الأصول العامة في الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيكا: مع دراسة تطبيقية على الشرق الأوسط
تصانيف
في الغالب نجد بحار الاتصال هي تلك البحار الداخلية الهادئة نسبيا، ذات المجموعات الجزرية في أغلب الأحيان، وفي هذا المجال يمكننا أن نميز ثلاثة بحار متوسطة في العالم، كان لها دور الوصل أكثر من الفصل في تاريخ وعلاقات الشعوب والحضارات، ومن ثم كانت أقدارها السياسية متشابكة، وهذه البحار المتوسطة هي (انظر الخريطة رقم 16): (1)
البحر المتوسط الأورو أفريقي الممتد بين القارات الثلاث: أوروبا وأفريقيا وآسيا، والمتمركز في قلب العالم الحضاري القديم والأوسط، والذي يكون حاليا مجالا حيويا للحركة التجارية بين العالم الغربي وعالم الخامات والقوميات الجديدة في الشرق الأوسط وأفريقيا والمحيط الهندي، ولا نريد أن نعيد إلى الأذهان أن هذا البحر كان الطريق الأكثر أمانا للحركة والتجارة بالقياس إلى اليابس المحيط به منذ أقدم العصور، فعلاقات مصر الفرعونية مع ساحل الليفانت وقبرص وكريت تكرست وازدهرت عبر مياه البحر، وكذلك كان ازدهار المدن الفينيقية والإغريقية مرتبطا ارتباطا عضويا بالبحر المتوسط، وبالمثل كانت علاقات الرومان البحرية والسياسية في البحر المتوسط الركيزة التي مكنتها من امتداد نفوذها إلى أوروبا الغربية، وكذلك كان سعي ممالك العراق القديم والفرس للوصول إلى واجهة البحر المتوسط في فينيقيا والأناضول عبارة عن استكمال للسيطرة على طريق التجارة الرئيسي برا (وسط آسيا وهضابها الغربية) وبحرا (البحر المتوسط)، وبالمثل كانت الدولة الإسلامية في دمشق وبغداد والقاهرة قوى مرتبطة بشدة بعالم البحر المتوسط، شريان الاتصال الحضاري والاقتصادي في العالم آنذاك، وقد أعاد نابليون - بأفكاره الجيوبوليتيكية البارعة - الحياة إلى البحر المتوسط بحملته على مصر والشرق، بعد أن طال ركود هذا البحر بانتقال التجارة إلى المحيطات الواسعة، وأخيرا فإن قناة السويس كان لها الفضل في إعادة ما كان لهذا البحر من أهمية سالفة، وتمثل الصراعات السياسية المعاصرة على هذا البحر أهميته كمنطقة أعمال حيوية ذات صلات واسعة مع أمم وبلاد كثيرة في العالم؛ فالصراعات الإنجليزية الفرنسية، ثم الصراعات الإنجليزية والفرنسية من جانب ضد الصراع الإيطالي الألماني من جانب آخر، وأخيرا صراعات الكتلتين الشرقية والغربية والقوى القومية في الشرق الأوسط.
خريطة (16): ثلاثة بحار متوسطة. حدود الانغلاق الأرضي على حوض البحر. رسمت البحار الثلاثة على مقياس رسم موحد، المستطيل المنقوط يمثل المسطح الأساسي لحوض البحر المتوسط القديم بالنسبة لمسطح البحرين الآسيوي والأمريكي. (2)
البحر المتوسط الآسيوي: ويتمثل هذا في مجموعة بحار جنوب شرق آسيا بين الصين الجنوبية والهند الصينية والهند من ناحية واليابس الأسترالي الشمالي من ناحية ثانية، هنا نجد عدة بحار متداخلة فيما بينها: بحر الصين الجنوبي - وخليجا تونكين وسيام - وبحر أندمان بين لسان الملايو في الشرق وجزر أندمان ونيكوبار في الغرب وساحل بورما في الشمال، ولهذا البحر امتداد كبير شديد الحيوية هو مضيق ملقا بين سومطرة والملايو، وفضلا عن هذين البحرين هناك المسطحات البحرية العديدة الفاصلة بين جزر الهند الشرقية والتي تتخذ أسماء بحار عدة مثل بحر جاوة وبحر سلبيس وبحر مولوقا، وأخيرا أرافورا الذي يفصل شمال أستراليا - ارتهام لاند - عن بقية الجزر.
والبحر المتوسط الآسيوي، وإن كان يختلف عن البحر المتوسط القديم في أنه يتكون أولا من مجموعة جزرية هائلة المساحة بالنسبة لجزر البحر المتوسط القديم، وثانيا في أنه ليس بحرا شبه مغلق بكتل اليابس القارية، إلا أنه يشابهه في دوره الحضاري والتجاري، ولقد كان هذا البحر المعبر الذي انتقل عليه الأستراليون الأصليون إلى أستراليا أيضا، وفي جزر هذا البحر اختلطت الحضارات والديانات الهندوكية والبوذية والإسلامية على مسرح الديانات الوثنية، وإليه أيضا امتدت أساطيل التجارة الصينية والعربية والهندية والبرتغالية والإسبانية والهولندية والإنجليزية والفرنسية والأمريكية واليابانية في كافة مراحله التاريخية حتى اليوم (انظر الخريطة 6).
ويختلف البحر المتوسط الآسيوي اختلافا جوهريا عن البحر المتوسط القديم في أنه مصدر هام لعدد من الخامات والمنتجات السلعية الأولية منذ القدم، وبذلك كانت منطقة البحر المتوسط الآسيوي هدفا نهائيا لخطوط الحركة التجارية والسياسية، وليست شريان مواصلات رئيسية كما كان البحر المتوسط الأورو أفريقي، كما يتميز بأن جزره مجال لسكن كثيف، ومحط لهجرات سكانية - الهنود والعرب قديما والصينيون حديثا - ومع التنظيم الاقتصادي يمكن أن يتسع المجال العمراني في داخلية الجزر الكبرى: بورنيو وسومطرة وإيريان، وهذا عكس جزر البحر المتوسط القديم، فجزره في معظمها تكون بيئات طاردة للسكان، بينما التكاثف السكاني يحدث في جيوب صغيرة على شواطئ البحر والأودية الصغيرة المنتهية إليه من محيطه الجبلي (في أوروبا وآسيا) والصحراوي (أفريقيا وآسيا). (3)
البحر المتوسط الأمريكي: هو ذلك البحر الممتد من جنوب الولايات المتحدة إلى سواحل فنزويلا وجمهوريات أمريكا الوسطى، ويشتمل على مسطحين بحريين كبيرين هما خليج المكسيك في الشمال والبحر الكاريبي في الجنوب، وهو يشابه البحر المتوسط الأورو أفريقي في أنه مغلق في الغرب بامتداد اليابس بين الأمريكتين مما دعا إلى فتحه بواسطة قناة بنما - كما حدث بالنسبة لقناة السويس - لكنه يختلف في أنه يتصل بالمحيط الأطلنطي بعشرات الفتحات الواسعة والضيقة بين جزره العديدة، فهو إذن من هذه الناحية يمثل مرحلة وسطى بين البحر المتوسط الأورو أفريقي والآسيوي، وبالمثل فإن مجموعاته الجزرية أقل ضخامة وسكانا من جزر البحر المتوسط الآسيوي، لكنها تشكل ميزان الثقل في الاقتصاديات الأولية في هذا البحر، بالإضافة إلى مصادر البترول في فنزويلا والمكسيك وتكساس.
وفي بداية الكشوف الجغرافية والعقود الكثيرة التي تليها كان هذا البحر بسواحله كلها مسرحا للنفوذ الإسباني، ثم تتابعت القوى الأخرى: فرنسا وهولندا وبريطانيا وأخيرا أمريكا، وباستثناء الوجود الأمريكي الفعال فإن الوجود الإنجليزي والفرنسي والهولندي قد تحول إلى وجود رمزي في جزر صغيرة من مجموعة الأنتيل الصغرى، وإلى جانب القوميات اللاتينية المختلفة، فإن تحول دولة كوبا إلى النظام الاشتراكي قد أدخل عنصرا جديدا من عناصر الصراع السياسي لم يكن له وجود في هذا البحر الأمريكي قلبا وقالبا.
وإلى جانب هذه البحار التي تيسر الاتصال وتكون طرقا لحركة مستمرة، هناك بحار أخرى أصغر حركة في مرحلة من مراحل التاريخ مثل بحر الشمال والبلطيق والبحر الأحمر، وذلك مرتبط بظروف طبيعية مختلفة مثل اضطراب بحر الشمال المستمر ومعاداته للملاحة القديمة في أحيان كثيرة، وتجمد البلطيق في مواسم معينة، ووعورة وجدب شواطئ البحر الأحمر عامة.
أما البحار الفاصلة فهي تلك التي تشكلها المحيطات الواسعة مع استثناء جزء كبير من المحيط الهندي بين مدغشقر وشاطئ أفريقيا الشرقي والبحر العربي وخليج بنجال وجزر الهند الشرقية.
صفحة غير معروفة