ومن المفيد أن نلاحظ هنا أن هذه «التقسيمات» لا تبدو غريبة للقارئ العربي الذي ألم بعلوم البيان والمعاني والبديع؛ لأن الكثير منها مقرر بتعريفاته وأمثلته وشواهده في تلك العلوم، وما من قارئ عربي ألم بعلوم البلاغة بعض الإلمام إلا وهو يعرف التورية والمقابلة والمشاكلة والهزل الذي يراد به الجد، وتأكيد المدح بما يشبه الذم، وتجاهل العارف، والإضمار في مقام الإظهار، وإخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، والتشبيه الملفوف والمفروق، والفصل والوصل، والقلب والالتفات والتغليب، والكناية والتحريف والتصحيف.
كل هذا مألوف للقارئ العربي من بلاغة لغته، كما يألف من كتب الصناعة اللغوية جميعا محكم القول في جوامع الكلم والفرائد والأوابد والمثل السائر واللحن الذي يحسب من الألغاز، والألغاز التي تحسب من ضروب الرمز أو الإيهام والتعمية.
إلا أننا لم نشأ أن نطلق هذه التقسيمات والتعريفات على ضروب الفكاهة المصطلح عليها بين المشتغلين بالكتابة الصحفية وما إليها؛ لأن مصطلحات الصناعة اللغوية وضعت في لغة العرب لتمييز درجات البلاغة ومعانيها، ولم توضع هذه المصطلحات الحديثة عند الغربيين لشيء من ذلك وإنما وضعت للتفرقة بين موضوع وموضوع من مادة الصحافة الفكاهية.
وأمر آخر يباعد بين هذه المصطلحات الحديثة وبين مصطلحات علوم البلاغة العربية، وذاك أن المصطلحات الحديثة لفنون الأضاحيك لم تزل على فجاجتها الأولى، ولم تبلغ بعد من الدقة في الأسماء والتعريفات والشواهد مبلغ نظائرها في علوم البديع والمعاني والبيان، وقد يختلط بعضها لاتفاقه في مصدر الشعور وأثره، فلا يتم التعريف بينها إلا بحكم العادة بين المشتغلين بعمل واحد يعرفون مواده وأجزاءه بالإشارة والنظرة العابرة، ولا يلزم أن يقيموا الحدود بينها بالفواصل المنطقية أو النفسانية.
على أن الاختلاف بين عناوين الفكاهات - ولو بحكم العادة - جدير أن نتوقف عنده وننظر ما يليه من التعريفات والتقسيمات التي ترجع إلى اختلاف في أصول الموضوعات أو اختلاف في طبيعة الشعور، وسوف يأتي الوقت الذي نميز فيه بين ضحكة وضحكة كما نميز بين كلمة وكلمة، ونعني بذلك تمييز الفهم والتفسير ولا نقصر الأمر على الشعور والتلبية النفسانية، فإننا الآن نميز بشعورنا بين ضحكات مختلفات كما كان آباؤنا وأجدادنا يميزون بينها بتبادل الشعور والتلبية بين نفس ونفس، وليس هذا ما يعنيه طلاب التمييز بين أفانين الفكاهات والمضحكات في الدراسات العصرية، سواء قصدوا من هذا التمييز تيسير العمل بين المشتركين فيه كما يتيسر للعاملين في حانوت واحد أن يميزوا أنواعه بحرف مرقوم على الرف أو علامة منقوشة على الصندوق، أو قصدوا من هذا التمييز أن ينفذوا إلى ينابيع الشعور المتعمقة في النفس البشرية، حيث تصدر المضحكات والمبكيات وتكمن أسباب الغرائب والمألوفات، وما ينبغي لنا أن نزعم أننا نفهم نفوسنا حق فهمها ونحن نجهل الفرق بين ما يضحكها وما يبكيها وما يقع منها موقع الألفة أو موقع الغرابة في أعمق الأعماق.
وربما كان اسم «الضحك» مغريا بالاستخفاف منافيا للجد في بواعثه ومعانيه.
ولكن البحث عن أسباب الضحك جد كأصدق الجد الذي يعرفنا بنفوسنا كما يعرفنا بها أعظم العظائم وأفدح المحزنات، بل ربما كان الأمر «المحزن» يسير التعليل؛ لأننا لا نحار فيه ولا يخفى علينا أنه يرجع إلى حب السلامة وكراهة الضرر والإصابة، وربما كان لنا - نحن الآدميين - شركاء في الشعور بالمحزنات بين الحيوانات العليا وبعض الحيوانات الدنيا؛ لأن الحزن عندها بمثابة رد الفعل الجسداني لكل ألم وكل مكروه. أما الضحك فليس من سهولة التفسير بهذه المنزلة، ولا سيما الضحك الذي يتشعب ويتفرع وتتباعد مصادره من النفس أو تتقارب - مع التفرقة بينها في الأسماء - حتى يلتبس موضوع منها بموضوع وعنوان بعنوان.
هذه عوارض نفسية يختص بها الإنسان ولا يشاركه فيها حيوان من الحيوانات السفلى أو العليا، بل يعتقد الكثيرون من علماء الأجناس البشرية أن القبائل البدائية من الناس لا تضحك ولا تدرك الضحك، وأن هذه الظاهرة المترقية في سلم الإنسانية لا تشاهد بين الهمج إلا بعوارض العصبية التي لا تدخل في حيز الإرادة، كأنها ضحكة المقرور أو ضحكة المتشنج، وحتى هذه الضحكات التي تشبه العوارض المرضية لا تشاهد بين الهمج على كثرة تجعلهم يلتفتون إليها ويسمونها بكلمة من كلماتهم القليلة، فهي والتخبط من الصرع عندهم سواء.
لا جرم يجد الفلاسفة غاية الجد في النظر إلى الضحك وأسبابه منذ عهد بعيد، ولا يجدون اليوم وغدا في هذه الدراسة بين نفسانيين واجتماعيين ونقاد للفنون والآداب.
ونحن في هذه الرسالة نريد أن نعرف «جحا» ونريد أن نعرف الإنسانية كلها بهذه المعرفة. •••
صفحة غير معروفة