ذاك رأي سعيد في الناقد، كما أثبته في الصفحة الثامنة من نخب العدو، وأما ما في ذيل «حفنة ريح»، فيقول سعيد حين قرأ نقد الدكتور سهيل إدريس لنخب العدو: «شعرت بقربى تربطني بك بعد قراءة نقدك الرائع في جريدة بيروت لنخب العدو، ولو أنه أعطي لي قبل اليوم أن أطلع على مثل هذا النقد لترددت في قول: النقد فن زائف ومهنة طفيلية.»
اسمح لي يا سعيد أن أعود بك إلى البدء، إلى ما قبل الخليقة عندما بدأ الله في تأليف كتابه الأعظم؛ أي تكوين الكون، أما قال: ليكن نور، فكان النور، ورأى أن النور حسن، ومضى في الخلق والتساؤل، فيرى أن ما خلقه حسن حتى اليوم الأخير، أظن أن هذا التساؤل يدلك كما يدلني على أنه - تعالى - كان ينظر إلى عمله كناقد، حتى إذا ما رآه حسنا راح يتم تأليف كتاب الخلق المؤلف من ستة أقسام، وفي القسم الأخير خلق الإنسان، ولو لم يكن الله جل جلاله ناقدا لما وجه إلى أعماله هذه النظرة.
فالناقد الأول كان الله، وهو في الوقت نفسه المؤلف الأعظم - وإن لم يؤلف مثل نخب العدو! وإنه أطرى عمله كما أطريت أنت مسرحيتك، ولو لم يكن الله ناقدا ملهما لما عرف ولا قال إن ما خلقه حسن.
قلت: إن الناقد يجد موضوعا جاهزا، وأنا أقول لك: نعم، ولكن المواضيع جاهزة كلها، والذكي مثلك من يفصلها ويضعها في واجهة دكانه، ثم يبيعها كأنها «استعمال».
النقد فن يا سعيد ، أما أنت فكبطل صديقك موليير تسب الناقد وأنت ذاك، ففي جميع مسرحياتك: لولا المحامي، ونخب العدو، وحفنة ريح، أنت ناقد وسأريك، أما الفرق ما بيننا فهو أنك تفتش عن بطلك بين الناس، وأنأ أفتش عنه بين الكتب، أظنك قرأت مسرحية موليير «البورجوازي»، استغرب ذاك البورجوازي جدا حين قال له معلم الفلسفة: إن النثر هو ما يحكيه، فقال لمعلمه: إذن أنا أتكلم النثر منذ أربعين عاما دون أن أعرف ذلك، كثر الله خيرك؛ لأنك خبرتني ذلك.
فهل تستغرب أنت أيضا إذا قلت لك: إنك ناقد أدبي، ثم لا تخرج من الجو الأدبي إلا لتكون ناقدا من نوع آخر؟ فأنت إذن ناقد مهما أغرتك أنانيتك وحملتك على ازدراء النقد.
إن الناقد هو الذي يدل الناس على مواهب المؤلف كما سأدل على مواهبك، وأنت ناقد يا بطل موليير، وناقد لا يرحم يتكلم من الأعالي وعلينا أن نضع على وجوهنا برقعا، كما كان يفعل موسى حين يتحدث إلى ربه، وإذا لم تصدقني فراجع نقدك لقصص صديقك الذي اكتشفته، الدكتور سهيل إدريس. لقد تشكيت في مقدمة «نخب العدو» كثرة المديح المتفشي عندنا، وكذلك تألمت من النقد، فحيرتني والله، وأخيرا اهتديت إلى حل لهذه المعضلة، وهو أن نمدح حيث يجب المدح ونقدح حيث نجد مدخلا ل «الخربر». فلنبدأ عملنا.
المسرح عندنا صغير السن حديث الميلاد، نشأت مسرحياتنا الأولى لا هي عامية ولا هي فصيحة، ثم صارت فصيحة حتى التقعر في أواخر القرن التاسع عشر، شعرية مع عبد الله البستاني، وشعرية نثرية مع أديب إسحاق، وأخيرا مع نجيب الحداد كانت مواضيعها مختلفة ولكنها كلها تمثل الطبقات العليا أو ما أشبهها من حوادث قديمة، إلى أن جاء شوقي ونظمها شعرا رائعا في مواضيع تاريخية أدبية، ونهض فرح أنطون بالمسرحية فجعلها شعبية استقى مواضيعها من الحياة العامة، وقفز سعيد تقي الدين من مقعد المدرسة إلى المسرح وهو العتليت بلغته، والعتعيت بلغتنا العامية، فكانت قفزة موفقة جدا، وحسبك الدليل على هذا التوفيق أن يسمع مؤلفها سعيد، في مخزن أمين أبي ياغي كلمة: أهلا بالنابغة، من أمين الريحاني، فنام سعيد على إكليل الغار منذ عام 1924 ولم يستيقظ من تلك النومة الذهيبة الأحلام إلا في جزائر الفيليبين الشرق الأقصى عام 1937، وليسمح لي أن أحرف ما قال: ناخ نوخة جمل، وقام قومة سبع، فمسرحيتنا طليانية فرنسية مع أبي المرسح اللبناني مارون النقاش، وفرنسية إنكليزية مع الذين جاءوا بعده.
كانت تعتمد أولا على البيان الاصطناعي؛ لأن الذين ترجموا أو ألفوا في هذا الفن كانوا يكتبونها للقارئ ولا يفكرون بالمسرح؛ ولذلك جاءت شخوصهم جامدة لا تدل على أنها بشر تحيا وتتكلم كما تحيا وتتكلم، وتروح وتجيء وتجيء وتروح، كان مؤلفوها متزمتين حتى لا ترى على المسرح وجها ضاحكا هازلا، وإذ كان لا بد من الضحك أو الإضحاك ألفوا فصولا مضحكة تمثل بين الفصول.
أما الهزل والدعاية والنقد والهجاء والاجتماعي، فلا نكون مبالغين إذا قلنا إن سعيد تقي الدين هو الذي أشاعها في المسرحية، فالهزل يسيطر حتى على درامته، فكأن ليس بين أبطاله واحد يحبه، أو كأنه لم يخلق بطلا، أو لم يستعر من المجتمع بطلا إلا ليضحك من الناس، أو يضحك الناس منه، وإذا كانت أبطال مهازله قومية بلدية فلا يعني هذا أنه خلقها، ولا أنه استعارها من روائي آخر «كمسطرة» يعمل مثلها، بل أنها نماذج عايشها ورآها بعيني رأسه، كما عبروا، فهو في «لولا المحامي» مثله في نخب العدو وحفنة ريح، يمثل أشخاصها عايشها وآكلها وشاربها وتأمل حركاتها وسكناتها، وراح يخلق منها قصة بعد ما أنطقها بما يلائمها من ألفاظ وتعابير تضحك المفلس، وتعابير يتعمدها ويعتمد عليها في إخراج روايته، وهو لم يبدعها كلها ولكنه جلاها وصقلها جميعا حتى لاءمت مذهبه الفني، وهذه العبارات هي من صميم حياة أبطاله فكأنهم هم قالوا حقا، ليست عبارة مسرحيات سعيد من المصنوعات البيانية، وهذا سر نجاحها، ففي فم كل شخص كلمات وعبارات لا تصدر إلا عنه، وإذا لم ترض أحيانا هذه العبارات البيانية فلسعيد بيان خاص به، وليدق البيانيون رأسهم بالحيط.
صفحة غير معروفة