الذي يسوده النظام الهندسي في العصر الكلاسيكي، إلى المثلث أو الثلاث
la trièdre
الذي يتألف منه العلم المعاصر. وأمثال هذه التقسيمات قد تعجب هواة التماثلية والتناسق الشكلي، ولكنها لا تفيد في الكشف عن طبيعة الواقع؛ لأن واضعها كثيرا ما يضطر إلى تجاهل عناصر أساسية، أو التعسف في تفسير عناصر موجودة، من أجل ضمان الانسجام الشكلي الظاهري للبناء. وفي حالة فوكو، نجده يتجاهل القرن التاسع عشر؛ لأنه لا يدخل في الإطار الثلاثي الذي وضعه، فضلا عن أن فكرة المسطح ليست هي الفكرة المميزة لعصر تسوده روح النظام، بل إن أي شكل هندسي آخر يصلح لتحقيق هذا الغرض.
ومن ناحية أخرى فإن فوكو، حتى لو كان قد أتى بنموذج يصلح للتعبير عن كل مرحلة «من داخلها»، فإنه يعجز تماما عن تفسير الانتقال من مرحلة إلى أخرى، أي عن تفسير التغير الذي أدى إلى تحول الفكر الأوروبي من بناء إلى آخر؛ فموقفه يستلزم القول بوجود انفصال أساسي بين كل مرحلة وأخرى، مع أن المعقولية تقتضي السعي إلى إيجاد اتصال بين المراحل، والتاريخ يستحيل تصوره في ظل نظرة تضع هوة لا قرار لها بين فتراته المختلفة، وتقف عند حد فهم كل فترة في إطارها الداخلي الخاص. وليس أدل على ذلك من أن فوكو وجد نفسه مضطرا إلى القول بوجود «انقطاع غامض
rupture énigmatique » في تفسير الانتقال من عصر النهضة إلى العصر الكلاسيكي، أو من عصر «النظام» إلى عصر «التاريخ»، وهو تعبير يكشف بطريقة صريحة عن العجز عن الفهم، ويدل على أن التمسك المفرط بالبناء والنسق يمكن أن يصبح عقبة في وجه المعقولية الصحيحة.
على أن أهم أوجه النقد التي يمكن أن توجه إلى فوكو هو استخفافه بالتاريخ، وإنكاره أن يكون العقل البشري قد أحرز تقدما منذ عصر النهضة حتى عصرنا الحاضر، وكما هو واضح فإن هذا نقد لا ينطبق على فوكو وحده، بل ينطبق على البنائيين عموما، وإن كان إهمال فوكو لفكرة الاتصال التاريخي أكثر وضوحا؛ لأن الموضوع الذي عالجه في كتابه الرئيسي يرتبط ارتباطا وثيقا بموضوع التاريخ. وعلى أية حال فإن النقد الذي يوجه إلى فوكو في هذا الصدد يمكن أن يعمم على معظم البنائيين الآخرين.
إن فوكو يحاول أن يهتدي، في كل عصر، إلى عناصر الثبات من وراء التحول الظاهري، وهو في هذا يرتكز على مبدأ يسلم به - هو ومعظم البنائيين - دون مناقشة، وهو أن العناصر الثابتة هي الأساسية والجوهرية، وأن العناصر المتحولة والمتغيرة سطحية عرضية. على أن هذا المبدأ يمكن الاعتراض عليه من الأساس. فمن الممكن من وجهة نظر أخرى أن نقول إن الثبات هو المظهر السطحي، الذي تكمن من ورائه تحولات وتغيرات أعم منه؛ ذلك لأن حالة المعرفة في كل عصر تبدو ثابتة بالنسبة إلى من يضع نفسه في إطار ذلك العصر، ولكن في استطاعة النظرة التاريخية، حين تخرج عن ذلك الإطار وتطل على ذلك العصر إطلالة راجعة فيها رحابة واتساع، أن تكشف عن العمليات المتغيرة والتفاعلات التي كانت تدور في الخفاء من وراء هذا الثبات الظاهري. وفي هذه الحالة يعتبر المنظور التاريخي المبني على التغير أعمق، وأكثر نفاذا إلى باطن الأشياء، من المنظور البنائي الذي يعد عندئذ مكتفيا بوصف السطح الخارجي وقبوله على ما هو عليه. ولسنا ندعي أن هذه هي الحالة الوحيدة الممكنة؛ إذ إن البنائي يستطيع أن يؤكد أنه اكتشف عناصر ثابتة أعمق من عناصر التحول الجديدة. وهكذا يظل لكل من المنظورين الحق في القول بأنه يتعمق في الظواهر إلى مستوى أبعد من الآخر. ولكن المهم في الأمر أن هذا يبطل ادعاء البنائية، وادعاء فوكو على وجه التحديد، بأن منهجه الذي ركز فيه، باختياره، على عناصر الثبات وجمدها، وأهمل فيه عناصر التحول، هو وحده الذي يوصل إلى الأساس المطلق للمعرفة.
البنائية والماركسية
(1) سيباج
كان لوسيان سيباج
صفحة غير معروفة