ربما تصدق ما تقرأ، بلى صدق، فما نقلته لك ليس من مخطوطات وعاديات رأس شمرا وحجر رشيد، إنه من كتاب تستطيع أن تتناوله بسهولة، قد يكون سعيد مبالغا فيما كتب، ولكنه قادر على عمل كوكتيل عجيب من الجد والهزل حتى لا تدري إن كان يهزل أو يجد، ولكنه كما قال موليير الذي تبنى سعيد مواقف من مسرحياته: لا هزل بدون حقيقة، فسعيد في أسلوبه وسرده كلاعب السيف والترس - الحكم - رشاقة وخفة يد، وحركة دائمة، فما عليك إلا أن تشد حذاءك جيدا وتشمر وتلحقه.
قد يكون سعيد مبالغا ولكنه خير من ألف مسرحيات ناجحة، بل هو الدرامائي الأول عندنا في هذه الفترة، وإن شئت فكما كتب على قفا غابة الكافور، والكلام للشاعر نزار قباني:
هو إله صغير سقط من شبابيك نجمة متلألئة فشربته أرض لبنان.
لم تدلنا كلمة «صغير» على حجم هذا الإله، وعلى كل فأقل جرم إلهي يكون عظيما جدا بالنسبة إلينا نحن الترابيين، إذن فلأقل «النومن» قبل أن أبدأ عملي.
أؤمن بسعيد تقي الدين، الخالق الضابط الكل ما يرى وما لا يرى ... إلخ، أجل أنا أؤمن بعبقرية سعيد وبمخيلته الوثابة، وبعبارته المصنوعة حديثا، وأؤيد رأيه في نفسه، فهو درامائينا في هذه الفترة، ولو كان عندنا مسرح لكان يجلس سعيد في لوج الشرف وينظر إلى الجماهير من عل ويقول للنظارة: فكروا يا ذبان، افهموا الفن!
وحق ربنا يا سعيد أنا في هذا جاد لا أمزح، أما إله صغير فهذا كلام هراء، إن «لولا المحامي» التي تزدريها أنت و«نخب العدو» و«حفنة ريح» تحف نادرة، ومع هذا لا بد من النقد، فلنفرض أن هذا العبقري إله لا نصف إله فلا بد له من نقد، فالله جل جلاله انتقد، ولا يزال ينقد، وأول ثورة كانت عليه:
خلقتني من نار وخلقته من طين .
قد يقول القارئ أنت لم تعودنا هذا اللف والدوران، فما بالك اليوم تغير عادتك ولا تقول كلمتك وتمشي؟! فإلى هذا القارئ أقول: يجب قبل كل حساب أن نصفي الحساب ، حساب الناقد، فسعيد ليس له عدو على الأرض إلا الناقد، أما في العالم الذي سقط منه إلينا فهذا علمه عند نزار قباني.
نرى سعيد تقي الدين يزدري الناقد ويحتقر ما يقول «فالنقد فن زائف ومهنة طفيلية، النقد يوهم صاحبه - ولو ضمنا - بالتفوق على المنقود، أنا أنقدك، إذا أنا أفضل منك، زد على ذلك أن النقد يضع بين يدي الأديب أو المتأدب موضوعا جاهزا، فلا حاجة إلى حك الرأس والتنقيب عن موضوع، كذلك ليس من إنتاج مهما عظم إلا وفيه نواح ضعيفة يسهل اكتشافها، فتسري نشوة الظفر في عروق الناقد مكتشفها، كذلك التطرف يولد التطرف، والمديح بلا وزن سبب النقد الأعمى.»
ترى من أي وزن هو قول نزار قباني الذي زينت به قفا غابة الكافور؟
صفحة غير معروفة