Calvin
في عصر النهضة الأوروبية، بأنها تعبير عن إحساس الإنسان في بداية العصر الرأسمالي بوجود قوى مجهولة تتحكم في مصيره، هي قوى السوق وقوانينه، وتفرض نفسها عليه دون أن يستطيع السيطرة عليها. في كل هذه الحالات تفسر الماركسية عنصرا معينا من عناصر الأيديولوجية في مجتمع معين، بعلاقات إنتاجية ذات طابع اقتصادي واجتماعي. ولكي يكون هذا التفسير ممكنا ومقبولا؛ فلا بد من وجود «بناء» مشترك يجمع بين المجالين المتباينين؛ المجال الأيديولوجي (وهو في هذه الحالة فلسفي أو ديني) والمجال الاجتماعي الاقتصادي. وعلى سبيل المثال، فكما أن العلاقة بين الإقطاعي وتابعه في العصور الوسطى هي علاقة رأسية بين طرفين يعلو أحدهما على الآخر علوا هائلا؛ فإن هذا النمط أو «البناء» ينعكس هو ذاته على تصور هذه العصور للعلاقة بين الله والإنسان. وقل مثل هذا عن سائر التفسيرات الماركسية لمختلف عناصر الأيديولوجية، كالفكر الفلسفي، والفن، والأدب.
ولنذكر في هذا الصدد ما سبق لنا أن أشرنا إليه، من أن البنائية من حيث هي منهج ليست بالشيء الجديد، وإنما الجديد هو التعبير الواعي عنها في مذهب فكري متماسك. فهنا نجد هذا النوع من التفسير البنائي لا يلقى معارضة من الماركسيين المتمسكين؛ لأنه لا يخرج عن إطار الماركسية التقليدية، وكل ما يفعله هو أنه يستخدم في تقديمها مصطلحات بنائية.
على أن هذا، في رأي سيباج، لم يكن هو المظهر الوحيد الذي اتخذته البنائية في الفلسفة الماركسية. فمن الممكن أن تتحدد العلاقة بين البناء الأدنى، أي الأساس، وبين البناء الأعلى، أي الأيديولوجية، على مستوى آخر، هو أن ننظر في مجال كامل من مجالات الواقع الاجتماعي، مثل علاقات الإنتاج، ونربطه بمجالات أخرى ذات طبيعة فكرية أو أيديولوجية. فعلى هذا المستوى لا نربط بين تفكير فرد معين، أو جماعة معينة، وبين عنصر معين في علاقات الإنتاج، وإنما نربط على نحو أعم، وأكثر تجريدا، بين «أنماط» معينة من التفكير، وأنماط معينة من علاقات الإنتاج، أو من الواقع الاجتماعي. ومثل هذا الربط يحتاج إلى عملية توحيد ومقارنة أشد تعمقا مما يحتاج إليه الربط على المستوى الأول. وعلى الرغم من أن ماركس بحث الموضوع على المستويين معا؛ فقد كان البحث على المستوى الثاني هو الغالب لديه. فهو لا يلجأ إلا نادرا إلى الكلام عن تأثير عامل معين يسهل تحديده في توجيه الفكر وجهة معينة، بل يتحدث عن التأثير الشامل لآليات نمط اقتصادي كامل، كالاقتصاد الرأسمالي، في تحديد أسلوب التفكير والوعي الاجتماعي داخل هذا النمط، أي إنه يستهدف دائما بحث «كليات شاملة
totalités »
2
وتؤثر كل منها في الأخرى، وتكشف عن «بناء» مشترك. ومثل هذا البحث هو الجدير بأن يسمى «علما» بالمعنى الصحيح؛ لأن موضوعه بناءات كلية.
على أن «سيباج» يستخلص من تطبيق المنهج البنائي على تفسير الماركسية نتيجة تتعارض مع عنصر أساسي من عناصر التفكير الماركسي التقليدي، هي رفض الحتمية الاقتصادية. فعندما يكون أساس تفسيرنا هو البناء الكلي لا يعود من الممكن أن نعطي أولوية مطلقة لواحد بعينه من عناصر هذا البناء، ونجعل منه «سببا» للعناصر الأخرى؛ فالعامل الاقتصادي، وفقا للنظرة البنائية، هو مجرد عنصر من العناصر التي ينطوي عليها البناء، وليس هو أساس البناء بأكمله؛ ولذلك رفض سيباج تفسير التاريخ على أساس القول بأولوية العامل الاقتصادي، بل نظر إلى العلاقات الاقتصادية، جنبا إلى جنب مع اللغة والأساطير ونظم القرابة، على أنها كلها عناصر يمكن اقتطاع أي منها من الكل بعملية ذهنية متعمدة تسعى إلى استخلاص السمات المميزة لهذا العنصر بالذات، عن طريق فصله عن علاقاته بمجالات الواقع الأخرى، وعندئذ يمكننا الوصول إلى مقارنات وتوازيات بين كل عنصر والآخر
3
ولكننا لا نستطيع أن نصل إلى حالة يكون فيها لأحد هذه العناصر - كالعنصر الاقتصادي مثلا - أولوية سببية بالقياس إلى العناصر الأخرى، أو يكون هو الذي تتولد عنه هذه العناصر الأخرى.
صفحة غير معروفة