باريس في 21 أيلول سنة 1800
رب لقد وضعت روحين في صدر شعبك، واحدة تنقاد إلى المجهول بفطرة مبهمة وتسبر بحار الشك مكتشفة ذلك الفكر مانحة إياه شكلا يجعله واضحا للإحساس الإنساني بعد أن تكون قد حولت الفعل إلى صلابة قوية، ثم تنزع ذلك الفكر من منجمه العميق كما ينزعون الذهب وتضربه قطعا من النقود حسب عادات العالم، وواحدة تظل قوية وثابتة كبركان إلهي ذي شرر ناري لا يفتأ يغلي غليانا شديدا، فتوحي عاطفة الحرب إلى جميع البشر متخذة هذا العالم ساحة للقتال الدائم، ويعتقد هذا الشعب أنه يخدم الله بقلبه والإنسان بدمه، شبيها لشعب موسى الذي قسم إلى فرقتين، فرقة ماتت لأجل إسرائيل في مطارح الأودية، وفرقة بقيت على المرتفعات لترفع ذراعيها إلى الخالق وتقدم له القرابين! ...
هكذا باريس فإنها ترمي بأبنائها في هوة النزاع الدائم، فلا أرى على أبوابها إلا كتائب من الجنود كأنما هي حصاد قد نما في سهول من الدم، ولا أرى إلا أعلاما ممزقة تنضم العساكر تحت وشيحها المقدس! ولا أسمع دويا إلا دوي المدافع تقذف الكرات من أفواهها! وباريس لا ترى في صباحها إلا غابات كثيفة من البنادق المضطربة على أشعة الشمس، ومع كل ذلك فإنها تنطرح على أقدام جلاديها، نازلة عند تعاليمهم، ملتوية تحت قبضتهم النحاسية كأنما هي عنق جيادهم أو قفازات أيديهم! آه! ذلك لأن الشعب نفسه هو الذي يدع الجلادين يثبون إلى شكيمه، ذلك لأن الإنسانية الواهية قد تقبلت من خالقها في أشد ساعات الخطر تلك الفطرة الغريبة، فطرة الوحدة والاتفاق!
إلى أين يقذف بهم هذا الموج الجارف؟ لماذا يندفعون إلى الموت بتلك البشاشة وذلك الفرح؟ إن عقلهم لا يدري شيئا من ذلك، ولكن الفطرة تعرف كل شيء، هم يذهبون، كما تذهب الكرات عندما تدفعها القوة! فيزلزلون الحاضر، ويدمرون الماضي، ويمحون سلطانا مندثرا على مرأى من جلالك يا الله! ثم يبنون ملكا لبعض الأقدار التي لا نعرفها نحن والتي تدرك أسرارها أنت! هكذا تصنع من الشعب آلة سرية لبعض الأسرار أيها المبدع، فالأمم أداة الأفكار بين يديك الجبارتين، والرجل الذي لا يرى إلا الغبار والدم، فيلعن ويجدف معتقدا أنك بعيد عنه وأن أبصارك لا تبلغ إليه، لا يقدر أن يدرك أن من العمل المنجز يولد عمل آخر، وأن الأرض يجب أن تحرث قبل أن يزرع فيها القمح، ذلك لأنه يكون أسيرا في عقله الضعيف! •••
كانت قافلة الإنسانية ذات يوم معسكرة في غابات تمتد أمام شاطئ ذي منحدر صعب غير قادرة أن تمد طريقها إلى أبعد من ذلك، وكانت الأشجار المرتفعة تفيء عليها حائلة بينها وبين الشمس والهواء، وكانت الخيام تحبك حبالها على الأغصان الخضراء فتؤلف مدنا وقرى حول الجذوع الضخمة، وكان الرجال يأكلون خبزهم ويتحدثون آمنين وهم منتشرون على الحضيض، وفجأة نهضوا نهضة واحدة وأعملوا فئوسهم في تلك الأشجار فترامت تلك القبب العاليات، حيث كانت الطيور قد بنت أعشاشها، وخرجت حيوانات الغابات من وجارها، وهربت الأطيار من تلك الأدواح القديمة العهد محدقة إلى الخرائب بعيون ملؤها الرعب غير مدركة سبب ذلك العمل، لاعنة تلك اليد الأثيمة التي هدمت مآويها! وبينما كانت الحيوانات تتفطر شفقة على الإنسان كان هذا يكمل دماره العظيم ملقيا على الهوة تلك الجذوع لكي يصنع منها جسرا يمر عليه! هكذا يصنع الوقت ليمر على أنقاض رسومه! إيه مبدع الكائنات، قد بيدك تلك القافلة على طرق السلام كما قاد موسى شعبه إلى أرض الميعاد!
باريس، 21 أيلول سنة 1800، في المساء
يا لها من حمى تتآكل جسدي! فلتطرد من مخيلتي تلك الصورة القتالة! أحلم هذا؟ أخيال ما رأيت؟ آه! نعم هي! أيها القلب عبثا تحاول أن تخطئ نفسك، فما من قوة يمكنها أن تطعنك بأشد من تلك الطعنة! أجل، كان ينقص كأسي تلك المرارة الأليمة!
ذهبت أمس مساء إلى الكنيسة لأسمع كلام الله من فم كاهن مسن كان قد هرب من وجه الجلادين، فلما توسطت المكان رأيت الشعب قد ملأ الرواق وتزاحم على الباب والنوافذ فاختبأت في الظلام على أقدام دعامة فاتمة، حيث كانت الشموع العديدة ترمي أشعتها المضطربة وألقيت جبيني بين يدي فسمعت وطء أقدام ورائي وأصواتا مختلفة لا تكاد تسمع لخفوتها، وفجأة رفعت هذه الأصوات كأنما هي دمدمة السنابل عندما تلامسها أنامل النسمات، فشعرت أنها هتاف دهشة وتعجب فالتفت إلى مصدرها لأرى مسبب ذلك، غير أن المرأة كانت قد مرت فلم أبصر منها سوى قدها الطويل وأكتافها العارية، ثم سمعت أحد الشبان يقول لرفيقه: «أجل إنها هي بعينها، فهل في السماء جمال كجمالها الإلهي؟» فأجابه رفيقه: «لا أظن ذلك، فما هو إلا طيفها على ما أرى؛ لأنها تخشى حتى خيال المعبد، وأقدامها الجميلة لم تطأ مرة فناء الكنائس! يقولون: إنها باعت نفسها من اليأس وإن قلبها لن يقترب إلى الهياكل المقدسة!» فقال الأول: «بيد أني لا أشك في أنها هي بعينها، وإذا أردت برهانا على ما أقول فانظر إلى نطاقها الأسود وإلى طوقها الذي يشير إلى أنها أرملة، وانظر إلى الذي يتبعها، أليس هو شهيد أمس وصديق اليوم؟ فليسرع إلى السعادة قبل أن تفوت! فأجابه الثاني: «ولكن ماذا جاءت تصنع في هذا المكان؟» - جاءت كما جئنا نحن، لتسمع كلام الواعظ! يقول البعض: إنها منذ فقدت حبيبها الأول أمست تميل إلى سمع الأرغن يدق أغانيه في هدأة الليل ...
عند هذا نهض الواعظ، وبعد أن لفظ آية ذهبية أخذ يتكلم عن السعادة وعن التضحية في سبيل الإيمان، ثم تطرق إلى ذكر الشهداء الذين ماتوا لأجل الكنيسة والملك حتى كاد يحس قلوب السامعين بعظمة ألفاظه، وكادت تتفجر الحسرات من الصدور، وتتدفق العبرات من الأعين، ولما انتهى من عظته، نهضت إحدى النساء وفي يدها قارورة وجعلت تطوف بين الشعب جامعة حسنة القداس حتى اقتربت من مكاني فرفعت نظري إليها، ولما تلاقى النظران شعرت برعشة تتمشى في أعضائي ورأيتها تحدق إلي من خلال أحلام بعيدة كأنما هي تود أن تتبين خطوط وجهي لتتأكد ما إذا كان الذي يتراءى لها خيالا أم حقيقة، وكنت أشعر بطيفها عائدا إلى عيني من أعماق تذكار بعيد، ثم أبصرتها تصفر اصفرارا غريبا وتتحول من صورة حية إلى تمثال لا حراك فيه، وخيل إلي أني أسمع صراخا أليما لا يكاد يتصاعد من فمها حتى يختنق ويموت في نفسها، وأخيرا عادت إلى محلها شاحبة اللون بعد أن وضعت بين يدي الكاهن ما جمعته في القارورة، فتلاشت قواي وغشيت عيني سحابة من الألم فلم أعد أشعر بما حولي ولا أدري كم مضى علي من الوقت في هذه الحالة! •••
عندما استفقت من غيبوبتي كان المعبد أخرس فارغا، لا يضيء فيه إلا شمعة واحدة يضطرب شعاعها لدى هبات النسيم، فسمعت الساعة تدق ثمانية في سكون الليل، فهرولت هاربا من دعامة إلى دعامة، وكانت نفسي تحاول الهرب من صدري لشدة الألم! رب! كيف رأيتها؟ بأية حالة رأيت تلك الزهرة ملطخة في أوحال العالم ؟ أليست تلك الفتاة ضحية فضيلتي وعبادتي؟ آه! أية ريبة قتالة تولد في نفسي؟ رب! لقد أحييت نفسا وأمت نفسا! أعدالة صحيحة هذه؟
صفحة غير معروفة