قد يقال: نراك استعجلت هذه المرة، فمن عادتك أن تبقي الكتب عندك شهورا وأحيانا سنة وأكثر. قلت: وهناك سبب آخر غير الذي تقدم ذكره، وهو أنني أعرف أكثر شعر الملاط على غزارته وكثرته، فاللهم زد وبارك. هذا هو الجزء الثاني منه المتضمن الألوف من الأبيات، وهو لو جعله دواوين لكان له بضعة عشر ديوانا من طراز دواوين هذا الزمان. إن هذا الديوان الضخم الفخم لأشبه بفساطين وسراويل السيدات القديمة، التي لو فصلت قصيرة مزمكة لكسا الفسطان الواحد منها بضع نساء، ولكن أستاذنا أراد تعبئة أكبر كمية ممكنة في عدل واحد.
لقد أساء أستاذنا إلى نفسه العتيدة في تاريخ الأدب، فسوف يقال - بعد العمر الطويل - له ثلاث مسرحيات، ورواية مترجمة، وديوان شعر ضخم.
فلو فصلنا ديوانه - فسطان الملكة فكتوريا - على الطراز الدارج اليوم لكان لنا منه على الأقل عشرة دواوين، كل واحد منها قائم برأسه وفيه وحدة، فالقصائد التي عنوانها وقفاتي في بلاد العرب، ديوان كبير لو صفف على طريقة علب الشوكولاطا، أي في كل صفحة بيتان ثلاثة، وقصائده القصصية ديوان آخر لا يقل عنه حجما، ويهوديت مسرحية شعرية تعبئ كتابا، وغزله ديوان، واجتماعياته ديوان.
لقد ظلم الأستاذ نفسه؛ لأنه لم يرتب مخزنه الكبير على طريقة ال «أ، ب، ت»، بل كوم هذا الشعر فكان لنا منه بيدر كثير الغلة، فإذا سقط منه تحت الغربال مقدار تبقى مقادير تملأ بهوا لا ديوانا.
فيا معلمي العزيز، إذا عجزنا عن إقامة يوبيلك الذهبي، فديوانك هذا يقيم لك الآن، وفي كل أوان، يوبيلا ألماسيا، إن فيه منه ما يقاس بالدرهم لا بالقيراط.
ولا يتوهمن أحد أن ما قلته يعفيك من النقد، فالناس لا ينقدون إلا الذهب، أما النحاس فمن يقيم له وزنا. أنت تراثنا الغالي والموعد الغد، ومعاذ الله أن يلقيك العقوق من البنين، فعلى كبر سني - «وشيبي بحمد الله غير وقار»، كما قال أبو نواس - ما زلت أسعد وأعتز يوم أراك، وأبوس يدك الطاهرة كلما التقينا.
ولكن كل هذا الحب والإجلال لا يغل قلمي ولا يشل فكري أمام مهابتك.
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها
كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
جاء في رسائل رسول الأمم: على فم شاهدين أو ثلاثة تقوم كلمة. وفي عنق هذا الديوان الأغر تميمتان نفث في عقدهما شاعران قارحان: شكيب أرسلان وخليل مطران، فديوان الملاط إذن أصيل مطهم، حجته برقبته كما يقول الفرسان.
صفحة غير معروفة