة، وفيها حساب للتدبير، وفيها حساب لليقين، وفيها حساب للظنون، وفيها حساب للغيب الذي تجهله أنت وخصمك، والغيب الذي تجهله أنت ويعرفه خصمك أو يجهله هو وتعرفه أنت، وللعيان الذي يعرفه كل من يشاء، ولها قوانين تمنعك أن تتحرك على هواك، ولها حرية تمنحك الخيار بين ما في يديك.
قالت سارة يوما، بعدما استعادته شرح فلسفة الدومينة للمرة الخامسة أو السادسة أو السابعة: أولا تستمتع بشيء إلا أن تكون له فلسفة؟
قال: لا، بل أنا أستمتع بالشيء ثم أبحث عن فلسفته، وإنني لأبحث عن فلسفته كما يجيل الشارب الكأس في جميع جوانب فمه ولهواته، كي لا يبقى جانب من النفس لا يأخذ نصيبه من متاعه، فأحسه وأعمله وأذكره وأفكر فيه وأستقصي معناه ...»
وأقول في صدد البحث عن أسباب الضحك: إنني أشبه هماما في هذه الخليقة، وإنني أحب أن أفهم ما أحسه وأن أحس ما أفهمه، وإنني جريت على ذلك في البحث عن أسباب الضحك منذ بدأت الكتابة وتدوين الخواطر والأفكار بين الخامسة عشرة والعشرين، ولهذا أذكر هذه العادة فيما نحن بصدده؛ لأنني إذا مررت بما اعتقدته من أسباب الضحك قبل العشرين وبعد العشرين، وفي خلال النظر والمطالعة والتجربة اليوم؛ تدرجت بهذه الأسباب في أطوار طبيعية تعين على المقارنة والتتبع والوصول إلى النتيجة.
كانت لي في نحو السادسة عشرة مفكرة يومية أدون فيها خواطري وتعليقاتي، جمعتها بعد ذلك باسم «خلاصة اليومية»، وحذفت منها عند الطبع كثيرا من الخصوصيات التي ترتبط بتلك الخواطر لا أذكره الآن.
وأحسبني قد كتبت فيها عن المضحكات أكثر مما بقي فيها بالنسخة المطبوعة، ولكنني لاحظت فيها أن المضحكات أكثر من الضحك، وقلت بهذا المعنى في الصفحة السادسة عشرة من النسخة المطبوعة:
إن المضحكات ليست بالقليلة، ولكن الذين يحسنون صناعة الضحك هم القليلون، فليس من الضروري أن نفتش عن الرجل من أمثال موليير لنغرب في الضحك؛ فإن في كل رجل من الذين نراهم ونعاشرهم موطنا للنقص، وفي كل عمل موضعا للكلفة والتصنع. والوادع الناعم البال - ولو كان مغمورا بالشقاء - ذلك الرجل الذي يعرف كيف يفطن إلى مواطن الغرور والرياء من أعمال الإنسان، فإنه لا يطبق فمه ما دام يفتح عينيه.
وهنا كنت أقرن أسباب الضحك بملاحظة النقص والادعاء والغرور والكلفة التي يحاول صاحبها أن يخدع الناس عن الحقيقة، وهي واضحة لمن يلتفت إليها.
ولا أذكر أنني تحريت الترتيب عند طبع الخواطر والمفكرات، ولكنني أجد في الصفحة الثالثة والأربعين هذه الخاطرة عن الضحك، وفيها أقول: إن «للضحك عدة أسباب، أكثرها يدور حول محور واحد هو الاغتباط بأنفسنا، إما بما نحسه من كمالها أو بسلامتنا من النقص الذي نكشفه عن سوانا ...» «ولما كان الإنسان لا يضحك إلا سرورا برجحانه فهو يضحك في الأحوال التي رجحانه فيها معروف غير محدود؛ فالرجل المعروف المكانة ليس يضحك من تصرف الصعلوك الوضيع وإن كان مضحكا في ذاته، إلا إذا كان يسخر من أهل طبقة ليباهي بطبقته أو من أهل بلاد ليباهي ببلاده.» «وقد يضحك الإنسان من نفسه إذا كان الاستهزاء لا يناله وحده ... فلما كان ملوك أوروبا وأمراؤها وسواسها وقوادها مجتمعين في سنة 1815 في فيينا وهم واثقون أنهم أحكموا الشبكة على بونابرت وقد جلسوا يصلحون ما أفسده ويعيدون ما درسه من معالم أوروبا؛ أعلن في المجلس أن الرجل قد أفلت من جزيرة ألبا وأنه قد عاد ثانية إمبراطورا على فرنسا، فوجموا هنيهة ثم ارتفعت لهم ضحكة طويلة عالية كأنما يقول كل منهم: إن هذا الكورسيكي لم يعبث بي وحدي، بل عبث بنا جميعا.»
ويلي هذه الخاطرة عن الضحك خاطرة عن البكاء قلت فيها: إن الإنسان «يبكي لغير ما يضحك له: يبكي حين يظهر به النقص والعجز ظهورا لا سبيل إلى المداجاة فيه، يبكي في المواضع التي يشعر لديها بالقهر التام ويتحقق له تجرده من الحول والقوة حيالها.» «في تلك المواضع يقول المسلم متمثلا: لا حول ولا قوة إلا بالله. كأنه لا يريد أن يكون ضعيفا إلا أمام الله الذي يتساوى الناس عزيزهم وذليلهم في الضعف أمام حوله وطوله، والأطفال المستضعفون أكثر الناس بكاء لأنهم أقلهم اقتدارا ... على أن عدم البكاء لا يفيد في أكثر الأحيان القدرة على دفع المصاب، فإن من أصحاب المظاهر والأبهة من يترفع عن البكاء ويتكلف الجلد والسكون حتى في الفجائع الفادحة كأنهم يأبون الإقرار بالانقهار على كل حال.»
الضحك والبكاء نقيضان
في هذه الخاطرة حسبت أن الضحك والبكاء نقيضان، وأن الإنسان يبكي لغير ما يضحك له، ومدار الضحك والبكاء معا على الغبطة بالنفس أو نقيضها، فإذا اغتبط الإنسان بنفسه ضحك، وإذا شعر بالمهانة والنقص بكى.
وليست هذه المقابلة بالصحيحة في جميع نواحيها؛ إذ نحن لا يضحكنا كل شيء لا يبكينا، وقد يكون الشيء مضحكا ومبكيا كما يقول أبو الطيب:
وكم ذا بمصر من المضحكات
ولكنه ضحك كالبكا
والأصح أن الضحك لغة تعبر عن كثير من الحالات كما قدمنا في الفصل السابق، وليس من اللازم أن يقابله البكاء في كل حالة، وقد قال الشاعر بيرون وغيره: «إنني أضحك لكي لا أبكي.» كأنما يقولون إن الضحك بدل من البكاء في بعض الأحوال، ويشبه هذا من بعيد قولنا في تلك الخاطرة إن بعض الناس يتكلفون الجلد والسكون حتى في الفجائع الفادحة، كأنهم يأبون الإقرار بالانقهار.
ونقول إنه شبه بعيد؛ لأن الذي يضحك «لكي لا يبكي» يضحك حقا ولا يتكلف الجلد، بل يقدر على الضحك لأنه يكشف من أسبابه ما ليس يكشفه غيره، أو لأنه يوسع النظر إلى المسألة ولا يحصرها في أضيق حدودها، فهو ضاحك لأسباب أوسع من الأسباب التي تبكي غيره، وإن لم تتناقض هذه الأسباب وتلك الأسباب.
وقد كان آخر ما دونته في خلاصة اليومية عن الضحك كلمة في الصفحة السادسة والثمانين، فحواها أن قوة الاستحضار في الذهن لها شأن في الشعور بالمضحكات وغيرها، «فمن أهل هذا الخاطر السريع من تبلغ به قوة الاستحضار أن يستحضر أمرا مضى فيضحك أو يبكي كما كان الأمر قد وقع له فعلا في ذلك الحين ...»
وفي ختام هذه الخاطرة أقول: إن «الرحمة ليست إذن حيلة اخترعها الضعفاء لمصلحتهم كما افترض النيتشيون، ولكنها طبيعة من طبائع الإنسان، والفرق فيها بينه وبين الحيوان فرق بين دماغ ودماغ، فذهن الإنسان لارتقاء تركيبه يأخذ الشبيه بالشبيه، وذلك ما لم يصل إليه الحيوان.»
وفحوى هذه الآراء في مجموعها أن الشعور بالمضحكات والمحزنات ملكة إنسانية وجدت في الإنسان ولم توجد في الحيوانات؛ لأنه يدرك المشابهة ويحس بالتعاطف ويستدعي الخواطر من قريب أو بعيد.
ملكة السخرية
ولست أحصي تطور هذه الآراء خلال الفترة التي تلت طبع «خلاصة اليومية» سنة 1912.
ولم أقصد خلال هذه الفترة إلى كتابة شيء أبسط فيه القول عن أسباب الضحك في عمومه، وإنما كنت أعود على الموضوع كلما استدعاه التعقيب على مسألة تمت إليه، كسخرية أبي العلاء والصور الفكاهية «في المرآة» من تأليف الأستاذ عبد العزيز البشري رحمه الله.
فابتدأت القول عن ملكة السخر عند المعري سائلا: لم يسخر الإنسان؟
ثم أجبت قائلا: «إنه ينظر إلى مواطن الكذب من دعاوى الناس فيبتسم، وينظر إلى لجاجهم في الطمع وإعناتهم أنفسهم في غير طائل فيبتسم، وهذا هو العبث، وذاك هو الغرور.» «فالعبث والغرور بابان من أبواب السخر، بل هما جماع أبوابه كافة، وكل ما أضحك من أعمال الناس فإنما هو لون من ألوان الغرور أو ضرب من ضروب العبث، وكثيرا ما يلتقيان، فإن الغرور هو تجاوز الإنسان قدره، والعبث هو السعي في غير جدوى، ولا يكون هذا في أكثر الأحيان إلا عن اغترار من المرء بنفسه وتعد منه لطوره.» «والناس يعلمون ذلك بالبداهة، فهم يعلمون أن الغرور والعبث مادة الضحك وجرثومته التي يتفرع منها كل مضحك من الأعمال والأقوال، ويجربون ذلك كل يوم في مداعباتهم لصغارهم وامتحانهم لقوة أطفالهم، يقبض الرجل كفه لابنه الصغير على غير شيء، فيأخذه بأن يفتحها ويعده بكل ما يجد فيها إذا هو قوي على فتحها، فيجاهد الطفل في ذلك ما يجاهد: يقوم ويقعد، ويشتد ويحتد، ويلتوي ويعتدل، ويرفع أصبعا بعد أصبع، فإذا الذي رفعه قد عاد فأطبق مرة أخرى، ويعييه الجهد فيركن إلى الملق والخديعة، وهو في كل هذا يحسب نفسه قادرا على أن يغلب أباه عنوة وقسرا أو يغلبه خديعة ومكرا، وهذا هو الغرور.» «ثم تلين تلك القبضة فيفتحها فإذا هي خاوية وإذا بذلك العناء الذي أجهده وبهره قد ذهب سدى، وهذا هو العبث، ومن هذا وذاك تضحكنا الطفولة وتعجبنا غرارتها وكبرياؤها ونتخذها تسلية ولهوا، ولكن هل يضحكنا من الكبار شيء غير هذا؟ وهل مهازل الحياة ومساخر التمثيل إلا صورة مكبرة من هذه اللعبة الصبيانية وسذاجة مركبة من هذه السذاجة البسيطة.»
وإذا كان هذا معدن السخر وأصل الدعابة، فما أجدر رجلا كصاحب رسالة الغفران أن يكون ساخرا! بل ما أجدره ألا يكون له عمل في الحياة غير السخر! إنه رجل استخف بالحياة جمعاء، وهانت عليه الدنيا بما وسعت، فما من دعوى من دعاوى الناس تتنزه عن الغرور في اعتقاده، وما من غاية من غايات الناس لا تنتهي في تقديره إلى عبث فارغ وخديعة ظاهرة؛ كلهم مغرور وكلهم عابث متعلق من الأقدار بمثل تلك القبضة التي يعييه أن يفض أصبعا منها ... حتى إذا فضها أو خطر في وهمه أنه فضها لم يجد ثم شيئا، أو وجدها ملأى بما يشبه الفراغ سخية بما ليس يختلف عن الحرمان ... وكلهم محتقب عدة لا تنجع ومتقلد سلاح لا يصيب:
ورب كمي يحمل السيف صارما
إلى الحرب والأقدار تلهو وتسخر
لا، بل هبه وصل بسيفه الصارم وقاتل وظفر وسلم، فماذا عساه يغنم؟ ألعله الثناء على الأفواه؟ أو لعله عرش مملكة؟ ... إن كان ذاك - وقل أن يكون - فلعمر أبي العلاء ما قصارى الثناء والسمعة؟
وما يبالي الميت في لحده
بذمه شيع أو حمده
وما العروش والدول؟ وما الملوك والأقيال؟ فلكم غبر على هذه الأرض من جيل وزال من مجد أثيل وملك عريض طويل.
وكم نزل القيل عن منبر
فعاد إلى عنصر في الثرى
وأخرج من ملكه عاريا
وخلف مملكة بالعرا ... وهل نسينا أن القبر يضحك من تزاحم الأضداد؟ فهكذا تتشابه الأمور فإذا الهزل كالجد وإذا الحلم كالعيان!
وشبيه صوت النعي إذا قي
س بصوت البشير في كل ناد
لا، بل هو كل شيء ككل شيء، هو العلم كالجهل والحق كالباطل والهدى كالضلال.
وقد زعموا الأفلاك يدركها البلى
فإن كان حقا فالنجاسة كالطهر
فعلام إذن يزعج الإنسان نفسه؟ وبأي شيء يحفل؟ وما اجتهاده في التدبير والتقدير وتغيير ما كان بما سيكون؟ إلا أننا لنسعد ونشقى عبثا، ونسعى ونسكن عبثا، ونرجو ونقنط عبثا، ونبكي ونضحك عبثا، ومن وراء ذلك كله هاتف يهتف بنا في غير رفق ولا رحمة:
تقفون والفلك المحرك دائر
وتقدرون فتضحك الأقدار
مرد النكتة
كانت كتابة هذا الفصل بعد طبع خلاصة اليومية بإحدى عشرة سنة، وبعد كتابته بأربع سنوات عقبت على كتاب «في المرآة» للأستاذ البشري الذي يقول في مقدمته:
إن مرد النكتة إلى خلل في القياس المنطقي بإهدار إحدى مقدماته أو تزييفها، أو بوصلها بحكم التورية ونحوها بما لا تتصل به في حكم المنطق المستقيم. فتخرج النتيجة على غير ما يؤدي إليه العقل لو استقامت مقدمات القياس ... وهذا الذي يبعث العجب ويثير الضحك والطرب، فالنكتة بهذا ضرب من أحلى ضروب البديع، ولا يعزب عنك كذلك أن النكتة إذا لم تكن محكمة التلفيق متقنة التزييف بحيث يحتاج في إدراكها إلى فطنة ودقة فهم؛ خرجت باردة مليخة لا طعم لها في مساغ الكلام.
وكان تعقيبي على مقدمة الأستاذ البشري أنه على صواب في جزء واحد من أجزاء هذا التعريف، وهو الذي يقول فيه إن الخلل في القياس المنطقي مضحك وإن التزييف والتلفيق داعية من دواعي السخرية، أما الجزء الذي نراه على غير الصواب فيه فهو قوله إن النكتة هي التي تشتمل على الخلل أو على التلفيق والتزييف؛ لأن اشتمال النكتة على خلل في القياس يسقطها ويلحقها بالهذر والمجانة، والذي نظنه نحن أن النكتة تضحكنا لأنها تفضح الخلل وتهتك الدعوى الملفقة وتطلعنا على سخافة العقول التي لا يستقيم تفكيرها ولا تطرد حجتها، ومن ثم تكون النكتة هي المنطق الصحيح وهي الحجة المفحمة وهي البرهان الذي يرجح بالبراهين في معرض الجدال. «... وقد يسأل سائل: ولماذا تضحكنا النكتة السريعة ولا يضحكنا القياس المفصل والفضيحة المبسوطة؟! فجواب هذا قد يوجد في تعليل هربرت سبنسر للضحك وهو خير تعليل وقفنا عليه في كتب المعاصرين، ولا نقصد هنا إلا تعليل حركة الضحك الجسدية لا تعليل أسباب الضحك؛ فإن السبب الذي يذكره برجسون مثلا رجيح صالح لتفسير كثير من علل المضحكات، ونعني رأيه الذي يذهب فيه إلى أننا نضحك من كل تصرف في الإنسان يشبه التصرف الآلي الخالي من التفكير، ونحن مع هذا نقول إن التماس علة واحدة لجميع الضحك خطأ لا يؤدي إلى رأي صائب؛ لأن الضحك وإن كان اسمه واحدا إلا أنه ليس بظاهرة واحدة حتى يكون له سبب واحد.» «ونعود إلى رأي سبنسر بعد هذا الاستطراد فنقول: إن الضحك عنده ينشأ من تحول الإحساس فجأة من الأعصاب إلى العضلات، فإن من المقرر في النفسيات أن الإحساس إذا اشتد وألحف على الأعصاب تجاوزها إلى العضلات فظهر عليها في حركة عنيفة أو رقيقة على حسب قوته واشتداده، فإذا حبس الإحساس في طريقه فجأة تحول بغير إرادتنا من الأعصاب إلى أسهل العضلات حركة وأسرعها تأثرا وهي عضلات الوجه والشفتين ثم عضلات العنق والرئتين، فتتحرك بالابتسام أو بالضحك أو بالقهقهة أو بالوقوف والاختلاج عند من يغلبه الضحك وتهتز له عضلات الجسم كله. والدليل على ذلك أننا نضحك إذا غلبنا الإحساس وتحول من العصب إلى العضل أيا كان الموحي به والباعث عليه، فنضحك من الغيظ والألم ونضحك الضحكة الهستيرية التي يفرج بها المكروب عن أعصابه المكظومة كأنما يخفف عنها بنقل شيء من ضغط الإحساس عليها إلى العضلات، فالضحك هو الانتقال فجأة من الإحساس إلى الحركة العضلية، والنكتة السريعة تضحكنا لأنها تفاجئ التفكير بحالة غير مرتقبة وتعجله عن انتظار النتيجة في طريقها الممهد المألوف. ومن الأمثلة التي أوردها سبنسر للمضحكات منظر جدي يظهر على المسرح فجأة بين حبيبين يتناجيان ... فإحساس النظارة هنا يمشي في طريق الغزل وينتظر أن يمشي فيه إلى نهايته المناسبة له ويوجه الذهن إلى هذه الناحية، ولكنه لا يلبث أن يلمح الجدي على المسرح حتى يحتبس في موضعه ويتحول على غير انتظار إلى ناحية أخرى، فيندفع الإحساس من الأعصاب إلى العضلات وتحدث الحركة التي نسميها الضحك حين يختلج بها الفم والرئتان ... وفي كل نكتة شيء من هذا التحول الذي مثل له سبنسر، ينجم عن المفاجأة بما ليس في الحسبان ويتلخص في إظهار نتيجة غير النتيجة التي تبدر إلى الذهن لأول نظرة من الشيء المضحوك منه.» «فالنكتة الصادقة هي الحجة التي تظهر لنا فساد الأقيسة المختلفة واضطراب النتيجة التي تأتي في غير موضعها وتلتوي على مقدماتها، وهذه هي النكات التي تفيد النفس لأنها تروح عنها، وتفيد الذهن لأنها ضرب من المرانة على التفكير السريع وشحذ للفهم وتقويم له على المنطق السديد. ولنكتة واحدة يفهمها الطالب حق الفهم خير من مائة درس في المنطق يقرؤها ويعيدها وهو لا يحسن القياس ولا يفقه الدليل.» «وكتاب الأوصاف المضحكة يعتمدون في نكاتهم على ملكات كثيرة قد يناقض بعضها بعضا، وقد لا يجتمع منها ملكتان لكاتب واحد، فمنهم من يعتمد على ملكة السخر وهو يحتاج إلى الذكاء وإدراك الفروق، وقد يصحبه شيء من الجد والمرارة، ومنهم من يعتمد على الدعابة وهي تحتاج إلى مرح في الطبيعة مرجعه في الغالب إلى المزاج لا إلى الدرس والتعليم، ومنهم من يعتمد على الهزل وهو خلق ينشأ عن جهل بتقدير عظائم الأشياء، وقد يستحل الضحك في جلائل الخطوب، ومنهم من يعتمد على العطف وهو يرضي الإنسان عن نقائص الناس ويضحكه كما يرضى الوالد الشفيق عن جهل وليده الصغير، وخير هذه الملكات وأعلاها ملكة السخر يمازجها العطف، وهي عبقرية لا تقل في اقتدارها على تجميل الحياة وتثقيف النفوس والأذواق عن عبقرية الفلسفة وعبقرية الشعر والتلحين.»
وقد عن لي غير مرة بعد كتابة الفصل المتقدم عن النكتة (في سنة 1927) أن أتوفر على تصنيف كتاب واف أبسط فيه منادح البحث عن مصادر الأحاسيس التي تمتزج بالفنون والآداب كالإحساس بالجمال والإحساس بالجلال والإحساس بالمقدس والإحساس بالمليح
والإحساس بالمضحك على أنواعه، ولكنني وجدت الوقت يضيق عن استيعاب هذا البحث لضخامته وصعوبة مسالكه، وجدته في اللغة العربية وسائر اللغات، فجعلت ألمس هذا الموضوع متفرقا من حين إلى حين، وكان أهم ما لمسته في مسألة الفكاهة وتوضيح أقسام السخرية من حيث النية؛ إذ يكون منها ما يلجأ إليه الساخر كأنه يفتش عن العيوب الإنسانية مستريحا إلى وجودها وبقائها، ويكون منها ما يلجأ إليه الساخر آسفا مضطرا كالأب الذي يعرف عيوب ولده ويبالغ فيها ويفرط في التأنيب فيقول له إنه لا يفلح ولا يرجى، وهو في الواقع أول من يرجو له الفلاح ويتمنى لو يكذب ظنه في تلك العيوب.
ووقفت بالبحث حيث وقفت في الكلام على النكتة ورأي سبنسر وبرجسون فيها، وأعني أنني وقفت في البحث كتابة ولم أقف به عناية بالموضوع واطلاعا على آراء خبرائه وذوي الاختصاص بفنونه، وكنت كلما توسعت في استيعاب آراء الخبراء وتواريخ هذه البحوث من أوائلها بدا لي أن فهم «المضحك» كما فهمته لأول الأمر مقابلا للمبكي أو المحزن بداءة طبيعية لهذه البحوث، فإن الفلاسفة الذين تكلموا عنه قبل أربعة وعشرين قرنا إنما تحركوا من هذه النقطة، فوضعوا التراجيدية أو المأساة مقابلة للكوميدية أو المهزلة، وضموا الجد والبكاء جميعا في تعريف المأساة كما ضموا الهزل والعبث جميعا في تعريف المهزلة، وكذلك فعل أفلاطون وفعل أرسطو من بعد، واقتدى بهما كل من تصدى لتحليل فنون المسرح والشعر عامة مع قواعد الخطابة والبلاغة في جميع هذه الأغراض.
يبدأ فهم المضحكات على هذا النحو الذي تغلب عليه المقابلة الاسمية بين الضحك والبكاء، ثم يتفرع الضحك ويتشعب وتلوح منه الأفانين التي لا يقابلها البكاء في كل حالة، بل يدخل فيها ويحسب منها في بعض الحالات.
الفيلسوف الباكي والفيلسوف الضاحك
وقبل أن نأخذ في تلخيص آراء أفلاطون وأرسطو لا ننسى من السابقين لهما في تاريخ الفلسفة اليونانية اسمين متناقضين كان كلاهما مادة من مواد الضحك وشاهدا من الشواهد التي يسوقها المعنيون بتعريفاته وتقسيماته، وهما الفيلسوف هيرقليطس المولود في القرن السادس قبل الميلاد، والفيلسوف ديمقريطس المولود في القرن الذي يليه.
فالأول كان يلقب بالفيلسوف الباكي؛ لأنه كما زعموا كان دائم البكاء لا ترقأ له عين ولا يبتسم له ثغر، ولا يزال ناعيا على قومه سوء ما صنعوا وما يصنعون في أمورهم العامة والخاصة.
والثاني كان يلقب بالفيلسوف الضاحك؛ لأنه كما زعموا كان دائم الضحك لا يكف عن الابتسام أو القهقهة ولا يكرثه خطب من الخطوب جل أو هان.
وقد قال جوفنان الشاعر اللاتيني الساخر إن العجب لهيرقليطس أعظم من العجب لزميله، فإن دوام الضحك - صحيحا أو متكلفا - لا يشق على أحد يريده، وأما العجب كله فمن ذلك الفيلسوف الذي يجد في عينيه معينا لا ينضب من الدموع، ويحزن جدا أو يتكلف الحزن تمثيلا ولهوا حيثما وجد مع الناس.
والقصة كلها «مزدحمة» بشواهد الضحك ومعارض البحث في حقائقه وأكاذيبه.
فمن من الرجلين يا ترى أدعى إلى الضحك عند الناظرين إليه؟
أنضحك من دائم البكاء أم نضحك من دائم الابتسام والقهقهة؟
يخيل إلى الأكثرين أن الرجل الذي لا ينقطع بكاؤه أدعى إلى الضحك من الرجل الذي لا ينقطع ضحكه وابتسامه، وأنهما - بعد - موضوع صالح جدا للدعابة والسخرية.
وأول ما يرد على الذهن من أسباب ذلك أن الضحك الدائم والبكاء الدائم كلاهما غير معقول.
وهنا نذكر أن الإنسان حيوان ناطق وحيوان ضاحك، وأنه استأثر بالنطق وبالضحك؛ لأنهما مقياسان مشتركان للعقل وللمعقول ... وهنا نذكر أيضا أن النكتة وسيلة لإظهار الخلل المنطقي وأن كل الفرق بينهما أن النكتة تفاجئنا بإظهار الخلل وأن الدليل المنطقي يسترسل في إظهاره بغير مفاجأة.
ثم يرد على الذهن أن الضحك الدائم والبكاء الدائم كلاهما إفراط وخروج من الجد إلى ما عداه، وما عدا الجد يلتقي بالضحك ولو في بعض الطريق.
وغني عن القول أن الفيلسوفين لم يكونا على الصفة التي تفهم من كلمة الفيلسوف الباكي والفيلسوف الضاحك، وأنهما تعرضا لهذه الزيادة في الوصف؛ لأنهما مبالغان أراد الناس أن يكشفا هذه المبالغة منهما فوصلا بها إلى غايتها المستحيلة، وصنعا لهما بذلك الوصف صورة هزلية تشبه الصور التي يتعمد فيها الرسامون الفكاهيون إبراز الملامح الشاذة بتكبيرها والخروج بها عن جميع مألوفاتها.
ولقد كان هيرقليطس يترجم عن سخطه أحيانا بحركات صبيانية ليست من البكاء ولا الحزن في شيء، فكان يلعب مع أطفال ليسأله الشيوخ فيجيبهم بأن الأطفال أعقل منهم في تدبير اللعب؛ لأنهم لم يصنعوا في ألاعيبهم ما صنعه الشيوخ المحنكون في أحق الأمور بالجد والرصانة.
وكان ديمقريطس يسيح في الأرض من بلاده إلى مصر والحبشة وفارس والهند وكل قطر معمور، وكانت الدنيا على أيامه قائمة قاعدة تهون فيها مصائب الآحاد إلى جانب المصائب التي تحيق بالدول والشعوب، فكان يضحك من أولئك الذين يستسلمون للأحزان ولا يعتبرون بما حولهم من عادات الزمن وصروفه، حيث ارتحل وحيث أقام، وقيل من نوادر جرأته بالسخرية أنه اجترأ بها على «دارا» جبار الفرس وهو يسيح في بلاده؛ فإن هذا الجبار أحزنه أن تموت له جارية يحبها فوعده ديمقريطس بإحيائها بعد دفنها، وقال له إن الأمر لا يتطلب أكثر من كتابة ثلاثة أسماء على القبر فتعود الجارية إلى الحياة، وسأله «دارا» في لهفة: «وما تكون هذه الأسماء؟» فأجابه الفيلسوف وهو يصطنع الجد: «أسماء ثلاثة لم يفقدوا أحدا من الأعزاء.»
وكان هذا هو العزاء ...
ولا ريب أن البديهة الإنسانية كانت من قبيل الحديد الذي يفل الحديد، فهي التي لقي منها الفيلسوفان جزاءهما من جنس العمل : سخر كلاهما من قومه فأرسله قومه في التاريخ على ذلك «الكاريكاتور» بين ضاحك دائم الضحك، وباك دائم البكاء.
وهذا أيضا باب من أبواب المضحكات التي انطوت عليها قصة الفيلسوف: باب الصورة الهزلية أو الكاريكاتور.
ثم يجيء الشاعر الساخر جوفنال فيغمض باختياره عن هذه المبالغة؛ لأنها توافق «القافية» كما نقول في النكتة العربية، وما كان للشاعر الساخر أن يجد بين يديه هاتين الصورتين ثم يردهما إلى سواء الخلقة ليضيع منه المجال الصالح للتهكم على الموصوفين والواصفين.
فلسفة الضحك
على أن هذين الفيلسوفين المضحكين قد زودا فلسفة الضحك من سيرتهما ورسمهما بزاد لم تتزوده تلك الفلسفة من عقلين كبيرين كعقلي الفيلسوف أفلاطون وتلميذه الفيلسوف أرسطو، وهما أعظم فلاسفة اليونان، ولم يعرض لفلسفة الضحك بعدهما عقل أكبر من عقليهما إلى اليوم.
وكان خليقا بأفلاطون وأرسطو أن ينفذا إلى جوهر الموضوع في فلسفة الضحك وأسبابه لو أنهما قصدا إلى الموضوع في صميمه، وأرادا أن يستوعبا الفروض والاحتمالات في أسباب الضحك وأنواع المضحكات، ولكنهما لم يقصدا هذا المقصد ولم يتكلما عنه إلا عرضا في سياق البحث عن المدينة الفاضلة والبحث عن الشعر وأقسام الروايات الشعرية.
فأفلاطون ذكر المضحكين والمضحكات وهو يبحث عن مكانهم في مدينته الفاضلة أو جمهوريته المثالية التي أراد أن يقصرها على الأفاضل والمأمونين وأن يجنبها عوارض النقص والرذيلة، فبدا له أن الشعر موكل بالجانب الضعيف من الإنسان بغير تفرقة بين شعر المأساة وشعر الملهاة.
فالإنسان الكريم يأبى أن يستسلم للبكاء إذا أصيب في عزيز عليه، ولكنه لا يبالي أن يبكي وأن يحزن إذا رأى هذا المنظر معروضا عليه في رواية فاجعة؛ لأن البكاء يخدعه في هذه الحالة ويوقع في روعه أنه يبكي لغير مصابه ويغلب على نفسه في سبيل غيره.
والإنسان الكريم يأبى أن يفوه بالأضاحيك أو الخبائث المضحكة، ولكنه يستسلم للضحك إذا سمعها محكية في رواية هزلية يمثلها المسرحيون أمامه.
وليس بالحسن على كل حال أن يكون في الجمهورية الفاضلة إنسان يغلب على وقاره ضحكا أو بكاء بله الأناسي الذين يصورون الأرباب في عليين مغلوبين على هذه الصورة، ويقول أفلاطون: إن الإنسان الكريم لا يعرف الجد إلا بالهزل، وإنه من الحسن أن يشهد مناظر الهزل من العبيد والأجراء المسخرين ولا ينغمس فيها بنفسه. وقد أثنى على المصريين لأنهم يعلمون الأبناء الموسيقى والرقص قياما بالشعائر الهيكلية، ولكنهم لا يسمحون للشعراء بخلط الألحان بالأغاني المبتذلة والقصائد الموزونة على رقص الخلاعة والمجون، وقد كانت خلاصة رأيه في كتاب «الجمهورية» وكتاب «القوانين» أن الشعراء يحسنون صناعة الشعر ويستحقون من أجل ذلك أكاليل الغار، ولكنهم يلبسونها ويخرجون من المدينة الفاضلة إلى حيث يشاءون.
ولم يذكر أفلاطون سبب الضحك إلا في كلمات قليلة خلال هذه المباحث الأخلاقية، وهو يرى في تلك الكلمات أن الضحك مرتبط بالجهل الذي لا يبلغ مبلغ الإيذاء، وأن الشعراء يضحكوننا حين يحاكون أولئك الجهلاء؛ ولكنهم إذا طرقوا موضوع الملحمة أو المأساة عظموا الطغيان وجعلوا رواياتهم حكاية لأعمالهم، فلا أمان لهم في محاكاة الجهل ولا في محاكاة الطغيان.
وأرسطو أدق من أستاذه في تعبيراته عن أقسام الشعر؛ لأنه وضع فيها مبحثا خاصا يتبع فيه المسرحيات المضحكة من أصولها منذ كانت ضربا من الهجاء والأغاني الشهوانية إلى أن أصبحت موضوعا للإضحاك والتسلية؛ ولهذا جاءت في الترجمات العربية باسم الأهاجي والتهريجات، ولم يبتدعوا لها اسما يقابل اسم «الكوميدية» كما صنعنا في العصر الحديث؛ إذ سماها بعضهم بالمهزلة وبعضهم بالملهاة، وعربها بعضهم بلفظها اليوناني فسماها «الكوميدية».
وعند أرسطو أن المضحك ضرب من الدميم أو المشوه لا يبلغ درجة الإيلام أو الإيذاء، وفي نبذة منسوبة إليه من رسالة مقطوعته طبعها كيبل
Kaibel
في برلين سنة 1899 يقول:
إن الملهاة تطهر النفس كما تطهرها المأساة؛ لأن النفس المطبوعة على الرحمة أو على حسن الذوق تجد في المأساة والملهاة منصرفا لما تنطوي عليه من العطف والشوق إلى الكمال واجتناب التشويه.
وكلا الفيلسوفين قد تطرق إليه الخطأ من فهم المأساة والملهاة على أنها نوع من التقليد والمحاكاة؛ لأن الشعر المسرحي يعرض الفواجع بتمثيل أناس يحاكون المصابين بها في حركاتهم وأقوالهم، وكذلك يفعل بالمضحكات والملهيات.
وأفلاطون من أجل هذا ينزل بالمقلدين إلى الدرجة الثالثة، فيقول: إن الصورة الفضلى هي صنعة الله ثم يحكيها الصانع الخبير بالصناعة، ثم يأتي الشاعر فيحكي عمل هذا الصانع حكاية بعد حكاية.
ولم يلتفت أرسطو إلى منزلة الشعراء المقلدين إلا في سياق كلامه عن الأخلاق والاستطراد منه إلى أخلاق الهجائين أو الذمامين، فلم يكن من همه أن ينشئ مدينة فاضلة يبيح المقام فيها لأناس ويحرمه على آخرين.
وليس في هذا الخطأ عيب على عقل الفيلسوفين الكبيرين؛ لأنهما بادئان في طريق لم يسبقهما إليها سابق من الخبراء أو غير الخبراء، ولكن العجيب منهما حقا أن يحسبا الفن تقليدا أو محاكاة ولا يحسباه خلقا وابتداعا من الشاعر على التخصيص، ومع أن كلمة الشاعر تفيد معنى الصانع أو الخالق باللغة اليونانية.
ونقول: إن هذا عجيب من الفيلسوفين حقا؛ لأنهما كانا يستطيعان أن يعلما أن وصف كرسي في الشعر أصعب من عمل كرسي بصناعة النجارة، وأن النجار الذي يعمل ألف كرسي لا يستطيع أن ينظم بيتا واحدا من القصيدة التي تنظم في وصف أحد كراسيه، وهكذا يستطيع الرسام أن يصور كوبا من الفخار ولا يستطيع الفخاري الذي يصنع الآنية الفخارية جميعا أن يخرج صورة لكوب صغير منها.
وقد زاغ هذا الفهم الخاطئ بالفيلسوفين عن أسباب الضحك في تفصيلاتها؛ لأنهما التفتا إلى فكرة التقليد فجعلها أحدهما إسفافا دون صناعة الصانع، وجعلها الآخر طلبا للمعرفة يكاد أن يتساوى فيه المقلد ومن يشهد التقليد، ويسر بالنظر إليه، ولم ينظر كلاهما بعين الشاعر لينفذ إلى مواطن الضحك فيما يتحراه من الصور المضحكة ومن تنويع عرضها وتمثيلها.
لكنهما على هذا الخطأ الذي لا ينجو منه كل مبتدئ قد نجحا في التعريف بسبب الضحك نجاحا غير قليل؛ لأنه كان أساسا لما بناه التابعون كما كان أساسا لنقد الناقدين.
فالقول بأننا نضحك من العمل لأنه ينم على جهل لم يبلغ درجة الإيذاء والإيلام، أو أننا نضحك من العمل لأنه يعرض لنا تشويها لم يبلغ هذه الدرجة؛ كلاهما قول يؤخذ به للمناقشة والتعقيب ولا يرفض كله جملة واحدة في تعريف من تعريفات المحدثين.
وكل ما نعترض به على التعريفين أن الإنسان قد يتبلد شعوره عن الألم والضحك في وقت واحد، فليس كل إنسان يرى التشويه ولا يؤلمه يضحك منه؛ لأنه قد يكون بليدا يخفى عليه التشويه والألم في آن.
وإنما الخلو من الألم شرط لكل استمتاع بشيء من الأشياء حتى ما كان من قبيل المتعة المادية؛ إذ كان الألم على الأقل صارفا للشعور عن سبيل المتعة، إن لم يكن مناقضا للشيء المضحك أو للشيء الجميل أو للشيء الجليل.
ونضرب المثل لذلك بإنسان مشوه ينظر إليه صاحب الإحساس المرهف فيدرك ما يعانيه، وينظر إليه الطفل الغر أو الرجل الجلف فيهزأ به أو يولع به للضحك منه وإضحاك الناس عليه.
فلا يجوز أن تفهم من ذلك أن الرجل الحساس غير صالح للضحك وغير خبير بالمضحكات؛ لأنه قد يحس منها ما يجهله الأطفال الأغرار والرجال الأجلاف، بل يجوز أن نقول إن الطفل الغر والرجل الجلف لا يعرفان ما يضحك ولا يعرفان ما يؤلم في وقت واحد. •••
وندر من فلاسفة القرون الوسطى من نظر إلى الضحك نظرة جدية ورآه في حكمة جديرا بالبحث عنه وعن أسبابه، لانصرافهم إلى البحث في الأصول الدينية وأسرار ما وراء الطبيعة. ولعل فلاسفة اليونان الأقدمين كانوا على هذا الرأي ولم يبحثوا بعض البحث في الضحك وأسبابه إلا في طريق بحثهم عن التراجيدية والكوميدية مع رجوع هذه في أساسها إلى سير الأرباب وشعائر الدين ومحافل الأعياد الوثنية.
إلا أننا قد نعثر بين الآونة والأخرى على فيلسوف من فلاسفة القرون الوسطى بحث في معنى الضحك لاتصاله من بعض أطرافه بمباحثه الأخلاقية أو اللاهوتية، وأحق هؤلاء بالالتفات إلى رأيه في هذا المبحث يوسف ألبو
Joseph Albo (1380-1445)، وتوماس هوبز
Thomas Hobbes (1588-1679).
فيوسف ألبو فيلسوف إسرائيلي ممن درسوا فلسفة الأندلس الإسلامية واقتبس منها في كتابه عن المبادئ والأصول، وتكلم عن الضحك لأنه مذكور في كتب «التوراة» ومنسوب إلى الأنبياء ومنهم إبراهيم الخليل.
قال: «الضحك - وبالعبرية سحوق - كلمة مرادفة لكلمات في معناها، وتدل على الفرح كما جاء عن إبراهيم أنه خر على وجهه وضحك، ومعنى ذلك أنه كان فرحا بما سمع.» «وقد يدل الضحك على السخرية والاستهزاء كما يقول القائل: إنني ضحكة للجار، وربما امتزج معنى الضحك والسخرية كما جاء أن الذي يستوي على السماء - الله - يهزأ بهم؛ إذ كان الضحك أحيانا دليلا على الشعور باحتقار من يستحق الاحتقار، وهكذا يشعر من يلحظ نقصا في كلام أحد أو عمله ويشعر بتفوقه عليه لأنه لا يقع في مثل ذلك النقص، فإنما يتولاه الضحك؛ لأنه يرى الآخر يقول أو يعمل ما لا يجمل بالإنسان ووقاره.» «وعلى هذا النحو ينسب الضحك إلى (الله) في التعبير المتقدم، وسببه أنه يسمع القائلين يقولون: هلموا نمزق شملهم. وهي كلمات لا يجمل بالبشر أن ينبسوا بها. على حد قول الربانيين إن سبب المشابهة بين نشيد أبسالوم وأخبار يأجوج ومأجوج أنه لو سأل سائل: هل من الممكن أن يتمرد العبد على مولاه؟ لكان الجواب: وهل من الممكن أن يتمرد الولد على أبيه؟ وقد حدث هذا فمن الممكن إذن أن يحدث ذاك.» «وواضح من ثم أن ذلك المقال مما لا يحسن بإنسان أن يقوله وإلا كان أهلا للازدراء والسخرية، وبهذا المعنى ينسب الضحك إلى الإله وإلى الإنسان.» «ويضحك الإنسان أحيانا إذ يخدع غيره في أمر كان ينبغي أن يحذره المخدوع وينتبه إليه، ومن ثم يرجع سبب الضحك في جميع الحالات إلى الشعور بالتفوق في نفس الضاحك حين يرى غيره يقع في حماقة وأمر ينبئ عن جهالة. ويقول العلماء إن الضحك خاصة إنسانية كما يقولون إن أسبابه مجهولة، ويعنون بذلك أننا لا نعلم لماذا يكون الضحك مصحوبا بحركات جسدية معينة، ولماذا يحدث الضحك عند لمس الإبط أو بعض المواضع الحساسة من الجسد، على أن حدوث الضحك من السخرية معروف جد المعرفة كما بينا في شرح الآية.»
وظل هذا الرأي مأخوذا به في تفسير الضحك إلى أوائل العصور الحديثة، وهو على التقريب رأي الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز الذي يرجع بكل خليقة أو عاطفة ترضي الإنسان إلى شعوره بالقوة والامتياز والرجحان، ويرى أن الأخلاق الإنسانية المحمودة تدل جميعها على القوة في صورة من صورها؛ فالكرم والشجاعة والصبر والعزة والفضائل جميعها لا تنال حمد الإنسان ما لم تكن مقرونة بالقدرة والدلالة عليها، وتتساوى الأخلاق النبيلة والعواطف الرفيعة في هذه الخصلة، بل تتساوى فيها الأعمال الإرادية وغير الإرادية كالضحك في صورته العقلية وصورته الجسدية، فإنما يضحك الضاحك؛ لأنه يحس من نفسه انتصارا مفاجئا أو مزية مفاجئة، ولا بد من شعور النصر أو الامتياز فيما يضحك الإنسان ويرضيه.
وهذا هو الرأي الذي توافقت عليه أقوال المتكلمين عن الضحك من عصر الفلسفة اليونانية إلى العصر الحديث، ولا حاجة إلى انتظار التعقيب الأخير على جملة الآراء لإظهار الخطأ في هذا التعليل الذي يصح في جانب واحد من المضحكات ولا يصح في جميع جوانبها، فإن الإنسان قد يضحك أحيانا حين يشعر أنه قد انخدع كما يضحك من غفلة غيره حين تجوز عليه الخديعة البينة، وليس في هذا دليل على الشعور برجحانه، بل هو دليل على شعور برجحان غيره عليه.
والمثل القريب على ذلك ما تقدم عن الضحك «الإجماعي» في مؤتمر الساسة الذين جلسوا لتضييق الخناق على نابليون ثم جاءهم الخبر فجأة بانطلاقه من جزيرة ألبا وعودته إلى فرنسا، فهذا موقف مغلوبين لا موقف غالبين، ولا يستقيم تفسيره بشعور الرجحان أو الانتصار من جانب الضاحكين.
وكل ما يثبت في جميع الحالات أن هناك مفاجأة وأن المفاجأة تخالف الحالة المطردة أو الاتجاه الذي يجري فيه الشعور، وبهذا يسهل تفسير الضحك ممن جلسوا ينظمون القارة الأوروبية بعد اعتقال نابليون كأنما هذا الاعتقال أمر مفروغ منه ثم تقع المفاجأة بما يخالف الحسبان.
إفراط المحدثين
وإذا كانت الشكوى من الثقافة القديمة قلة البحث في الضحك وأسبابه، فقد يكون الإفراط في هذا البحث شكوى القارئ من الثقافة الحديثة؛ لأنها توشك أن تتطلب منه تخصصا ثقافيا مقصورا عليها، وقد أثبت برجسون نحو أربعين مرجعا من الكتب والأصول ألم بها في رسالته عن الضحك، ويمكن أن يزاد عليها ثلاثة أضعافها من المراجع المتفرقة عن فلسفة المضحكات عامة أو عن موضوعات الفكاهة والنكتة في مزاج هذه الأمة أو تلك أو في آدابها ومأثوراتها.
ويعود هذا الإفراط في الكتابة عن الضحك إلى باعثين جديدين في العصور الحديثة: أحدهما نشأة علم الذوق أو علم الجمال الذي ينظر في الفروق بين الجميل والجليل والمضحك كما تعرضها الفنون الجميلة ولا سيما التمثيل، وكأنما كان اهتمام المحدثين بالتمثيل ورواياته وأدواره تجديدا لاهتمام أفلاطون وأرسطو بالتراجيدية والكوميدية، وملكات الشعراء الذين يكتبون في المحزنات والمضحكات، والملاحم الكبرى عن الأرباب والعبادات وما استطردت إليه من موضوعات لا علاقة لها بالدين، وقد تناقضه وتخالف الأدب الواجب للمعبودات وشعائر العبادة. فإن عودة الأدب المسرحي في العصور الحديثة كانت فاتحة البحوث الفنية والفلسفية في الموضوع من جميع جوانبه وأطرافه، فكان البحث فيه عن المضحك والمبكي والحسن والقبيح مقرونا بالبحث عن المقدس والقداسة في شعور الإنسان وفي الكائنات التي يقدسها ويرتفع إليها بالإجلال والابتهال، واستدعى تمثيل هذه الكائنات شعرا ونحتا وتصويرا أن توضع لها الحدود والتعريفات وتقام الفواصل بينها وبين ما يلتبس بها من المتشابهات أو المتناقضات.
هذا أحد الباعثين الجديدين إلى إفراط المحدثين في الكلام على الضحك وتعليل أسبابه وتطبيقه على الفنون المتجددة في الزمن الحديث.
أما الباعث الآخر فهو شيوع البحث في التطور ومذهب النشوء ... فإن هذا المذهب يفسر تعبيرات الإنسان عن خوالجه وعواطفه بما يوافق طبيعته الحيوانية، ويتقصى وجوه الشبه ووجوه الاختلاف بينه وبين سائر الأحياء في هذه التعبيرات، ويراقب ملامحه ليربط بينها وبين وظائفه الجسدية واستعداد هذه الوظائف لتلبية العوامل الداخلية والعوامل الخارجية.
ولا يسع الإنسان إلا أن يبتسم لتناقض النتائج التي وصل إليها أقطاب هذا المذهب بعد بحثهم في ظاهرة الضحك والفكاهة، فإن العالمين العظيمين اللذين توافيا - بغير التقاء بينهما - إلى تحقيق ظواهره وشواهده قد ذهبا إلى الطرفين المتقابلين في تعليل الضحك والفكاهة.
فمن رأي ألفرد رسل ولاس
Alfred Russel Wallace
أن الضحك وسائر الخصائص الإنسانية التي ينفرد بها النوع الإنساني لا تقبل التفسير بالانتخاب الطبيعي وتطور أنواع الحيوان، وهو يتساءل كيف يفسر لنا الانتخاب الطبيعي ملكات الرياضة والموسيقى والإحساس بما فوق الطبيعة، ويعود فيقول: إن ملكة الفكاهة من هذا الطراز بين الخصائص الإنسانية؛ لأنها تحتاج جميعا إلى تفسير غير تفسير الصراع على الحياة وتنازع البقاء، ولو كانت من هذه الأسلحة في النوع الإنساني لما كان مفهوما كيف يتجرد منها معظم الناس ولا تتوافر لغير العدد القليل منهم في أرقى الحضارات، ولا كان مفهوما كيف يتجرد منها الهمج والأوائل الفطريون كما يتجرد منها الأكثرون بين المتحضرين، فهي كما قال في تطبيقه المذهب الدارويني على الإنسان أخلق بأن تفسر بالمنحة الإلهية التي يختص بها الخالق بعض الطبائع الموهوبة، ولن تقبل التفسير بغير ذلك ولو باعتساف شديد.
ومن رأي داروين أن الضحك قد يوجد بمعزل عن التفكير كما يلاحظ على البلهاء وصغار الأطفال الذين يضحكون ليعبروا عن حالة الرضا والارتياح ولا يصحبون ذلك بفكرة أو خاطرة ذهنية، والأصحاء من الراشدين تعتريهم حالات الضحك لأسباب غير أسبابه في الطفولة، ويصدق هذا على الضحك ولكنه لا يصدق على الابتسام، وكأنما يعبرون بالضحك عن حالة مقابلة لحالة البكاء الذي يقترن بالشدة والكآبة العقلية كما يقترن بالخوف والغضب، ولعل شيئا من الغرابة المفاجئة مع شيء من الشعور بالتفوق هو أشيع الأسباب لضحك الكبار الراشدين، ومن الواجب ألا تكون الظروف على جانب عظيم من الخطر والجسامة، فإن الرجل الفقير - مثلا - لا ينتظر منه أن يضحك إذا سمع فجأة أنه كسب مقدارا كبيرا من المال، ولكن العقل إذا هاجه الشعور بالمسرة وطرأت عليه خاطرة صغيرة غير متوقعة، فالنشاط العصبي يفرج عن نفسه بتحريك العضلات تلك الحركة التشنجية الخفيفة التي نسميها الضحك. قال في كتابه عن تعبيرات العواطف في الإنسان:
إن الجنود الألمان أثناء حصار باريس كانوا يندفعون إلى الضحك لكل تفاهة من تفاهات النكتة بعد طول التعرض للخطر الشديد. ويقول مستر هنتون من سان فرنسسكو: إنه كان يتناوبه الصياح والضحك وهو على التلال عند الباب الذهبي معرض لأفدح الأخطار. وهكذا يشاهد على الأطفال الصغار وهم يهمون بالبكاء أن بكاءهم يتحول إلى ضحك حين يطرأ أمامهم طارئ غير متوقع، مما يفهم منه أن الضحك يفيدهم في تصريف فيض الجهد العصبي الذي يحسونه على تلك الحال.
وينظر داروين إلى أسلوب المجاز حيث يقول القائل: إن الخيال دغدغته فكرة مضحكة، فيلاحظ أن دغدغة الخيال مماثلة لدغدغة الجسد ويتخذ المثل من ضحك الأطفال و«تشنج» أجسامهم الصغيرة بفعل الدغدعة ثم يلاحظ أن القردة العليا تبدر منها أصوات مرددة في مثل هذه الحالة، ويعود فيفرق بين الضحك من فكرة مازحة والضحك من أثر الدغدغة إلا في أمر واحد هو أن يكون الفكر في حالة راضية، فكما أن الطفل يصيح ولا يضحك إذا دغدغه رجل غريب واشتدت عليه حركة الدغدغة، كذلك ينبغي أن يكون الفكر بعيدا من الجفوة والشعور بالاكتراث والاهتمام، وتحدث الدغدغة الجسدية في المواضع التي لا تتعرض كثيرا للمس، ولا يكون موضع الدغدغة معروفا قبلها، وكذلك تحدث الدغدغة الفكرية من خاطر غير معهود ولا معروف قبل ذلك، ويبدو أن عنصر الطروء أو المنافرة الذي يجري في سياق التفكير هو العنصر القوي في تكوين المضحكات.
ثم يراقب داروين عوارض الضحك على الوجه والجسم ويحصيها إحصاء دقيقا في تتابعها على حسب الرخاوة أو العنف في الشعور، ويقرر أن الشعور العنيف كله يتخذ تعبيرا واحدا في حالتي الحزن والسرور، وأن مشاهدة ذلك ميسورة لمن يراقب العصابيين (الهستيريين) والأطفال لسرعة تأثرهم بأنواع الإحساس؛ فإنهم يتراوحون بين الضحك والبكاء في الوقت الواحد، وينتقلون من الشعور إلى نقيضه لأنهما عندهم متقاربان. وشأن القبائل الفطرية عند داروين كشأن الأطفال في هذه الخصلة؛ لأنه رأى في جزر ملقة نساء يبكين إذا أغربن في الضحك، وروى أقوال السائحين عن سكان أستراليا الأصلاء، فقال إنهم يقفزون ويصفقون وتغرورق أعينهم بالدموع وهم مرحون ضاحكون، ثم قال: إن الأستراليين والأوروبيين يتشابهون في ضحكهم جميعا من رؤية المحاكاة. ومن القبائل الفطرية في جزيرة سيلان أناس لا يضحكون لمنظر قط من المناظر المضحكة - فيما رواه هارتشورن
Hartshorne - لأنهم يقولون إذا سألوا مستغربين: وما الذي يدعو إلى الضحك في هذا أو ذاك؟ إلا أن الابتسام والضحك في جميع الأمم يجريان في مسلك واحد فلا يستطاع وضع الحد الحاسم في الحركات أو المعاني بين دواعي الضحك ودواعي الابتسام.
وظاهر من دراسة داروين كلها للتعبيرات الإنسانية والحيوانية أنه يتجه بمراقبته إلى العوارض الجسدية التي تعم جميع بني الإنسان وقد تعم بعض الحيوان في بعض الأحوال، والعوارض الجسدية أدق لديه من العوارض الأخرى التي لا يسهل ضبطها وتعميمها، ولا يسهل كذلك تعليلها بالانفعالات المشتركة بين الناس من جانب وبين الناس والأحياء العليا من الجانب الآخر. وهو على خلاف زميله في مذهب النشوء والتطور - ألفرد ولاس - موكل بالتعميم والأشباه الشائعة دون تلك الملكة الخصوصية التي يرى صاحبه أنها مزية محدودة لا يفسرها تنازع البقاء كأنها ملكة الإدراك الرياضي والبداهة الموسيقية وما إليها، فبينما يهبط داروين إلى عوارض الضحك التي يقل فيها التفكير كضحك الأطفال والعصابيين والقبائل الفطرية؛ يرتفع ولاس إلى ملكة الفكاهة العالية التي يمتاز بها آحاد من النوابغ قلما يزيد عددهم على عدد العباقرة الذين يكشفون خفايا الحقائق الرياضية ودقائق النسب الموسيقية، ويعلمون الناس كيف يفهمونها ويدركونها بعقولهم وبصائرهم فلا يتيسر للكثيرين أن يجاروهم على فهمها وإدراكها.
والنزعة الوجدانية هي سر الاختلاف في النظرة إلى المضحكات بين العالمين الكبيرين؛ فداروين يبحث عن وحدة الأنواع الحيوانية فيهبط إلى مواطن الشبه بين أرقى الأحياء وأقل الناس، ويعقد الصلة بين هؤلاء وهؤلاء بوحدة العوارض الجسدية التي تصاحب الضحك من تأثير الدغدغة أو تأثير المشاهدات الحسية. ويعنيه أن يراقب عوارض الدغدغة في القردة التي تتأثر بعض المواضع في أجسامها باللمس المفاجئ على غير المألوف.
وكل هذا لا يفسر الملكة التي يعنيها زميله ولاس ويعلو بها إلى الطبقة التي ينفرد بها الآدميون، بل ينفرد بها آحاد من الآدميين؛ لأن نزعته الوجدانية تتجه إلى الإيمان بالروح الإلهي ومزاياه التي يفيضها على الأرواح الإنسانية كلما تهيأت لها بهداية السماء.
ولم يزعم داروين أنه فسر الضحك كله واستوعب الكلام في أسرار المضحكات على اختلافها، وإنما أراد منها ما تثبته التعبيرات المحسوسة وتطرد فيه الملاحظة اطرادا يقبل التعميم.
ويقال هذا أيضا عن الفلاسفة الذين درسوا الضحك من ناحية علم الذوق أو علم الجمال، فإنهم تناولوه من وجهة المقابلة بينه وبين الأحاسيس الجميلة أو الجليلة أو المقدسة ولم يستوعبوا أصوله وتفريعاته في دراسة مستقلة تحيط به في معانيه الفنية ومعانيه الحيوية.
فخلاصة رأي كانت
Kant
أن الضحك ينشأ من التوقع الذي ينتهي فجأة إلى غير طائل، وخلاصة رأي شوبنهور أن الضحك في جميع الأحوال نتيجة للمفاجأة بإدراك عدم التناسب بين الشيء المضحك والشيء الذي يخطر على البال أنه يشبهه، وخلاصة آراء الباحثين في الجميل والجليل عامة أن المضحك هو النزول بالجليل - أو الوقور - فجأة إلى الابتذال والإسفاف، وأنه في جملته نوع من الحطة
Degradation
يسرع الذهن في الالتفات إليه.
وليس من اليسير أن نستقصي هنا كل ما قيل في تعريفات الضحك وأسبابه، فإن الجمع الذي يدل على طائفة قليلة من نماذج التفكير أجدى من إحصاء التفصيلات التي تتبعثر بغير رابطة بينها تدور على محور معلوم.
ونرى أننا قد نستغني عن تتبع الآراء المبعثرة في تعليل الضحك إذا اجتزأنا منها بتلخيص ثلاثة آراء نموذجية، هي رأي سبنسر العالم الإنجليزي، وبرجسون الفيلسوف الفرنسي، وفرويد الطبيب النمسوي صاحب مذهب النفسانيات الحديث.
فرأي سبنسر رأي عالم نشوئي يفصل رأي داروين وينقحه ويزيد عليه من الوجهة العلمية الطبيعية.
وبرجسون فيلسوف ينظر إلى الوجهة الاجتماعية ولا يهمل الوجهة الفنية، وإن كان يوجزها ولا يستقصيها.
وفرويد ينظر إلى الدخائل النفسية مع ارتباطها بالمجتمع وعلامات الصحة والمرض في الآحاد.
وقل أن يوجد رأي في الضحك لا يلتقي بهذه الآراء في جزء من الأجزاء.
الفصل الثالث
ثلاثة آراء في الضحك
كتب سبنسر رأيه بعنوان فزيولوجية الضحك
The Physiology of Laughter .
وهو عنوان يدل على مدار البحث كله، ويؤخذ منه أن الباحث أراد أن يفسر عوارض الضحك الجسدية وارتباطه بالأفكار والأحاسيس التي تستدعيها.
وفكرته تشابه فكرة داروين في أساسها، ولكنه يخالف القائلين بأن الضحك محاولة عضلية للتخلص من شعور مكرب أو غير محتمل، ويخالف القائلين بأن الضحك يتولد من الشعور المفاجئ بالغبطة والرضا عن النفس بما يوحي إليها من السلامة أو الرجحان.
ويقول سبنسر: إن هذا كله قد يحدث ولا يحدث معه الضحك، وإنه لا بد لتمام العوارض جميعا من التحول المفاجئ من سياق إلى سياق في وجهة الشعور.
يشتغل الموسيقي بتوقيع قطعة من ألحان موسيقى بيتهوفن مثلا فيعطس أحد الحاضرين عطسة قوية يسمعها الحاضرون خلال التوقيع فيضحكون، ليس في الاستماع إلى الموسيقى شعور مكرب تتخلص منه النفس بالضحك، ولكن الذي حدث أن العطسة غيرت مجرى الشعور أو حبسته عن المضي في طريقه المألوف، فتنقله هذه المفاجأة من أعصاب الحس إلى العضلات، ويحدث الضحك من جراء هذا الانتقال.
ويقف العاشقان على المسرح يتناجيان ويتغاضبان أو يتراضيان، وإذا بجدي يضل طريقه ويذهب إلى العاشقين فيقطع عليهما وعلى النظارة هذه المناجاة، فيحدث من هذه المفاجأة ما أحدثته العطسة القوية أثناء سماع الموسيقى، ويضحك النظارة الذين كانوا يرقبون منظر المناجاة ولم يكن فيه ما يكربهم أو يحبون التخلص منه بالضحك، وإنما يغلبهم الضحك لانتقال الشعور من وجهته المطردة، ولا بد له إذن أن ينتقل من أعصاب الحس إلى العضلات.
يقول سبنسر: ولا يحدث هذا لجميع السامعين إذا كان فيهم من يستغرقه الشعور بالموقف ولا يدع فيه بقية للانتقال منه والالتفات إلى غيره، فإن هؤلاء قد يغفلون عنه أو يغضبون لتنبيههم من الشعور الذي هم مستغرقون فيه.
ويقول سبنسر: إن المؤثرات لها في الإنسان ثلاثة منافذ: منفذ الحس، ومنفذ الفكر، ومنفذ الحركة العضلية، وإنها كلها قابلة للتحول من منفذ إلى منفذ سواء بدأت بالتفكير أو بدأت بالحس أو بدأت بحركة من العضلات.
فالرجل الذي يهرب من الخطر الداهم يجري وتشتغل عضلاته بهذه الحركة، ولكن هذه الحركة العضلية لا تستغرقه ولا تمنعه أن يفكر في الخطر والحيلة التي يحتالها أو العمل الذي يعمله للنجاة منه.
فإذا كان الخوف أهون من الخوف على الحياة فربما انصرف بالحركة وأصبحت الحركة ضربا من الرياضة التي يتشاغل بها الإنسان عن حالته النفسية.
والطفل يصفق إذا فرح؛ لأن شعوره ينتقل من الأعصاب إلى العضلات، وربما فرك الرجل الكبير كفيه في مثل هذه الحالة؛ لأنه تعود هذا الشعور أو تعود أن يتحول عنده إلى الفكر كما يتحول إلى العضلات.
ومما يدل في رأي سبنسر على أن الضحك من حركات رد الفعل أو من الحركات الانعكاسية أنها حركات لغير قصد أو حركات غير مقصودة بإرادة صاحبها، كأنها غمضة العين للوقاية أو رعشة البرد التي لا يريدها المقرور.
ويتبسط سبنسر في وصف تأثير هذه الانفعالات غير الإرادية، فيرى أن تأثير الشعور قد يعطل تفكير الخطيب على الرغم منه وهو واقف أمام الجماهير يحس وجودها ويخشى أن يتلعثم أمامها أو لا ينال موافقتها وإعجابها، ولو أنه وقف ليلقي خطابه أمام الكراسي الخالية لانطلق تفكيره بغير عائق من الحس والشعور، وهاهنا ثلاثة عوامل مشتركة في التأثير على الخطيب: عامل الحس إذ يرى الجماهير، وعامل الشعور إذ يخشى التقصير والخيبة، وعامل الفكر الذي يشغل الحس والشعور جانبا منه فلا ينطلق مع اشتراكها كما ينطلق على انفراد.
فالسريان بين منافذ الحس والتفكير والحركة طبيعي في المؤثرات النفسية، وكلها تجري في مجراها الطبيعي من الفكرة إلى الحس والحركة، أو من الحس إلى الحركة والفكر، أو من الحركة إلى الأحاسيس والأفكار.
غير أن الحس أو الفكر لا ينتقل إلى العضل إلا في غياب الحس والفكرة التي من قبيله، فإذا كان الألم شديدا جدا يستوعب الشعور كله فهو لا ينتقل إلى العضلات عند المفاجأة؛ لأنه يجد طريقه في اتجاه الشعور بغير عائق يصده عن مجراه.
ويستطيع من شاء أن يحقق ذلك بمنظر يذكره أو يتخيله على وفاق المألوف من تجاربه ومشاهداته: إذا جلس الناس في مأتم وحدثت على مشهد منهم مفاجأة مضحكة فقد يضحك الغرباء عن المأتم، وقد يضحك الصغار الحاضرون وإن كانوا من أهل الميت، ولكن الكبار المفجوعين لا يضحكون؛ لأن شعورهم يفيض في مجراه ولا تشغله المفاجأة المضحكة حتى تنتقل من الحس إلى حركة العضلات، وربما أثارهم وأغضبهم أن يروا أمامهم أحدا يضحك وهم مغلوبون بالأسى والفجيعة.
وملاحظة سبنسر هذه مهمة جدا في تصحيح التعريفات الأخرى، ومنها تعريف أفلاطون وأرسطو وغيرهم للضحك؛ إذ يقولون: إنه نتيجة الشعور بالسخف أو التشويه الذي لم يبلغ مبلغ الإيلام والإيذاء.
فالألم مانع للضحك؛ لأنه يشغل الشعور بغير المضحكات، ومتى اشتغل الشعور بشيء آخر لم يشعر الإنسان بالجمال ولا باللذة ولا بالسرور، وليس الأمر هنا خاصا بالمضحكات دون المحاسن واللذات والمسرات.
إن المفاجأة التي تعوق الإحساس عن مجراه وتحوله إلى العضلات كافية وحدها للضحك ولا حاجة معها إلى استثناء الألم؛ لأن الألم استثناء لكل شعور وليس بالاستثناء للمضحكات دون سواها.
أما إذا كان الإحساس من القوة بحيث لا تعوقه المفاجأة فإنه يجترفها في طريقه ولا يتحول إلى العضلات، ولا يحدث الضحك من ثم على الرغم من جميع المفاجآت.
وإذا قال قائل عن جدول الماء: إنه يجري ما لم يعقه عائق؛ فهو لا يقول لنا شيئا عن طبيعة الماء دون غيره، فهكذا يحدث لكل متحرك أنه لا يتحرك مع وجود العائق في طريقه، سواء في ذلك حركة الماء وحركة البخار وحركة السهم وحركة القذيفة من أقوى المدافع والراميات.
وكذلك يكون من قبيل تحصيل الحاصل أن يقال: «إن الضحك يحدث ما لم يمنعه الألم»؛ فإن الألم يحجب الشعور بالمضحكات وغير المضحكات، يحجب المتعة بالنكتة كما يحجب المتعة بالجمال والجلال واللذة وبدائع الفنون على الإجمال.
ويؤكد هذا ما لاحظناه آنفا على تعريف أرسطو الذي يشترط في الدمامة المضحكة ألا تبلغ حد الإيلام؛ فإن الإنسان البليد لا يتألم ولا يفطن للضحك في وقت واحد، وإذا جمعنا اثنين أحدهما مرهف الإحساس والذهن والآخر ثقيل الإحساس والذهن فلا يلزم أن يكون هذا أكثر فطنة للضحك من ذاك لأنه بطيء الألم، بل يبطئ شعوره بالألم وشعوره بالضحك في وقت واحد، ويغفل عن التشويه كله بجميع درجاته فلا يلمحه ولا يحسه في درجة من الدرجات.
ومن ثم ننتهي بعد ما تقدم إلى الثقة من شرط واحد في المضحكات وهو شرط المفاجأة التي تتحول بالشعور عن مجراه ، فإذا كان الشعور جاريا في مجراه - كشعور الحزن العميق - فالمفاجأة لا تدفعه إلى الضحك، وإذا كان في المجلس نفسه أحد لا يبلغ منه الحزن ذلك المبلغ من العمق والاستغراق فإنه يضحك من المفاجأة؛ لأنها تستطيع أن تتحول بالمنظر أو المسمع من حس الأعصاب إلى حركة العضلات.
رأي برجسون
والرأي الثاني بين الآراء النموذجية هو رأي هنري برجسون الفيلسوف الفرنسي صاحب مذهب دفعة الحياة.
ورأيه في الضحك أنه في وقت واحد تطور منطقي وحاسة اجتماعية.
فنحن نضحك إذا رأينا إنسانا يتصرف تصرف الآلة ويقيس الأمور قياسا آليا لا محل فيه للتمييز المنطقي، ولكننا نضحك في الجماعة عامة ولا نضحك منفردين؛ لأن الضحك تنبيه اجتماعي أو عقوبة اجتماعية لمن يغفل عن العرف المتبع في المجلس، أو في المحفل، أو في الهيئة الاجتماعية بأسرها.
والضحك عند برجسون إنساني بمعانى الكلمة جميعا؛ فلا يشاهد في غير الإنسان، ولا يستثيرنا الضحك في غير عمل إنساني أو عمل نربطه بالإنسان.
فنحن لا نضحك من منظر طبيعي أو من جماد كائنا ما كان إلا إذا ربطناه بصورة إنسانية وجعلناه شبيها بإنسان نعرفه، أو منسوبا إلى عمل من أعمال الناس، وقد نضحك من قبعة نراها فلا يكون الضحك من القبعة، بل من الإنسان الذي يلبسها ونتصور هيئته فيها.
ومن شروط الأمر المضحك عند الفيلسوف أن يكون عملا إنسانيا بغير معنى، أو يكون المعنى فيه مطردا على طريقة آلية كأنه من أعمال الأدوات المجردة من التفكير.
ومن شروط الأمر المضحك عنده أن يحصل في جماعة أو يرتبط بالتصرف في الجماعة؛ فقلما يضحك الإنسان على انفراد إلا إذا استحضر العلاقة الاجتماعية في ذهنه، وقلما ننظر إلى أحد يضحك على انفراد إلا خامرنا الشك في عقله ما لم يكن له عذر نعلمه، فلا يزال الضحك على انفراد محتاجا إلى اعتذار وتوضيح.
لهذا يقرر برجسون أن الضحك مرتبط بالتصرف المنطقي وبالحاسة الاجتماعية في وقت واحد؛ فهو وسيلة من وسائل المجتمع لحمل أبنائه على التصرف فيه تصرف الراشدين الذين يفقهون معنى ما يصنعون .
ويفسر الفيلسوف أنواعا كثيرة من الضحك على ضوء هذه الشروط، فيقول مثلا: إن مرونة الحركة تهم الأطفال كثيرا، فهم يضحكون من كل حركة تصطدم بغير وعي ويفقد فيها المرء قدرته على المرونة، ويقول: إن كل خلل في الحركة يضحكنا إذا قارنا بين الخلل الواقع، وبين اللباقة التي يستدعيها تمام الخلقة والتكوين والتصرف المعهود. وكثيرا ما يضحكنا شرود الذهن؛ لأن الإنسان الذاهل ينسى عقله وحاسته الاجتماعية ويتكلم أو يعمل على غير ما تقتضيه الحالة التي هو فيها.
ويومئ الفيلسوف إلى مناظر المحاكاة فيقول: إن المحاكاة تضحكنا لأنها عمل يشبه عمل الآلات، وتضحكنا لأنها تلفت النظر إلى الغفلة أو التناقض في الإنسان المحكي لأنه شبيه بالآلات، وإذا رأينا وجهين يتشابهان تشابها تاما ضحكنا؛ لأننا نتصور أنهما مصنوعان في قالب واحد كما تصنع الوجوه التمثيلية.
ويضحكنا أن يتحكم الجسد في العقل والإرادة تحكما غير مناسب للموقف الحاضر، فنضحك من الخطيب الذي تغلبه الحماسة والعطاس في وقت واحد، ويضحكنا أن نرى أمامنا أحدا يطبق على الأحياء أحكام الآلات، وهذا هو سر ضحكنا من الطبيب الذي يقول للمريض: إن موته باطل. لأنه لم يجر على وفاق الأصول المتبعة.
ويضحكنا الرجل الذي تتكرر في كلامه لازمة محفوظة نتوقعها فنضحك حين نسمعها.
وهذا المثل من أمثلة برجسون جدير بالانتباه إليه؛ لأنه يرجح رأيه على آراء القائلين بشرط المفاجأة في الضحك.
فالرجل الذي يكرر لازمة واحدة يضحكنا حين نسمع ما ننتظره منه، فلا يقال إذن إنه يضحكنا بالمفاجأة، بل يصح فيه رأي برجسون وهو الرأي الذي خلاصته أن المضحك من أعمال الإنسان هو الذي ينساق فيه انسياق الآلات. •••
ونحن نستدرك ما يستدرك من هذه الآراء في أثناء تلخيصه، وقبل الانتقال إلى التعقيب الأخير عليه؛ لأننا نحب أن ننتهي إلى النتيجة خالصة من الاعتراض والاستدراك خالية من اللبس ودواعي الإطالة في المناقشة والتمحيص.
والمثل الذي يجب الانتباه إليه من أمثلة برجسون يرجح رأيه على رأي القائلين بالمفاجأة لأول وهلة، ولكنه لا يلبث أن يعود بنا إلى القول بالمفاجأة من جانب آخر.
فمشابهة الآلات هي في ذاتها مفاجأة مستغربة من الآدميين العقلاء؛ ولهذا يتفق القولان ولا يتناقضان. ويجوز أن يقال إن المفاجأة ومشابهة الآلة شيء واحد، وإن مشابهة الآلة باب من أبواب المفاجأة لا يستوعبها ولا يمنع الضحك من غيرها.
وأما الضحك من تكرار اللازمة التي ننتظرها فهو لا يدل قطعا على نفي المفاجأة أو على الضحك من الشيء لأنه منتظر ... بل هو نوع من استعادة الضحك السابق كما نبتسم عندما يمر بخاطرنا تمثيل دور مضحك شهدناه من قبل ونود أن نعيده ونتملاه من جديد.
وهذا المثل - بالذات - أصلح الأمثلة لتوضيح الحقيقة في هذا الخلاف.
فاللازمة المتكررة لا بد أن تتكرر حتى تصبح لازمة ملحوظة، وحين نبدأ بالاستماع إليها لا نلاحظ أنها لازمة تعاد في مناسبة وفي غير مناسبة إلا إذا سمعنا صاحبها يتكلم في مسائل شتى ويعيد لازمته على اختلاف هذه المسائل وتناقضها، ومتى ثبت لدينا أنها لازمة وانتظرناها فإنما نحن نستعيد ضحكا سابقا ولا ننشئ الضحك لأول مرة، ويصدق على هذا النوع من الضحك أنه من قبيل استعادة المناظر التي سبق لنا أن ضحكنا منها وأحببنا أن نتملاها ونرجع إليها حينا بعد حين. •••
ونستطرد بعد هذا في سرد الأمثلة المتعددة التي ينطبق عليها رأي برجسون، ومنها غير ما تقدم مثل الشاطر الذي يغلب بالشطارة، أو مثل الفخ الذي يقع فيه واضعه، فإن هذا الشاطر - على شطارته - يتصرف كالآلة حين ينعكس عليه عمله وهو أحق من سواه بالاحتراس منه.
وهذا المثل - كالمثل السابق - يمكن تفسيره برأي برجسون ورأي القائلين بالمفاجأة معا؛ لأننا نتوقع من الشاطر أن يغلب غيره بالحيلة ونشعر بالمفاجأة حين يقع غير المتوقع وهو انخداعه بما يخدع به الناس.
ويعلل برجسون ضحك الكثيرين من النكتة الجناسية بأنها تحول الذهن من المعنويات إلى الحسيات؛ لأن الكلمتين المتجانستين تتشابهان في اللفظ وتختلطان في المعنى، فيتصور السامع الحركات الجسدية وهو يفكر في المعاني الأخلاقية أو الذهنية، وهذا الضحك يشابه الضحك من الخطيب الذي تأخذه الحماسة لفكرة من الأفكار ثم يغلبه العطاس؛ فإنه في هذا الموقف مغلوب لضرورات جسده الآلية ويتصرف على الرغم منه كما تتصرف الآلات.
وعلى هذا النحو مواجهة الذهن بكلمتين متجانستين إحداهما مادية والأخرى معنوية، وتلحق بالجناس كلمات الكناية والاستعارة والمجاز وسائر الكلمات التي تواجه الذهن بصورتين إحداهما لائقة بالإنسانية والأخرى غير لائقة، كأن يقال عن أحد: إنه من أهل اليسار، أو إنه فنان، أو إنه جبل، أو إنه طويل الباع.
والحاسة الاجتماعية عند برجسون أعم من جميع الأسباب؛ فالضحك إذن ملكة اجتماعية يراد بها تصحيح الخطأ في معاملة الجماعة، وهو يتناول الأخطاء التي لا تبلغ حد الإجرام؛ لأن المجتمع يعالج هذه بالجزاء القانوني أو بالانتقام، ويتناول الأخطاء التي ينبو عنها الذوق كل النبو مع سوء النية؛ لأن المجتمع يداوي هذه بالنفور والاشمئزاز، وإنما يكتفي بالضحك من الأخطاء التي يسهو فيها الإنسان عن التقاليد الاجتماعية على غير قصد وبغير نية سيئة، فهذه الأخطاء يكفي في التحذير منها أن يتعرض صاحبها للضحك وأن يكون هذا الضحك عقوبة على قدر الإساءة العارضة، فيحسب في هذه الحالة كأنه قانون خفيف، حيث لا حاجة لتطبيق القانون الذي يحمي المجتمع من الجرائم والأضرار الجسام.
بل يكاد يكون الضحك عقابا اجتماعيا خفيفا لمن يدينون بالأحكام الحرفية ويطبقون القواعد في دقة وصرامة توحي إلى الذهن أن الذي يطبقها آلة لا تفكر ولا تحس بما تصنعه ولا تفرق بين جزاء وجزاء وتقدير وتقدير.
ففي هذه الحالة يكون الضحك تصحيحا للأحكام المبالغ في «دقتها الحرفية»؛ لأنها صفة آلية لا تليق بالقياس المنطقي والتقدير السليم.
وزبدة الأمثلة جميعا في رأي برجسون تلخص أسباب الضحك في حماية المنطق الإنساني وحماية الحاسة الاجتماعية على الخصوص، فكلما هبط الإنسان من مرتبة التصرف المنطقي الذي يناسب علاقاته الاجتماعية كان ذلك مثيرا للضحك منه لتنبيهه إلى تقصيره، على شريطة الوقوف بهذه الأخطاء عند حد لا يبلغ الإجرام ولا يدخله سوء النية، بل يخلو من كل قصد يقصده الكائن العاقل المتصرف، فيرتد إلى الحركة الآلية التي تتجرد من المقصد في جميع الحركات.
رأي فرويد
بقي من الآراء النموذجية رأي سيجموند فرويد
Freud
الطبيب النفساني صاحب المذهب المشهور الذي شاع وشاعت مصطلحاته على الألسنة حتى أصبح حديث الوعي الباطن والعقد النفسية ومركب النقص وما إليها من أحاديث الخاصة والعامة، وكاد هذا المذهب أن يستأثر بتفسير خفايا النفس البشرية في مسائل الأخلاق والعادات والبواعث الفردية والاجتماعية.
وقد أفرد الطبيب النفساني رسالة مسهبة للكلام على النكتة ومدلولاتها الاجتماعية والفنية ومواطن الشبه بينها وبين الأحلام والرؤى في الوظيفة التي تؤديها للفرد والجماعة.
وزبدة رأي فرويد أن النكتة ضرب من القصد الشعوري والعملي يلجأ إليه الإنسان في المجتمع ليعفي نفسه من أعباء الواجبات الثقيلة ويتحلل من الحرج الذي يوقعه فيه الجد ولوازم العمل، وأن النكتة تشبه الحلم في أساليبه وهي التورية والتأويل والاختزال والمسخ والتلفيق؛ أي جمع الصورة الواحدة من أجزاء صور متفرقة لا تجتمع في الواقع.
والناس يقولون عن الرجل: «إنه يمزح»، أو يقولون عنه: «إنه يحلم» على السواء حين يريدون إعفاءه من المؤاخذة ولا يريدون الجد معه في المحاسبة والتحقيق، وكأنما يحتال المرء بالفكاهة على بلوغ أمر لا يبلغه بالحجة والدليل، وكذلك يحتال في أحلامه على تحقيق الأماني التي تفوته في اليقظة وتشغل باله على غير جدوى، فهو يستعين بالنكتة أو بالحلم على صعوبة واحدة وهي تيسير الواقع والإعفاء من الكلفة والمشقة.
وقد أورد في رسالته أمثلة كثيرة سنشير إلى بعضها، ونكتفي هنا بنادرة واحدة من النوادر الفكاهية التي تساوي الأحلام في رفع الكلفة والسماح لقائلها أو سامعها بما هو محظور عليه إذا جد في القول وعبر عن غرضه بالكلام الصريح:
رجلان من أصحاب الملايين صنعا صورة لهما عند رسام مشهور، وعرضت الصورتان في معرض عام وبينهما فجوة تتسع لصورة ثالثة، فقال أحد الناظرين وهو يتأمل الصورتين وينظر إلى الفجوة التي بينهما: هاهنا متسع لصورة السيد المسيح.
وسمع الواقفون كلمته وعلموا أنه يقول عن صاحبي الملايين إنهما لصان؛ لأن القصة المسيحية تقول إن السيد المسيح وضع على الصليب بين لصين، وعلموا أيضا أنه يعني أنهما يستحقان الصلب كما استحقه أولئك اللصان، ولكنهم ضحكوا. وسمع صاحبا الصورة ما قيل فلم يجدا سبيلا إلى مؤاخذته أو رفع أمره إلى القضاء، ولعلهما لو فعلا لاتهمهما الناس بالجلافة وجرا على نفسيهما من السخرية ما كانا في غنى عنه.
ويريد فرويد منا في هذه النادرة وأشباهها أن نتخيل قائل النكتة وهو يحلم ويعزي نفسه عن الحرمان من الثراء، فإنه سيخلق في منامه قصة يتمثل فيها صاحبي الملايين مشهرين بين الناس بالسرقة أو مسوقين إلى ساحة القضاء أو مغلقين وراء جدران السجون، فيعمل الحلم عمل النكتة في ترضية الرجل بأسلوبين مختلفين يصدران عن باعث واحد لغاية واحدة.
ويسرد فرويد أنماطا من النكتة تشترك بين الجناس والمغالطة ورد الحيلة بحيلة من قبيلها والتفاهم على الكذب والأجوبة المسكتة وكشف السر على غير قصد وغيرها من المضحكات مما ينطبق عليه تعليله بسهولة، أو ينطبق في صعوبة وتعسف.
وهذه أنماط منها ننقلها بغير ترتيب، ونبدأ منها بنادرة تشبه النوادر التي تروى عن «قره قوش» وتصلح للدلالة على وحدة المنطق الفكاهي بين الناس على تباعد الأقطار والأجناس.
يروى في بعض قرى المجر أن حدادا اقترف جريمة يعاقب عليها بالموت، فحار قاضي القرية في أمره؛ لأنه الحداد الوحيد في القرية ولا تستغني عنه بغيره إذا نفذ فيه الحكم، ثم اهتدى بعد التفكير إلى حل المشكلة بإعدام الطرزي بدلا منه لأن القرية فيها طرزيان!
ومن الأقوال المضحكة التي استشهد بها فرويد قول الشاعر هايني في امرأة يعيبها في قالب الثناء فيقول إنها تشبه تمثال الزهرة «فينوس»؛ لأنها مثلها عتيقة جدا، ومثلها بغير أسنان، ومثلها في البقع البيضاء على بشرتها الصفراء.
وشبيه بهذا الثناء المعكوس قول القائل عن رجل يهجوه إنه يشبه جميع العظماء، فهو كالإسكندر ينحرف رأسه إلى جانبه، وكيوليوس قيصر يكمن شيء في شعره على الدوام، وهو يفرط في شرب القهوة إفراط ليبنتز، وينسى الأكل والشراب إذا جلس على المائدة كأنه إسحاق نيوتن، ويحتاج كما يحتاج إسحاق نيوتن إلى من يوقظه، وهو يلبس الشعر المستعار كالدكتور جونسون، ويترك سراويله مفتوحة كمؤلف دون كيشوت.
ومن نوادر فرويد عن اليهود - وهو يهودي - أن يهوديا رأى على لحية زميله بقايا طعام فقال له: «إنني أستطيع أن أذكر لك الصنف الذي أكلته بالأمس»، قال زميله: «حسن، قل ودعنا نسمع»، فقال له صاحبه المتعالم: «إنك أكلت فولا»، فسخر منه آكل الفول وقال: «كلا، إنك غلطان يا هذا، فإنني أكلته أول من أمس!»
وتلاقى يهوديان في القطار فسأل أحدهما الآخر: «إلى أين تذهب؟» فأجابه الآخر: «إلى كراكاو»، فغضب السائل وعاد يقول: «لماذا تكذب علي؟! إنك تعلم أنك إذا قلت لي إنك ذاهب إلى كراكاو فهمت أنا أنك ذاهب إلى لمبرج، ولكني أعلم في هذه المرة أنك ذاهب حقا إلى كراكاو ... فلماذا هذا الكذب؟»
ويذكر فرويد من فن النكتة أسلوبا يعتمد على اللعب بلفظة واحدة تجعل من هدفها أضحوكة سهلة، ومن قبيل هذه النكات قول مزاح مشهور: «إن فلانا له مستقبل عظيم وراءه!» وقوله عن وزير زراعة أخفق في عمله فعاد إلى حقله: «إنه عاد إلى مكانه أمام المحراث!»
ويذكر أسلوبا يعتمد على اللعب بصفة واحدة تختلف مراميها، كما قيل عن فتاة كانت على اتصال بجميع رجال الجيش: «إنها تذكرنا بدريفوس؛ لأن الجيش لا يصدق ببراءتها.»
ويذكر المغالطة في الجواب، ومن قبيلها أن رجلا قصد إلى أحد المحسنين وأفهمه أنه في عسرة شديدة وأنه يحتاج إلى قرض يسير للنجاة من كارثة محققة. وبعد إعطائه القرض بساعة رآه المحسن اتفاقا في مطعم من مطاعم الطبقة العليا وأمامه صحفة من السمك الفاخر فقال له مؤنبا: «أهكذا تنفق المال الذي تستعيره للضرورات لتأكل به الصحاف الفاخرة؟» فأجابه المحتال وكأنه دهش من سؤاله: «عجبا لك يا سيدي! متى تظنني آكلها إن كنت لا آكلها مفلسا، ولا آكلها وفي يدي ثمنها؟»
وعلى هذا النمط قصة مدرس في إحدى القرى مولع بالشراب لم يزل يدمن السكر حتى اعتزلته جميع الأسر ونفر منه تلاميذه، فنصح له صديق قائلا: «إنك تستطيع أن تجمع عندك تلاميذ القرية جميعا لو تركت الشراب، فلماذا لا تحاول وتجرب؟» فأجابه المدرس السكير: «على رسلك يا هذا، إنما أعطي الدروس لأجد الشراب، فهل تراني أترك الشراب لأعطي الدروس؟»
وقريب من هذا اللعب بالمقابلة قول القائل في تفاهة الحياة: «إنها نصفان نقضي نصفها الأول متطلعين إلى الثاني، ونقضي نصفها الثاني متأسفين على الأول!»
وسمع فولتير قصيدة روسو الشاعر الفرنسي الذي كتبها يوجه فيها الخطاب إلى الأجيال المقبلة، فعقب عليها قائلا: «هذا خطاب لا يصل إلى المرسل إليه.»
وللأجوبة المسكتة نصيب وافر من أساليب الضحك عند فرويد، وهذه أمثلة منها:
كان القيصر أغسطس يسيح في أرجاء ملكه فلمح شخصا يشبهه كل الشبه، فسأله: أكانت أمك تعمل في بيتنا؟
فأجابه الشبيه الجريء: كلا، بل كان أبي!
وكان بعض الوعاظ الأمريكيين ينادي بحقوق السود في بلد ليس فيه كثير من السود، فقال له رئيسه: لم لا تذهب إلى كنتكي حيث يقيم أصحابك؟ فسأله الواعظ المسئول: ألست يا مولاي تعمل لإنقاذ الأرواح من النار، فلماذا لا تذهب إلى جهنم؟!
ويتخلل الأمثلة كلها نوادر متفرقة تعتمد على الجناس اللفظي الذي لا ينقل من لغة إلى لغة ولا حاجة إلى نقله لكثرة هذه الفكاهات الجناسية في اللغات جميعا ولا سيما العربية، ثم يختم الرسالة بتلخيص لتقسيم المضحكات إلى ثلاثة أقسام: النكتة
Wit ، والهزل
Comic ، والدعابة
humour .
وكلها مما يفسر عنده بالقصد في القوى النفسية، ولكن النكتة قصد في العاطفة التي يكلفنا كبتها الكثير من مجهود النفس، والهزل قصد في الفكر والمنطق، وأما الدعابة فهي قصد في الإحساس، وإننا نتطلب هذه الأفانين جميعا بعد سن الطفولة التي لا تعرف المفارقات المضحكة ولا تقدر على تفكير النكتة ولا تحتاج إلى الدعابة لتشعر بالسعادة.
وإلى هنا يبدو لنا أن الأمثلة التي استشهد بها رائد المدرسة النفسية الحديثة لا ينطبق عليها تفسيره في جميع الأحوال، وأن القصد في الشعور أو التفكير قد يتحقق بالنكتة أحيانا ولكنه لا ينشئها ولا هي متوقفة عليه.
ولنرجع إلى نادرته عن اليهودي الذي قابل زميله في القطار وسأله عن وجهته فصرح له بذهابه إلى كراكاو وعتب عليه زميله لهذا الكذب ؛ لأنه كان سيذهب فعلا إلى كراكاو ولم تجر العادة بذكر الوجهة الحقيقية في إجابة أمثال هذا السؤال.
فلا قصد في هذه النادرة ولا ادخار، وليس فيها موضع لزيادة في المقال أو الاتهام، ولكنها تضحك السامع؛ لأنها تفاجئه بغرابة اللوم لهذه المناسبة، فإن السامع يسمع اللوم على الكذب فلا يخطر بباله أن الكذب في عرف المتحدثين هو الجهر بالصدق الصراح، ثم يفاجأ بسبب اللوم فتكون المفاجأة عماد الفكاهة هنا كما كانت عماد الفكاهة في جميع النوادر التي استشهد بها فرويد من المغالطات أو التحريفات أو الأجوبة المسكتة، وليس في الجواب المسكت قصد في الشعور أو القول، ولكنه مثل واضح للمفاجأة على الخصوص حين يكون السائل على ثقة من إحراج المسئول فلا يلبث أن يأتيه الجواب السريع فيرتد الحرج إليه.
ويجوز لنا بعد هذه التعليقات الموجزة أن نفهم أن رأي برجسون ورأي فرويد لا يناقضان تفسير الضحك من الوجهة الجسدية كما أجمله داروين في كتاب «التعبيرات»، وفصله سبنسر في مقاله عن الضحك من الوجهة الفزيولوجية، وأنهما لا يغنيان عن ذلك التفسير في النهاية، سواء كان سبب الضحك فكرة أو مشاهدة حسية؛ لأن نتيجته هي أن يتأثر الجسد به على النحو الذي ذهب إليه سبنسر وداروين من قبل.
مفاجأة تحبس الفكر أو الشعور عن مجراه فيتحول عنه إلى العضلات، ويبدأ الأثر في أسهل هذه العضلات حركة، ثم يسري إلى غيرها من عضلات الجسم كله إذا اشتد الباعث على الضحك.
ولا تناقض بين هذا وبين قول برجسون: إننا نضحك من الإنسان إذا تصرف في حركاته وأقواله تصرف الآلة الصماء. فإن هذا التصرف يفاجئنا بشيء لم ننتظره من إنسان عاقل تجري أعماله على حكم المنطق الفطري الذي طبع عليه الإنسان المسمى بالحيوان الناطق أو الحيوان المنطقي بعبارة أخرى، فنحن ننتظر عملا منطقيا فنرى أمامنا عملا آليا على غير انتظار أو على خلاف المنتظر، وهذه هي المفاجأة التي ترجع بنا إلى تفسير داروين وسبنسر، وقد ضحك الإنسان من النقائض المفاجئة قبل شيوع الآلات وخلق له جهاز الضحك قبل احتقاره التشبه بالآلة.
وقول برجسون: «إن الضحك تنبيه اجتماعي لمن يذهلون عن آداب البيئة.» لا ينقض هذا السبب؛ لأنه فائدة من فوائد الضحك لا تفسر أسبابه ولكنها تدل على غاية من غاياته، والفرق ظاهر بين الأسباب والغايات.
ويرجع بنا رأي فرويد إلى المفاجأة كما يرجع بنا رأي برجسون إليها، فإن استخدام الضحك أحيانا في «الاقتصاد الشعوري» هو أيضا من قبيل الفوائد التي نستفيدها منه، وليست الفوائد كما تقدم مبطلة للأسباب.
وليس في النوادر التي تمثل بها فرويد نادرة واحدة تخلو من المفاجأة وتغنينا عن تفسير سبنسر أو تفسير داروين، فالجواب المسكت مفاجأة، والحيلة التي ترتد على صاحبها مفاجأة، والتخلص السريع بالمغالطة التي تخالف المنطق المألوف مفاجأة، وتكذيب الجواب الصادق لأن الصدق غير مألوف من صاحبه مفاجأة، وسائر النوادر التي نقلناها أو لم ننقلها ترجع بنا إلى علة المفاجأة من أقرب طريق.
وقد فرق الباحثون في الضحك بين كثير من المضحكات لاختلاف أسمائها كما تختلف كلمات السخرية أو الاستهزاء أو الدعابة أو الفكاهة.
فإذا استرسل الناظر في تتبع هذه الفروق وجد في النهاية أنها تئول إلى فروق بين أنواع الضاحكين وليست فروقا بين أنواع الضحك في أصوله، فالضحك كله مفاجأة تتحول بالفكرة أو الشعور عن مجراه.
ولكن السخرية التي تؤلم الناس أو تكشف عيوبهم ومثالبهم هي ضحك الشرير الخبيث.
والاستهزاء الذي يتعالى صاحبه على الناس هو ضحك المتكبر الذي غلظت نفسه فلا يبادلهم الشعور، أو هو ضحك العابث الذي يستخف بكل شيء ويجد الناس وهو ناظر إلى جدهم بغير اكتراث.
والدعابة التي يشترك فيها الضاحك والمضحوك منه هي ضحك القلب الطيب الذي يسر نفسه ويسر غيره بما يكشفه من هفواتهم أو يعرضه من نقائضهم، فلا يحسون أنه يفردهم بتلك النقائض أو يأخذ تلك الهفوات مأخذ الشماتة والخيلاء.
والفكاهة التي تمثل لنا المضحكات هي ضحك الفنان أو الناقد الذي يصور لنا دواعي الضحك ويبدع في تصويرها وتمثيلها، فهو مضحك وليس بأضحوكة، أو هو واضع الضحك وليس بموضوع للضاحكين.
وهذه كلها فوراق بين الضاحكين وليست فوارق بين أنواع الضحك في الصميم.
ومن الشائع جدا أن يقترن بالضحك شعور الغبطة بتفوقنا على الآخرين، ولكن لا يندر أن نضحك من أنفسنا إذا فوجئنا بالهزيمة التي لا نتوقعها في موقف نظن فيه أننا نحكم الشباك لغيرنا فإذا هو قد أفلت من تلك الشباك وأوقعنا فيها.
ومن هذه الهزيمة المفاجئة ضحك الساسة والأمراء حين بلغهم إفلات نابليون من جزيرة ألبا وعودته إلى فرنسا، وهم يحسبون أنهم وضعوه في القفص وجلسوا بعده يقررون مصير القارة الأوروبية من بعده.
ولو أنهم فوجئوا بنابليون يحاصرهم في مؤتمرهم ويهددهم لساعته في أرواحهم أو عروشهم لما ضحكوا كما ضحكوا وهم آمنون في تلك الساعة.
إلا أن هذا لا ينفي أن المفاجأة مضحكة، وأن السامع البعيد يضحك منها وإن لم يضحك منها الساسة والأمراء المحاصرون لاشتغال شعورهم بالخطر القريب؛ ولهذا يبقى عنصر المفاجأة قائما في تفسير أسباب الضحك. ويختلف الأمر بحسب الضاحكين في الشعور بالخطر ساعة المفاجأة، فمن كان قريبا شغله الخوف عن الضحك، ومن كان بعيدا لم يشغله عنه خوف عاجل يغطي على شعوره في تلك الساعة.
ويتساوى في هذا الشعور بالضحك والشعور بالجمال والشعور باللذة، فلو كان المعروض على مؤتمر الساسة فتنة من فتن الزهرة ربة الجمال وحاصرهم العدو المهدد لحياتهم؛ لشغلهم الخطر عن الشعور بذلك الجمال الفتان، ولو كانت مائدة طعام جمعت ما لذ وطاب بين أيديهم ثم حوصروا ذلك الحصار لشغلهم الخطر كذلك عن طلب الطعام اللذيذ وعن طلب القوت.
فلا يلزم إذن أن نقول إن الشيء المضحك هو الشيء المشوه الذي لم يبلغ درجة الإيلام؛ لأن بلوغ درجة الإيلام يعطل كل شعور ولا يعطل الشعور بالمضحكات دون سواها.
وصحيح - بعد هذا - أن نجمل التفسيرات جميعا فنقول إن الضحك ينجم عن مفاجأة تتحول بالفكر وبالشعور عن مجراه، وإن الاختلاف بين السخرية والاستهزاء والدعابة والفكاهة لا يلجئنا إلى البحث عن اختلاف في أنواع الضحك؛ لأنه هو في لبابه اختلاف بين الضاحكين.
الفصل الرابع
الضحك في الكتب الدينية
في القرآن الكريم
لا يتقابل شعوران من طرفي التعظيم والاستخفاف كما يتقابل الشعور بالمقدس والشعور بالمضحك في النفس البشرية.
ولا يوجد لنا مرجع نعتمد عليه في هذه المقابلة الواقعية أولى بالرجوع إليه من الكتب المقدسة، ولا سيما الكتب التي تسوق العبرة من القصص والأمثال وتروي الأخبار عن الضحك والضاحكين من مختلف الطبائع والأمزجة وفي مختلف المناسبات.
وهذه الأخبار متكررة في القرآن الكريم، وكلها شاهد محكم للعالم النفساني يركن إليه في تفسيره لأطوار النفس البشرية، حيث تبرز حقيقة الضحك مع سياق الكلام عنه في كلام مقدس؛ لبروز الفارق بين الشعورين: شعور القداسة في موضعها، وشعور الضحك بشتى معانيه.
جاءت الإشارة إلى الضحك في القرآن الكريم مرة في قصة إبراهيم، ومرة في قصة سليمان عليهما السلام.
ففي قصة إبراهيم يقول إبراهيم حين زاره الملائكة فلم يعرفهم وخافهم، ثم بشروه بولادة إسحاق من زوجته سارة:
فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط * وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب * قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب [هود: 70-72].
فهنا خوف فاطمئنان فبشرى مفاجئة على غير انتظار، فتعجب لا تملك سارة أن تجهر به فتقول:
إن هذا لشيء عجيب .
كل عوامل الضحك النفسية التي ظهرت للباحثين النفسانيين في تفسيراتهم تعرضها هذه الآية الكريمة على نسقها المتتابع فتأتي بالضحك حيث يأتي الضحك مطردا في مواضعه المختلفة من تحول الشعور طمأنينة بعد خوف، ومعرفة بعد نكران، وبشارة بما ليس في الحسبان من الولادة بعد سن اليأس وخيبة الأمل في الذرية زمنا طويلا تعتلج فيه النفس بأشتات من دواعي الحزن والعزاء والغيرة والتسليم.
ولا تغني هنا كلمة «سرت، أو كلمة استبشرت، أو فرحت» في مكان كلمة «ضحكت»؛ فإن الضحك هو الأثر الملائم لهذه الحالة التي تشابكت فأصبحت في قرارة النفس حالات متناقضات. •••
وجاء في القرآن الكريم عن قصة سليمان عليه السلام:
حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون * فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه [النمل: 18-19].
فهاهنا عوامل الضحك على سجيتها ماثلة في نقائضها الدقيقة ومصاحباتها التي تقترن بها على حسب هذه المناسبة دون غيرها، وهي مناسبة مخالفة في بعض أجزائها لمناسبة الضحك في قصة إبراهيم.
هنا الفارق الشاسع بين ضآلة النمل وبين ضخامة الملك الذي أوتيه سليمان.
وهنا عجب سليمان من ظن النملة أنه لا يدري بموقعها ولا يشعر بها ولا يفهم عنها ما تقول.
وهنا رضي سليمان بما تفيضه نعمة الملك العريض في نفسه من السعة والغبطة وتلهمه من الشكر والخشوع، وكل ذلك آت من حيث لا ينتظر، من نملة ضئيلة تخشى أن تحطم هي وواديها كله ولا يشعر بهم سليمان العظيم.
وورد الضحك في آيات متفرقة بمعنى السخرية والاستهزاء، فجاء في سورة المطففين:
إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون * وإذا مروا بهم يتغامزون * وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين * وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون * وما أرسلوا عليهم حافظين * فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون * على الأرائك ينظرون [المطففين: 29-35].
فالضحك هنا مقترن بالتغامز الخفي، كأنما يحسب المستهزئون أنهم يستغفلون المؤمنين الذين يمرون بهم فيسخرون منهم بالتغامز بينهم، ويضحكون إذا التفت إليهم المؤمنون على حين فجأة فلا يملكون إخفاء العبث والسخرية، كما يحدث دائما بين المتغامزين إذا انكشفوا وامتنع عليهم الكتمان والتمادي في الاستهزاء من وراء الأنظار.
والضحك الأخير يأتي حين لم يكن في الحسبان؛ لأن الكفار كانوا يضحكون فإذا بهم قد انقلب عليهم الأمر فهم أضحوكة للضاحكين، وهؤلاء وادعون على الأرائك ينظرون.
وجاء في سورة الزخرف:
ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فقال إني رسول رب العالمين * فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون [الزخرف: 46-47].
وضحك المفاجأة هنا واضح من طلب الآيات ثم إخلاف ظن موسى - عليه السلام - لأنهم عبثوا به وهو ينتظر منهم بعد مجيئهم بالآيات أن يؤمنوا ، فإذا هم يفاجئونه بما لم ينتظر من إصرارهم على الكفران.
ولا بد في كل ضحك من الشعور بالمفاجأة في الضحك أو فيمن يتعرض للضحك، فهو شعور ملازم للمضحكات من طرفيها.
وفي سورة النجم عن نوح عليه السلام:
وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى * والمؤتفكة أهوى * فغشاها ما غشى * فبأي آلاء ربك تتمارى * هذا نذير من النذر الأولى * أزفت الآزفة * ليس لها من دون الله كاشفة * أفمن هذا الحديث تعجبون * وتضحكون ولا تبكون * وأنتم سامدون * فاسجدوا لله واعبدوا [النجم: 52-62].
ففي هذه الآيات يحسب الرسول أنه يأتيهم بما يبكيهم فلا يحسون داعية للبكاء ويستغربون، فينتقل بهم الاستغراب من أحاديث الرسول عن نذير الآزفة المطبقة إلى الأمان الذي يتصورونه ولا يحسون غيره. وبين هذين النقيضين المتباعدين يتعجب القوم ويضحكون، موقف لا وسط فيه بين البكاء والضحك، فإما أن يحس السامع نذير الآزفة فيبكي، أو يستغربها ويستبعدها فيضحك تعجبا من كلام القائل واطمئنانه إلى الأمان الذي يقال لهم إنهم مهددون فيه.
والضحك من البلاء الذي لا يحسه السامع ويحس نقيضه كالضحك من البلاء الذي يحسه ويحس أنه ناج منه، وقد تكرر ذكر الضحك بهذا المعنى فجاء في سورة التوبة عن المخلفين الذين فرحوا بمقعدهم عن القتال:
فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون * فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون [التوبة: 81-82].
وهذا الضحك أيضا مقرون بالسماع عن الخطر مع الشعور بالأمان، فهو - كما تقدم - كالشعور بالخطر حيث يغلب اليقين بامتناعه أو يمتنع بعد نذير لا يخيف.
وقد ورد في القرآن الكريم ذكر الضحك بمعنى السرور؛ لأنه يلازمه في معظم دواعيه ومظاهره.
وورد ذكر السخرية والاستهزاء، وهما في أكثر الآيات بمعنى الاستخفاف والكبرياء، أو بمعنى التردد بين حالتين: حالة ظاهرة وحالة باطنة تناقضها، ولا يخفى أن نقل الشعور بين هاتين الحالتين سبب من أسباب الضحك على اختلاف الضاحكين:
وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون * الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون [البقرة: 14-15].
وما من آية ورد فيها ذكر السخرية إلا كان فيما تحتويه شعور قوم فارغين باجتهاد الأنبياء وندائهم في غير طائل على ما يبدو لأولئك الفارغين، ويتكرر هذا الضرب من السخرية في قصة نوح؛ لأنه من جهة ينذر ويحذر ويتوعد بالغضب المحيق، وهم من جهتهم وادعون غافلون يمرون به وهو جاهد في عمل الفلك فيتضاحكون:
ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون * فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم [هود: 38-39].
وكلا الجانبين - جانب نوح وجانب قومه - فيه أمان مع خوف يتناقضان، وفيه ثقة تناقض الثقة التي تقابلها، فكلاهما عنده سبب للسخرية بين هذين النقيضين.
في التوراة
وقد مر بنا استشهاد الفيلسوف العبري بالتوراة عن ضحك الإله ممن يغترون بقدرتهم ويعتزمون أمورا يجترئون عليها ثم يعجزون عنها.
وهذا الشاهد مأخوذ من المزمور الثاني الذي يقول ناظمه إنه يسمع دعوى المغرورين فيضحك لأنه أخبر منهم بما يريده الرب على عرشه، وهذا نص المزمور:
لماذا ارتجت الأمم وتفكر الشعوب في الباطل؟
قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معا على الرب وعلى مسيحه، لنقطع قيودهما ولنطرح عنا ربطهما.
الساكن في السماوات يضحك.
الرب يستهزئ بهم، وحينئذ يتكلم عليهم بغضبه ويرجفهم بغيظه. أما أنا فقد مسحت ملكي على صهيون جبل قدسي.
إنني أخبر من جهة قضاء الرب.
فالضحك هنا يترجم عن حالتين متناقضتين: إحداهما غرور ظاهر بالقوة، والأخرى حقيقة هذا الغرور العاجز الذي لا قبل له بما يدعيه.
والاختلاف بين هاتين الحالتين هو مثار الضحك مجازا بالنسبة للإله، وحقيقة بالنسبة إلى الإنسان.
وجميع ما ورد في العهد القديم عن الضحك فإنما يفهم الضحك فيه بمعنى الاستهزاء والسخرية إذا كان من المنكرين، وبمعنى الاستغراب والدهشة إذا كان من المؤمنين.
وجميع هذه الشواهد ينحى على المستهزئين؛ لأنهم يستكبرون ولا يصدقون، فهم يستهزئون بالأنبياء لأنهم يرونهم بأعينهم مدعين القدرة ظاهرا وعلى غير شيء في الباطن، والأنبياء يستهزئون بهم؛ لأنهم يرون الحقيقة معكوسة من جانبهم على أولئك المنكرين المستكبرين، فهؤلاء المنكرون المستكبرون هم الذين ينتفخون على هواء، ويرى النبي صورتهم المنتفخة وصورتهم الخاوية فيرى منهم تناقضا يوحي بالاستهزاء، ولا سيما حين يغتر أصحابه فيستهزئون بالعارفين.
ففي سفر أشعيا يقول النبي عن الأمراء والسادة: «اسمعوا كلام الرب يا رجال الهزء، ولاة هذا الشعب الذي في أورشليم.»
وفي «الأمثال» من الإصحاح الأول كلام عن ضحك الشماتة والاستهزاء يقول فيه صاحب السفر: «إني دعوت فأبيتم ومددت يدي وليس من يبالي، بل رفضتم كل مشورتي ولم ترضوا توبيخي، فأنا أيضا أضحك عند بليتكم، أشمت عند مجيء خوفكم.»
وليس أكثر في كتاب «الأمثال» من الإشارة إلى الاستهزاء بمعنى الكبرياء والغرور والجهالة، ومن الإشارة إلى جزاء المستهزئ وأثره السيئ في قومه وحكمة تأديبه لينتفع الحمقى بعبرته ويزدجروا بالنظر إلى مصيره.
قال: المستهزئ يطلب الحكمة ولا يجدها.
وقال: المنتفخ المتكبر اسمه مستهزئ عامل بفيضان الكبرياء.
وقال: اضرب المستهزئ فيتذكى الأحمق.
وقال: بمعاقبة المستهزئ يصير الأحمق حكيما.
وقال: المستهزئون يفتنون المدينة، أما الحكماء فيصرفون الغضب.
وقال: الابن الحكيم يقبل تأديب أبيه، والمستهزئ لا يسمع انتهارا. •••
وكتاب «الأمثال» أكثر الكتب في العهد القديم إشارة إلى الهزء والاستهزاء وهو تكرار يوافق طبيعة السفر كله؛ لأن الأمثال سفر الحكمة والتجربة وهما نقيض الاستهزاء الذي يستخف صاحبه بجميع الأمور ولا يزال كذلك حتى تهديه تجارب الأيام إلى الاعتبار بالحوادث وبعد النظر في عواقب الأمور، فإذا هو ينظر إليها كما قال الشاعر العربي:
أمور يضحك السفهاء منها
ويبكي من عواقبها اللبيب
وليس في كتب العهد القديم كتاب تكررت فيه الإشارة إلى الاستهزاء كما تكررت في كتاب «الأمثال»، ولكنه جاء في بعض الكتب على ندرة واختلاف يسير في المعنى، وكادت قصة سارة في سفر التكوين أن تنم عن ضحك بمعنى الاستغراب والاستعظام؛ لأنها لا تستهزئ بالبشارة ولكنها تستغربها ولا تطمئن إليها لأول وهلة، ولهذا يروي الإصحاح الثالث عشر عنها أنها ضحكت في باطنها وأنها أنكرت الضحك حين سمعت من ضيوف إبراهيم سؤالا فيه شيء من صبغة الملام:
وقالوا له: أين سارة امرأتك؟ فقال: ها هي في الخيمة، فقال: إني أرجع إليك نحو زمان الحياة - أي الربيع - ويكون لسارة امرأتك ابن. وكانت سارة سامعة في باب الخيمة وهو وراءه، وكان إبراهيم وسارة شيخين متقدمين في الأيام، وقد انقطع أن يكون لسارة عادة كالنساء فضحكت سارة في باطنها قائلة: أبعد فنائي يكون لي تنعم وسيدي قد شاخ؟ فقال الرب لإبراهيم: لماذا ضحكت سارة قائلة: أفبالحقيقة ألد وأنا قد شخت؟ هل يستحيل على الرب شيء؟ في الميعاد أرجع إليك نحو زمان الحياة ويكون لسارة ابن، فأنكرت سارة قائلة: لم أضحك؛ لأنها خافت، فقال: لا، بل ضحكت.
فالمواضع التي ورد فيها الضحك في كتب العهد القديم إنما كانت تنديدا بخليقة الاستهزاء والسخرية، أو كانت بمعنى الاستهزاء الذي يرد الاستهزاء على أصحابه، ومن هذا القبيل ما ينسب إلى الإله أو إلى عباده الصالحين.
وبهذا المعنى نسب إلى أيوب حيث جاء في سفره: «لا ترفض تأديب القدر؛ لأنه هو يجرح ويعصب، يسحق ويداه تشفيان، في ست شدائد ينجيك وفي سبع لا يمسك بسوء، في الجوع يفديك من الموت وفي الحرب من حد السيف، ومن سوط اللسان، فلا تخاف من الخراب إذا جاء ... تضحك على الخراب والمحل ولا تخشى وحوش الأرض.»
وهنا يعود أيوب فيهزأ بالخراب والمحل بعد أن كان ضحكة لهما أو ضحكة للهازلين الذين حسبوه فريسة لهما وحسبوا ألا نجاة له من مصابه بهما وبغيرهما من ضروب المحنة والبلاء.
لا جرم يقال عن الضحك بمعنى الاستهزاء، كما جاء في الأمثال: «إنه في الضحك يكتئب القلب وعاقبة الفرح حزن»، أو كما جاء في الجامعة: «إن الحزن خير من الضحك؛ لأنه بكآبة الوجه يصلح القلب.»
ولم يذكر الاستهزاء بخير في كتب العهد القديم إلا أن يكون ردا على المستهزئين وعقابا للسخرية والمجون.
على أن الضحك قد ورد في العهد القديم بمعنى السرور مقابلا للحزن مصحوبا بالغناء ، كما جاء في المزامير بعد رد السبي: «إننا ... حينئذ امتلأت أفواهنا ضحكا وألسنتنا ترنما.»
ولا يلزم في هذا المعنى تفسير الضحك بالأسباب التي أجملناها فيما تقدم، ولكنه - على هذا - لا يخلو من الشعور بالنقيض بعد النقيض؛ إذ ينتقل المرء من الأسر إلى الطلاقة، فيعبر عن فرحه بالضحك والغناء.
في الإنجيل
أما في العهد الجديد فقد جاء ذكر الضحك في إنجيل لوقا على لسان السيد المسيح حيث يقول وقد رفع عينيه إلى تلاميذه:
ورفع عينيه إلى تلاميذه وقال طوباكم أيها المساكين؛ لأن لكم ملكوت الله. طوباكم أيها الجياع الآن؛ لأنكم تشبعون. طوباكم أيها الباكون الآن لأنكم ستضحكون.
وهنا يأتي الضحك مقابلا للبكاء ولا يخلو من دواعي الضحك في جميع الأحوال وأهمها تبدل الحالة والمقابلة بين النقيضين. •••
وهذه الشواهد من هذه الكتب الدينية التي يقرؤها المؤمنون بها ويقدسون ما فيها خير ما يستشهد به على طبيعة الضحك في حالات متعددة؛ لأن هذه الدواعي تبرز في مواضعها بروزا واضحا بما يقابلها من شعور القداسة، وتنبئنا عن أناس متباعدين في الأزمنة والأمكنة والطبائع والأخلاق، فنعلم أن الإنسان إنسان في كل زمان ومكان، وأن الضحك خاصة إنسانية تعم بني الإنسان.
الفصل الخامس
الإنسانية والفكاهة
أيا ما كان القول في تعريف الضحك وتعليله، فمن أصح الأقوال مع جميع التعريفات والتعليلات أن الضحك - كما قال برجسون - ملكة إنسانية من طرفيها، فلا يضحك إلا إنسان، وما من شيء يضحكنا إلا أن يكون «إنسانيا» في صورة من صوره، ولو على سبيل التشبيه.
ولنا أن نقول إن الإنسان حيوان ضاحك، كما نقول إن الإنسان حيوان ناطق.
أفنعني بذلك أن كل إنسان يضحك بلا استثناء؟
كلا، إلا كما نعني أن كل إنسان ينطق ويفكر ويتكلم بلا استثناء.
فهناك خرس لا ينطقون، وهناك بله لا يفكرون، وهناك صغار أو همج تتولاهم الغرائز على نحو قريب من سيطرة الغرائز على الأحياء التي لا تساوي البشر في الخلق أو في الذكاء.
ولكننا مع ذلك نقول إن الإنسان حيوان ناطق، ونريد بذلك أنه ناطق «بالقوة » على اصطلاح المناطقة، أو بالاستعداد العام في أبناء نوعه كما نقول في عرف المصطلحين، وكذلك يقال إن الإنسان حيوان ضاحك، ومنه جماعات بدائية لا تفهم الضحك ولا تدري موقعه من أعمال الناس، ولا تميز بين المضحكات وغيرها من الأعمال المخالفة للمألوف؛ لأن مخالفة المألوف بين أبنائها ظاهرة نادرة جدا لانطباعهم على العرف المتوارث الذي لا يخالفونه إلا وقعوا في محظور «المحرمات» ... مع قصورهم عن المقارنة التي تتضح منها النقائض ومواطن الضحك أو الاستغراب.
ولعل هذا العجز عن الضحك في هذا الطور من أطوار الإنسانية معزز لقول القائلين: إن الضحك خاصة إنسانية لا يشترك فيها عامة الأحياء، فلا يضحك الإنسان وهو - بعد - قريب من أطوار الحيوانية في حكم الغريزة وغلبة العادة على التفكير، وإذا رجعنا إلى تفسير برجسون في هذا الصدد فلا محل للمفاجأة هنا من جريان الإنسان على سنة الآلات في اطراد العمل بغير تفكير، فإن القبائل البدائية المغرقة في الهمجية تجري كلها على هذه السنة، ولا يكون فيها مخالفا للمألوف إلا الذي يشذ بالتصرف على خلاف الوتيرة المطردة والنهج المرسوم.
أما بعد هذا الطور من الهمجية البدائية فالشعوب جميعا تعرف الضحك وتعرف واضعه وموضوعه بالتجربة العملية، وإن لم تعرفهما بالتفسير والتقسيم.
ونريد بواضع الضحك من يخلقه بتمثيل المضحكات واختراعها وحكايتها كالفنانين والندماء.
ونريد بموضوع الضحك من يكونون أضحوكة الناس بالغفلة أو النقص أو التصرف المتناقض الذي يحول شعور ناظره من وجهة إلى وجهة على حين غرة على الإجمال.
الأمم الضاحكة
وقد جرت عادة المعاصرين على وصف بعض الأمم بالفكاهة وتجريد بعضها منها، أو وصفها بجهلها وبطء الإحساس بها عند المقابلة بينها وبين الأمم «الفكاهية».
والثابت الذي لا شك فيه عن جميع الأمم أنها أخرجت نوابغ الفكاهة في جميع أجيالها، وأنها في العصر الحاضر تمثل الفكاهيات وتعرضها على جمهرة من أبنائها، فلا توجد أمة متحضرة لها تاريخ قديم خلت من نوابغ الفكاهة ومن آثار هؤلاء النوابغ في الآداب والفنون.
ولكننا نرى أن إحصاء النوابغ هنا لا يفيدنا كما يفيدنا دليل الأمثال التي يتداولها الناس ويتوارثونها جيلا بعد جيل، فإن آثار النوابغ قد تكون مقتصرة عليهم وعلى فئة من قرائهم أو من القادرين على الاستمتاع بفكاهتهم، ولكن الأمثال الشائعة ترجمان صادق لتفكير الأمة وشعورها وطريقتها في التعبير عن تجاربها، وهذه الطريقة تكاد أن تتفق في جميع الأمم أو تتقارب غاية التقارب في المضامين والمرامي وإن لم تتقارب في اللفظ والتركيب.
وهذه أمثال الأمم بين أيدينا تقترن فيها الحكمة، أو تأتي فيها الحكمة من طريق الفكاهة على أسلوب تمتزج فيه السخرية بالتهكم والعطف والدعابة، وتؤخذ فيه الحكمة مأخذ الجد والمزاح في وقت واحد؛ لأنها تشير إلى عواقب الخطل والحماقة إشارة التعقيب بعد مرور المئات من الأمثلة والقرائن والمناسبات، فهي تتكلم في أمان بعد فوات الضرر وقبل وقوعه على المقصودين بالنصيحة والتذكير.
وعلى سبيل التمثيل بالواقع نستشهد هنا بالأمثال في أمتين من أمم المشرق وأمتين من أمم المغرب، يقال عن إحداهما إنها أمة ذات فكاهة أو أمة فكاهية، ويقال عن الأخرى إنها لا تفطن للفكاهة وإنها اشتهرت بالجهامة وأخذ الأمور كلها بالجد والصراحة التي لا تعرف التورية والتلميح.
ففي المشرق أمة الفرس مشهورة بالنكات القديمة والحديثة من عهد الحضارة الكسروية، وأمة اليابان مشهورة بالكد والدأب والانصباب على العمل والتكليف.
وفي المغرب تقابل هاتين الأمتين الأمة الفرنسية في صفة الفكاهة، والأمة الألمانية في صفة الجد والجهامة.
وهذه طائفة من أمثلة الأمة الفارسية - التي يقال عنها إنها فرنسا الشرق - نتبعها بطائفة من أمثلة الأمة اليابانية بغير اختيار بين صفحات الكتب الجامعة لأمثال هاتين الأمتين.
أمثال فارسية
الصدق والسكر زميلان.
الحب والعطر لا يختبئان.
الخادم الجديد أسبق من الغزال.
ليس القلب مائدة تبسط لكل ضيف.
الذهب والحجر من معدن واحد في الصندوق.
الخائط عريان والإسكاف حاف.
الجاهل لا نفع فيه، لا هو إنسان ولا هو حمار.
يبيع الجلد قبل صيد الغزال.
من دواعي الرثاء أن تنفق الذهب في الطلاء.
لا لزوم للسمك في بركة بلا ماء.
الكلام يلد الماء والأمطار تلد الثلوج.
ما الفائدة؟ عندما أستطيع لا أعرف وعندما أعرف لا أستطيع! •••
وهذه متفرقات بعددها - اثنا عشر - من أمثال الأمة اليابانية في معارض شتى من حكمة الحياة:
الحب لا يميز بين «الميكاد» والفلاح.
قد ترى السماء من ثقب إبرة.
صدر الإنسان أصون الصناديق لأسراره.
نصف الناس يضحكون من النصف الآخر، والنصفان حمقى.
إذا تقدمت الحماقة رجعت الحكمة.
أعتى العواصف لا تثير الموج في أعمق الآبار.
ما من شجرة تحمل الأرز مطبوخا.
لا السكير يدري بعار الخمر ولا المفيق يدري بسلطانها.
لا يرجع الضحك بما أذهبه الغضب.
المبالغة في التحية ازدراء.
أجمل الغلال نبت في حقول الآخرين.
اقرص نفسك تعلم لماذا يصيح المقروص.
والأمة الفرنسية أشهر أمم الغرب بالفكاهة فيما تداولته الألسنة من شهرة الأمم. وهذه متفرقات من أمثالها:
لا تذهب الفضيلة بعيدا إلا أن يكون الغرور في ركابها.
حب الذات أبرع المتملقين.
المذنب المحبوب سرعان ما تنكشف براءته.
خيال بلا علم أجنحة بلا أقدام.
الحمقى القدماء أحمق من إخوانهم المحدثين.
البساطة المفتعلة تكلف مطلي.
لا يقول عن الحظ إنه أعمى إلا الذي لا يراه.
تزيدنا السن حمقا كلما زادتنا حكمة.
أصدقاؤنا الأعزاء يقولون كما نقول.
الحب مملكة المرأة.
للقلب منطق لا يعرفه المنطق.
الذي يحسن الحساب لا يثق في حساب. •••
وتلي هذه الأمثال الفرنسية طائفة في مثل عددها من الأمثال الألمانية، وهذه هي:
سفينة وتدها من الذهب ترسو في كل ميناء.
إن لم تكن مطرقة فكن سندانا.
الكيس الفارغ لا يقف مستقيما.
بطن فارغ أشجع من رأس ملآن.
الضرير أقل عثرات من البصير.
من بدأ بالألف انتهى إلى الياء.
التخمة أقتل من الجوع.
طريق الشحاذ لا ضلال فيه.
آدم وحواء أكلا التفاحة، ونحن نطالب بقائمة الحساب.
امرأتان طيبتان في الدنيا: إحداهما ماتت والأخرى مفقودة!
المرأة التي لا يصحبها أحد يصحبها الجميع.
يضحك من الندوب من لم يعرف الجراح. •••
وهذه اثنا عشر مثلا من كل أمة مشهورة بالفكاهة أو مشهورة بالجهامة، غير أننا لو جعلناها عشرة أضعافها لما تغيرت نسبة الموازنة بينها، ولا خرجنا منها بتفضيل حاسم لأمة على أمة حين نقتبس فكاهة الأمم من تجاربها وأمثالها، فكلها سواء في مزج الجانب المضحك بالجانب الحكيم من تجارب الحياة المتكررة. ولا شك أن هذه التجارب وهذه التعبيرات عنها أدل على ملكة الفكاهة الشائعة بين بني الإنسان من الأقوال المتفرقة على ألسنة الآحاد. •••
وهناك مقياس آخر للفكاهة الشائعة بين بني الإنسان نرجع فيه إلى مواسم الفكاهة التي تعرض لجميع الأمم في حالات متماثلة، وهي حالات التنفيس عن الحرج أو حالات التمرد والاحتجاج على البدع الشائعة، ولا سيما البدع التي حان لها أن تزول أو تبدلت دواعيها بتبدل الأحوال.
وشعوب الصقالبة في أوروبا الشرقية وأوروبا الوسطى من الشعوب التي اشتهرت بجهل النكتة وخشونة الفطرة وقلة الفطنة لكل معنى في القول غير معناه الصريح الذي يفهم على وجه واحد ولا يفهم على وجهين كما يغلب على جميع المضحكات.
إلا أن هذه الشعوب قد رويت عنها نوادر في موسم الحرج لا تفضلها من نوعها نوادر الشعوب الغربية في أمثال هذه المواسم.
وهذه متفرقات من تلك النوادر مأخوذة من الصحف أو من مجاميع الفكاهة العالمية التي تصدر من حين إلى حين وتتمثل فيها أمزجة الأمم التي تروى تلك النوادر عنها على غير قصد من جامعيها:
أرادت إذاعة روسية أن تطلع الفلاحين على أجهزة الإذاعة، وأن يشترك كل منهم في إرسال الحديث إلى العالم بكلمة واحدة لا يزيد عليها، فلما تقدم الفلاح الأول وسئل أن ينادي بالكلمة الوحيدة صاح بملء فيه: النجدة!
وطاف مفتش من مفتشي الدعاية بين الفلاحين المتذمرين فقال في بعض القرى للشاكين من قلة الطعام والكساء: «ماذا تقولون؟ أتشكون من أبدع المذاهب الاجتماعية من أجل لقمة وخرقة، فماذا عساكم قائلين لو رأيتم الأفريقيين العراة الذين لا يعرفون الخبز ولا الطعام المطبوخ في مجاهل القارة السوداء؟!»
فحك أحد السامعين رأسه وقال: «أظن يا حضرة الرفيق أن هؤلاء سبقونا إلى أبدع المذاهب الاجتماعية!»
وساح تاجر مجري في روسيا والأقاليم المجاورة لها، فجعل يرسل التذاكر البريدية إلى أصحابه كلما نزل بعاصمة من العواصم، فكتب في التذكرة الأولى: تحيات من موسكو الحرة، وكتب في التذكرة الثانية: تحيات من وارسو الحرة، وكتب في التذكرة الثالثة: تحيات من براغ الحرة، ثم صمت شهرا وجاءت إلى أصدقائه من باريس تذكرة يقول فيها هذه المرة: تحيات من الحر رابينوفتش!
واقترب غريب في بودابست من جندي الشرطة ليسأله عن الساعة، فنظر الشرطي إلى النوافذ وقال له: «إنها الثامنة وثلاثون دقيقة بالضبط.»
فعجب الزائر الغريب وفاتحه بعجبه قائلا: «كيف عرفتها وأنت لم تنظر في ساعتك؟»
قال الشرطي: «هذه النوافذ المغلقة في هذه اللحظة دليل على ميعاد الإذاعة الأجنبية!»
واجتمع ثلاثة مساجين في أحد المعسكرات فقال أولهم همسا: أنا هنا لأنني متهم بمشايعة راداك، وقال الثاني: أنا هنا لأنني متهم بتأييد راداك، وقال الثالث: أنا هنا لأنني راداك.
1
وقد نقلت عن الألمان في أيام هتلر حكايات يتداولها الشعب الألماني من قبيل التمرد والاحتجاج على شدة الحجر أو على البدع الاجتماعية، ونختار حكاية من كل منها تنبئ عن سائرها.
فمن حكايات التمرد على الحجر وسوء الحال أن رجلا ضاقت به الدنيا، فعول على الانتحار، واشترى حبلا ليشنق نفسه فانقطع الحبل ونجا الرجل من الموت؛ لأن الحبل «ارساتز» أي تقليد صناعي ... فاشترى سما من صيدلية وضاعف المقدار فلم يمت؛ لأن السم «ارساتز» أي تقليد صناعي للمواد التي تصنع منها السموم ... واشترى مسدسا وأطلقه على نفسه فلم يمت؛ لأن المسدس والرصاص كله «ارساتز» لا يميت ... فلما يئس من الموت عدل عن الانتحار، وأجمع عزيمته على البقاء واحتمال الحياة على علاتها، وذهب إلى مطعم أكل فيه وشرب وأفرط في أكل اللحوم وشرب الجعة تعويضا لما فاته من متعة الحياة في اليومين السابقين فمات في هذه المرة؛ لأن الطعام والشراب «ارساتز!»
وشاع بين الفتيات زي الملابس القصيرة التي تكشف عن الصدور والسواعد والسيقان، وعاد أحد الأزواج إلى بيته في بعض تلك الأيام فاستقبلته زوجته متهللة وقالت له: أتدري يا فلان؟! إنهم يبيعون الفساتين بالتقسيط على عشرة أقساط، وقد انتهزت الفرصة واشتريت فستانا يوفر عليك سداد ثمنه الكبير دفعة واحدة.
فنظر الزوج إلى امرأته التي كادت أن تبدو أمامه بغير كساء، وقال وهو يظهر الموافقة على مضض: أظن أن هذا هو القسط الأول من الفستان!
النوادر القراقوشية
إن الاستعداد لتأليف الفكاهة التي تنفس بها الأمم عن صدورها في أوقات الحرج يكاد يتساوى بين جميع الأمم ومنها - أو في مقدمتها - الأمم التي لم تشتهر بالنكتة واشتهرت على نقيض ذلك بأنها تجهلها ولا تحسنها.
ونقول إن هذه الأمم في مقدمة الأمم التي تؤلف النكات في هذا الغرض؛ لأنها في الغالب هي الأمم التي تبتلى بالحرج وتعز عليها حرية القول، فلا يوجد في العصر الحاضر نظير لهذه النوادر في الأمم التي تملك حرية النقد وتجهر بآرائها في حكومتها وحكامها، ولا محل للمقارنة بين الشعوب الأوروبية في هذا الباب من أبواب الفكاهة؛ لأنها لا تتساوى في ظروفه ودواعيه، وإنما تستطاع المقارنة بين النكات المتقدمة والنكات التي شاعت في مصر على عهد «قراقوش»، ودونها «ابن مماتي» في كتابه المسمى «الفاشوش في حكم قراقوش» وليست كلها من تأليفه وابتكاره، بل هي مما يشيع مجهول المصدر ثم يقاس عليه ويظل في طي الكتمان إلى حين.
وإحدى هذه النوادر أو النكات قد سبق لها نظير في النوادر التي استشهد بها فرويد وهي نادرة الحداد المحكوم عليه بالموت.
قيل إن غلاما لقراقوش قتل نفسا فحكم عليه بالشنق، ثم تشفع لديه الشفعاء وقالوا له: إنه حدادك ينعل لك الفرس ويخدمك، فإن شنقته لم تجد غيره، فنظر قراقوش ناحية الباب ووقعت عينه على رجل قفاص فقال: هذا القفاص لا حاجة بنا إليه، فاشنقوه في مكان الراكبدار. وهي وظيفة الغلام الحداد عنده!
وعلى هذا المثال تجري النوادر «القراقوشية» التي أثبتها «ابن مماتي» في كتابه أو تناقلها الرواة على لسان غيره.
ومنها نادرة الرجل الذي أوثقه الناس وحموله حيا ليدفنوه وهو يصيح في النعش مستغيثا بقراقوش، فلما سمعه قراقوش ترك المشيعين يمضون به وقال له: ويحك! لا أصدقك وأكذب مائة من ورائك!
وقيل إن قراقوش نشر قميصه فوقع القميص من الحبل ، فتصدق بألف درهم وقال: لو كنت ألبسه ساعة وقوعه لانكسرت.
وقيل إن جنديا نزل في مركب، وكان به فلاح وزوجته وهي حامل في سبعة أشهر، فصدمها الجندي وأسقط حملها، فأخذ زوجها بتلابيبه وقاده إلى قراقوش، فقضى على الجندي أن يأخذ الزوجة ويطعمها ويكسوها ولا يعيدها إلى زوجها إلا وهي حامل في سبعة أشهر!
وشكا إليه مدين أنه يجمع دينه ويذهب به إلى صاحب الدين فلا يجده، ثم يأتي هذا فيطالبه ويلح عليه وهو خالي الوفاض لا يملك السداد، فأمر قراقوش بحبس صاحب الدين حتى يعرف المدين موضعه متى جمع المال المطلوب منه، ولا يضيع الدين على صاحبه بين البحث والتأجيل!
وكان لقراقوش باز يصيد به، فطار الباز ولم يعد إليه، فأمر بإغلاق أبواب المدينة ليرجع الباز إليه إذا أغلقت جميع الأبواب!
وشكا إليه الفلاحون بردا أصاب القطن وأتلفه والتمسوا منه أن يعفيهم من الضريبة ذلك العام، فأبى أن يعفيهم لأن القطن إنما أصيب بالبرد لإهمالهم وقلة درايتهم، ولو زرعوا معه صوفا لما أصابه التلف من برد الشتاء! •••
ومن باب هذه الحكايات عن قراقوش حكايات كثيرة يتناقلها المصريون عن الحكم التركي في عصر المماليك وبعد عصرهم إلى أيام الخديو إسماعيل.
ومنها أن حاكما تعود أن يقترض مالا من بعض الصيارفة ويكتب له وثيقة به ثم يأمره بابتلاعها إذا جاءه في الموعد مطالبا بحقه، ولا يزال يقترض ويأبى السداد على هذا النحو ويضيف الدين الجديد إلى الديون القديمة حتى يئس الصيرفي من سداد جميع الديون، فلما استدعى الصيرفي بعد ذلك جاءه ومعه ورقة شفافة ورجاه أن يكتب الوثيقة عليها؛ ليسهل عليه ابتلاعها في موعد السداد.
ومنها أن واليا كان يجمع الضرائب ولا يقبل عذرا في تأخيرها، ولا يزال يقول لمن يعتذر بقلة المال: ماذا؟ أليس لديك أربعون ريالا ...؟
وعلم القوم من تكرار هذه «الأربعين» أن الرجل يملك أربعين ريالا فلا يصدق أن أحدا لا يملكها مثله، ونقبوا عن دفائنه حتى عثروا بالثروة المجهولة، أو المعلومة، فلم يضرب الوالي بعدها أحدا يماطل في الضريبة، وجعل يقول لكل معتذر: من أين لك أربعون ريالا يا مسكين؟ ... أنا لا أملك ريالا واحدا من الأربعين!
ومنها أن واليا كان يصلي في أخريات أيامه، ويتبع الصلاة بالدعاء والنحيب، ويسأل الله أن يكفر له ذنوبه لأنه قتل أربعة.
وسمعه زميل له فأدهشه أن يستعظم هذا الذنب اليسير وينحب هذا النحيب من أجل أربعة قتلهم وهم في حسابه عدد غير كبير، فقال له كأنه يؤنبه: ألم تقتل في حياتك غير أربعة يا أغا؟
قال: «لا يا صاحبي ... أربعة من الترك، أما الفلاحون فلا عداد لهم فيما أذكر!» وأشباه هذه النوادر لو أحصيت لاجتمع منها مجلدات تربو على العشرات من أمثال كتاب الفاشوش عن حكم قراقوش، وهي جميعا من تأليف أمة مشهورة من قديم الزمن «بالقفش» والنكتة السريعة، فإذا قوبلت هذه النوادر بنوادر الأمم التي لم تشتهر بالفكاهة في أوروبا الحديثة؛ ظهر من المقابلة أن الاستعداد متقارب أو متساو بين جميع الأمم، وإنما تزيد النكتة المصرية بطابع خاص بها، وهو الجمع بين التنفيس عن الحرج وبين وصف الحاكمين بالغفلة والبلاهة، وسبب هذا الفارق أيضا راجع إلى الظروف الاجتماعية، لا إلى طبيعة الضحك في النفس الإنسانية، فإن الحاكم الذي تصيبه النكتة المصرية من غير أهل البلد فلا ضير من اتهامه بالغفلة والبلاهة واعتزاز المحكومين على الحاكمين بالفطنة والدراية، ولكن هذا الاعتزاز في أوروبا الحديثة يصيب المحكومين كما يصيب الحاكمين لأنهم من عنصر واحد، فلا حاجة في النكتة هنا إلى أكثر من التنفيس عن الحرج وتمثيل الحجر على الألسنة والأقلام.
فكاهات عهود التحول
وأتم من هذه المواسم الفكاهية التي تنفس بها الأمم عن صدورها فكاهة أخرى أعم وأبقى أثرا لأنها تشمل العهود المتحولة في حضارة واسعة تحيط بأمم كثيرة، وتأتي هذه الفكاهة في أوانها حين تؤذن العهود بالتحول لتزعزع أركانها وزوال مقوماتها، فينبري لها نابغ ملهم في فن النقد الفكاهي يجسمها في «شخصية» مخترعة يجعلها هدفا للسخرية والتسخيف، أو يعمد إلى شخصية خيالية قائمة يلبسها ذلك الثوب ويودعها بقايا النفاق والتكلف والتقاليد الخاوية التي تتخلف بعد أجيال عدة في أعقاب العهود الدائلة التي آذنت شمسها بالأفول.
من هذه العهود المتحولة عهد الفتك وإشباع البطون والشهوات في القرن الخامس عشر للميلاد، وقد تصدى له الأديب الفرنسي رابليه
Rabelais (1494-1553)، فمثل ملوكه وأبطاله في شخصيتين خالدتين إحداهما شخصية جارجنتوا
Gargantua
الذي يلتهم الآدميين والأنعام نهما ولا يشبع ولا يكف عن الطعام، والأخرى شخصية بكروشول
الذي ضربت نفسه بالعدوان وهانت عليه النفس البشرية، يزهقها لقليل من المال، أو لنزوة من نزوات الساعة، أو لغير شيء غير العتو والطغيان.
وليس أدل من اصطحاب هذه المساوئ في العهود الدائلة من آيات القرآن الكريم في سورة الفجر حيث تنعى دول التبابعة والفراعنة والجبابرة جميعا في أمثال هذه العهود:
ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد * وثمود الذين جابوا الصخر بالواد * وفرعون ذي الأوتاد * الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد * فصب عليهم ربك سوط عذاب * إن ربك لبالمرصاد [الفجر: 6-14] إلى قوله تعالى:
بل لا تكرمون اليتيم * ولا تحاضون على طعام المسكين * وتأكلون التراث أكلا لما * وتحبون المال حبا جما [الفجر: 17-20].
وهذه المفاسد التي جمعتها هذه الآيات هي بعينها مفاسد العهد الذي يمثله جارجنتوا في النهم ويمثله بكروشول في الفتك والعدوان، وكلاهما بعد ذلك باغ نهم على زيادة البغي في أحدهما وزيادة النهم في الآخر. •••
ومن العهود المتحولة عهد الفروسية في القرن السادس عشر بين نبلاء الإسبان على الخصوص، فإن هذا العهد قد شاخ وشاه حتى بطلت فيه النخوة والحماسة، فأصبحت أكذوبة خاوية يتعلق المخدوعون بظواهرها أو الجامدون على بقاياها. وقد تصدى لهذا العهد كاتب إسباني من طراز رابليه هو سرفانتز
Cervants
صاحب كتاب دون كيشوت الذي تضمن من أمثال العرب وكلماتهم المأثورة ما يكاد يسلكه في عداد الكتب العربية، ولم يكن ذلك عبثا أو لغوا، بل كان من تمام التعبير عن العهد الآفل؛ لأنه وافق شيوع التقاليد العربية بين الإسبان وأمم القارة الغربية.
ويعاصر هذه العهود أو يسبقها بقليل عهد الألاعيب «الشريرة» الذي فشا بين الولايات الألمانية على أيام النبلاء الذين قيل فيهم إنهم نصف أمراء ونصف قطاع طريق. وتمثلت ألاعيب هذا العهد في شخصية القروي أولنسبيجل
Eulenspiegel
الذي كان كالمسخ المشوه في تصوره لأولئك العابثين المحتالين الأشرار، ويقال إنه عاش في برونزويك وإن توماس مورنر
Murner (1475-1530) الذي جمع نوادره بعد ذيوعها نحو قرن من الزمان، ولم تثبت نسبة الكتاب إليه، ولكن ثبت ذيوع النوادر قبل ذلك بغير خلاف.
ثم جاء الكاتب البلجيكي شارل دي كوستيه
Charles de Coster (1827-1879)، فاستعار هذه الشخصية وأودعها روحا فلمنكية مرحة كادت أن تجعلها نموذجا للطبيعة الفلمنكية في سذاجتها التي آذنت بالتحول عند نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
وخاتمة المطاف في هذه المواسم الفكاهية كتاب «أعاجيب البارون منشهاوزن» الذي ألفه الكاتب الألماني رودلف أريك راسب
Raspe ، وأدار حوادثه أو نوادره على شخصية واقعية عاش صاحبها في القرن السابع عشر وعاد بعد خدمته في الجيش الروسي يصدع الأسماع بأخبار البطولة التي يرويها عن نفسه، وخوارق الشجاعة والدهاء التي امتاز بها في وقائع الحرب والسفارة بين الملوك والأمراء، ومنهم أمراء المشرق في الآستانة والقاهرة.
تلك الشخصية الواقعية هي شخصية كارل فردريك منشهاوزن (1720-1797) نموذج المفاخر المدعاة بين عصر السيف وعصر البندقية والمدفع، وإحدى أعاجيبه أنه نسي النار التي يشعل بها البارود، فأوقد زناد البندقية بضربة على عينه أطارت منها الشرر فانطلق الرصاص ... وإحدى هذه الأعاجيب أنه أراد الخروج من القلعة المحصورة فركب القذيفة التي أطلقت عليها فعادت به أدراجها إلى حيث أراد. وكانت أعاجيب منشهاوزن هذا خاتمة العهد الذي راجت فيه أباطيل البطولة بعد عصر الفروسية وقبل عصر السلاح الحديث، وراجت فيه على الجملة أخبار السياحات والرحلات مما يصدقه العقل أو لا يقبل التصديق.
وهذه فكاهات ظهرت لمناسبات متشابهة بين فرنسا وإسبانيا وألمانيا وبلجيكا وتقبلتها الأمم من المغربيين والمشرقيين حيث تداولتها أيدي القراء بمختلف اللغات، ومن هذه الأمم من اشتهرت بالفكاهة، ومنها من اشتهرت بجهلها وبطء الالتفات إليها، ولا يسع الناقد عند المفاضلة أن يرجح النكتة في إحداها على النكتة في سواها، فربما كان بعض النكات في أعاجيب منشهاوزن أبرع من نكات دون كيشوت، وربما كانت النكتة الإسبانية أحيانا أبرع من النكتة الألمانية، وعامتها من نسق واحد وطبقة واحدة تؤدي رسالتها في مناسباتها وتسجل الحقيقة التي أسفرت عنها المقابلة بين الفكاهات القومية، ودلت على أن الضحك - كالمنطق - مزية إنسانية توجد بالقوة كما توجد بالفعل حيث يوجد الإنسان، وأن اختلافها إنما هو اختلاف بين الظروف والبيئات قبل أن يكون اختلافا بين الطبائع والأصول. •••
على أن طبائع الإنسان العامة لا تمحو الفوارق بين المجتمعات في مواقعها المتباينة، ولا تمحو الفوارق بين المجتمع الواحد في الأزمنة المختلفة والأحوال المتناقضة، وليس من الطبيعي أن تكون الأمة الوادعة كالأمة الكادحة، أو الأمة الغنية كالأمة الفقيرة، أو الأمة التي طال عهدها بالحضارة ومؤنساتها كالأمة التي تحضرت بعد وحشة أو مرت بها الحضارة ناشئة متقطعة، ولا تتشابه في الجد ولا الفكاهة أمة تمرست بالمظالم والشدائد وأمة لم تتمرس بها إلا عرضا في الآونة بعد الأخرى.
فمهما تتفق طبائع الإنسان فستبقى بعد ذلك بقية للصبغة القومية في الجد والفكاهة، وفي العلم والعمل، وفي التفكير والذوق، وفي الضرورات والكماليات.
فوارق الأمم في الفكاهة
ونحن في هذه الرسالة نجمل القول في أصول الفكاهة لنستطرد منها إلى فكاهة جحا أو الفكاهة المنسوبة إليه في الأمم التي عرفته وتمثلت بحكاياته، وهي الأمة العربية والأمة الفارسية والأمة التركية. وكادت هذه الأمة - أي الأمة التركية - أن تستأثر به من معظم نوادره حتى قيل إن جحا المشهور اليوم إنما هو جحا جديد من مخلوقات البديهة التركية تنقطع الصلة بينه وبين جحا القديم الذي عرفه العرب في أمثالهم ورجع به التاريخ إلى صدر الإسلام، فلا يجمع بينهما غير التسمية باسم واحد.
وأيا كان منشؤه من الأمة التركية فهناك «جحا» تنسب إليه الحكايات في اللغة العربية واللغة الفارسية، فإذا عنينا بفوارق الأمم في الفكاهة والمضحكات فليس من غرضنا في هذه الرسالة أن نستقصي الفوارق في جميع الأمم، ولا حاجة بنا إلى أكثر من تمييز الفوارق في خصائص الفكاهة بين السليقة العربية والسليقة الفارسية والسليقة التركية، فربما أعانت هذه الفوارق على إسناد الحكايات إلى كل أمة من هذه الأمم حسب سليقتها الغالبة عليها، ولا يكون هذا الإسناد بعد كل محاولة في ميسورنا الآن إلا على سبيل الترحيب والتقريب دون الجزم والتوكيد. ونحن في هذا كمن يقول إن فلانا عربي لأنه أسمر، فيقول شيئا يستحق أن يقال لأنه لا يستحق أن يهمل، ثم لا يجاوز هذا الحد إلى توكيد النسبة مع احتمال وجود البشرة السمراء أو المسمرة بين الشعوب الشقراء، واحتمال وجود البشرة البيضاء بين العرب وغيرهم من الشعوب السمراء.
وعلى هذا النهج من التغليب والترجيح نستطيع أن نميز سليقة الأمة في عامة شئونها، ثم غير السليقة التي تنتظر منها في معارض الفكاهة؛ لأن الصورة الفكاهية نسخة من الصورة المحسوسة مبالغ فيها على مثال المبالغة في هذا الضرب من التصوير المشهور في اللغات الأوروبية باسم الكاريكاتور ... وقد وجد هذا الكاريكاتور بالتعبير اللغوي في جميع الأمم قبل أن يوجد بالخطوط والرسوم.
فمن الوصف الصادق لسليقة الأمة العربية أن نقول إنها أمة شعرية منطقية، ومن الوصف الصادق لسليقة الأمة الفارسية أن نقول إنها أمة صوفية دبلوماسية، ومن الوصف الصادق لسليقة الأمة التركية أن نقول إنها أمة عملية واقعية ...
وإلى أين تنتهي المبالغة «الكاريكاتورية» بالخيال والمنطق؟
تنتهي إلى الوهم والقياس مع الفارق أو مع الفوارق الكثيرة.
أما المبالغة الكاريكاتورية في السليقة الصوفية فقد تنتهي إلى المحال والمحاولة، وأما هذه المبالغة في السليقة العملية الواقعية فقد تنتهي إلى تحصيل الحاصل والحذلقة بما هو مفهوم مستغن عن التعريف.
وقد أعطانا الشاعر التركي المستعرب - ابن سودون اليشبغاوي من أدباء القرن التاسع بمصر والشام - مثلا للسليقة التركية لا نظير له فيما نعلم من نظم شعراء العرب والترك ولا شعراء الأمم الغربية؛ لأن أولئك الشعراء يعطوننا المثل فنأخذه من طريق التحليل والاستنتاج، ولكن ابن سودون يعطينا المثل على غير قصد منه بمنظوماته التي تعدو تحصيل الحاصل، ويرسم لنا «الكاريكاتور» بيده ولا يدع لنا أن نرسمه ونستوحي ملامحه من خلال الألفاظ ومعانيها.
ونكتفي هنا بقصيدتين من شعره الذي أراد به الإضحاك بمحاكاة أدعياء المعرفة الذين لا يزيدون في حكمتهم على تعريف المعروف.
وإحدى القصيدتين على قافية الألف المقصورة وهي:
إذا ما الفتى في الناس بالعقل قد سما
تيقن أن الأرض من فوقها السما
وأن السما من تحتها الأرض لم تزل
وبينهما أشياء إن ظهرت ترى
وإني سأبدي بعض ما قد علمته
لتعلم أني من ذوي العلم والحجى
فمن ذاك أن الناس من نسل آدم
ومنهم أبو سودون أيضا، وإن قضى
وأن أبي زوج لأمي، وأنني
أنا ابن لها والناس هم يعرفون ذا
وكم عجب عندي بمصر وغيرها
فمصر بها نيل على الطين قد جرى
وفي نيلها من نام بالليل بله
وليست تبل الشمس من نام بالضحى
بها الفجر قبل الشمس يظهر دائما
بها الظهر قبل العصر، قبل بلا مرا
وبالشام أقوام إذا ما رأيتهم
ترى ظهر كل منهم وهو من ورا
بها البدر حال الغيم يخفى ضياؤه
بها الشمس حال الصحو يبدو لها ضيا
ويسخن فيها الماء في الصيف دائما
ويبرد فيها الماء في زمن الشتا
وفي الصين صيني إذا ما طرقته
يطن كصيني طرقت سوا سوا
بها يضحك الإنسان أوقات فرحه
ويبكي زمان الحزن فيها إذا ابتلى
وفيها رجال هم خلاف نسائهم
لأنهم تبدو بأوجههم لحى
والقصيدة الأخرى البائية التي يقول فيها:
عجب عجب عجب عجب
بقر تمشي ولها ذنب
ولها في بزبزها لبن
يبدو للناس إذا حلبوا
لا تغضب يوما إن شتمت
والناس إذا شتموا غضبوا
من أعجب ما في مصر يرى
الكرم يرى فيه رطب
أوسيم بها البرسيم كذا
في الجيزة قد زرع القصب
زهر الكتان مع البلسا
ن هما لونان ولا كذب
كيهود في دير خلطوا
بنصارى حركهم طرب
وقناطر أم الخمس بها
ماء في الحفرة ينسرب
والمركب مع ما قد وسقت
في البحر بطرف تنسحب
والخيمة قال الناس إذا
نصبت فالحبل لها طنب
البيض إذا جاعوا أكلوا
والسمر إذا عطشوا شربوا
الناقة لا منقار لها
والوزة ليس لها قتب
الوز يبيض بثقبته
وينام عليه فينثقب
والوز الفقس بأرض بلق
س كذا في المقس له زغب
لا بد لهذا من سبب
حزر، فزر، ما ذا السبب؟
وستمر بنا فيما يلي ألوان من النوادر المنسوبة إلى جحا يحسب بعضها من نوادر تحصيل الحاصل، ويحسب بعضها من نوادر الوهم أو القياس مع الفارق، وبعضها من نوادر المحال والمغالطة. ويساعدنا هذا التقسيم على الرجوع بها إلى مصادرها مع التحفظ والتماس القرائن الأخرى من التاريخ والمناسبات والشواهد النفسية أو الاجتماعية.
ونبدأ قبل البدء بعرض النوادر وتقسيمها فنقول إنه تقريب لا نرجو أن نبلغ به مبلغ الجزم والتوكيد، ولكننا لا نرى من أمانة البحث أن يهمل أو يصرف عنه النظر، فلعله بعد كل ما يقال عن أحكامه «التقريبية» أصدق الموازين الميسرة لنا في هذا المبحث وما جرى مجراه من الروايات المشاعة بلا إسناد تبلغ مبلغ الجزم والتوكيد.
الفصل السادس
جحا ونوادره
جحا ... غير واحد
شيء واحد ثابت كل الثبوت في أمر جحا.
ذلك الشيء الثابت - قطعا - أنه لم يكن جحا واحدا ولا يمكن أن يكونه؛ لأن النوادر التي تنسب إلى جحا لا تصدر من شخص واحد، ولا تزال دواعي اليقين باستحالة هذه النسبة واضحة في كل قرينة وكل رواية يجوز الاعتماد عليها في تحري الوقائع ومن تنسب إليه.
يستحيل أن تصدر هذه النوادر عن شخص واحد لأن بعضها يتحدث عن أناس في صدر الإسلام، وبعضها يتحدث عن أناس في عصر المنصور العباسي أو عصر تيمورلنك أو ما بعده من العصور بأجيال.
ويستحيل أن تصدر عن شخص واحد لاختلاف الشخصيات التي تصورها في مجموعها، فمنها ما يكون التغفيل فيه من جحا، ومنها ما يكون فيه جحا صاحب الذكاء النادر والطبع الساخر الذي يكشف عن الغفلة ويتندر على البلاهة، ومن هذه الشخصيات من تتمثل فيه الحماقة بغير مراء، ومنها من يتحامق ويبدو في كلامه وتمثيله أنه يتكلف ما يعمل وما يقول استهزاء منه بمن يدعون الحكمة والذكاء.
ويستحيل أن تصدر هذه النوادر عن شخصية واحدة لتباعد البيئات التي تروى عنها سواء في الأمكنة أو العادات والأخلاق، فقد يروى بعضها عن فارس، ويروى بعضها عن بغداد أو الحجاز أو آسيا الصغرى أو غيرها من البلدان الشرقية.
بل ربما قيل عن جحا إنه نصر الدين التركي، وقيل عنه إنه أبو الغصن العربي الفزاري، وقيل عنه إنه من النوكى الهاكعين، كما يقال عنه إنه من أصحاب الحالات والكرامات من المتسترين بالولاية وهم يجهرون بالهذر والبلاهة.
ويستحيل أن تصدر هذه النوادر عن «جحا» وحده كائنا ما كان؛ لأنها تنسب - بعينها - إلى المجانين من أمثال هبنقة وبهلول، أو إلى الأذكياء من أمثال أبي نواس وأبي العيناء.
ويزاد على هذه الإحالات جميعا أن طبيعة الفكاهة تختلف بين تحصيل الحاصل والقياس مع الفارق والمحاولة والمحال، مما يجوز أن يتفق عرضا في نادرة أو قليل من النوادر، ولكنه لا يتفق في العشرات والمئات.
ونحن قد نقرأ عن جحا في كتاب واحد فنفهم أنه شخص موجود أو قابل للوجود؛ لأنه متناسق الأخبار مطبوع في تفكيره وتعبيره على غرار واحد، ثم نقرأ عنه في كتاب آخر فنرى صاحب الكتاب مضطرا إلى تسويغ نوادره المتناقضة بإسنادها إلى المختلقين والمنتحلين، أو بافتراء المفترين على «جحا» للنكاية والتشهير.
يقول الميداني صاحب كتاب الأمثال: «هو رجل من فزارة كان يكنى أبا الغصن، ومن حمقه أن عيسى بن موسى الهاشمي مر به وهو يحفر بظهر الكوفة موضعا، فقال له: ما لك يا أبا الغصن؟ قال: إني قد دفنت بهذه الصحراء دراهم ولست أهتدي إلى مكانها. فقال عيسى: كان ينبغي أن تجعل عليها علامة. قال: قد فعلت. قال: ماذا؟ قال: سحابة في السماء كانت تظلها ولست أرى العلامة.
ومن حمقه أيضا أنه خرج من منزله يوما بغلس فعثر في دهليز منزله بقتيل، فضجر به وجره إلى بئر منزله فألقاه فيها، غير أن أباه أخرجه وغيبه وخنق كبشا حتى قتله وألقاه في البئر. ثم إن أهل القتيل طافوا في سكة الكوفة يبحثون عنه فتلقاهم جحا فقال: في دارنا رجل مقتول، فانظروا أهو صاحبكم؟ فعدلوا إلى منزله وأنزلوه في البئر، فلما رأى الكبش ناداهم وقال: يا هؤلاء! هل كان لصاحبكم قرن؟ فضحكوا ومروا.
ومن حمقه أن أبا مسلم صاحب الدولة لما ورد الكوفة قال لمن حوله: أيكم يعرف جحا فيدعوه إلي؟ فقال يقطين: أنا ... ودعاه، فلما دخل لم يكن في المجلس غير أبي مسلم ويقطين، فقال: يا يقطين، أيكما أبو مسلم؟»
ثم يقول الميداني بعد ذلك: «وجحا اسم لا ينصرف لأنه معدول من جاح مثل عمر من عامر. يقال جحا يجحو جحوا إذا رمى، ويقال: حيا الله جحولك؛ أي وجهك.» •••
وجحا هنا، كما وصفه الميداني، شخصية مفهومة متناسقة، لعل الخبر الذي جاء عن أبيه في خلال الكلام عنه يفسر بالوراثة ما فيه من خلة الحماقة؛ لأن جحا لم يصنع شيئا يزيل الشبهة في أمر القتيل بنقله من الدهليز إلى البئر، وأباه لم يصنع شيئا يزيل الشبهة بوضع الكبش في مكانه، وكان لكل منهما مندوحة عما صنع لولا الحماقة في الأب وفتاه.
أو لعل الخبر عن اشتهار اسم جحا حتى سمع به أبو مسلم يفسر لنا وضع الروايات عنه بين الفرس أو اعتباره بينهم علما على البلاهة والفكاهة يسندون إليه ما شابه نوادره من الفكاهات الفارسية، فليس في خبر جحا هنا غرابة بما نسب إليه أو نسب إلى غيره، ولك أن تقبل هذا الخبر دون أن تحتاج بعده إلى توفيق أو تأويل.
ولكنك تقرأ عن جحا في غير كتاب الأمثال فلا ترى كتابا واحدا يستغني عن شيء من التوفيق والتأويل، لغرابة الأخبار التي ترامت عنه وتلقفها الرواة فحاروا كيف يضعونها في موضعها بين أخبارهم ومن تروى عنهم تلك الأخبار.
ومن الإطالة على غير طائل في غرضنا من هذه الرسالة أن نحيط بكل ما وصف به جحا في كتب الأدب العربي، فإن المحصل منه كله أنه تناقض لا يستقر على قرار، ولكننا نجتزئ بما كتبه ابن الجوزي إذ يقول في أخبار الحمقى والمغفلين إنه - أي جحا - «روي عنه ما يدل على فطنة وذكاء، إلا أن الغالب عليه التغفيل، وقد قيل إن بعض من كان يعاديه وضع له حكايات. وعن مكي بن إبراهيم: رأيت جحا رجلا كيسا ظريفا، وهذا الذي يقال عنه مكذوب عليه، وكان له جيران يمازحهم ويمازحونه فوضعوا عليه.»
وهكذا يسمع عن الرجل ما يدل على ذكاء وما يدل على تغفيل، ويوفقون بين الذكاء والتغفيل فيحسبون أن نوادر التغفيل من وضع المفترين عليه، وغير ابن الجوزي أناس يحسبون أنه من أصحاب الحالات والكرامات يتكلم ولا ينبغي أن يؤخذ عليه كلامه بظاهره؛ لأنه يتعمد فيه إخفاء الأسرار الإلهية بهذه المضحكات والخزعبلات، وقد حسبه بعضهم من التابعين رواة الحديث ثم شكوا في حقيقة اسمه كما شكوا في حقيقة مسماه.
وأما بعد ظهور جحا التركي، الملقب بخوجة نصر الدين، فالحكايات عنه تنسب إلى رجل واحد، وهي مما يمكن أن ينسب إلى عشرة متباعدين في الزمان والمكان والعقل والمزاج، وبعض هذه الحكايات متأخر إلى ما بعد اختراع الساعات التي تحمل في الجيب، وبعضها متقدم إلى أيام الصحابة والتابعين.
نوادر له ولغيره
ومما لا ريب فيه - قطعا - أن رجلا واحدا لا يمكن أن تصدر عنه جميع هذه الحكايات ولو كانت متناسقة متساوقة تدل على عقل واحد ومزاج واحد وتتحدث عن فترة واحدة وبيئة واحدة. فإننا إذا فرضنا وجود هذا الرجل وجب ألا يكون له عمل إلا أن يأتي بتلك النوادر والأضاحيك، ووجب ألا يكون لعشرائه وأصحابه عمل غير النقل عنه وإثبات هذه الأحاديث المنقولة، وهو ما لم يحدث في حياة الهداة الأعلام الذين تنقل عنهم الإشارات فضلا عن الكلمات.
فالعجب أن تكون حكايات جحا من رجل واحد، ولكنه لا عجب على الإطلاق في توارد هذه الحكايات وتلاقيها من أبعد المصادر، ومهما يخطر على بالنا من غرابة ذلك فالواقع يزيل كل غرابة فيه، ويرينا أن هذا الفيض من الحكايات - وما هو أغرب منه - يتلاقى من أقاصي أوروبا إلى أقاصي أفريقيا إلى أقاصي القارة الآسيوية على امتدادها.
ومثال ذلك قصة تروى عن جحا وعن أبي نواس وعن رابليه الفرنسي الذي تقدمت الإشارة إليه ، وفحواها أن تاجرا بخيلا رأى طارقا فقيرا يتبلغ بالخبز القفار على رائحة شوائه أو طبيخه فطالبه بثمن هذه الرائحة، وحار الفقير في أمره حتى أنقذه حلال المشكلات بحل من قبيل دعواه؛ لأنه رن أمامه قطعا من الدراهم وقال له خذ رنين هذه الدراهم ثمنا لرائحة شوائك!
ومن الذي روى هذه النادرة عن أبي نواس؟
لم يروها كتاب بغداد أو دمشق أو القاهرة، بل رواها الكاتب الإنجليزي إنجرام
Ingram
في كتابه عن أبي نواس وأساطيره كما سمعها باللغة السواحلية واللغة العربية في أفريقيا الشرقية، وهذه ترجمة القصة كما نقلناها في كتابنا عن أبي نواس، قال إنجرام ما ترجمته بحرفه على وجه التقريب:
إن تاجرا ذبح معزة ومر به مسكين، فجلس إلى جانب القدر لعله يستسيغ الخبز القفار باستنشاق رائحتها، ثم لقي التاجر فقال له: إنك أيها السيد قد أحسنت إلي أمس إذ منحتني رائحة معزتك فاصطنعت بها هنيئا. فأخذ التاجر بتلابيبه وهو يقول له: الآن علمت كيف ضاعت النكهة من لحمها، فقد اختلستها أنت إذن ولا ندري. وساقه إلى هارون الرشيد - وقد كان شديد المحاباة للتجار - فحكم على المسكين بتغريمه اثنتي عشرة روبية يأخذها التاجر ثمنا لنكهة ذبيحته، وخرج المسكين يبكي لأنه لا يملك فلسا من هذه الغرامة، فوجد أبا نواس في الطريق وعطف عليه أبو نواس حيث علم منه سبب بكائه، ووعده أن يساعده، ثم أعطاه اثنتي عشرة روبية وأوصاه أن يغدو بها إلى السلطان ولا يؤديها له حتى يحضر هو مجلسه. ثم كان الغد فجاء إلى المجلس ورأى المسكين يعد الدراهم فأخذها منه ورنها على الأرض، وسأل التاجر: أسمعت رنينها؟ قال: نعم. ومد يده إلى الدراهم يريد أن يقبضها، فرده أبو نواس وصاح به: حسبك، لقد وصل إليك الثمن رنينا برائحة، فإذا كان المسكين قد شبع من رائحة طعامك فأنت حري أن تملأ يدك من رنين دراهمه، وترك الروبيات للمسكين، وانصرف إلى داره.
هذه نادرة تروى في سواحل أفريقيا الشرقية، ويتحدثون فيه بالروبيات وهم يذكرون نقود بغداد، وهذه النادرة بشيء من التصرف فيها تروى في قصص جحا وتروى في قصص رابليه.
ومن النوادر ما يتوارد في خرافات إيسوب وحكايات ألف ليلة، كحكاية الحمار والثور مع صاحب الزرع، وقد جاءت في أوائل ألف ليلة بالعبارة الآتية:
اعلمي يا ابنتي أنه كان لبعض التجار أموال ومواش، وكان له زوجة وأولاد، وكان الله تعالى أعطاه معرفة الحيوانات والطير، وكان مسكن ذلك التاجر الأرياف، وكان عنده في داره حمار وثور، فأتى يوما الثور إلى مكان الحمار فوجده مكنوسا مرشوشا وفي معلفه شعير مغربل وهو راقد مستريح، وفي بعض الأوقات يركبه صاحبه لحاجة تعرض له ويرجع على حاله، فلما كان في بعض الأيام سمع التاجر الثور وهو يقول للحمار: هنيئا لك ذلك، أنا تعبان وأنت مستريح تأكل الشعير مغربلا ويخدمونك، وفي بعض الأوقات يركبك صاحبك ويرجع، وأنا دائما للحرث والطحن. فقال له الحمار: إذا خرجت إلى الغيط ووضعوا على رقبتك الناف فارقد ولا تقم ولو ضربوك، وامتنع عن الأكل والشرب يوما أو يومين أو ثلاثة، فإنك تستريح من التعب والجهد. وكان التاجر يسمع كلامهما، فلما جاء السواق إلى الثور يعلفه أكل منه شيئا يسيرا فأصبح السواق يأخذ الثور إلى الحرث فوجده ضعيفا، فقال له التاجر: خذ الحمار وحرثه مكانه اليوم. فلما رجع آخر النهار شكره الثور على تفضلاته حيث أراحه من التعب ذلك اليوم، فلم يرد عليه الحمار جوابا وندم أشد الندامة، فلما كان ثاني يوم جاء المزارع وأخذ الحمار وحرثه إلى آخر النهار، فلم يرجع الحمار إلا مسلوخ الرقبة شديد الضعف، فتأمله الثور وشكره وحمده، فقال الحمار: اعلم أني لك ناصح، وقد سمعت صاحبنا يقول: إن لم يقم الثور من موضعه فأعطوه للجزار ليذبحه ويعمل جلده قطعا، وأنا خائف عليك ونصحتك والسلام. فلما سمع الثور كلام الحمار شكره وقال: في غد أسرح معهم. ثم إن الثور أكل علفه بتمامه حتى لحس المذود بلسانه، فلما جاء النهار خرج التاجر وزوجته إلى دار البقر وجلسا، فجاء السواق وأخذ الثور وخرج، فلما رأى الثور صاحبه حرك ذنبه وبرطع، فضحك التاجر حتى استلقى على قفاه.
هذه القصة جاءت متصلة بغيرها في ألف ليلة وليلة لمناسبة تجر وراءها مناسبة أخرى على الأسلوب المطرد في تسلسل الروايات بألف ليلة وليلة، ولكنها جاءت في خرافات أيسوب منفردة، على اختلاف المغزى، بالعبارة التالية:
كانت معزة وحمار في حوزة صاحب واحد، وكانت المعزة تغار من الحمار لأنه كان وافر الطعام يكفيه ويفيض منه، فقالت له: إن حياتك نصب دائم، تدير الطاحون وتحمل الأثقال، فأنصح لك بأن تجمح يوما وتسقط في حفرة تستريح بعدها، فعمل الحمار بنصيحة المعزة وأصيبت رجله إصابة بالغة من جراء سقطته، وأرسل صاحبه في طلب البيطار ليسأله رأيه، فوصف البيطار للحمار مرقا من طحال معزة وقال إنه دواء صالح لعلاج دائه، فذبحوا المعزة لمداواة الحمار.
والمغزى من هذه الحكاية أن «من نصب فخا لغيره جر البلاء على نفسه». وفي خرافات أيسوب نوادر أخرى يقل فيها التحوير ويتقارب فيها المغزى، مما تناقله المشارقة عن جحا وأمثاله، ومنها ما لم يرد في الخرافات القديمة كأنه أضيف إليها بعد عصر أيسوب أو بعد العصر المفروض له ولخرافاته، ومنها ما هو قديم منقول عن الحكمة الموضوعة على ألسنة الحيوان، وهي شائعة في الشرق من الصين والهند إلى البلاد العربية على اتساعها وتباعد أقطارها.
ولا نرانا في حاجة إلى انتظار عصر المطبعة أو عصر التأليف وتداول الكتب بين الأمم لتعليل هذا التوارد بين النوادر والحكايات في المشرق والمغرب، وبين القارات الثلاث من العراق إلى الأندلس وفرنسا إلى أفريقيا الشرقية؛ فإن انتقال هذه النوادر على طرق الرحلات والقوافل أسبق جدا من كل تأليف أو طباعة. وقد كان الرحالون يطوفون البلاد من أقصى العالم المعمور إلى أقصاه ولا سمر لهم في الرحلة أشهى ولا أدل على حنكة السائح وطول عهده بالترداد على البلاد من أحاديث الحكمة والفكاهة وأطوار الناس وغرائب الأقطار.
خذها شرودا في البلاد مقيمة
سمرا لذي سمر وزاد مسافر
فإذا سمعت القصة في بغداد لم يكن بعيدا عليها أن تسمع في بلاد الشمال من أوروبا أو بلاد الجنوب من أفريقيا مع قوافل الرحالين والسياح الذين يسمرون بها في سهراتهم، ويتنافسون عليها بين المأثور عن أقوامهم وأوطانهم، وليس العجيب أن تسري هذه النوادر هذا السريان المستفيض بين مرامي السياحة ومطارح السفر، بل العجيب أن يكون للرحالين والسياح حديث غيرها في لياليهم الطوال كلما فرغوا من أحاديث العمل وما إليه.
ولا ينتظر منا بعد هذه الفوضى الجحوية أن نبت في نسبة النوادر كلها أو بعضها إلى صاحبها؛ لأن صاحبها غير واحد، ولأن أصحابها المتعددين ضروب من الخلق تصلح النوادر لأحدها كما تصلح لآخر، ولكننا نستطيع أن نقسمها على ثقة إلى أقسامها الواضحة من حيث الدلالة أو من حيث «الدور» الذي تؤديه، ومنها ما يمثل الذكاء والحكمة، وما يمثل البلاهة والحماقة، وما يمثل التباله والتحامق أو التغابي، ولا يقع اللبس كثيرا بين هذه الأقسام أو بين هذه الأدوار.
وسنختار فيما يلي عشرين نادرة في كل قسم من هذه الأقسام أو كل دور من هذه الأدوار، ثم نتبعها ببعض القرائن التي تساعدنا على نسبتها إلى أقوامها مع التحفظ والتوسع في هذه النسبة الجزافية، وأما النسبة إلى الآحاد من أصحاب اسم «جحا» أو غير أصحابه فنعرض لقرائنها الممكنة بعد ذلك على قدر المستطاع.
الفصل السابع
60 نادرة
من نوادر الذكاء والحكمة والحماقة والبلاهة والتحامق والتباله ... (1) نوادر الذكاء والحكمة (1-1) آل خبرة
كان جحا يتولى القضاء، فجاءه رجل يستغيث به لأنه وجد طنبوره المسروق، مع بائع في السوق، وأراد أن يأخذه منه فادعاه السارق لنفسه وأنكره، فأرسل جحا في طلب البائع المتهم، وسأل صاحب الطنبور عن شهوده، فجاءه بشاهدين، أحدهما صاحب حانة، والآخر ماجن متبطل بغير عمل.
وشهد الشاهدان بأنهما يعرفان الطنبور ويعرفان أنه للمدعي، وعلامته أن فيه كسرا بأعلاه ورباطا بأسفله، وليست مفاتيحه محكمة الشد والحركة.
وطابقت العلامة وصف الطنبور، ولكن السارق طلب تزكية الشاهدين وقال إن شهادة الخمار والماجن لا تقبل في الشريعة.
قال جحا: نعم، وأما حين تكون الدعوى على طنبور، فالخمار والماجن أصلح الشهود! (1-2) من راقب الناس
كان لجحا ولد يعصيه كلما أمره بعمل، ويقول لأبيه: وماذا يقول الناس عنا إن عملناه؟!
وأراد جحا أن يلقنه درسا ينفعه، ويعلمه أن رضا الناس غاية لا تدرك، فركب حماره وأمر ابنه أن يتبعه، ولم يمض غير خطوات حتى مر ببعض النسوة فشتمنه وقلن له: أيها الرجل، أما في قلبك رحمة؟! تركب أنت وتدع الصبي الضعيف يعدو وراءك؟!
فنزل جحا عن الحمار، وأمر ابنه بركوبه، ومضى مسافة غير بعيدة، ثم مر بجماعة من الشيوخ يستشرقون، فدق أحدهم كفا بكف، ولفتهم إلى هذا الرجل الأحمق وهو يقول ويعيد: لمثل هذا فسد الأبناء، وتعلموا عقوق الآباء ... أيها الرجل، تمشي وأنت شيخ، وتدع الدابة لهذا الولد، وتطمع بعد ذلك أن تعلمه الأدب والحياء؟
قال جحا لولده: أسمعت؟ تعال إذن نركب الحمار معا.
وما هي إلا لحظة، حتى مر بهما جماعة من أصدقاء الحيوان صاحوا بهما: أما تتقيان الله في هذا الحيوان الهزيل؟ أتركبانه معا، وكل منكما يزن من اللحم والشحم ما يزيد على وزن الحمار؟!
قال جحا لولده: الآن نمشي معا ونرسل الحمار أمامنا، لنأمن سوء القالة من النساء والشيوخ وأصدقاء الحيوان.
وما هي إلا لحظة أخرى حتى مر بهما طائفة من «أولاد البلد» الخبثاء، فجعلوا يعبثون بهما ويقولون لهما: والله ما يحق لهذا الحمار إلا أن يركبكما أو تحملاه وتريحاه من وعثاء الطريق!
فمال جحا إلى شجرة، وأخذ منها فرعا متينا وربط فيه الحمار، وحمل الفرع من طرف ووضع الطرف الآخر على كتف ولده، فإذا البلد كله وراء هذا الركب العجيب، وإذا بالشرطي يفض هذا الزحام ليسوقهما إلى البيمارستان.
قال جحا لابنه في طريقهما مع الشرطي: هذه يا بني عاقبة من يستمع إلى القال والقيل، ولا يعمل عملا إلا ابتغى به مرضاة الناس! (1-3) إحصاء المنافقين والرقعاء
كان جحا دائم الشكوى من أهل بلده، يقول لكل من لقيه منهم أو من الغرباء عنهم إنهم كلهم منافقون رقعاء.
ولامه هذا وراجعه ذاك، فعمد إلى إقناع اللائمين والمناقضين بأسلوبه في الإقناع: أسلوب المشاهدة والعيان، فخلع باب الدار وحمله على ظهره وقال لأول مناقض له في تشهيره بأهل البلد: تعال معي واحسب! وعند منعطف الطريق صاح به صائح من أهل البلد وهو يضحك: ما هذا الذي تحمله على ظهرك يا جحا؟
قال جحا لصاحبه: هذا واحد، أتراه لا يعرف الباب الطويل العريض الذي يسأل عنه؟ (1-4) العصا تحمل الأرجل
حمل جحا إوزة مشوية إلى الأمير، وغلبه الجوع ورائحة الشواء في الطريق، فأكل إحدى رجليها، ثم وضعها بين يدي الأمير، فسأله عن الرجل الناقصة أين ذهبت!
قال: لم تذهب إلى مكان، وإنما الإوز كله برجل واحدة في هذا البلد. ثم تقدم بالأمير إلى نافذة القصر وأشار إلى سرب من الإوز قائم على قدم واحدة كعادته في وقت الراحة، فدعا الأمير بجندي من حرسه وأمره أن يشد على سرب الإوز بعصاه، وما كاد يفعل حتى أسرع الإوز يعدو هنا وهناك على قدميه.
قال الأمير: أرأيت؟ إن إوز هذا البلد أيضا خلق بقدمين ولم يخلق بقدم واحدة!
قال جحا: مهلا أيها الأمير، لو شد أحد على إنسان بهذه العصا لجرى على أربع! (1-5) تماطل الله وتستدين
جلس جحا يبيع زيتونه فساومته امرأة، واستكثرت على الزيتون الثمن الذي طلبه، وقالت له: إذا أردت أن تبيعني بالثمن الذي أخبرتك به مؤجلا، فأنت تعرف زوجي وهو فلان بن فلان.
وناولها جحا زيتونة لتذوقها وتعرف جودة الصنف وحقه من الثمن، فاعتذرت بأنها صائمة لأنها مرضت من سنة وأفطرت في شهر رمضان!
قال جحا: الآن بطل الخلاف، لا مساومة ولا تأجيل، أتراك تماطلين الله سنة ولا تماطلينني إلى يوم القيامة؟! (1-6) تيمور في الآخرة
وسأله تيمورلنك الطاغية المشهور: أين ترى يكون مثواي في الآخرة يا خوجة نصر الدين؟
فقال جحا ولم يتردد: وأين ترضى أن تكون، إن لم تكن مع جنكيزخان والإسكندر وفرعون والنمروذ؟ (1-7) ثمن طاغية
وسأله تيمورلنك، وقد أخذه معه إلى الحمام، وخلع ملابسه إلا مئزرا يديره على وسطه: بكم تشتريني الآن لو عرضت عليك في السوق يا خوجة نصر الدين؟
قال: بخمسين دينارا.
قال تيمور: ويحك! إن ثمن هذا المئزر خمسون دينارا.
قال جحا: وهذا هو الثمن الذي حسبته! (1-8) الحساب المهضوم
وأراد تيمور أن يصادر أموال الحاكم بمدينة «آق شهر» فاتهمه باختلاس أموال الديوان، وأبرأ الحاكم بذمته بالحساب المكتوب على دفاتر الديوان الغلاظ، فأخذها تيمور من يده ومزقها وأمره بابتلاعها، ثم أحال حكم المدينة إلى الخوجة نصر الدين.
وحان موعد الحساب، فجاءه الخوجة نصر الدين بجلود مطوية نشرها فوجد في طيها رقائق من الخبز مكتوبا عليها الحساب بالحلوى.
قال تيمور: ما هذا؟
قال الخوجة: هذا الذي يحتمله جوفي يا سيدي؛ لأنني شيخ فان ولست فتى ضليعا كحاكمك القديم. (1-9) أيهما أحب إليه
وكانت له زوجتان، فجلس معهما يتسامر، وطاب لهما أن تحرجاه، فسألتاه: أيهما أحب إليه؟
قال: أنتما معا حبيبتان إلى قلبي!
قالتا: لا، إنك لا تستطيع أن تضحك منا بهذه المراوغة، وأمامك هذه البركة نخيرك في إغراق إحدانا بها، فمن منا تلقي بها في الماء الآن؟
وحار في أمره هنيهة، ثم التفت إلى الزوجة الأولى وقال لها: أذكر أنك تعلمت السباحة قديما يا عزيزتي! (1-10) المكان الأمين في الجنازة
وسئل: أيهما أفضل؟ المسير خلف الجنازة، أو المسير أمامها؟
قال: لا تكن في النعش، وسر حيث تشاء. (1-11) القبلة الأمينة
وسئل: وماذا يستقبل السابح إذا نزل في الماء؟
فقال: يستقبل المكان الذي عليه ملابسه. (1-12) الفضول
ولقيه بعض معارفه في الطريق فقال له: إني رأيت الساعة رسولا يحمل مائدة حافلة بالطعام الفاخر.
قال جحا: وماذا يعنيني؟
قال صاحبه: إنهم يحملونه إلى بيتك.
قال: وماذا يعنيك؟ (1-13) التقوى المهلكة
وسكن في دار، فشكا إلى صاحبها أنه يسمع قرقعة في سقفها.
قال صاحب الدار: لا تخف، إنه يسبح الله.
قال: وهذا الذي أخشاه، تدركه رقة فيسجد علينا! (1-14) حدود الأبوة
وسئل جحا: هل يولد للرجل بعد بلوغ الستين؟
قال: يجوز!
قيل: وبعد بلوغ الثمانين؟
قال: يجوز.
قيل: وبعد بلوغ المائة؟
قال: نعم، إذا كان له جار في العشرين! (1-15) العمامة القارئة
وعرض عليه رجل كتابا بالفارسية ليقرأه فتعلل برداءة الخط، ورد له الكتاب.
قال صاحب الكتاب محنقا: وعلام إذن تضع هذه العمامة على رأسك كأنها الرحى؟
فخلع الشيخ العمامة، ووضعها جانبا، وقال له: دونك العمامة فاسألها، فإنها صاحبة العلم الذي تبغيه! (1-16) تحويل الجزاء
وصفع رجل «جحا» على قفاه بعرض الطريق يريد أن يسخر منه: فأخذ جحا بتلابيبه إلى القاضي ولم يقبل منه اعتذاره بالخطأ فيه؛ لأنه ظنه من أصدقائه الذين يمازحونه بمثل هذا المزاح الثقيل.
وكان الرجل العابث من معارف القاضي فأحب أن ينجيه من العقاب، وحكم لجحا بأن يصفعه كما صفعه أو يتقبل منه عشرة دراهم على سبيل الجزاء أو التعويض.
وطمع جحا في الدراهم فسأل القاضي المدعى عليه: أمعك الدراهم؟ وفطن صاحبنا لغرض القاضي فقال: كلا، ولكنني أحضرها بعد قليل من البيت.
وأذن له القاضي بالانصراف لإحضار الدراهم، فذهب ولم يعد. وطال الانتظار على جحا، فأدرك حيلة القاضي واقترب منه كأنه يهمس في أذنه، ثم صفعه صفعة عنيفة، وقال له وهو ينصرف: إذا عاد إليك الرجل بالدراهم، فخذها حوالة مني إليك. (1-17) دعوى بدليلها
وادعى الولاية، فسأله السامعون عن كرامته، فقال: أتريدون مني كرامة أعظم من علمي بما في قلوبكم جميعا؟
قالوا: وما في قلوبنا؟
قال: كلكم تقولون في قلوبكم إنني كذاب! (1-18) من يلد يموت
واستعار حلة كبيرة من جاره. ثم أعادها إليه وفيها حلة صغيرة، فسأله جاره: وما هذه؟ قال: هذه بنتها، ولدتها عندنا. فتقبلها جاره ولم ينكر عليه.
ثم استعارها مرة أخرى ولم يردها، فلما سأله عنها، قال: البقية في حياتك، إنها ماتت عندنا في النفاس ... رحمها الله.
قال صاحب الحلة متعجبا: أيموت النحاس؟
قال جحا: من يلد يموت، وقد يموت في النفاس. (1-19) ثمن الضرورة
وعطش في طريقه، وهو بمنقطع من الماء في الصحراء، فمر به أعرابي يحمل قربة، عرض عليه جحا أن يبيعها إياه فلم يقبل بأقل من خمسة دراهم، فاشتراها جحا، وجلس يأكل من طعام دسم كان معه، واستضاف الأعرابي فأعطاه من الطعام ما أشبعه وأظمأه، فسأله شربة من القربة، فلم يقبل جحا بأقل من خمسة دراهم، وباع الشربة بثمن القربة ! (1-20) ثمن الحمار!
وضاع حماره، فأقسم ليبيعنه إن وجده بدينار واحد، ثم وجده وندم على حلفه، ولم يشأ أن يحنث في قسمه، فاحتال عليه ليبر باليمين، ويحفظ على نفسه ثمن الحمار، وعرض الحمار في السوق وقد ربط إلى عنقه حذاء قديما، فجعل ينادي عليه: الحمار بدينار والحذاء بعشرة دنانير، ولا يباعان على انفراد! (1-21) الكرام قليل
أمره الوالي أن يعد مجانين البلد، فقال: بل أعد لك العقلاء، ومن عداهم كثيرون لا يحصرون. (1-22) يقضي على القاضي
جاء الشرطي برجلين إلى مجلس القضاء، وجحا عند القاضي يحدثه في بعض شئونه، فعرض الشرطي قضية الرجلين، وقال إنه وجد في الطريق بين بيتيهما أقذارا ممنوعة، وادعى كل منهما أن جاره مطالب بإزالتها؛ لأنه هو الذي وضعها في عرض الطريق.
وأراد القاضي أن يعبث بجحا ليسخر منه ويفضح دعواه؛ لأنه كان يدعي العلم ويتصدى للإفتاء، فأحال عليه القضية، وسأله أن يقضي فيها بالحق بين الرجلين.
فقبل جحا مقترح القاضي، وسأل الشرطي: هل كانت الأقذار أقرب إلى دار هذا أو دار ذاك؟
قال الشرطي: إنها كانت في الوسط بينهما.
قال جحا: إنما يزيلها إذن مولانا القاضي؛ لأنها في الطريق العام، ومولانا القاضي هو المسئول عن المدينة.
1 (2) نوادر الحماقة والبلاهة (2-1) على قدر الوضوء
توضأ جحا، ولم يكفه الماء لإتمام وضوئه، وبقيت رجله اليسرى بغير وضوء، فقام يصلي برجله اليمنى ولا يضع اليسرى على الأرض.
فسألوه: ما بالك تقف على رجل واحدة؟
قال: الأخرى غير متوضئة! (2-2) أنا مكرر
رأى رجلا في الطريق لا يعرفه، فتبسط معه في الحديث، ورفع الكلفة بعد عبارة أو عبارتين.
فعجب الرجل وسأله: ألك بي معرفة فترفع الكلفة هكذا بيني وبينك؟!
قال: بل حسبتك أنا؛ لأن ثيابك كثيابي ومشيتك كمشيتي، ولكنك لست أنا كما علمت الآن! (2-3) ترويج زوجة
وحاول أن يبيع بقرة له فأعياه بيعها، فرآه دلال في السوق، تكفل له ببيعها إذا أسلمه إياها وأعطاه الجعل المعلوم، وقبل جحا، فأخذ الدلال ينادي على البقرة، ويذكر منافعها ومحاسنها، ومنها أنها حبلى في ستة أشهر.
ثم جاء الخواطب إلى داره يخطبون بنته ويتطلعون إلى محاسنها، فتذكر الصفة التي روجت سوق البقرة، وقال للخواطب: هي كما ترون وزيادة أنها حبلى في شهرها السادس. (2-4) يريح كما يراح
ورأوه يركب حمارا ويحمل خرجه على كتفه، فضحكوا منه ورموه بالعبث والدعابة، وقال له قائل منهم: ألا تعرف كيف تضع الخرج تحتك أو أمامك ولا ترهق نفسك بحمله وأنت راكب؟
قال: عدل من الله، أراضي الحمار من حمل نفسي بأن أريحه من حمل خرجي! (2-5) أكبر خوخة
وكان في منديله فاكهة، فسأله بعضهم: ما هذا الذي في منديلك يا جحا؟
قال: لا أقول لكم، ولكني أعطيكم أكبر خوخة إذا عرفتموه.
قال السائل: إنه خوخ؟
فانطلق قائلا: أي ملعون أنبأكم بأمره وهو مصرور؟! (2-6) أحجية محلولة
ورأى بعضهم أن يمتحنه فقال له: إن عرفت ما في منديلي أعطيتك واحدة منه تكفي لعمل عجة مليحة.
قال: صفه لي ولا تذكر اسمه.
قال صاحبه: إنه أبيض وفي وسطه صفار.
قال جحا: الآن عرفته، إنه لفت حشوتموه جزرا! (2-7) الحمد الله
وضاع حماره فطفق يصيح وهو يسأل الناس عنه: ضاع الحمار والحمد لله.
قيل له: فهل تحمد الله على ضياعه؟
قال: نعم، لو أنني كنت أركبه لضعت معه ولم أجد نفسي. (2-8) أربعون يوما من رمضان
وكان من عادته إذا صام يوما في رمضان أن يلقي بحصاة في جرة، ورأته ابنته فألقت في الجرة ملء كفيها من الحصى، وهي تظن أنها تساعده.
وسأله الجيران يوما: كم بقي من رمضان؟
قال: أما ما بقي فلا أعرفه، ولكني عليم بما مضى من أيامه. ثم عد الحصى، فزاد على مائة وعشرين حصاة.
قال بينه وبين نفسه: لو أنبأتهم بهذا العدد لسخروا مني، ولكني أنزل به إلى أربعين.
ثم خرج لهم يقول: مضى من الشهر أربعون يوما على التقريب.
فتضاحكوا منه، وتضاحك هو منهم وهو يقول: إنه شهر طويل على الصائمين، فماذا تصنعون لو أنبأتكم بالعدد الصحيح؟! (2-9) الشمس والقمر
وسألوه: أيهما أنفع: الشمس أو القمر؟
فلم يتمهل وأجابهم بيقين: إنه القمر ولا مراء.
فسألوه : ولم؟
قال: لأن الشمس تطلع في النهار حين يستغني عنها الناس، وأما القمر فلا يطلع إلا في الظلام على حين الحاجة إليه. (2-10) البحث في النور
ورأوه يبحث في أرض لا شيء فيها، فسألوه: عم تبحث؟
قال: خاتم سقط مني.
قالوا: وهل سقط هنا وليس في الأرض أثر للخواتم؟
قال: بل سقط في الزقاق الذي هناك.
قالوا: وما بالك لا تبحث عنه حيث سقط؟
قال: وأي جدوى للبحث في الظلام؟ (2-11) حمار ممسوخ
اشترى حمارا واقتاده بزمام طويل، فتغفله لصان، ذهب أحدهما بالحمار، وربط الآخر نفسه في مكانه.
والتفت جحا فرأى إنسانا في مكان الحمار.
فاستعاذ بالله، وسأله: أين الحمار؟
قال: أنا الحمار، أعادني الله إنسانا ببركتك كما كنت بعد أن مسخت حمارا لدعاء والدتي علي.
فبارك له جحا، وأطلقه وهو يوصيه بطاعة أمه ويحذره العودة إلى إغضابها، وجر الغضب من الله عليه بدعائها.
ثم عاد إلى السوق بعد برهة ليشتري حمارا غير ذلك الإنسان الممسوخ فرأى الحمار بعينه في يد الدلال، فمال على أذنه وهمس فيها قائلا: لن تنفعك بركتي بعد مسختين، ولن أشتريك وأنت بهذا العصيان! (2-12) نصف بنصف وتتم الدار
وكان يشارك على دار، فباع نصفها الذي يملكه ليشتري بثمنه النصف الآخر، وتخلص له الدار بغير شريك! (2-13) دابة على رمح
ونام في الخلاء ومعه عكاز طويل ركزه ووضع صرة النقود على رأسه لكيلا ينالها أحد.
فرآه لص وعرف غفلته، فأخذ النقود ووضع في موضعها روث دابة، وتيقظ جحا فوجد الروث في مكان الصرة، فلم يعجب لسرقة النقود ولكنه عجب للدابة التي استطاعت أن تصعد على عكاز لتصنع به ذلك الصنيع. (2-14) مكافأة معقولة
وحمل إلى تيمور رمانات باكورة ظهرت في غير أوانها، فرضي عنه تيمور وأرضاه.
ثم طمع في جائزة أخرى، فجمع رءوسا من اللفت ليهديها إليه، فقال له بعض جيرانه إن اللفت لا يصلح لإهداء الملوك، فاذهب إليه بنخبة من التين فهو ألطف وأحلى.
واستكبر تيمور أن يهدى إليه التين وهو يملأ الأسواق، وأحب أن يكف جحا عن طمعه، فأمر الجند أن يقذفوه بالتين واحدة بعد واحدة.
فوقف جحا يتلقى الضربات على رأسه وعلى وجهه وعلى عينيه وأنفه وهو يضحك ويدعو للجار الذي أسدى إليه النصيحة الصادقة.
واشتد عجب تيمور من ضحكه ودعائه، فأمر الجند أن يمسكوا عن ضربه، ليسأله عن سر ذلك الضحك وذلك الدعاء.
قال: إنه سر عظيم، لو كان اللفت في موضع هذا التين، لتهشم رأسي وانفقأت عيناي! (2-15) بروج نامية
وسألوه: ما طالع نجمك؟
قال: ولدت والشمس في برج التيس.
قالوا: لا يوجد في السماء برج يسمى برج التيس، ولكنك تعني برج الجدي.
قال: أفمن مولدي إلى اليوم لا يصبح الجدي تيسا؟ (2-16) كيف يعرف يمينه؟
وانطفأت شمعة في داره فطلبت منه زوجته أن يناولها إياها من يمينه، قال: يا حمقاء، وكيف أعرف يميني من شمالي في هذا الظلام؟ (2-17) أدب مع التلاميذ
وركب بغلته مستدبرا رأسها فسأله تلاميذه: لماذا لا تعتدل في ركوبك يا مولانا؟
قال: هذا هو الاعتدال، أدير ظهري لرأس البغلة ولا أديره لرءوس الآدميين! (2-18) يسمع صوته من بعيد
ورأوه يوما وهو يغني ويجري، فسألوه: ما بالك تغني وتجري؟
قال: أحب أن أسمع صوتي من بعيد! (2-19) لماذا ينتشرون؟
سألوه: لماذا ينتشر الناس في جوانب الأرض، ولماذا يذهبون ذات اليمين وذات اليسار كل صباح؟
فتأمل قليلا ثم قال: لو ذهبوا إلى ناحية واحدة، لمالت بهم الأرض وانكفأت بهم في هاوية ليس لها قرار! (2-20) لماذا لا تأكله؟
ومر بفرن تتصاعد منه رائحة الخبز الساخن وهو يشتهيه، ولا يقدر عليه لخلو يده، فاتجه إلى الفران وسأله: ألك كل هذه الرغفان؟
قال: نعم.
قال: ولماذا لا تأكلها يا أحمق؟ (3) نوادر التحامق والتباله
وهذه نوادر منسوبة إلى جحا تتوسط بين الحكمة البينة والحماقة البينة، لا نقتصر في اختيارها على النوادر التي يصطنع فيها الحماقة ويتكلفها كأنه يمثلها ويستعيرها، ولكننا نختار من هذه النوادر كما نختار من النوادر التي لا تحسب بطبيعتها من الحكمة ولا تحسب من الحماقة، ولكنها تتوسط بينهما وتغلب عليها هذه مرة وتلك أخرى، وكلها قد نسبت إلى جحا كما نسبت بموضوعها أو بمغزاها إلى ذوي السمعة الفكاهية من أمثاله. (3-1) أحمق وأحمقان
رآه الطحان يأخذ من قفف الناس ويضع في قفته، فصاح به: ما هذا يا جحا؟
قال جحا: لا تؤاخذني فإنني رجل أحمق.
قال الطحان: لو كنت أحمق لأخذت من قفتك ووضعت في قفف الناس!
قال: ويحك! أنا أحمق واحد، ولو صنعت كما تقول لكنت أحمقين! (3-2) ما لا يغتفر
ولقيه بعضهم يلهو فقال له: أنت هنا تلهو وامرأتاك تقطع إحداهما الأخرى؟
ولم يشأ أن يدع مجلسه فسأل الرجل متضاحكا: أقالت إحداهما للأخرى شيئا يتعلق بالعمر؟
قال: كلا.
قال: إذن لا داعي للوساطة، فإنها مشكلة سليمة! (3-3) مرق مرق المرق
جاءه ضيف ريفي ومعه أرنب فأكرمه وشيعه كما استقبله بالحفاوة والتحية.
ثم مضى أسبوع وجاءه ضيف من بلدة صاحب الأرنب وقال له إنه جاره القريب.
ثم مضى أسبوع أو أسبوعان وجاءه من تلك البلدة جيران كثيرة يزعمون جميعا أنهم جيران الرجل في داره أو حقله أو دار أحد من أهله.
فأجلسهم جميعا على السماط وجاءهم بطست كبير فيه ماء غال، وأومأ إليهم قائلا: تفضلوا فكلوا من مرق مرق الأرنب، يا جيران جيران صاحب الأرنب المشئوم! (3-4) بلبل ولا كالبلابل
وصعد على شجرة يقطف من ثمرها، فحضر صاحب البستان وفاجأه وهو على تلك الحال.
قال صاحب البستان: من أنت يا هذا؟
قال جحا: أنا بلبل أتنقل على الأغصان.
قال صاحب البستان: أسمعنا إذن من غنائك أيها البلبل العجيب.
فتغنى جحا بصوت لا يسمع ولا يشبه تغريد البلبل، وقال صاحب البستان: ما هذا بتغريد بلابل.
قال جحا: هاتها واسمعها، ألم تقل إنني بلبل عجيب؟ (3-5) مصيبة أكبر من مصيبة
ونظر تيمور إلى وجهه في المرآة بعد أن تنعم وتعود معيشة القصور فانقبض لمنظره القبيح، ولمح وزيره انقباضه فأخذ يواسيه على عادة الوزراء بما يسري عنه، وقال له فيما قال: مثلك أيها الخاقان الأعظم لا يأسى على جمال الوجوه وقد أعطاك الله بسطة في الجسم وبسطة في القوة وبسطة في الثروة والسلطان، وإنما يأسى على جمال الوجوه النساء وأشباه النساء من الرجال.
فانبسطت أسارير الطاغية، وابتسم راضيا عما قاله الوزير، ولكنه التفت إلى الخوجة نصر الدين فرآه يبكي ويستخرط في البكاء.
قال له: ما خطبك يا خوجة نصر الدين؟ أنا صاحب المصيبة تسليت وأنت تأبى أن تتسلى؟
قال جحا: معذرة يا مولاي، إن مصيبتي أكبر من مصيبتك أضعافا مضاعفة. أنت نظرت إلى وجهك مرة فانقبضت، فماذا أصنع أنا الذي أنظر إليك بالليل والنهار مرات؟ (3-6) نقل
دخل لص منزله وحمل بعض أثاثه، فحمل هو بقية الأثاث حتى دخل وراء اللص إلى داره.
ونظر اللص وراءه فرآه يدخل الدار، فسأله: من أنت يا هذا؟
قال: أنا صاحب هذه الدار التي نقلتنا إليها! (3-7) كلهم محقون
اختصم رجلان من أصدقائه وجاءه أحدهما يعرض عليه شكواه، فقال له: إنك محق في شكواك أيها الصديق.
وجاءه الصديق الثاني في اليوم التالي فعرض عليه شكواه فقال له كما قال لخصمه: أنت محق أيها الصديق.
وكانت امرأته تسمع القصتين فسخرت منه قائلة: يا لك من منافق! خصمان مختلفان، وكلاهما محق في شكواه؟!
قال: ولماذا تغضبين؟ أنت محقة أيضا فيما تقولين؟ (3-8) تنقلب الدنيا
وأراد أن يتزوج، فبنى دارا تتسع له ولأهله، وطلب من النجار أن يجعل خشب السقوف على أرض الحجرات، ويجعل خشب الأرض على السقوف، فراجعه النجار دهشا ولم يفهم ما يعنيه.
قال جحا: أما علمت يا هذا أن المرأة إذا دخلت مكانا جعلت عاليه سافله؟ اقلب هذا المكان الآن يعتدل بعد الزواج. (3-9) خروف على عيبه
وأرسله أبوه يشتري له رأس خروف مشوي بأقل من ثمنه، فأكل في الطريق لسانه، ثم راودته نفسه فأكل عينيه، ثم أكل أذنيه، ثم أكل شواته (جلدة رأسه) ومخه، وذهب به إلى أبيه جمجمة نخرة.
فجعل أبوه يقلبها ويسأله: أين مخه؟
فيقول جحا: كان مجنونا بغير عقل.
فيسأله: وأين عيناه؟
فيقول جحا: كان أعمى.
ويسأله: وأين شواته؟
فيقول جحا: كان أقرع.
ويسأله: أين لسانه؟
فيقول: كان أخرس أعجم.
قال أبوه: فاذهب رده إلى صاحبه.
قال: إنما اشتريته بقليل الثمن على البراءة من كل عيب. (3-10) العقاب قبل الذنب
وناول بنته الصغيرة جرة تملؤها، وحذرها أن تكسرها، وأنذرها لئن كسرتها، ليصفعنها هكذا، وأردف الإنذار على الأثر بصفعة قوية أبكتها.
فنظر إليه عابر طريق ولامه على ضرب البنت الصغيرة في غير جريرة، وقال له: أتضربها قبل أن تكسرها؟
قال: يا أحمق، إنما ضربتها لتعرف ألم العقاب فتحذره، وأما بعد كسر الجرة فما الفائدة من ضربها؟ (3-11) العائل الأكبر
سأله الأمير: كم عيالك؟
قال: سبعة!
فأعطاه لكل من عياله مائة درهم، وخرج جحا، ثم عاد إليه على الأثر وهو يقول: نسيت واحدا أيها الأمير أنفق من مالي عليه كما أنفق على هؤلاء.
قال الأمير: من يكون يا ترى؟
قال: أنا أكبر عيالي أيها الأمير. (3-12) يأكلون بالضرب
وذهب إلى قونية، فاعترضه في طريقه دكان حلوى تعرض فيه أصناف الفطائر والفاكهة المسكرة صابحة شهية فأهوى عليها يأكل منها بلا استئذان، وأهوى صاحب الدكان عليه بالعصا يريد أن يحول بينه وبين حلواه، فتغابى جحا وراح يثني على أهل قونية، ولم يزل يقول: يا لكم يا أهل قونية من قوم كرام، تطعمون الناس بالعصا والكرباج! (3-13) ماذا يفعل الحذاء؟
ولبس حذاء جديدا، فنظر إليه بعض الشطار وأرادوا أن يحتالوا عليه ليسرقوه، فسألوه: أتستطيع أن تصعد على هذه الشجرة وتأتي بشيء من ثمرها؟
قال: نعم، فكم جعلتم؟
فأعطوه ما تيسر لهم وانتظروا أن يخلع حذاءه ليصعد، فلم يفعل، بل صعد على الشجرة ومعه حذاؤه تحت إبطه.
قالوا: وماذا تصنع بالحذاء على الشجرة؟
قال: إذا ألقيت إليكم الثمر فماذا يعنيكم من الحذاء؟ أما أنا فلعلي أجد لي طريق سفر من أعلى الشجرة فأذهب ولا أعود إليكم. (3-14) لولاك يا كمي
وذهب إلى وليمة بثياب العمل، فطرده الخدم من الباب، فعاد إليهم بثيابه المدخرة، وعليه حلة من الحلل التي يخلعها عليه الأمراء، فأكرموه وتقدموه إلى مكان المائدة، فغمس كمه في الصحان واحدة بعد واحدة، وطفق يقول له كأنه يناجيه: «كل، كل يا كمي، فلولاك ما وصلت إلى هذا الطعام! (3-15) ماذا أضاعت؟
وقيل له: إن امرأتك أضاعت عقلها، فأطرق يتأمل، وقام إلى داره يبحث فيها.
قالوا: ماذا تصنع يا جحا؟
قال: إنكم تقولون إنها أضاعت شيئا، ولن يكون ذلك الشيء عقلها، فإنني لا أعرف لها عقلا تضيعه! (3-16) بالدور
وقيل له: إن امرأتك تتردد على البيوت وتطيل المكث فيها.
قال: غير صحيح، ولو كان صحيحا لوصلت إلى دارنا. (3-17) أصدق من الحمار!
ورجاه بعض جيرانه أن يعيره حماره، فاعتذر له بذهابه إلى الغيط ثم نهق الحمار وهو يكلمه، فعاتبه الجار قائلا: أليس هذا حمارك ينهق في الدار، وأنت تزعم أنه ذهب إلى الغيط؟
قال: سبحان الله! تكذبني وتصدق الحمار؟ (3-18) يصلح لكل شيء
وسأل امرأته، وقد جاءها برطل من اللحم: لماذا يصلح هذا؟
قالت: يصلح لكل شيء!
قال: فاطبخي عليه إذن كل شيء. (3-19) قسمة الله
واختاره قوم للقسمة بينهم فسألهم: أترضون قسمة الله أو قسمة عبيده؟
قالوا: بل قسمة الله.
فأعطى أحدهم درهمين، وأعطى الثاني دينارين، وأعطى الثالث لحافا، وأعطى الرابع سريرا عليه خشبة، واستبقى سائر التركة بين يديه.
قالوا: ويلك! أهذه قسمة الله؟
قال: انظروا حولكم تفهموا قسمة الله وحكمة الله. (3-20) منوم موصوف
وطلبت منه امرأته أن يعود إليها في طريقه من المسجد بدواء منوم لطفلهما الذي يؤرقهما بالبكاء والصياح.
فعاد وليس معه غير الكتاب الذي يقرؤه.
قالت: لعلك نسيت الدواء؟
قال: معاذ الله، هذا هو الدواء، وقد جربته اليوم في الكبار فناموا جميعا، فجربيه أنت في الصغار.
الفصل الثامن
موازين غير محكمة
هذه النوادر الستون التي تقدمت في الفصل السابق تصور لنا أقسام النوادر التي تنسب إلى جحا، وقد تنسب إلى غيره، ومنها ما ينبئ عن حكمة ظاهرة، وما ينبئ عن بلاهة ظاهرة، وما ينبئ عن بلاهة مستترة بين الحكمة والبلاهة.
وتندر بينها النادرة التي لم تنسب إلى مصادر متعددة من الحكماء والحمقى والمحمقين، وبعضها يروى عن أناس في الغرب الحديث كالنادرة التي تروى عن الشجار بين المرأتين، فإن الأولى تروى عن نابليون وطبيبه، والثانية تروى عن سن الولادة في الرجل، والنادرة التي تروى عن جولد سميث الكاتب الإنجليزي المشهور الذي قيل فيه إنه أحمق الناس إلا حين يتناول القلم، فهو إذن من أحكم الناس.
قيل إن نابليون سأل طبيبه حين كان مشغولا بأمر ولاية العهد: «هل يولد للرجل في الستين؟ وهل يولد له في السبعين، وهل يولد له في الثمانين؟» فكان جواب الطبيب عن ابن الستين نعم، وعن ابن السبعين نعم في الندرة، وعن ابن الثمانين أنه يولد له إذا كان له جار في العشرين.
وقيل إن امرأة جولد سميث وأخته تشاجرتا وهو غائب عن المنزل، فأدركه أحد جيرانه وأنبأه بأمر هذه المشاجرة، فسأله: هل قالت إحداهما للأخرى أنت شوهاء. قال الجار: كلا. قال: إذن هي مشاجرة مأمونة.
وقد سبقت الإشارة إلى نوادر متشابهة بين الفكاهة المصرية والفكاهة في المجر وأوروبا الوسطى، ولا يصعب تعليل ذلك بتوارد الخواطر في الجواب البسيط على سؤال واحد أو سؤالين، وقد يعلل الكثير منه باطلاع الغربيين على النوادر التي ترجمت لهم في العربية في القرون الوسطى، وقد يكون المتشابه من تلك النوادر إضافة جديدة في الكتب المطبوعة لم تتداولها ألسنة الناس قبل ذلك.
إلا أن النوادر التي لا شك في مصدرها الشرقي كثيرة بين النوادر المنسوبة إلى جحا وأمثاله، وهي على الجملة نوادر الزوجتين والقضاة الدينيين والضيافات التقليدية ونوادر الصيام والصلاة والفتاوى وما هو من قبيلها.
فهذه لا شك في مصدرها الشرقي من تخوم الصين إلى آسيا الصغرى ووادي النيل، فأين هو معيار النسبة الصحيحة بين كل هؤلاء الأقوام والأمصار والأقطار؟
في النسبة التاريخية بعض المعايير النافعة على غير حسم ويقين؛ لأن النادرة قد تقع في القرن الثاني أو الثالث وتصحف بعد ذلك لتوائم القرن الذي نقلت إليه، وما لم تكن مكتوبة في مرجع معروف التاريخ فلا سبيل إلى الجزم بنسبتها إلى زمن من الأزمنة على وجه اليقين.
والمعيار الآخر «تقريبي» كالمعيار التاريخي لا ينتهي بنا إلى الحسم ولا يسلم من اللبس والاشتباه، وذلك معيار الخصائص القومية التي نميزها بالظن ونقارب بالظن بينها وبين النوادر التي توائمها ولا توائم غيرها.
وقد أسلفنا أن طبيعة الفرس تغلب عليها الصوفية والمحاولة الدبلوماسية، وأن طبيعة الترك يغلب عليها تحصيل الحاصل مبالغة في الواقع، وأن طبيعة العرب يغلب عليها الخيال والقياس المنطقي، وتبالغ بها الفكاهة فتجنح بها إلى الوهم والقياس مع الفارق الواحد أو الفوارق الكثيرة.
أفلا يعقل أن العبقرية التي أخرجت لنا القول بتسخير الجسم والأعضاء لحالات الروح تخرج لنا مع الفكاهة - والمحاولة الدبلوماسية - قصة الإوزة التي يخلق لها الخوف رجلين، والرجل الذي يخلق له الخوف أربعا إذا عدا وراءه من يشد عليه بالعصا؟
جائز أو راجح، وهذا غاية ما هناك، ومثلها نادرة الولد العاق الذي مسخته دعوة أمه حمارا ثم عاد إلى الآدمية ببركة الشيخ.
وكذلك يعقل أن تحصيل الحاصل يخرج لنا في بلاد الترك قصة المرأة التي يقال لزوجها إنها تدور في البيوت، فيأخذ بالواقع - المفرط - ويقول: لو صح ذلك لدخلت إلى بيتنا. •••
ومثل هذه القصة قصة الرجل الذي يصطنع التعمية ويعلن أنه يعطي أكبر «خوخة» في المنديل لمن يخبره بما فيه، ومثلها قصة الرجل الذي يضربونه لأنه يأكل الحلوى فيحمدهم لأنهم يكرهونه على الأكل بالسوط والعصا.
كذلك يعقل أن القياس مع الفارق يخرج لنا نادرة الرجل الذي باع نصف الدار ليشتري النصف الآخر وتخلص له الدار بنصفيها، فما كل شراء يجمع للشاري بين النصفين ولكنه قياس مع الفارق لشراء على شراء، والحماقة التي أدخلت في روع صاحبها أن السحابة علامة صالحة للحفرة التي تحفر تحتها؛ هي بعينها التي ترى على الرمح روثة فلا تفهم منها إلا أن الدابة صعدت على الرمح، لا يبقى عليها إلا البحث في طريق الصعود.
هذه معايير تقريبية لا نأخذ بها ولا نهملها؛ لأن إهمالها إهمال لدراسة واسعة من دراسات العصر قابلة للمزيد من التوسع والأحكام.
وقد تعمدنا أن نختار بين النوادر السابقة طائفة من أشهر النوادر بين العامة والخاصة في البلاد العربية؛ لأنها اشتهرت حتى أصبحت علما على جحا دون غيره من جمهرة الناس التي تتناقل النوادر والأحاجي من فم إلى فم ولا ترجع إلى الكتب والأوراق، فليس من الجائز أن تسقطها من كتاب يدور فيه الكلام على جحا وما ينسب إليه من النوادر والحماقات، ومعظم نوادر جحا من قبيل هذه النوادر الساذجة في تأليفها وموضع الحكمة فيها، ولعلها ثلاثة أرباع المجموعة التي بلغت قرابة ستمائة، وعتها الطبعة التركية كلها إلا القليل الذي تناثر من صدر الإسلام إلى أيام الدولة العباسية بين كتب الأدب والفكاهة، وفيها من الأسلوب الأدبي والذوق الفني ما ليس في معظم النوادر الشائعة، فإن هذه النوادر الشائعة أقرب إلى النفاية التي تتناقلها العجائز لتسلية الأطفال ومن هم في مثل مداركهم من السذج والجهلاء، وموضعها بين المحفوظات الشفوية التي يسميها الغربيون بالفولكلور أوقع من موضعها بين كتب الأدب والفكاهة الفنية.
الفصل التاسع
جحا في الأدب
جحا في الأدب، أو على الأصح النوادر الجحوية في الأدب؛ لأن هذه النوادر على أنواعها موزعة بين زمرة من الحمقى والمحمقين بدأت الكتابة عنهم من القرن الأول للهجرة، واشتهر منهم في الأدب العربي رهط يبلغ العشرة ويزيد عليها، منهم هبنقة الأحمق، وباقل العيي، وأشعب الطفيلي، وماني الموسوس، وأبو العبر المتحذلق، ومزبد المديني، والحموي الشاعر، وغيرهم من المحتالين بالحماقة أو التطفيل أو الخلاعة، وليس فيهم من الخلة الجحوية إلا اتساع كلمة الغفلة للاشتقاق بين غافل ومتغفل ومتغافل، على بعد ما بين هذه المشتقات من المعاني والألوان.
وهؤلاء الذين وردت أخبارهم في كتب الأدب أرفع في طبقة «الذوق الفني» من جحا في جملة نوادره وأخباره، فليس فيهم من يسف بأضاحيكه إلى الصبيانية أو السذاجة السخيفة كما يلاحظ على الكثير من نوادر جحا التي وصلت إلينا مضافا إليها نوادر المجموعة التركية، وهي محيطة بما وضعه الترك وما وضعه غيرهم من عامة الشعوب الشرقية الإسلامية، وبعضه مما وضعه غير المسلمين من جيران الترك العثمانيين - كالأرمن - ونسبوه إلى جحاهم المسمى عندهم باسم «أرتين».
وعلة هذه النقاوة فيما أثبته المؤلفون المتأدبون أنهم أسقطوا البارد الغث من النوادر، ولم يثبتوا إلا ما فيه معنى وله طعم في مذاق الأديب والفنان، فلا تجد - مثلا - في تلك النوادر ما تحسبه من تأليف الصبيان أو أشباه الصبيان من السذج والجهلاء، وما فيه دليل على الغفلة أو التغافل فهو دليل عليهما بحق في عرف الذكي اللبيب، وليس مما يكثر فيه الخلط ليحسب من الغفلة أو التغافل في عرف الصغار والأغرار.
ولو كانت كل النوادر الجحوية من قبيل نوادر المزبد أو الحموي لكانت طرازا من هذا الفن لا يعدله طراز في لغة من اللغات، ولكانت بابا من أبواب الدراسات الصادقة للفكاهة الفنية والعوارض النفسية التي يعتمد عليها من يجد في البحث عن شواهد التحليل.
فمن كلام الحمدوني حين لاموه على التحامق: «إن حماقة تعولني خير من عقل أعوله.»
ومن أضاحيك المزبد أنه هم بتطليق امرأته فذكرته طول الصحبة، فقال لها: «والله ما لك ذنب غيرها.»
ومن أضاحيكه أنه سمع عن صيام يوم بمثابة صوم سنة، فصامه إلى الظهر وأفطر، وقال: «حسبي من الثواب ستة أشهر، نحسب منها شهر رمضان.»
ولو اجتمعت ستمائة نادرة من هذا الطراز لكانت كما أسلفنا ذخيرة لا تعدلها ذخيرة في آداب العالم، ولكنها لا تجتمع بطبيعتها ولا مناص من اختلاطها بالسخف والهراء كلما تناقلها العديد الأكبر من عامة الرواة، وأضافوا إليها ما يخترعونه باجتهادهم على حسب مداركهم، أو ما يستدركون به الفوات والنسيان.
والكتب التي جمعت هذه النوادر المنتقاة تعد من أمهات كتب الأدب إلى أيام الدولة العباسية، ثم يعرض لها الإسفاف والابتذال فيما بعد ذلك من جراء الشيوع والذيوع أو من جراء الهزال والاضمحلال في دور المهانة والجمود.
وأشهر هذه الكتب نثر الدرر للآبي، والأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، والمحاضرات لأبي القاسم الراغب الأصفهاني، والبيان والتبيين للجاحظ، وعيون الأخبار لابن قتيبة، وأخبار الحمقى والمغفلين لابن الجوزي، والعقد الفريد لابن عبد ربه، وفوات الوفيات لابن شاكر، وذيل زهر الآداب للحصري، والمستطرف للأبشيهي، وثمرات الأوراق لابن حجة الحموي، وحلبة الكميت للنواجي. ثم يلي هذه الطبقة كتاب الفاشوش في حكم قراقوش لابن مماتي، وكتاب مضحك العبوس لابن سودون المجنون، ويستطرد الإسفاف بعد ذلك إلى القرن الرابع عشر للهجرة، وفيه ظهرت مجاميع النوادر المنسوبة إلى جحا منقولة عن أخلاط الألسن في كل أمة تناقلت هذا الاسم بين الأمم الشرقية.
الأدب الجحوي بعد النهضة الشرقية
وقد ازدهر الأدب الجحوي بعد النهضة الشرقية الحديثة، فظهرت المؤلفات عنه على مناهج شتى، يقتبس بعضها من نوادره للأغراض التعليمية، ويستخدم بعضها هذه «الشخصية» لأغراض النقد الاجتماعي على طريقة جحا في التحامق والحكمة التي تجري على ألسنة المجانين، ويعنى بعضها بالإحصاء التاريخي والاستقصاء في تدوين الروايات والأسانيد، ويرجع هذا الازدهار في الأدب الجحوي بعد عصر النهضة الحديثة إلى العناية بإحياء الآثار السلفية، كما يرجع إلى شيوع النقد الاجتماعي بأسلوب الجد والفكاهة.
ولقد نبهت النهضة الشرقية أناسا من الأجانب المقيمين في الشرق - كما نبهت الشرقيين - إلى استكشاف طبائعه وملامحه وألوان شعوره وتفكيره، فكان من هذه الألوان البادية هذا اللون من الفكاهة الشعبية التي تدور حول «شخصية جحا» الساذجة ونوادره التي يتداولها الشعب للسخر منها أو للسخر بها، وقام اثنان بترجمة نوادر جحا إلى الفرنسية باسم «كتاب جحا الساذج» هما ألبرت عداه وألبرت جوسيبوفيشي
Albert Ades and A. Josiponici
الذي كان من موظفي القصر الملكي، وممن حضروا بعض الدروس الإسلامية في الأزهر الشريف، وكان مولده بالقسطنطينية سنة 1892 فكانت له معرفة بالتركية والعربية واطلاع على نوادر جحا في مصادرها المختلفة، وأما صاحبه ألبرت عداه فقد ولد بالقاهرة سنة 1893، وتعلم في مدارسها وحضر بعض الدراسات الأزهرية، وأمكنه أن يفهم النوادر في لهجتها الشعبية أو لهجتها المعربة الشبيهة بالشعبية.
وقدم الكتاب المترجم إلى قراء الفرنسية الأستاذ أكتاف ميربو
Mirbcau
بكلمة موجزة كتبها في أثناء الحرب العالمية (25 أكتوبر سنة 1916) وقال فيها إن المؤلفين لا يشرحان شيئا؛ لأن الحياة لا تشرح نفسها، وما كان «جحا» إلا فلذة من الحياة الشرقية تعيش ولا تحتاج حيث تعيش إلى تفسير؛ لأن النوادر لا تبحث لنا عن غير المألوف أو عن الخوارق والغرائب، وإنما تعطينا مألوفات الحياة الدارجة بغير بحث ولا انتقاء، وإذا بدا فيها أثر من الغرابة فإنما ترجع هذه الغرابة إلى اختلاف الجيل مع تشابه الشخصيات وتكرار أمثالها في كل جيل.
وما كاد هذا الكتاب يظهر بالفرنسية حتى ترجم إلى اللغات الأوروبية وأقبل عليه المثقفون لأنه معرفة يستزيدونها، كما أقبل عليه عامة القراء لأنه يروقهم بفكاهته ووقائع الحياة الممثلة فيه، ومن هذه التراجم ترجمة بالإنجليزية ظهرت باسم جحا الأحمق
Goha the fool ، أو جحا الغر «البسيط».
وآخر ما ظهر من الكتب الأوروبية عن جحا كتاب مغامرات بخارى الذي ألفه الكاتب الروسي ليونيد سولفييف
Leonde Soloviev (سنة 1938) وترجمه إلى الإنجليزية تاتيانا شيبونينا
Shebunina
في هذه السنة، واتخذ المؤلف من شخصية جحا في هذا الكتاب داعية جوالا يضطرب في البلاد الآسيوية هربا من ظلم الحكام، وكراهة للمقام، ويمضي هنا وهناك ليشهر بالنظم الحكومية التي ترهق الناس بالضرائب وتلتمس لها أسبابا من الهباء لا تعفي منها المقيم ولا المترحل بين الأرض والسماء، ومثال هذه المعاذير التي تنتحل لتحصيل الضرائب أن المكاسين استوقفوا جحا على باب مدينة ليسدد الضرائب عمن ينوي أن يزورهم فيها، فلما قال للمكاسين إنه لا يقصدهم للزيارة بل للعمل والتجارة طالبوه بالضريبة ضعفين: إحداهما للعمل المربح والأخرى للزيارة «الضمنية»؛ لأن من يتجر مع قوم يزورهم بغير مراء.
ونخال أن القراء الغربيين أقبلوا على نوادر جحا لأنها وافقت عندهم نماذج من الشخصيات المضحكة يألفونها ويتناقلون حكاياتها الصحيحة أو الموضوعة. وربما كانت نوادر جحا نفسه قد تسربت إلى الغرب بالتنقل والرواية الشفوية والاطلاع على الكتب العربية في أصولها أو ترجمتها، ولا يبعد أن يكون كثير من هذه النوادر قد انتقل من المغرب إلى أبناء جزيرة مالطة الذين يتحدثون في لغتهم الممتزجة بالعربية عن شخصية كشخصية جحا تسمى عندهم جهان، وهو تصحيف يسير كتصحيف كثير من الأسماء العربية التي يتسمى بها أبناء تلك الجزيرة. أما اسم «جوكا» المشهور باللغة الإيطالية فلا نخاله من قبيل هذا التصحيف كما خطر لبعضهم؛ لأن مادة «جوكا» بمعنى المزاح والضحك شائعة في اللغات الغربية اللاتينية والسكسونية، ومنها كلمة «الجوكندا» لصورة موناليزا الخالدة بمعنى «المبتسمة» من عمل ليوناردو دافنشي الفنان الكبير.
وقد أشرنا فيما تقدم إلى شخصيات في الغرب تشبه شخصية «جحا » في جانب الحكمة تارة وفي جانب الحماقة تارة أخرى، ولا ننسى في هذه العجالة أبقيت هذه الشخصيات لأنها باقية إلى يومنا هذا عنوانا لصحيفة سيارة باسم «البنش»
المختزل من اسم
من بقايا التمثيل الصامت في العصور الوسطى أو «القرقوز» المعروف عندنا بصندوق الدمى والألاعيب؟
والتناقض كثير في رد هذه الكلمة إلى أصلها القديم، فمن الشائع في الأسانيد الشعبية الإيطالية أن الاسم مصحف من اسم مهرج سخيف يسمى بتشيو دانيلو
كان معروفا في القرون الوسطى ثم اتخذوا اسمه علما على صناعة التهريج.
ولا سند لهذه الرواية غير الإشاعة والمشابهة في اللفظ مع الاختزال والتصحيف. والأرجح أن الاسم مصحف من اسم بنشيوس بيلات
أو بيلاطس الذي حدثت في عهد ولايته محاكمة السيد المسيح، فقد كانت هذه «الشخصية» محور السخرية والإهانة في المسرحية الدينية التي كانت تمثل محاكمة السيد المسيح وتعرض أعداءه في صورة رمزية يقابلها النظارة بالتهكم والاستهزاء. وقد يكون وصف القرقوز بالسواد - كما يسمى باللغة التركية - منظورا فيه إلى هذه المسرحية «السوداء»، أو مأخوذا من الستار الأسود الذي يحجب الدمى والألاعيب. وهكذا تنتقل الشخصيات والمناظر بين الشعوب ثم تنعزل في كل أمة بخصائصها بعد نسيان وسائل الانتقال.
وأيا كان مصدر هذا «البنش» فهو باق إلى اليوم يصغي الناس إلى فكاهاته متفرعة متجددة، متطورة، كما نقول بمصطلحات زماننا وقلما يعنيهم أن يتتبعوها إلى جذرها القديم. •••
ومن أطوار الشعوب في تناقل الفنون أو الموضوعات الفنية أن نهضة الشرق نبهت الأوروبيين إلى تراث الشرقيين القديم، وأن عناية الأوروبيين نبهت إليه أناسا من الشرقيين الذين يكتبون باللغات الأوروبية، فوضع الأستاذ عسكر نحاس باللغة الفرنسية كتابا سماه «تأملات ابن جحا» يحاكي فيه الابن أباه بالحكمة المازحة والدعابة الحكيمة، ومن أمثاله قوله عن المرأة «إنها خلقت في الرجل الأنانية لتحقيق مطالبها»، وأن «امرأة واحدة تبحث عن سيد، ولكن امرأتين معا تبحثان عن فريسة»، وأن «الرجل الشرير في عين المرأة الخائنة هو السمكة التي ترفض الطعم»، وأن «المرأة تعذب رجلها عقابا له على أنها شيء لا غنى عنه لديه».
وسينشأ لجحا بعد ابنه هذا حفدة وأبناء حفدة، ولا نظنهم جميعا قالوا - بعد - كلمتهم الأخيرة باللغة العربية، أو التركية، أو بسائر اللغات، فإنهم خالدون بخلود النفس البشرية بين كل قبيل.
الفصل العاشر
خلاصة تاريخية
والخلاصة من الناحية التاريخية - وهي أقل النواحي ثبوتا وأهمية في هذا المبحث - أننا نستطيع أن نتقبل أبا الغصن جحا كما ذكره الميداني في أمثاله كأنه شخصية تاريخية لا غرابة في وجودها، ولا داعية للشك في إمكان وقوع النوادر المنسوبة إليها، فإن الذين يشبهون أبا الغصن هذا في غفلته وسهواته يوجدون في كل بيئة، وفي كل زمن، وإن تنوعت المناسبات والأحوال التي تكشف للناس عما طبعوا عليه من الغفلة.
ويلحق بأبي الغصن أناس على شاكلته لم يشتهروا مثل اشتهاره ولم يسمع بهم الأمراء والولاة كما سمعوا باسمه وخبره، فيطلق الناس عليهم اسم جحا نبزا أو تشبيها أو تغليبا أو تفيهقا بالحكاية النادرة التي تدل على علم بأخبار السلف إذا رويت عن مشهور متقدم، ولا تدل على شيء من ذلك إذا رويت عن سكان البلد في ساعتهم الحاضرة، ويعمل الوضع و«القفش» عملهما أثناء ذلك فيجتمع من النوادر الجحوية ما تصح نسبته إلى شخصية قديمة أو حديثة، وما تصح نسبته إلى أحد غير وضاعه ومخترعيه من الرواة والملفقين.
ونحن في عصرنا هذا قد شهدنا نشأة أمثال هذه الشهرة الصحيحة والمخترعة وشهدنا تطورها من مبدئها إلى مصيرها بعد عشرين أو ثلاثين سنة، وكان «الفضل» في ذلك للصحافة الأسبوعية المضحكة التي كانت تقوم في أوائل القرن العشرين على «القفش» والملحة المخترعة. ويعلم الكتاب والقراء والمستمعون أنها تلفيق يعتمد على أصل ضعيف، وأنها براعة في صناعة «القفش» ويتنافس فيها أولئك الصحفيون، وهم ولا ريب خلفاء الندماء الذين كانوا يتولون هذه الصناعة في صدر الدولة الإسلامية وما يليه من العصور قبل نشأة الصحافة.
رأينا الأديب «إبراهيم الدباغ» يأكل في مأدبة فلم نلحظ عليه شيئا من النهم الذي اشتهر به بين المتندرين، وسألنا صاحبا له فقال إنها أكلة واحدة أو أكلات قليلة بعد جوع أكسبته هذه الشهرة الباطلة. وأنت تعلم أنه كثير السخرية والاستهزاء بالأدعياء من محترفي الأدب والصحافة الذين يتزاحمون على مجالس الأغنياء. فانتهزوا «فرصة» هذا النهم الموقوت للقصاص والوقيعة وملئوا الصحف الأسبوعية «بالقفشات الدباغية» حتى أصبح «الدبغ» كلمة في اللغة الدارجة تطلق على النهم، وقد ظلت هذه الكلمة تحمل معناها المستعار إلى يومنا هذا، وأصبحنا نسمع من يقول عن أحد من الناس إنه «دباغ» وهو لا يعرف أصلا لهذه التسمية.
وقد حكينا ما رأيناه من الشيخ الدباغ وما سمعناه من صديقه لصاحب إحدى الصحف الأسبوعية التي أولعت «بالقفش» له والتلفيق عليه، فقال: «لا تنخدع به فتدعوه إلى طعام، فإنما يكف الرجل يده عن الأكل وهو مشتاق إليه ليدحض كلامنا عنه ويغرر بالحاضرين فيقعون في الشرك، ويندمون حيث لا ينفع الندم.»
فلم ندر - ونحن معاصرون لصاحب الشهرة من شهروه بها - أي القولين نصدق، وأي القفشات يعتمد على الواقع، وأيها يستمد من الفكاهة والخيال.
واشتهر رجل آخر في تلك الآونة بالمبالغة في الادعاء - أي بالفشر كما يقولون في اللهجة البلدية - وكان حقا يدعي ويبالغ في دعواه، وكان ظريفا يحسن التخلص من المأزق إذا امتحن بمن يتعقبه بالنقد والسخرية، وكان إلى هذا وذاك على يسار يطمع فيه طلاب الاشتراكات للصحف الأسبوعية في ذلك الحين، فامتلأت هذه الصحف بدعاويه وبالدعاوي المقيسة عليها مع التوسع والإغراب، وأصبح اسمه كذلك علما على «الفشر» يكاد يلغي هذه الكلمة لولا أنها متأصلة في الأقوال والأقاويل.
فلا غرابة في نشأة النوادر الجحوية سواء صحت نسبتها أو لم يصح منها إلا القليل.
وكل ما جاء في الكتب العربية من هذه «الجحويات» فلا غرابة في نشأته، ولا غرابة فيه من كل وجه إلا في التناقض بين الغفلة والتغافل في أخبار الرجل الواحد، ولا سيما الأخبار التي تتحقق صفات صاحبها ويثبت أنه من المجانين المسلوبين الذين لا يحسنون تدبير «التغافل»، ولا تجيء منهم الحكمة إلا فلتة غير مقصودة في القليل من الأحايين.
الخوجة نصر الدين التركي
أما جحا التركي المسمى بالخوجة نصر الدين فالمنسوب إليه يملأ مئات الصفحات، وبين أيدينا كتاب بالتركية مطبوع في الآستانة بالحرف الدقيق (سنة 1328 هجرية) يقع في مائتي صفحة وخمس وخمسين، ولا يستوعب كل ما نسب إلى جحا أو إلى الخوجة نصر الدين من نوادر الحكمة أو نوادر الغفلة والبلاهة.
والأمر الذي لا شك فيه أن كثيرا من هذه النوادر وضعت بالتركية ولم تنقل عن العربية، وأنها ترجع إلى شخص عاش في بلاد الترك ولم تكن نشأته على الأقل في بلاد أخرى.
ويدعونا إلى الجزم بذلك أن النوادر تشتمل على جناس يوجد في الألفاظ التركية ولا يوجد في ألفاظ لغة أخرى، كالجناس بين جل وكل في نادرة المسامير والخطوط مع لفظ الكاف كما تلفظ الجيم في بعض الكلمات، والجناس بين جمع أيوب وكلمة «أيب» بمعنى حبل في نادرة يحذر فيها الخوجة نصر الدين أبناء بلده من الإفراط في تسمية أبنائهم باسم أيوب، أو كالجناس في الاصطلاح على تسمية المطر بالرحمة وقولهم عن نزول المطر إنه رحمة نزلت «رحمة انيور» من عند الله.
ويدعونا إلى الجزم بتأليف الترك لكثير من هذه النوادر أنها تذكر المدن والأقاليم في آسيا الصغرى وما جاورها بخصائصها المشهورة إلى هذه الأيام.
ويرجح لدينا أن نصر الدين شخصية تركية غير منقولة عن الأمم الأخرى أنه نشأ في آسيا الصغرى حيث تنتشر جماعات الدراويش الدينيين من قبل الإسلام، وحيث يعهد في آحاد من هؤلاء الدراويش أن يخلطوا خلط المجاذيب ويفتوا فتوى العلماء والفقهاء، وأن يلوذوا بمظاهر التخليط أحيانا بغية السلامة من بطش الحكام المغيرين على البلاد، وقد يلوذ بهم عامة الناس إيمانا بكراماتهم وشفاعاتهم ليدفعوا عنهم مظالم الطغاة، فيحتالون على استرضاء الظالم بالفكاهة أو بالوعظ المقبول أو بالتخليط الذي ينالون به ما طلبوه من الحاكم إذا أضحكوه واستطاعوا في وقت واحد أن يلمسوا في نفسه موطن التقوى والخوف من الله ومواطن الرضا والسرور. •••
والخوجة نصر الدين مشهور بكراماته وكرامات ضريحه في مقبرة «آق شهر» بعد وفاته بزمن طويل، ويذكر الناس أضاحيكه فيضحكون منها ولكنهم يحيلونها إلى حالات أهل الجذب بين عالم الأسرار وعالم العيان، أو يحيلونها إلى حب التقية والاحتيال على الموعظة الحسنة بالأسلوب الذي يؤدي إلى مرماه ويعفيه من عقباه.
والشك الأكبر إنما يعرض لهذه السيرة من أطباق النوادر الكثيرة فيها على اجتماع الخوجة نصر الدين بتيمورلنك أثناء غزوته لبلاد الروم، والمشهور أن الخوجة نصر الدين توفي سنة 673 أو سنة 683 هجرية، فهو قد توفي قبل مولد تيمورلنك بأكثر من نصف قرن، ولا يعقل أنه رآه وحضر مجالسه إلا إذا كانت وفاته حوالي سنة (1405م) التي توفي فيها تيمور.
ولا يسهل التوفيق بين هذه الروايات إلا على فرض من فرضين: أحدهما خطأ المتأخرين في تعيين السنة التي توفي فيها الخوجة نصر الدين، والثاني أن تيمورلنك لقي شيخا آخر على شاكلة الخوجة نصر الدين فتداخلت الروايات وعلقت البقية الباقية منها بالاسم المشهور.
وأيا كان صواب النسبة في بعض النوادر التي تحتمل الخلاف فهناك جملة من النوادر لا اختلاف في وضعها بعد عصر تيمورلنك وبعد العصر المفروض للخوجة نصر الدين، وهي النوادر التي وردت فيها الإشارة إلى المخترعات الحديثة كالبندقية وساعة الجيب، أو كالنوادر التي تكذبها وقائع التاريخ العثماني وتاريخ آسيا الصغرى على الخصوص. •••
ومن الواجب أن نسلم - بداءة - بوضع العدد الأكبر من النوادر التركية أو نقلها من رواة الأمم الأخرى؛ لأن حصولها كلها من رجل واحد أمر لا يسيغه العقل ولا يروى له نظير في السوابق التاريخية، فلو أن هذا الرجل عاش ليخلق تلك النوادر وعاش الناس معه ليسجلوها، لما اجتمع من أضاحيكه تلك المئات التي تملأ المجلدات، ولا استطاع أن يأتي بما فيها من النقائص العقلية والخلقية، فضلا عن نقائص الجغرافيا والتاريخ.
فوضع العدد الأكبر من النوادر أمر مفروغ منه لا يجوز أن يحتج به المحتج على بطلانها واختلافها من أصولها، ولعل هذه النوادر الموضوعة أصح في الدلالة على أزمنتها وبيئاتها من وقائع السجلات والأرقام.
قيل إن بين الجليل الرهيب والمضحك المغرب قيد شعرة أو لمحة عين، ولا شك في هذه الحقيقة من الوجهة النفسية كما تقدم ؛ لأن الهول يتحول فجأة إلى الضحك بطارئ من طوارئ التغيير والتبديل التي تتعاقب في أيام النصر والهزيمة والقيام والسقوط بين الجبابرة وأصحاب الدولات. •••
ولا شك في هذه الحقيقة - أيضا - من الوجهة التاريخية إذا رجعنا إلى عصر تيمورلنك وأشباهه في تواريخ المشرق والمغرب، فليس أحفل بالأضاحيك من عصور التقلب وعصور الشدائد والأهوال.
وظاهرة أخرى من الظواهر الناطقة في النوادر الموضوعة تنبئنا عن زمانها الذي فشت فيه وشاع اختراعها بين جميع الطبقات.
فمنذ القرن السادس للهجرة (والثاني عشر للميلاد) هبطت المعرفة من ذروة الكرامة، وأصبح العارف الأريب من يحتال على رزقه بالمجون والمنادمة والتحامق والتشبه بالجهلاء وأصحاب الجدود من ضعاف العقول، وشاع القول «بحرفة الأدب» مغنية عن القول ببؤس العالم الأديب.
في أوائل هذا العهد ظهرت مقامات الحريري التي يجمع بطلها بين البؤس والبلاغة والبراعة في الحيلة، وفيها تواتر النظم في شكوى الزمان مقرونة بشكوى الأدب والعجب من قسمة الأرزاق، وهذه هي الناحية الأدبية من تلك الشكايات وتلك الحيل «الإنشائية» أو الفنية. وأما الناحية الاجتماعية العامة فآيتها هذه النوادر التي تعد بالمئات ولا تظهر فيها براعة اللبيب الأريب إلا في الاحتيال على أكلة أو في الاحتيال على دفع المحتالين الطامعين في قوته الهزيل. •••
وبين قصص جحا قصة عن تقسيم الأرزاق يسأل فيها جحا من ندبوه للقسمة هل يريدون قسمة الله أو قسمة العبيد، فلما حكموه في توزيع الحظوظ بينهم على قسمة الله أعطى هذا ما لم يعط ذاك وفاوت بينهم أكبر المفاوتة في الأقسام. وما كانت هذه النوادر لتشيع بين العامة من رواة «الجحويات» لو لم تكن لها مصادرها المتواترة من بعيد.
على أن النوادر «الطعامية» تنم على وجه خاص عن سذاجة في الحيلة ترجع نسبتها إلى طوائف المحرومين من الجهلاء الذين يتأسون بذوي المعرفة والتقى ولا تسعفهم القدرة على الاختراع، فغاية جهدهم هذا الذي ابتدعوه وأحبوا تعظيمه وتحقيق الأسوة فيه بنسبته إلى العارفين، وجاءت هذه النوادر الطعامية مجاوبة للمقامات الإنشائية وللقصائد المنظومة في شكوى الزمان والعجب من قسمة الأرزاق، ولم يعرف هذا كله في عصر من عصور الشرق كما عرف بعد القرن السادس للهجرة، وبعد إدبار الدولة العباسية، واجتياح تيمورلنك للعالم الشرقي من تخوم الصين إلى شواطئ بلاد الروم. •••
ونودع الآن جحا والجحويات ونحن نحمد للضاحك المضحك أنه أعار اسمه - عامدا وغير عامد - لبابا من الدراسة النفسانية والاجتماعية لم يكن ميسورا لنا بغيره، ولن يبخسه شيئا من الحمد أن يكون على وفاق مع التاريخ أو على افتراق من كل تاريخ.
صفحة غير معروفة