المقدمة
توطئة
العهد الأول
العهد الثاني
العهد الثالث
العهد الرابع
العهد الخامس
العهد السادس
العهد السابع
العهد الثامن
العهد التاسع
خاتمة
المقدمة
توطئة
العهد الأول
العهد الثاني
العهد الثالث
العهد الرابع
العهد الخامس
العهد السادس
العهد السابع
العهد الثامن
العهد التاسع
خاتمة
جوسلين
جوسلين
تأليف
ألفونس دو لامارتين
ترجمة
إلياس أبو شبكة
المقدمة
نبهني صديقي الفاضل صاحب مكتبة صادر ومطبعتها الذي نتوسم فيه عمدة لنهضة أدبية في البلاد إلى كتابة مقدمة لروايتي المعربة «جوسلين»؛ إذ لا يجمل بالكاتب أن يقدم على طبع كتاب مترجم بدون أن يذكر كلمة عن مؤلفه، فراجعت إذ ذاك المقدمة أو المقدمتين اللتين وضعهما الشاعر لامرتين لروايته، فرأيت فيهما أجمل ما يخطه قلم وما تمليه نفس، فآثرت أن أجتزئ منهما بعض مقاطع تكون مقدمة لهذا التعريب.
قال لامرتين في مقدمة الطبعة الأولى: «سألت نفسي مرارا: ما هو الموضوع الاجتماعي الذي ينطبق على روح العصر وعاداته ويكون عدة يهيئها الشاعر للمستقبل، فوجدت أنه الإنسانية، والحظوظ، والسبل التي يجب على الروح البشرية أن تسير عليها لتصل إلى مقدراتها ومقاصدها.»
ولكن هذا الموضوع الرحب الذي لا يستطيع كل شاعر بل كل عصر أن يكتب منه أكثر من صفحة واحدة يفتقر أولا إلى من يوجد صيغته ومأساته ورموزه الذاتية.
هذا ما حدثت به نفسي
إذا قيض لي الله أن أنجزه، أو إذا قدرت على الأقل أن أرسم قسما كبيرا من أجزائه قبل موتي لكي يظهر الرسم جليا في تلاحم أجزائه وفي أساليبه وتنوعاته، يحكم القارئ إذ ذاك بما إذا كانت تلك الروح تتضمن بذرة من بذور الحياة ويجيء بعض شعراء غيري هم أعظم وأكمل مني يعززونها بعدي ويستثمرونها خصبة نامية.
العمل متشعب الأطراف، بعيد الحدود. لقد أنجزت عددا غير قليل من أجزائه في أوقات مختلفة، بعضها ألقي في النار لعدم نزولي عند صحته والبعض الآخر باق عندي يحتاج إلى أوقات فراغ ورغبة في العمل لكي يبرز وينشأ، فتشتت الأفكار والسياسة والأسفار وضجيج الحوادث الخارجية أقعدتني مرارا عن إتمامه وستقعدني أيضا في مراحل حياتي، فيجب على الإنسان ألا يقوم بهذه الأعمال إلا في ساعاته الحرة بعد أن يكون قد أدى ما عليه من الواجبات لعائلته ووطنه؛ لأنها من ملاذ الروح والمخيلة فلا يجمل بنا أن نتخذها غذاء لحياة الرجل.
ليس الشاعر كل الرجل كما أن المخيلة والحاسة ليستا كل النفس: ما معنى الرجل الذي يصرف شبابه وشيخوخته في التنقل بين أحلامه الشعرية في حين أن أترابه يجاهدون بكل ما أوتوه من القوى في سبيل الوطن والعمران؟ في حين أن الشعب الراقي يتموج حوله في جهاده المقدس الشريف؟ أليس أحرى به أن يكون مهرجا متفرغا لتسلية الرجال الوقراء وأن يرسل مع العدد بين موسيقيي الفرق العسكرية؟
الفكرة والعمل يقدران وحدهما أن يقوما بالواجب المقدس، هنا الرجل.
لقد اخترت، من بين مشاهد مأساتي الشعرية، مشهدا ينطبق على طبائع العصر وآدابه، لكي أعرضه اليوم أمام الشعب وأستشير رأيه في أسلوبي الشعري الجديد.
هذا المشهد يمثل راعي قرية هو كاهن إنجيلي رمز مؤثر لآداب هذا العصر، ما احتجت إلى أكثر من تهيئة توطئة وخاتمة حتى كونت من هذا الحادث قصيدة لها بدايتها وانتهاؤها.
يضل القارئ إذا رأى في هذا الموضوع غير وجهته الشعرية، فليس هنا مقصد خفي، ولا مذهب من المذاهب، ولا مجادلة ضد إيمان ديني أو معه.
ليس موضوعي هذا من المخترعات بل هو حادث حقيقي، قال الشاعر: إن في كل ما يقولون شيئا حقيقيا، أما هنا فكل شيء يكاد يكون حقيقيا، وليس من مختلق إلا اللغة فقط.
إذا صادف مؤلفي هذا استحسانا عند الجمهور، فإني مستعد إلى إصدار مثله من حين إلى حين، أما إذا تركه يقع ويموت فإني أقف عند هذا الحد غير مستمر على إنجاز ذلك التمثال الذي أود أن أتركه بعدي.
وقال المؤلف في مقدمة الطبعة الثانية مخاطبا ملتزم روايته بما يلي: «لماذا تطلب مني مقدمة جديدة «لجوسلين»؟ لم يبق لدي ما أقوله لقراء هذا المؤلف، فالاستحسان والإكرام اللذان صودفا عند الجمهور هما أبعد مما كانت تتصوره آمالي، تراني مديونا بكثير من الشكر لهذا الشعب الراقي وأنت في مقدمته، فالفضل راجع لك ولرجال الفن الأفاضل في إلباس مشاهد هذه الرواية أردية فضفاضة من نسيج الريشة الرسامة، لا أكتمك يا سيدي أن ما تلطف به المصورون هو أجمل انتصار حلمت به في شبابي، أي مجد أسمى وأعظم من أن يرى الشاعر أفكاره المكتوبة على الأوراق منحوتة على الرخام أو مرتسمة على الأقمشة؟ أي فخر أعظم من أن يرى الشاعر بنات مخيلته تتخذ جسدا حيا وتبرز به حتى أمام الذين لا يقرءون؟ أيطمع الشاعر في أبعد من أن يرى روحه تسبح في عالم المحسوسات؟ لا، إن طماعيتي الأدبية لا تذهب إلى أبعد من ذلك، فهنا كل المجد.»
بماذا يطمع الشاعر بعد أن يكون قد أدرك كل ذلك؟ فالكتابة هي إبداع شيء، عندما تتحول المخيلة إلى صورة حية تصبح الفكرة حقيقة، ويكون الكاتب قد أحدث وأبدع واستراح!
لا يبرح عن ذهني أول رسم شعري أثر في مخيلتي الحديثة يوم كنت ولدا، كان ذلك الرسم بولس وفرجني وأتالا ورينه، لم أكن يوم ذاك لأمل النظر إلى ذلك الرسم معلقا على جدار كاهن القرية الشيخ أو في غرف الفنادق، حيث كان بائعو السلع يذيعون في الشعب اسمي برناردين ده سان بيير وشاتوبريان. لا أشك في أن الروح الشاعرة التي دخلت إلى نفسي في ذلك العمر دخلت من تلك الطريق، كنت أصرف ساعات طوالا أمام تلك المشاهد الحبية، مشاهد السكون والعفاف، قائلا في نفسي: «آه! لو يتيح لي يوما من الأيام أن أؤلف كتابا صغيرا يبقى على رفوف مكتبة العائلة، وأن يختار منه بعض الرسامين مشهدا أو مشهدين يعلقان على الجدران أمام أعين الذين لا يقرءون، فأكون قد حييت حياة سعيدة.»
لقد حققت السماء واهتمامك المقدس ذلك الأمل الصبياني يا سيدي العزيز، فسوف يعلقون لورانس بعض الأحيان تخت فرجني، وجوسلين بالقرب من الأب أوبري، فلا أرجو أن أقترب أكثر من ذلك، إن احترامي لهذين النابغتين: برناردين ده سان بيير وشاتو بريان اللذين كانا ولا يزالان أبوين كريمين للأدب الإفرنسي ليفتخر أن أبقى دونهما طيلة حياتي الأدبية، فاعتباري من تلك العائلة الخالدة يكفي نفسي عجبا وفخرا.
جوسلين، هي المؤلف الذي أكسبني أكثر من سواه ثقة كثير من الذين لم يكن لي سابق صلة بهم، فكم من نفوس ما كنت لأحلم بها قد انفتحت لي منذ صدر هذا الكتاب، في رسائل، بعضها ممضي وبعضها لا إمضاء له، تتدفق كل يوم بين يدي!
الشاعر ينشد أغانيه في عالم الذكاء والحب فيجيبه سرب من الأرواح الحساسة وألوف من الأفئدة الرنانة كاشفة أمامه شعورها وتأثراتها.
إن الشاعر لسمير الأرواح مهما تباينت نزعاتها، وهو كذلك بلسم الآلام والمصائب يسكب عليها من أحشاء الوحدة والسكون مراهم التعزية، والمرشد الأمين للأخيلة وللتصورات.
كم أتمنى لو استطعت أن تشهد ولو مرة وصول البريد، وأن تفض الرسائل الواردة إلي من جميع الجهات، فهذه كتلة صفراء تشير إلى أنها قطعت بحارا عديدة حاملة إلي بعض ذكريات عذبة من الشرق المحبوب، لقد كتبت باللغة العربية فيجب أن أرسلها إلى باريس أو مرسيليا لترجمتها، وهذه كتلة تدل أحرفها الرصينة على أنها قادمة من ألمانيا، تلك الأمة المفكرة النشيطة، فأنا أفضلها بهزة وارتياح، وهذه أيضا من رومة ومن نابولي ومن فلورنسا: لقد كتبت بتلك اللغة الموسيقية التي تكسب الأفكار والعاطفة رنين النحاس العميق، وبالإجمال فهي أبيات من الشعر الطلي أفلتت من بعض النفوس الفتية، وهذه قادمة من إنكلترا، فعناوينها المتشابهة الشكل ذات الأحرف المعجلة تشير إلى كثرة العلائق والسياسات والاقتصاد، ولا تدل على شيء من الشعر بتاتا، فهذا الشعب لديه ما يجول بينه وبين الأحلام! وأخيرا هذه كوم قادمة من جميع جهات فرنسا، مختلفة الأشكال، متباينة الأحرف، بعضها يبحث في السياسة والشئون الدولية فيصوب إلي التجاديف واللوم، وبعضها يقول لي: «إلى الأمام، إنا معك قلبا ونفسا»، فأجد في هذه الأصوات عزاء ونشاطا، وتقر عيني، لا سيما عندما أفض بعض الرسائل الواردة إلي من أصدقاء مخلصين ملؤها العطف والذكريات! فهذه الرسائل جديرة بأن أتذوقها وأعيد قراءتها مرارا ثم أضعها على حدة لأنها منفردة بالأفكار والإحساس.»
وأخيرا هذه رسائل من قوم غرباء أجد لذة عظيمة في تلاوتها بعد أن أضع جانبا تلك التي تلح في مطالبتي بوفاء ديون لا أملك منها شيئا، فكم من كنوز مختبئة في تلك الصفحات وكم من عاطفة وإحساس! إن هناك صفحات صبيانية اجتهدت في تنميقها أنامل بعض الأولاد، ولكن هناك صفحات ساحرة جذابة تأخذ بمجامع القلوب، حرية بأن تتلى بإعجاب وفخر!
كم من عاطفة وشعر وفلسفة! كم من أبيات تارة حساسة وطورا بليغة تنطفئ وتموت بين شفاه منشدها وآذان سامعها!
كم من فتيات، كاللواتي أجاد هيغو التغني بهن، يصرفن النهار في التخريم والتطريز ليتعيشن، ويحيين الليل في قراءة الكتب المفيدة وموحيات المخيلة الناضجة، حتى إذا ما انتهين إلى سر الإنشاء يكتبن ما تمليه عليهن نفوسهن الطاهرة.
كم من عملة بؤساء ينزوون الليل في مخادعهم بعد أن يكونوا قد صرفوا النهار بالعمل الشاق فيفكرون ويشعرون بتلك النفس التي نفكر بها نحن ونشعر.
وكم من نساء منفيات في أقاليم بعيدة، في أعماق بعض القصور أو في زوايا بعض الأكواخ الحقيرة، يتركن أصواتهن الملائكية تفلت من صدورهن الكئيبة الحساسة كأنها أصدية السماء ترددها ملائكة الأرض، وأخيرا كم من مرضى، وكم من بؤساء أعدمتهم الحياة نعمة الإثراء لا يجدون العزاء إلا في أفواه الشعراء، وكم من كهنة لا يزالون فتيانا قضي عليهم أن يسجنوا كجوسلين على بعض الأطلال البالية أو في بعض الجبال البعيدة، وقد وقع كتابي هذا بين يديهم فمزجوا نفوسهم الباكية بنفس ذلك الكاهن الشاب الذي ألقى في قلوبهم بعض التعزية والسلوان. «هؤلاء هم قراء كتابي وأصدقائي والمراسلون الأصفياء! آه! إن من كان مثلي متمتعا بثقة تلك النفوس الفتية، لا يعدم نشاطا ولا ييأس!»
إلياس أبي شبكة
توطئة
كنت صديقه الوحيد على هذه الأرض، وكنت أتردد إلى مقره مجتازا تلك الطريق الضيقة على قدمي، وتحت ذراعي بندقية أعددتها للصيد وأمامي كلبان أمينان، كنت أصعد بهما تلك الجبال الناتئة متلهيا بوثباتهما الخفيفة عن التعب الذي كان يثقل ركبتي، فما أكاد أتوسط الطريق الوعرة وأطل على ذلك المقر القائم بين الصخور الرمادية والأشجار الباسقة الغضة حتى تتوارد إلى مخيلتي مشاهد جميلة بارزة خلال ذلك المكان المنفرد من الطبيعة.
وتمر على حافة قلبي أسراب الغبطة والفرح لما سألاقيه في المساء من حسن الضيافة والجلوس معه أمام الجدول الرقراق في الحديقة العطرة بين الأغصان المتدلية والأزهار الرقاصة على ممر النسيم، ويخيل إلي وأنا أجتاز تلك المسافة أني أسمع نبرات صوته العذب وأشعر بقلبه المحب يخاطبني بتلك العاطفة وذلك الشعور اللذين طالما رأيتهما يضطربان من خلال عينيه؛ ففي أحد الأيام، عندما بلغت قمة الجبل وسمح الأفق المطلق لمقلتي المغلفتين بالأثير العطري أن تريا مقدم مقره، وضعت بندقيتي على أحد الصخور ومسحت جبيني بعد أن كان النسيم البليل قد نشفه بأطراف ردائه الأثيري، ثم جعلت أحدق في البعيد باحثا عن ثوبه الأسود بين تلك الأشجار المدلة بالثمر والحديقة المغروسة فيها أنواع الخضر، وما زالت أجيل نظراتي حتى تراءى لي مصراع نافذته موصدا، فحولتها إلى مدخن الموقد فلم أر الدخان صاعدا من فوهته، فاستغربت الأمر ومرت رعشة عنيفة وخيال رهيب على نبضات قلبي، وبدون أن أعرف سبب اضطرابي أخذت بندقيتي وأسرعت بالمسير.
كنت أفتش بعيني عن أحد أسأله، غير أنه لم يكن في ذلك الحقل المقفر لا قطيع ولا راع سوى محراث مضطجع بين الأتلام ودابة ترعى الأعشاب النابتة على أقدام الصخور، ولم يكن يسمع في تلك الساعة إلا صراخ الصرصر بدلا من نغمات العنيز.
بلغت المنزل وعبثا طرقت الباب: حتى إن كلبه الأمين لم يسمع دقاتي فيعلنها بنباحه، وأخيرا دخلت إلى الساحة فوجدتها خرساء فارغة. فارغة؟ يا للأسف! لا، لا، شاهدت وجها مبدل القسمات متكئا على يد نحيلة كأنه بائس مسكين على عتبة كنيسة القرية، أجل! رأيت امرأة ساكنة لا تبدي حراكا وقد غشت الدموع عينيها وأحرقت الزفرات ما بقي على وجنتيها من نضارة الحياة، فأدركت حينئذ هول الموقف وشعرت بالموت ناسجا أكفانه السوداء في ذلك المقر المقدس، حيث كان صديقي المخلص يردد صلاته عند آخر شعاع من أشعة المغيب. أجل! أبصرت الخادمة الأمينة تبكي سيدها المحب وقد تاهت نظراتها في مذاهب الفضاء! أحقيقة يا مرتا أنه مات؟ قلت لها ذلك وقد اغرورقت عيناي بالعبرات وأطلقت زفرة من صدري أفاقت عندها ذكريات قريبة العهد، فنهضت تلك الخادمة وأمرت أناملها على عينيها ثم حدقت إلي، وقالت: «أجل! مات! ولكنه لا يزال في غرفته، فاصعد إليه وزود نفسك منه آخر نظرة قبل أن يواريه التراب، فسوف لا يدفن قبل فجر غد، لقد كان اسمك آخر كلمة قالها عند موته»، فصعدت أدراج الغرفة حتى دخلت إليه فوجدت المكان قفرا مظلما لا يضيء فيه غير شمعتين ترسلان إلى جبينه بعض أشعة مأتمية كأنها الأمل الخالد وظلمات الحياة يتنازعان في الساعة الأخيرة من ساعات السكرة الرهيبة! بقيت هنيهة متأملا ملامحه العذبة، وقد مرت عليها أجنحة السماء تاركة على بسماتها مثل ما تترك الفراشة على براعم الأزهار، وكان ثوبه الأسود ملقى على فراش الموت، وصليبه العاجي راقدا على صدره الساكن كأنه صديق مخلص راقد على قلب صديقه، وكان كلبه الأبيض جالسا على أقدام السرير يلتفت تارة إليه، مستغربا رقاده الطويل، وقد مضى على حراسته برهة من الوقت لم يستفق في خلالها، وطورا ينبح نباحا شديدا ثم يصغي إصغاء تاما عله يسمع لهاثه أو يرى عينيه، وكان بالقرب من وسادة الميت، حسب الرتب المقدسة، غصن من البقس اليابس مبلل بالماء المقدس، فأخذته بيدي بخشوع واحترام ورسمت به على جسده شارة الصليب، ثم قبلت يديه وقدميه، وكانت صورة الخلود مرتسمة على جملة وجهه، فلم تر عيناي إلا قديسا من أصفياء الله مضطجعا بجلال بين جدران تلك الغرفة المظلمة، فجلست على كرسي أمام الميت وجعلت أبكي وأصلي حتى إذا ما جاء الصباح بعد أن أحرقت الليل بزفراتي، غيبنا الجثة في ضريح قائم على مقربة من باب الكنيسة ورمى كل من القرويين قليلا من التراب المقدس على التابوت علامة الحداد، ثم جعلت أنظر إلى ذلك التابوت يتوارى شيئا فشيئا تحت الرماد، وكلما ألقى الحفار حفنة من رفشه
1
أسمع زفرة من أفواه القرويين! «أيها الصديق القديس! قلت له عندما احتجبت آخر خشبة من خشبات الكفن، نم، فليس قلبي هو الذي أسف عليك بل عيني! إني لعالم أن صديقي لم يبق في هذا الوجود بل ذهب إلى حيث أشعلت فضيلته مصابيحها المنيرة، وتقدمت زفراته جلال نفسه الطاهرة!»
في ذلك المساء سمع الجرس ينوح عليه في ذرات الأثير فيمتزج نواحه الرهيب بنباح الكلب الأبيض، ذلك الحارس الأمين الذي لم يكن ليفهم معنى غياب سيده فيناديه في الليل ولا يسمع جوابا لندائه سوى حفيف الشجر في وسط ذلك السكون!
قضيت ذلك الحين مع مرتا، صارفا الساعات بالتنقل من الحديقة إلى الساحة، ومن الساحة إلى الحديقة، باحثا عن آثاره في كل موضع، مناجيا طيفه اللطيف وروحه الشريفة، قارئا بعض فصول من كتاب مقدس، وماسحا بأناملي دموع عيني، «ألم يكن يكتب في خلوته؟» - «أحيانا، أجاب مرتا، ولكنه كان لا يكاد يملي في ليلة واحدة ما يخطر له حتى يرمي بالورقة في سلة قديمة، وعند الفجر كنت أكنس تلك الورقة وأتركها مع باقي الأوراق تحت النافذة، فإذا شئت أن تطلع عليها فاجمع ما أبقته الفئران منها»، جمعت تلك الأوراق الصفراء، حيث مرت أنامله مرور أنامل كاتب خيالي، بعد أن عبث بها الشتاء ولاعبت بها أيدي النسمات ثم جعلت أقرأ أسطرها البالية بجهد عظيم، حتى تمكنت من إحياء ماضيه بين تلك الآثار المهدمة، كما تمتد الماء تحت الأكمات وتتوارى بين الأدغال المضطربة لدى خطرات النسيم، ثم تبرز نقية كالفضة في وسط مرجة خضراء، ثم تتكسر على بعض الصخور الرمادية وتعود تتجمع في غدير عذب بين الأزهار والرياحين، هكذا تجمعت تلك الصور القديمة من ذلك الدفتر اليومي بعد أن كاد البلى يمحو آثارها من الوجود.
العهد الأول
في 1 أيار سنة 1786
مضى النهار كما تذوب الثمرة اللذيذة في الفم تاركة بعدها الطعم والعطور، إن الأرض لملأى بالأفراح! شكرا لك يا الله على تلك النعم، نحن اليوم في أول أيار، على عتبة قصر الزهور، ففي الصباح وضعت والدتي طفلا ذكرا وبلغت أنا السادسة عشرة من عمري، كان النهار جميلا والوادي الصغير زاهيا زاهرا كأنه قطعة من الجنة! وكان كل مصراع من مصاريع النوافذ بمثابة صديق حميم يستقبل أول بسمة من بسمات الفجر، كنت أشاهد الدخان صاعدا من فوهة الموقد كأنه أعمدة من الأثير مرتفعة في مذاهب الفضاء، وكأن أسراب الدقات الخفيفة أجنحة هائمة من أجنحة الملائكة الأتقياء كانت تتصاعد من حناجر الأجراس وتقفز كالطيور على صخور الوادي! وكانت فتيات القرية يفتحن نوافذ منازلهن لدى تلك الأنغام ويتبادلن التحيات والبسمات، ثم يضفرن شعورهن متكئات على شرفاتهن، ويسرعن بعد ذلك إلى الحدائق عاريات الأرجل، حيث يجمعن باقات من الأزهار لا يزال ندى الصباح مضطربا على براعمها، ويعلقنها على صدورهن كأقراط من اللؤلؤ أو كعقود من المرجان، وكنت أرى على مقاعد الكنيسة بعض العذارى الجميلات ساجدات بخشوع أمام القربان المقدس كأنهن قد جئن يرفعن إلى الخالق المبدع أزهار نفوسهن وقد قطفنها من حدائق التقوى ومروج الفضيلة.
وفي المساء، كان الرقص على أعشاب المروج يعطي المشهد جمالا فيغار منه شعاع الشمس المائت، وكانت الأغصان تذيب على أوراقها الخضراء موسيقى الحفيف فتمتزج نغماتها بنغمات الناي من فم المعاز السكران وتتآلف بسرعة في أفئدة بعض العاشقين هامسة في آذان الحب أسرار الحياة! وعندما بدأ المزمار يشعر بتعب من تتابع النغمات، وبدأ العرق يتصبب من جبين الراقصات وينعقد على شعورهن، كنت جالسا على صخرة منفردة أتتبع بنظراتي وبقلبي هؤلاء العذارى وقد انعقد التعب على عيونهن، مفكرا بتلك العاطفة الجميلة العذبة متأملا أثوابهن الحريرية المخرمة، مصغيا إلى ذلك الحفيف المتصاعد من تلك الأردية الفضفاضة، ناظرا إليهن يبتعدن شيئا فشيئا ثم يتوارين عن عيني، حتى إذا ما برز البدر على قمة الجبل رأيت بعض العاشقين، وقد تغافلوا عن الذهاب، يتأبطون أذرع بعضهم ويتوارون في الظلام!
أنا في مخدعي الآن بين جدران خرساء مبطنة بالظلمة، الجميع راقدون في مضاجعهم، ولا أسمع إلا حفيف الورق تحت النافذة، فلأنم! ولكني لا أقدر أن أغمض جفني! فلأصل! - ولكن أفكاري المشتتة لا تسمع صلاتي! فأذني لا تزال ملأى بنغمات الرقص! عبثا أحاول الرقاد، فتلك الحفلة لا تزال ماثلة أمامي، والأحلام الرقاصة تستفيق في مخيلتي، وأخيلة الراقصات تتنفل بين أهدابي! يخيل لي أني أرى عينا تشع في الظلمة، وأشعر بأيد عذبة تجس يدي المضطربة، ويخال لي أيضا أن ضفائر ذهبية تلامس جسدي المختلج، وأن باقات من الأزهار الذابلة تلقى علي من جبين بعض الفتيات الجميلات، وأن شفاها عذبة تتلفظ باسمي في هذا السكون الرهيب! لوسيا! أينا! بلانش! ماذا تطلبن مني؟ أية قوة هو الحب؟ فإني ألامس عذوبة إلهية من خلال أحلامه! ولكن هذا الحب لم يتفتح بعد في حياتي، إنه لكوكب ناري وما هذه الساعة إلا فجره الأول. آه! ما كان أسعدني لو ألقت السماء بين ذراعي حلما من تلك الأحلام الحية، وما كان أهناني لو أتيت بعذراء طاهرة إلى هذا المكان، تكون أول شعاع من أشعة الحياة، فأحيا عشرة أجيال في يوم واحد: إني لأشعر بالحب هذا المساء، وما نفسي إلا الحب ولذاته! لا: فلأطرد من قلبي تلك الصور الذابلة ولأعد إلى كتبي القديمة أطالع في صفحاتها سير القديسين، تلك هي الكتب على منضدتي، ولكن عيني عبثا تطفوان على سطورها السوداء، فالذي يقرأ الآن إنما هو مقلتي لا أفكاري! •••
لماذا كانت شقيقتي تبكي عند دخولها إلى المنزل بعد أن كانت أكثر الفتيات جمالا وزهوا في تلك الحفلة الراقصة؟
في 6 أيار سنة 1786
عرفت سبب بكاء شقيقتي، أأقدر أن أشتري سعادتها بتضحيتي؟ منذ هنيهة كنت أهيم في الحديقة مفكرا، فسمعت تمتمة من غرفة والدتي تتصاعد على درجات الأثير ثم تتقطع رويدا رويدا وتختنق في الظلمة، فاقتربت من النافذة السفلى ورفعت عرائش الكرمة عن المصراع ثم أصغيت إصغاء تاما ونظرت إلى داخل الغرفة فأبصرت والدتي جالسة على حافة السرير تقرأ في صفحة ملأى بالأسطر السوداء، وكان خيال شعرها الأسود يحجب عني وجهها اللطيف، فسمعت نقطا متتابعة تسقط على تلك الورقة ورأيت شقيقتي جالسة بالقرب منها ويدها اليمنى حول عنق أمي وجبينها مستلقى على كتفها بحزن أليم وشعورها المبللة بالدموع ملصقة على خديها - «أحقيقة يا جوليا أنه يحبك وأنك تحبينه؟ - أكثر مما أحب نفسي! أجابت شقيقتي وقد احمر خدها من الحياء - واأسفاه! إني لأفقه جيدا معنى هذا الإقرار المحزن الرءوف أجابت أمي، فلا أسعد لدي من أن أراك متحدة يوما من الأيام، ولكن الله لضنين علينا بمثل هذه السعادة، فهو لا يكاد يجمعك بيد حتى يفرقك بيد أخرى، إن الحب لا يؤيد وحده دعائم الاتحاد، فالمال يا ابنتي هو الدعامة الكبرى لتأييده، المال! ... آه! لو كانت الدموع تستطيع أن تتحول إلى ذهب لكنت ترين كنوزا في عيون الأمهات! إن الخالق ليعرف ذلك! كم أتمنى لو تمكنت من شراء الزوج لك بمدامعي والزوجة لشقيقك العزيز، غير أن الله لم يهبني من متاع هذه الدنيا إلا الحقل الضيق الذي سوف يقسم بينك وبين شقيقك، فاجتهدي يا ابنتي أن تتناسي! - أتناسى؟ أجابت شقيقتي، فالموت أفضل عندي من ذلك، ثم إني لم أعد بعد ذلك إلا مزيجا من التأوهات والدموع، وكأن ملاكا من السماء همس في أذني بعض كلمات فتباعدت باكيا وهمت على نفسي بين أشجار الحديقة!»
في 17 أيار سنة 1786
قضيت النهار بالتفكرات ونزعت من صدري ذلك النزع الأليم بشجاعة وإقدام!
في 18 أيار سنة 1786
قلت لأمي هذا الصباح ما يأتي: «أشعر بأن الله يناديني إليه، فالتقوى الشريفة والإيمان الحي اللذان سقيتني إياهما يحملان الآن ثمرات ربما كانت مرة عندك وعند شبابي ولكنها حلوة وعذبة عند نفسي، إلى المبدع الخالق يا أمي! إن أشباح القديسين تدعوني إليها، فأود أن أرفع إلى الله أيامي الفانية كما يرفعون إلى المذابح آنية من البخور طاهرة! ما من شيء يجذبني على هذه الأرض، فلا أريد أن أدنس أقدامي على هذه الطرقات، حيث يمر قطيع الإنسانية على مستنقعات الخبث والرذيلة.
إني لأؤثر أن أتبع منذ الصباح طريقي الساكنة، وأن ألجأ إلى موئل الله، حيث السلام والهدوء والراحة! وإذا اقتضى أن أحمل حساما للقتال في هذه الحياة فإني لأختار واحدا يختلف عن غيره، وأموت رافع الرأس على حضيض المعمعة! ثم إن الحياة ثقيلة متعبة، فالأولى بي أن أحملها وحدها وأطرح ذلك الثقل الحديدي عن قلبي! ثقل الطمع والرغبات والمآرب! آه! لا تقاومي مشيئتي يا أمي وانزلي عند هذا الرجاء المفرح! لا، لا تقاومي، فسوف تكونين فخورة بهذه الكلمة التي تكاد أن تكون وداعا مرا، أي شيء أكثر وداعة من اسم الكاهن؟ آه! لا تخجلي من ذلك، فليس أشرف وأنبل من هذه الغاية يا أمي! إن الله الذي قسم الإنسانية أعطى لكل واحد قسمته، فمنهم: من أعطاه الأرض ليحرثها، ومنهم من أعطاه امرأة يحبها ويثمر منها أولادا، ومنهم من قال له: اجعل دويا في العالم، ولكنه التفت إلى القلوب الملأى بالمحبة والإيمان، قائلا لها: «أما أنتم فلا تحملوا شيئا من متاع العالم فستجدون كل شيء بين ذراعي»، إن الكاهن يا أمي لقارورة طاهرة، معلقة على قبة المذبح، حيث أشذاء الفجر والأعشاب العطرة تستحيل إلى بخار مقدس وتتصاعد إلى الملأ الأعلى! إن الكاهن لأرغن السماء يذيب نغماته على الأرض غير أن صوته لا يمتزج بدوي العالم ولا يتجاوز عتبة الهيكل، بل إنه يرفع إلى الله من ظلمات المعبد أنغامه المقدسة حاملة إلى الألوهية ألحان الطبيعة والإنسانية، ولكن ربما قلت يا أمي: «إنه يحيا معتزلا، ونفسه التي لا يذوب عليها شعاع المرأة تستحيل إلى خشونة وصلابة بين ظلمات الوحدة وجدران السكون»، لا يا أمي، فالمسيح يضع في قلبه عظمة المحبة واللين، فلا تخشي أن تفقد من نفسي عاطفة جعلتها وقفا لمحبتك! آه! إن الله الذي يناديني إليه ليس بإله حسود، بل هو الرحيم الشفيق الذي لا يطلب شيئا من نفوس الأبناء إلا ليضعه طاهرا في نفوس الآباء! سأكون رسولا لهذا الإله المحب وسأرفع نفسك الطاهرة إلى أعالي السماء بزفراتي ودموعي! لا تغمضي جفنيك يا أمي ولا تنظري إلي بهذا الحزن العميق بل قولي لي كما قالت سارة: «ليكن ما أراد المبدع الخالق!» وباركيني بيدك الطاهرة!»
في 26 أيار سنة 1786
بقيت أمي تبكي ستة أيام! كما طلبت ابنة يافث من الله الغضوب بعض ليال تبكي خلالها الربيع والشباب، ثم إنها تقدمت بنفسها ودفعت عنقها إلى التضحية، هكذا بكت أمي وقالت: «نعم، رضيت!»
في 10 حزيران سنة 1786
لقد كافأني الله: فأمس كان زفاف شقيقتي إلى إرنست، أرى البيت يستعيد حياة سعيدة، ومصاريع النوافذ، تتفتح من تلقاء نفسها كأنها أجفان الصباح أو براعم الزهور، بعد أن كانت موصدة منذ ذلك اليوم الذي ذهب فيه والدي إلى عالم غير هذا! أجل! أراها مفتوحة كأنها تستقبل أسراب السعادة بعد غياب طويل! وأرى الأهل والأنسباء يفدون زوجين زوجين وفي أيديهم هدايا العرس وعلى شفاههم دعاء سعيد، تلك عذراء باسمة لشقيقتي، وتلك عذراء أخرى تتأمل عقدا من اللؤلؤ يلمع على ضياء الشمس، وتلك ثالثة تنظر بدهشة إلى جواهر العروس وقد استهواها البريق، أجل! كل ما في البيت يدعو إلى الغبطة والفرح، وفي السماء تدور حلقات الرقص على الأعشاب، فيتأبط العاشقون أذرع بعضهم ثم يتيهون بين الأشجار والرياحين هامسين في مسامع بعضهم عبارات الحب! أما أنا فسأبقى وحدي مسترسلا لأحلامي وخيالاتي ناظرا إليهم بدون أن أدع لهم سبيلا يرونني فيه، أذوق من سعادة الحب صورها ومن لباب القلوب قشورها، قائلا في نفسي: «هذه السعادة ملكي لأني اشتريتها بشعاع عيني!»
في 13 حزيران سنة 1786
أمس، بينما كان الأهل والأصدقاء يحيون حفلة راقصة على الأعشاب، كانت جماعة من الفتيات يشرن إلي بأناملهن، وكانت إحداهن وهي أجملهن تختلس مني النظرات وعلى شفتيها بسمة السخرية، قائلة لأترابها: «أيمكن أن يؤثر على جمالنا ذلك الثوب الأسود وهو الشباب الزاهر والجمال الخلاب؟ أيخيفه العالم يا ترى؟!» ربي! إنك أدرى من الناس بسرائر قلبي!
في 16 حزيران سنة 1786
كان النهار الماضي ذلك النهار المحزن المظلم الذي تجلبب بخيال آلامي، وكانت السماء سوداء، والهواء النائح الباكي يحني الأوراق على السهول، وكانت الجداول العذبة راقدة بهدوء تحت الروابي المرتفعة وقد أمسكت خريرها عن الأسماع، وكان المنزل أيضا خاليا من الحس، ونوافذه موصدة أمام نواظر الأغصان والزهور، كأنها أهداب مثقلة لا تجسر أن تنظر إلى ذلك الوجه الحبيب لئلا تفيق الحسرات بين ذلك السكون الرهيب! وكانت أمي وشقيقتي تختليان حينا وتذرفان الدموع السخينة وكأن كلا منهما كانت تضمر في نفسها لوعة لا لوعة بعدها، وعندما كانتا تجلسان إلى المائدة كانت الدموع تتناثر من مقلتيهما وتتساقط على قطع الخبز والطعام!
مضى النهار على هذه الحالة، وعندما جاء الليل، ذلك الشبح الأسود الذي سوف يفرق بين المحبين فراقا لا لقاء بعده، قلت لأمي: «اذهبي وخذي لنفسك بعض الراحة، وسكني قلبك من الزفرات والدموع، فسوف أمسح دموعك بصلواتي وابتهالاتي وأدعو ملاك الرب ليحرسك ويكون لك غوثا وملجأ في مراحل حياتك، سترينني داخلا إلى هيكل نفسي برأس مرتفع وقلب كبير، ويجب أن تعرفي أن الذي يرفعونه إلى الله الخالق لهو أسمى ما في الصدور وأقدس ما في الأنفس، أجل يجب أن يرفع ذلك الشيء في مباخر الغبطة والسرور، اذهبي إلى فراشك يا أمي، فستجدينني قبل الفجر جالسا بالقرب منك»، ما كدت أنتهي من كلماتي هذه حتى ترامت علي وجعلت تقبلني، فلم أسمع ما كانت تتمتم شفتاها في تلك الساعة ولم أر إلا العبرات تتناثر من جفنيها الذابلين.
خرجت من غرفتها هائما على نفسي بين جلباب الظلام، وكان نسيم الجبال العليل يهب هبوبا خفيفا فتتلاشى لدى خطراته غيوم السماء، كانت الليلة من تلك الليالي العذاب حيث الهدوء والسكينة يهمسان في النفوس أسرار الحب والخلود، وحيث القمر المستدير، الجالس على عرش الأثير، يذيب على الأحراج والمروج أشعته المترددة المضطربة، كأنه، وهو يرسم البقع الصفراء الشاحبة، ذكرى خرساء من ذكريات الحياة والأيام، كنت أتوغل في الظلام ناثرا دموعي على أزهار الحديقة، مخاطبا كل شجرة يقع عليها نظري، منتقلا من جدول، ضاما إلى صدري كل غرس من الأغراس، نافثا في الأغصان روحا من روحي المعذبة، شاعرا بقلب رءوف يخفق تحت كل قشرة من قشور النبات، تارة أجلس على ذلك المقعد الخشبي، حيث كانت تجلس أمي وطورا أتحول إلى الخيمة فأنبه ماضي الراقد تحت أخشابها لأبكيه! أجل، كنت أزور كل جامد من تلك الحديقة وأزوده وداعا مرا، جامعا على الأرض ما يسقطه السنونو من القش اليابس، ثم إني بعد أن قمت بواجبي نحو تلك الجوامد الناطقة انحدرت إلى طرف الحديقة، وهناك تحت أقدام النافذة، نافذة غرفة أمي التي ربما كانت لا تزال ساهرة بين جدرانها، وبالقرب من ذلك الغدير الرقراق، جلست أصغي إلى زفرات المياه مقبلا ذلك التراب الذي سأتركه في الغد، مازجا عبراتي بالأوراق الصفراء المتساقطة من أغصان الشجر، لم أدر كم من ساعة قضيتها في تلك الحديقة، غير أن الفجر الأول كان قد لون خطوطه على حافة السماء، فأردت أن أقول لأمي كلمة قبل رحيلي فتقدمت مضطرب الركبتين إلى عتبة غرفتها وبدون أن أدخل تركت شفتي تتلفظان بهذه الكلمة الأليمة: «الوداع!» ثم حولت عيني الباكيتين وأسرعت بالخروج كرجل خائف من ضميره الملوث.
كنت أسير في حقول لا طرقات فيها مخافة أن ألتقي بإنسان أو أسمع صوتا حتى بلغت قمة جرداء ينحدر جبلها إلى واد رهيب فأبصرت صخرة رمادية عليها صليب من الصوان فجلست على أقدام ذلك الصليب وسرحت طرفي في الجهات الأربع فوقع نظري على مشاهد جميلة تتبسط أمامي، ورأيت البساتين الخضراء تحت جدران القرى، والحمائم البيضاء على سطوح المنازل، والدخان المتصاعد من فوهات المواقد كأعمدة من الرخام الرمادي تنتصب في مذاهب الفضاء، فسجدت على أقدامي، وكأن زفرة حرى حملت نفسي إلى تلك الأماكن العذبة، فصرخت: «اللهم أنت الذي أخذت الولد فابق مع الأم، ولتكن ساعة الرحيل خفيفة الوطء على قلبها! أنا لم أترك إقامتي بين أهلي وأنسلخ عن قلب والدتي إلا لأدع لهم الهناء وأورثهم روحك الإلهية وقلبك الحنون، اجعل اللهم الحب والسلام ينوبان عني بين جدران هذا المقر، واجعل تضحيتي سعادة ورغدا في حنايا صدورهم، اسهر يا إلهي على ساكني تلك الديار وبارك أوقاتهم ليلا ونهارا، وكن أيها المبدع العظيم ابنا لأمي وأخا لشقيقتي، اغمرهما بهباتك وقدهما بيدك في طريق عذبة وفي حياة طويلة»، قلت ذلك وقد توارت إلى الأبد آخر خشبة من مقر أهلي!
العهد الثاني
عن مدرسة ... في 1 كانون الثاني سنة 1793
قطعت ستة أعوام من أيام حداثتي، كانت لياليها ونهاراتها متشابهة متقاربة، أشعر بدعائم الدير السوداء تخيفني في ظلماتها، وبالجدران القاتمة تذيب على جبيني الصمت الرهيب! فالنوافذ المرتفعة لا تدع ذكريات الماضي، تلك الذكريات المضمخة بأريج الحب، تدخل إلي في السكون وهذه الوحدة، كل يرسم أمامي مشاهد الإيمان، فيد الله لم تخط على أوراقي البيضاء حادثا من حوادث الحياة! آه! أيمكن أن أبقى صحيفة لا مداد عليها طيلة هذا العمر؟!
في شباط سنة 1793
عندما ينسل الظلام بين أعمدة الدير ويجلس المبتدئون كل على مقعده يتحدث إلى رفيقه ويسامره، أسرع إلى باب الهيكل السري وأسكب نفسي على أقدام الإله العظيم! ذكريات بعيدة تتراءى لي شاحبة الوجه من خلال الأحلام، وتغسلني في بحيرات هادئة ساكنة، فتستفيق في نفسي تلك الساعات الحلوة اللذيذة أيام كنت أسمع لهاث الشمأل في الضباب الرمادي، وأرى أعمدة الحور والصفصاف تضطرب كالقصبة وتهز الثلج المتراكم عليها، فيتساقط كالمندوف الأبيض ويذوب على الصخور أو على التراب! أجل! أيام كانت الدموع تتفجر من ينبوع إلهي في صدري، وتمر أخيلة سوداء في مذاهب الجو فأخالني سأقبض بكلتا يدي على سبح الله بين تلك الغيوم المتلبدة!
تلك أويقات تمر على الإنسان في مطارح أيامه فتمزج حياته بالخلود، وتبقى مرتسمة في نفسه إلى ما شاء الله! وعندما دخلت عتبة المعبد المظلم ودفنتني لياليه في ضمير الله، عندما رأيت هذه الجدران المبطنة بالأجيال تقوم حاجزا بيني وبين العالم، عندما همت بأقدام خرساء في وسط هذا المأوى الرهيب، حيث الأسرار والخلود، عندما أبصرت أشعة المغيب تنطفئ على زجاج النوافذ، وشعرت بأن أذنا تصغي إلي في هذا الفضاء، وصديقا غير منظور يدفعني إليه ويخاطبني بلغة أعرف قواعدها وأدرك جوهرها، أجل، عندما كان ذلك لجأت إلى حضن السيد العظيم وعلى عيني أشعة من أشعة الإيمان وفي قلبي مسامع وديعة لنغمات الحب الخالد!
عن مدرسة ... في 15 شباط سنة 1793
بينما نحن نقيم في زوايا عالم غير ذاك العالم، تحت أعين الله وبين أحضان السلام، نشعر بأن دنيا بعيدة قريبة، وقد نفخت فيها حياة غير حياتنا، تزأر حولنا زئيرا رهيبا وتتكسر أمواجها المصطخبة على قلوب أبناء الله! آه! لماذا يا ترى وجدت بين هذه العواصف، حيث لا يجد الإنسان مكانا أمينا يلقي على أعشابه رأسه المثقل بالآلام، وحيث أفكار الإنسانية تظل باحثة وهي تجس الطرقات العديدة برءوس عصيها، غير قادرة أن تجلس تحت ماض متهدم ولا أن ترمي المستقبل رمية واحدة على رحاه؟ لماذا خلقت بين هذه المدمرات، التي تقتلع الأجيال من الأرض محرقة كل يد تلامس براكينها؟
في 25 شباط سنة 1793
إيه أيام الأوجاع، أيام السكون والاضطرابات! لقد شربت المملكة دماء الملك، وقام الشعب على الشعب قيامة سالت الأنفس تحت عجيجها، فكل إنسان يحمل شرفا أو فضيلة، أو قلبا ونبوغا، لا بد أن يتحطم على خشبات الإثم! إن إصبع الوشاة تشير إلى الجلادين بالقطع، وشريعة الشعب الوحيدة تقضي بالموت على أولي الجدارة، والفأس الظالمة تحب الرجل العادل ولكنها تختار لشفرتها ذلك البريء المسكين! أيها الشعب السكران بكئوس الدم، إنك لتهدم بيديك ما بناه أبناؤك البسل، وتعطي مثلا ظالما لجلاديك!
في 28 شباط سنة 1793
لا يبرح خيال الثورة منتصبا في مخيلتي، حافرا هوة الدم بين أعمدة أفكاري! مبرزا جسد المجتمع الإنساني يئن على أسرة الآلام! الثورة! لا يستطيع أحد أن يدين مضرمها، فلبانتها مختبئة تحت تراب المآرب! من يستطيع أن يحكم على إرادة الله! أليس عند الله حكمة خفية في سير المجتمع الإنساني؟ ماذا تعلن الطبيعة في طرقاتها الخالدة؟ أين يقف تيارها الجارف ويستريح، أي شعاع من تلك الكواكب العديدة المضطربة تحب أعين المبدع القدير يرقد رقاده الطويل بين اعوجاج سائر الكواكب المضطرمة؟ أية قطرة من مياه البحر تنام نومها الهادئ على فراش الأمواج؟ وأي محيط، راقد على الشاطئ اللانهائي، يقف عن افتراس الحصى المتجمع على ضفافه؟ أي نهار يعمل عمل الأمس؟ وأي أمس كان حكمه كحكم الغد؟ إن الوقت مشتق من الوقت، والأشياء من الأشياء! لا تبلى صورة من صور هذا الوجود إلا لتتجدد صورة أخرى على منبسطه، وأخيرا إن الآلام تعمل وتبني لتصل إلى الموت! عبثا يهرب الرجل الفخور ببنائه مذاهب هذا العدم من شرائع العالم وقوانينه! أيها الإنسان، ذلك الإله لن يكون إلا إلهك وتلك الشرائع لن تكون إلا شرائعك، وكلما لفظ الخالق عبارة من فمه الرهيب تتساقط لديها قوى الإنسان، ويكون ذلك السقوط جوابا! ليست الممالك والآلهة والمعابد والدساتير، أجل ليست هذه الملاجئ الضعيفة إلا ترابا سيجرفه العدم إلى مآتي المستقبل الذي سوف يحتقره ولا يلتقط ذراته عن الحضيض!
كم تناثرت على هذه الأرض عقائد وشرائع وآلهة مختلفة كل الاختلاف عن عقائد وشرائع وآلهة قبلها وبعدها ثم ذبلت ذبول أوراق الخريف واستحالت بعد ذلك إلى تراب لا يزال بآثاره ماثلا أمامنا إلى اليوم؟ كم من غضن وشجرة وأوراق غذت الأرض وأنمتها، وكم من جدول وساقية ونهر سقى البحر بقطراته، ذلك البحر اللانهائي؟ أجل، إن دماغ الخالق يشتغل دائما في أدمغة الإنسانية البائدة، تلك الآلات العمياء والأيدي المضطربة، لقد أعطى أفكار الإنسان ذلك المد والجزر اللذين يدفعانه تارة ويجذبانه أخرى، حتى إذا ما وقفا عن الدوران حول ذلك المحيط الإلهي يبلغ العالم ذلك المنتهى الرهيب! ولكن إذا كانت أفكار الله تقود الإنسانية إلى الانقلابات، فكيف يا ترى ترسم الثورات بدماء التضحيات الطاهرة! أليست الثورة انقلاب الجرائم وميولها وشهواتها؟ كيف يا ترى تعمل الروح السامية، روح الحب، والعدل، والسلام، لخدمة البغضاء والفواحش والطغيان؟ آه! ذلك لأن يد الله تعمل مع يد الرجل، حتى إذا أدركت الفضائل تلك الروح السامية لا يلبث الإثم أن يحرقها ببراكينه! أجل، إن العامل لإلهي ولكن الأداة لبائدة، فالأول يحاول أن يبني العدل على الحرية والثانية تحاول أن تهدم الهيكل على جميع الحقوق، ولا يزال الطرفان يتنازعان بين جلابيب الليل الخطر، حيث الروح المندحرة لا تعود تتبين الفضيلة من الجريمة حتى يأخذ كل منهما وجهة الثأر الرهيب!
ليست الثورة إلا ساحات الحرب، حيث يتلاحم حقان مهضومان ويعثران بالوقت والزمان، ويعتقد كل حق منهما أنه يثأر للسماء بدفاعه عن الغرور، غير مبصر في الأسباب إلا أشباح الانتقام وأخيلة الذنوب، ثم يتسلح بحق ملطخ بالدم ويأخذ بالتدمير وإضرام النار! ما العمل؟ والإرادة لا تؤثر إلا الجرائم؟ أمن الواجب أن يندحر السلام ويفسح مجالا للشرور؟ أمن الواجب أن تطارد الفحشاء بسلاح الفحش؟
المدرسة الإكليريكية في 2 آذار سنة 1793
يا للأسف! ماذا حل بأمي وشقيقتي؟ ماذا جرى لهما بين تلك العواصف المنقضة؟ ماذا حدث لذلك المقر العذب، مقر السلام، والصلوات، والإيمان؟ هل أحرقته الأراجيف، وطاردت فيه العناية الإلهية والسكون اللطيف؟ فهربت والدتي وشقيقتي وهامتا على نفسهما في مجاهل الغابات والأحراج! آه! إني لأشعر أمام تلك المشاهد المخيفة بأن المبدع الخالق يستطيع وحده أن يعطي الغفران لذنوب الإنسانية، وإذا لم أحطم قلبي بين أيدي الله لدافع يدفعني إلى الانتقام المقدس، سأقف نفسي لمعاقبة هؤلاء الجلادين، وأحمل في كلتا يدي خنجرين أذهب بهما إلى مقر حداثتي حيث أثأر لكل ذرة من ذراته!
المدرسة الإكليريكية، في 6 آذار سنة 1793
عفوا يا إلهي وغفرا، لا يقدر على الانتقام إلا جلالك العظيم! آه! إني لألقي سلاحي على قدميك، فلتقع تلك الذنوب والجرائم على هامة الوقت وليس على رءوسهم.
المدرسة الإكليريكية، في 8 آذار سنة 1793
استلمت هذا المساء كتابا من أمي، فقرأت عباراته العذبة بفم يضطرب وعين ملأى بالدموع، مقبلا تلك الكلمات التي تكاد تكون حياة لولا أنها خرساء لا صوت لها، وأخذت أربعة عشر ذهبا هي آخر ما كان في كيس أمي!
المدرسة الإكليريكية، في 9 آذار سنة 1793
هو ذا أنا وحيد في هذا العالم، يتيم بين جدرانه! «اذهب يا ولدي، قالت أمي في ساعة الوداع، وليباركك الله بيده الرءوفة، اذهب وعد إلى ذراعي بعد حين»، آه! إن عطفك يا أمي ليرميك في هوة من الضلال، ما أنا في هذا الدير إلا قلب يضم في حناياه نارا مقدسة، ولم أوجد بين هذه الجدران إلا لأبقى إلى الأبد مرتديا ثوب مبتدئ أو ثوب شهيد! أجل سأبقى ...
عن مغارة النسور في أعالي جبال الألب في الدوفينه، في 15 نيسان سنة 1793
فلأدون حوادث هذين الشهرين لتبقى أثرا هائلا من آثار الثورة الرهيبة!
نهض الشعب نهضة الذئب ووثب على أبواب الكنائس والمعابد يطارد أبناء الله ويسفك دماءهم الطاهرة على أقدام المذابح! هذه يده وقد سكبت النبيذ في كئوس القربان ترتفع إلى شفاهه المرتجفة بسكرة الدم! وهذه أقدامه تطوف الهياكل مدمرة ما يقع عليه النظر الغضوب، وهذه مطامعه تختلس الآنية وتمزق الرسوم! وهناك، كهنة المعابد يرفعون إلى الله صلواتهم من أعمق أعماق أفئدتهم، وقد أمسك بهم الشعب الدنس وطرحهم على الأوحال، حيث تمرغت شعورهم البيضاء وسالت دماؤهم من الدموع! وقد نجا البعض بشبابه أمام دوي البنادق وصليل السيوف، منتشرا هنا وهناك، باحثا عن موئل يلجأ إليه أو عن عذاب يذيب نفسه بين شفراته! هذه امرأة تأخذني بيدي في وسط الظلام وتقودني إلى خارج الجدران مشيرة إلي بالهرب إلى أعالي هذه الجبال، قائلة: «انج بنفسك يا ابني وخذ هذه القطع من الخبز تحتاج إليها في مجاهل الطرقات»، بقيت ستة أيام وست ليال هائما على نفسي في مفاوز الأكمات، متوسدا نواتئ الصخور، ملتحفا دجنة الظلام حتى بلغت أقدام الجبال مجتازا تلك السيول المتحدرة من مذاهب القمم، وإذا بصياد يكتشف مقري بنباح كلبه فخلع علي ثيابه رأفة وشفقة وأخذ ثيابي، بدأت أتسلق مراقي التلال، تلك الأعمدة غير المتناهية التي تكاد ترزح تحت أثقال القلل وتحجب البحيرات العميقة والأودية السوداء بين الصخور المتهيرة والأطواد المدلة بارتفاعها، أجل، لبثت أصعد تلك الشواهق مضطربا تحت مواكب «الشلالات» وكانت أشجار الصنوبر تبرز لعيني أخيلتها الرهيبة، حتى وصلت إلى مروج خضراء تنبسط كالنجاد على أقدام الذرى، فأبصرت معازا مسنا يتطلع إلى السماء وبين أنامله سبحة من الخشب، فارتاحت نفسي إلى ذلك الشيخ، وقد وثقت من صديق لا ريب فيه، فتقدمت إليه باسم الله فذعر بادئ ذي بدء لرؤيتي في هذا المكان المنفرد من الطبيعة غير أني سكنت روعه بسرد قصتي له فأصغى باكيا إلى روايتي المحزنة وقسم بيني وبينه ما كان معه من الخبز والحليب، وعند الصباح رفع نظره إلي، وقال: «كن مطمئن البال يا بني فسوف لا تجد إلا السلام عندي، فالبقر قد أكلت جميع ما في المرج من العشب، وغدا أبحث عن مرج آخر بين جبال غير هذه الجبال، ولكن عندما ينتهي فصل الشتاء ونرحل عن هذه الأكمات نزود خبزا لأيام الصيف وسيكون لك هذا الخبز؛ لأنك شاطرتني إياه، غير أنه لا يمكنك أن تتبعني إلى حيث يأوى الرعاة مخافة أن يتساءلوا عن أمرك، فشعرك الأشقر لم يتصلب بين العواصف ويداك البضتان تفشيان سرك أمام هؤلاء، ولا يمكنك أيضا أن تبقى بين هذه الأكواخ مخافة أن يكتشف مكانك بعض الجنود، فهذه الأنحاء معروفة لدى عساكر الجلادين، أما إذا شئت فتعال معي فأهديك إلى مغارة عميقة لا يدري مكانها سواي، فما من أحد يمكنه أن يبلغها إلا البروق والأرواح وبعض النسور المنشرة في هذه الأصقاع! تعال معي، فيد الله قادتني إلى ذلك الكهف لأقودك إليه فيما بعد، فهناك تحيا حياة تقشف وزهد ولكنك تبقى أمينا على نفسك، وعندما تحدثني نفسي باحتياجك إلى الطعام أصعد إليك خفية وأضع بين يديك ما يقوم بأودك إلى أن يفرج الله ويفسح لك مجال الحرية، انتبه جيدا إلى فوهة هذا الصخر، وتعال من وقت إلى آخر تحت جلباب الضباب تجد فيها ما تحتاج إليه؛ لأني لن أجسر أن أذهب إليك حذرا من أن يراني أحد فيترصدني وينتهي إلى معرفة كل شيء!»
عندما انتهي المعاز من كلامه أخذنا نمشي في طرقات وعرة، ونضع أقدامنا بجسارة غريبة، حيث صياد الجبال نفسه لا يجسر على وضع أبصاره، وكانت الصخور تتهاوى تحت أرجلنا إلى أن تتوارى عن الأبصار في مجاهل تلك العقبات، والهواء العاصف يتلاطم على جبهتينا كأنه صقالة السيف، وكانت أعمدة الزبد تتساقط من أعالي الجبال ثم تتصاعد رضابا أبيض وتعود تهوي إلى الأسفل خرقا خضراء فتملأ ذلك الفضاء بالضجيج الرهيب، فنظرت إلى الدليل فأبصرته يرسم إشارة الصليب على صدره، وقد جس بقدم مرتابة تلك الحواجز المتقلقلة ووثب إلى الأمام فتبعته، وكنا نرى زوابع المياه تمر على مسافة بضعة أقدام منا حتى بلغنا واد من الأعشاب والزهر يرويه الزبد بزلاله العذب، فتراءى لنا أفق جديد خلال تلك الصخور الجرداء والمروج الزاهرة، فنزلنا من رابية إلى رابية ومن منحدر إلى منحدر حتى وقف بي المعاز أمام كهف رهيب تنساب الينابيع على جنباته، وهنا أشار إلى ذلك المأوى، حيث الحكمة الإلهية بنت للإنسان ملجأ يهرب إليه من الإنسان، وأخذ يعلمني كيف أصنع من لباب الأشجار قارورة أضع فيها الماء، وكيف أعمل من القش فراشا، وأخرج من البحيرات سمكا، ثم إنه أوصى العناية الإلهية بحياتي، تلك العناية التي تقوت الإنسان دون أن يكسب ذلك القوت بالعمل والتي تحرس عليه بلا رشد وتدبير، وقال لي: «صل يا بني إلى ربك بحرارة وإيمان فهذا المكان ممتلئ بروحه»، فسجدت وسجد، ثم عانقته وتوارى عن نظري!
مغارة النسور في 17 نيسان سنة 1793 في الليل
يا جلال الليل! أنت عرش الله العظيم حيث الكواكب النارية تحمل بين أشعتها اسم المبدع القدير وتنير به شفق الوجود! أنت يد الله وطيفه وفكرته! وأنت أيها القمر النير الشفاف، حيث يخال لي أني أرى هذه الجبال تنعكس على مرآة صقيلة، وأنت أيها الهواء الخافق طيلة الليالي فوق تلك الأصقاع المرتفعة، وأنت يا ضجيج السيول، ويا أيتها الغيوم الشاحبة، التي تمر على هذه الأماكن المنيرة كما تمر أخيلة الأهواء على القلوب الطاهرة، أنت كلك أسرار الليل التي لا يدرك أعماقها إلا الخالق العظيم! ولكن، هذه القمم الشاهقة قربتني إليك، فأنا ساجد أمامك كما يسجدون أمام مشهد إلهي!
إن عيني لتغطسان كالشعاع في هذا الجو الصافي! يا لله من هذه الزرقة اللدنة وهذا اللمعان! يظن الناظر إليهما أن مياه البحر، عندما تلامسها نسمة لطيفة فتحرك جواهر الشمس المتناثرة على صفائها، تنعكس على تلك الزرقة وذلك اللمعان! هو ذا كوكب ينحدر إلى الشفق! أرى أشباح الحور والصفصاف تحجب الهلال عن نظري، ويخال لي أن لونها الأبيض المضطرب ثلوج تتساقط وتذوب على الأوراق، أسمع زفرات الهواء تتصاعد من أفواه الجبال، وتتعالى حينا وتنخفض حينا ثم تموت! تلك هي النسمات تنوح بعاطفة وحنان، أليست تأوهات بعض الأحباب ترتفع ارتفاعا خفيفا من هذه النغمات العذبة، وتعطي الهواء أصواتا كأصوات النساء ثم تعطف علينا فتشاطر نفوسنا البكاء والدموع؟ أيتها الأشجار الموسيقية، أنت قيثارة الغابات، تضرب الأرواح على أوتارك ألحان السماء، أنت آلة يبكي عليها كل شيء ويشدو، أيتها الأشجار المقدسة، أنت تعرفين ما يرسل الخالق إلينا، فانشدي، وابكي، وخذي بين أوراقك آلامي أو أفراحي! أجل! لا يعرف سوى الله إن كنت تبكين علينا بنغماتك المطربة أو تنشدين!
مغارة النسور في 18 نيسان سنة 1793
شعرت بالنعاس يثقل جفني تحت القبة السوداء، فرقدت رقادا هنيئا إلى أن استفقت على زقزقة الشحرور، هذه مملكتي تبرز بحلة من الزهور في هذا الربيع الجميل! كم هي خضراء! لمن يا ترى أوجد الخالق هذا الوادي الصغير بين هذه اللجج المرتفعة؟ وشيد بيديه تلك الحواجز المثلثة التي تحول دون نواظر الإنسان؟ هنا الهوة القاصفة حيث يذوب الجليد ويقوم جسر الصخور خلال الموت! هنا النواتئ المجلدة التي لن تذوب، هنا أحلام الشعراء تتراءى كالنسور بين المرتفعات، هنا الشعاع الذهبي يضطرب على الأعشاب لدى خطرات الأرواح، هنا المروج الزاهرة تخفق على ذهبها المتناثر أجنحة الفراش، هنا المياه العذبة تنام على أحداق الأوراق وتملأ أكواب الصوان حتى تكاد تفيض وتتدفق، هنا زبد الجداول يسيل كالحليب على المروج الخضراء، هنا البحيرات الصافية كأنها قطع سقطت من هذا الأثير ونامت نومها الهادئ بين الصخور والأزهار، هنا الخلجان الضيقة تختبئ بين طيات الوادي، هنا المشاهد غير المحدودة تتجلى بوضوح، هنا القمم الشاهقة تنطح الأثير بسهامها البيضاء، هنا الأشباح الرهيبة تعطي الجبال مشاهد سوداء، هنا الهواء المنعش الفاتر يسيل بين مراشف العطشان روحا جديدة، هنا السكون الجميل حيث تنام الروح وتسمع نغمات الأحلام، هنا الحشرات الذهبية تحصد البروق بأجنحتها الخافقة!
في المساء
لكن رائعة هذه المشاهد الجميلة هي هذا الكهف المهيب الذي لم يكتشف ثنياته إلا النسر، في الجانب الشرقي من البحيرة جبل صغير سقط من أعالي الجبال وتحطم قطعا قطعا على هذه الوهاد، فبقيت صخوره المجزأة مرتفعة على بعضها كأنها حواجز عظيمة قامت كالمردة في هذا المكان المنفرد عن الطبيعة، وفي الجانب الآخر، خمس دوحات مسنة تضلع أجزاعها المجوفة في جميع الجهات، وهناك بعض السنديانات المترامية الأطراف تكتف أغصانها كالجبال على أحجار الصوان وتتدلى كالأفاعي السوداء على الأرض ثم تمد بعض أذرعها الرحبة إلى شعاع النهار فتخفي بعض ذراته عن العيون! أما الكهف فقد قامت حواليه صخور جرداء تحجبه عن نواظر الشمس، غير أن مخرجا سريا من جهة البحيرة يجدد الهواء في ذلك الكهف ويترك شعاع الظهيرة ينفذ إليه من فرجة بين صخرين، لا يمكن لأحد أن يرى من الخارج هذه المغارة السرية، فالصخور والجلبلاب ترتفع كالجدران فوق فوهتها الكبيرة، نسمات لطيفة كأنها لهاث المياه تستولي على هذا المكان، بينما الأرواح والأعاصير تزأر زئير الهول بين الصخور والأدواح، لا يسمع من هذا المأوى، مأوى نفسي الساكنة، إلا زقزقة السنونو، وصرير الحشرات ذات الأجنحة غير المنظورة، وخرير المياه العذبة في البحيرات ذات الشفار الأثيرية، ناسخة على رءوس الصخور أكاليل من الزبد!
في 29 أيار سنة 1793
لقد رفعت فراشا من القش على الجانب الأيمن من الكهف، وعلقت عصاي وساعتي على الحائط، وجمعت بعض الأخشاب اليابسة لأشعلها في أيام القر وأصطلي على لظاها، أو أشوي عليها بعض الأسماك!
العهد الثالث
في مغارة النسور في 3 تموز سنة 1793
عندما الشمس، موقد الحياة الخافق، تضطرني إلى خفض جفني أمام أشعتها المغشية، وتمر خلال أهدابي بأسلاك من الذهب، وعندما تتحطم على الثلوج الخالدة وتتدفق سنابل من الشرر تعطي هذه القمم وهذا الفضاء الأزرق لونا كلون البحر، لا أرى في هذه السماء الصافية، التي تظهر كبحيرات لا شواطئ لها سوى الأثير الجميل، حيث لا يسبح إلا النسر الأسود، كأنه نقطة حالكة تظل مسمرة على الجلد الثابت، عندما الأشجار أو الصخور تلقي على الأرض جزرا من الظلال، حيث أثقال الزهور تحني الأعشاب بعذوبة ودلال، تغمرني بين طيات الأحلام وترفع نفسي إلى مذاهب الملأ الأعلى! وعندما أسمع دمدمة الهواء الفاتر ويمتزج لهاثي بنسيم السماء العذري أشعر بلذة حية فأسلو الدقائق الشاردة المنسلخة عن نفسي، كما تسلو الإوزة التعبة أثقال أجنحتها عندما تستريح من الطيران، كم أحب أن أبقى بين هذا السكون وألا أشعر بالتفكرات والذكريات، معتقدا أن روحي قد تركت إلى الأبد ذلك الغلاف البائد، وسبحت في سماء من الأنوار الخالدة! غير أن إحساسي المستفيق لدى خطرات الأرواح يحملني دائما إلى عالم من اللذات المرة فأشعر بنفسي هابطة من السماء حيث الخالق يصغي إلي ولا يجيب! آه! لو وهبني الحظ قلبا ثانيا، قلبا فارغا أخرس حيث الحب والحياة يتفتحان دائما، لسكبت فيه ما فاض من قلبي الأول، وتمكنت من رمي الأحزان ومضاعفة الحب، وإيجاد روح من روح وعاطفة من عاطفة!
إن هذه القبة الزرقاء لتابوت جميل، ها أنذا أبسط ذراعي طالبا نفسا تشاطرني وحدتي وقلبا يشعر بما يشعر به قلبي، ولكن الصحراء منفردة تكتنفني بالسكون الرهيب، أذهب من بحيرة إلى بحيرة ومن صخرة إلى صخرة ثم أعود على أقدامي وأختلي بين جدران الكهف المظلم، أشعر بفراغ في كياني لا يملؤه إلا كيان آخر، فصوتي لا صدى له في هذه الأصقاع البعيدة، ويخيل لي أن سعادتي تتبدل في هذا المكان وتلبس ثوبا من الملل.
في مغارة النسور في 6 حزيران سنة 1793
قطعت هذا الصباح حواجز مملكتي، عاري القدم، مخافة أن يسمعني أحد، وتبعت مجاري المياه نازلا تلك المنحدرات حتى بلغت إلى مكان كنت أسمع منه عجيج البقر صاعدا إلي مع الهواء العاصف، فأبصرت الذي كانت تتوق نفسي إلى رؤيته: مشاهد الحقول الخضراء وصور الماضي البعيد التي لم يبق من آثارها إلا التذكارات، وقع نظري على النعاج ترعى الأعشاب على حافة التلال الصغيرة، وعلى بعض الرعاة يلعبون بعصيهم مع النسمات اللطيفة، وأبصرت جبليا لا يزال فتى جالسا على صخرة بالقرب من جبلية جميلة لا رقيب عليهما سوى الزرقاء والأشجار المدلة بارتفاعها، أجل، أبصرت ذلك الجبلي وقد خفض رأسه إلى الأرض مفكرا ثم رفع عينيه الكبيرتين إلى الفتاة فظهرت على شفتيه بسمة لطيفة هي خيال فكرته العذبة.
لبثت محدقا إليهما، مختلسا من الفتاة نظرات ملؤها اللذة والمرارة، ناظرا إلى قدميها العاريتين، وقد ألقيتا على الأعشاب الخضراء كأنهما قدمان من الرخام الأبيض أوجدتهما الطبيعة بين تلك الخرائب، مضت ساعة أو ساعتان وأنا على هذه الحالة، محدقا بسكرة أليمة إلى هذين الجبليين شاعرا بأن قلبي يزداد فراغا أمام قلبيهما الطافحين بالحب، سامعا من حين إلى آخر بعض كلمات مبهمة تتخلل ذلك السكون اللطيف وهي ذائبة من شفتيهما كما تذوب المياه من غدير شفاف وتتقطر قطرة قطرة على الأعشاب، وعندما استوت الشمس في كبد السماء رأيت الجبلي الشاب يستلقي على جنبي حبيبته الهادئة ويستسلم لرقاد عذب، بينما هي تلاعب أناملها العاجية بشعوره المتفرقة!
لم تكد الشمس تتوارى خلف الجبال حتى تركت ذلك المشهد حاملا بين جفني خطوط هذه الصور الملونة، صور السعادة والأفراح!
في مغارة النسور في 24 آب سنة 1793
لقد نام، فلأكتب! بأية كارثة اشتريت هذا الولد، رفيق مصائبي وآلامي! كان النهار قد أوشك أن يغيب عندما كنت أتجول من مكان إلى مكان تائها بين الصخور الجرداء والأشجار المسنة، وكانت نفسي تتدفق خيالات وتضيع بين أعمال الخالق، إذا بي أسمع طلقا ناريا فذعرت ونهضت مستفيقا من أحلامي فأبصرت جنديين يجدان في إثر محكومين من الأشراف، ثم سمعت طلقا آخر ورأيت المحكومين قد بلغا حواجز السيول فوقفا مترددين ثم أخذا يعانقان بعضهما فأومأت إليهما فأبصراني وأشرت بيدي إلى طريق وعرة فلم يتردد أحدهما أن أخذ بيد الآخر وهو حديث السن وصعد به المراقي المنحرفة، فأسرعت بنفسي لمساعدتهما على أمرهما حتى إذا ما بلغت أسفل الجسر رأيت الرجل يدلي إلي الولد المضطرب فأخذته بين ذراعي، وسمعت الرجل يقول لي: «انج، انج أيها الغريب الكريم بهذا الولد فسأبقى فترة في هذا المكان لعل موتي يدع لكما دقيقة سانحة تهربان بها عن أعين الجنود!» إذ ذاك كان الجنديان قد أوشكا أن يصلا إلى مقربة من ذلك المسكين، فصوبا عليه بندقيتهما وأطلقا عليه عيارين ناريين، وكان هو قد أعد بندقيته أيضا وأطلق منها رصاصتين معا، فسقط الجنديان في هوة من المياه، ثم رأيت الرجل، وقد جس صدره بألم شديد، يترامى على الأعشاب متأوها فأسرعت إليه وكشفت عن صدره فأبصرت جرحين يقطران دما، فجعلت أضمدهما وأغسل الدماء عن فوهتيهما ولم تمض بعض دقائق حتى أغمي عليه بين يدي ابنه، فوضعناه في المغارة على فراش من الأعشاب.
في 25 آب سنة 1793
كان رأس الجريح ملقى بوهن بين ذراعي ولده، وجسده ممتدا على فراش مخضب بالدم، وكان الولد يبكي بكاء أليما ويرفع جبينه إلى سماء الكهف مصليا، ثم يكب على والده كأنه يود أن يحول بينه وبين الموت، وكان شعره الأشقر يمتزج بذلك الشعر الأبيض فيخفي وجهيهما عن نظري، حتى لا أعود أسمع إلا الزفرات تتقطع بين مراشفه وتختنق في صدره.
كنت واقفا إذ ذاك في زاوية من زوايا المغارة مخافة أن أدنس الألم بنظرة، وفي يدي مشعل يصعد تارة ضياءه الأحمر ودخانه المأتمي في تلك الظلمة الكالحة وطورا يغمى عليه فأشعله، حتى إذا انتصف الليل أبصرت الجريح، وقد حدق إلي بعين مائتة، قائلا: «لقد دنت ساعتي الأخيرة، فحافظ على هذا الولد وكن له عونا ومغيثا، كن به أبا وأخا، الوداع!» كانت الكلمات تتقطع بين شفتيه، وكان ينظر إلى ولده فيناديه بيا ابنتي، حتى انطفأ الشعاع الأخير من أشعة عينيه فوضع إصبعه على فمه ولفظ نفسه الأخير مع اسم لورانس!
في 26 آب سنة 1793
قضيت النهار كله بين جدران ضريح من الأحزان، وكان الميت ملتحفا بردائه المدمى وبالقرب منه ولده المسكين موسدا جبينه بين طيات كفن والده كأنه يتسمع إلى غطيط الموت في تلك الساعة الرهيبة!
بينما كان الولد مستسلما لرقاد طويل نزعت ذراعيه عن جسد والده البارد، وحملت الميت إلى خارج الكهف وأرجعته للتراب! ...
على جانب من البحيرة بقعة خصبة نسجت فيها الطبيعة حلة خضراء من الأعشاب والزهور، هنالك، حفرت قبرا وضعت فيه الميت بعد أن زودته الدموع والزفرات، ثم أتيت بخمسة حجارة ورميتها على الضريح! سوف يزهر المنثور والأصف الأخضر على جوانب التربة وتجيء الطيور الداجنة لتنثر ريشها على تلك الحجارة وتستبدله بريش جديد!
في مغارة النسور في 28 آب سنة 1793
قال لي رفيقي الفتى: إنه ابن شريف محكوم عليه بالإعدام وإن اسمه لورانس، ماتت أمه وهو لا يزال في المهد فخلفته وحيدا بين ذراعي والده، وهو الآن في السادسة عشرة من عمره، وقد قضى معظم حياته القصيرة في مزرعة قائمة على ضفاف بحر بريتانيا إلى أن نشبت الثورة وزفرت دماء الأشراف على أسنة الشعب، فهرب مع والده متسترا تحت اسم غير اسمه الحقيقي، إلى أن بلغا هذه الأصقاع فأبصرا جنديين من الجنود القتلة يطاردانهما ... وهنا أجهش بالبكاء فعرفت الباقي من حديثه!
عن المغارة في 16 أيلول سنة 1793
كل نفس هي أخت لنفس أخرى، هذا ما قاله لي قلبي مرارا! لم أعد أشعر بثقل الزمان، فالساعات تلامس أجفاني بأجنحتها المتشابهة، أجل، كل دقيقة، وكل موضع، وكل فصل، تبدو هنيئة وعذبة عند قلبين متآلفين، فماذا يهم النفوس المتحدة إذا تقلبت حواليها الأشياء وتبدل الزمن؟ ألا تقدر أن تسن لبعضها شرائع وأزمانا، وتبني عالما تعيش فيه، وتأخذ من صفائها سماء زرقاء لا تمر في فضائها غيوم سوداء، وترى أفقا جديدا ينفتح أمامها، وتخترع لغات أسمى من لغات البشر تتفاهم بها؟
عن المغارة في 25 أيلول سنة 1773
عندما أعود من الصيد حاملا على ظهري وعلا أو أيلا، وأرى بحيرتي الزرقاء، من على رأس قمة، تضطرب لدى مرور النسمات، والأكاليل الخضراء تكتنف كواكب الصوان، ورءوس الأدواح قد بدأت تنبت أوراقا، ودخان الموقد يتصاعد من الكهف في الفضاء البعيد، تأخذ مجاري الأفكار العذبة بمجاميع قلبي: «فأعرف أن هناك، في تلك المغارة روحا لطيفة تنتظرني، وأن عينا جميلة تبحث عني، وقلبا ينبض لذكري، وصديقا وهبتني السماء عطفه ومحبته، فكنت له وطنا، وأهلا، وأما وأبا وشقيقا وشقيقة، وأنه عندما يبصرني قادما يسرع لملاقاتي ويأخذ من يدي الوعل أو الأرنب ثم يتقدمني إلى الكهف واثبا على الصخور كالأيل المطمئن»، وأحيانا عندما أصل إلى الكهف أجد لورانس جالسا ينتظرني فأقص عليه حكاية رحلتي ويقص علي حكايته ويريني الأسماك الصغيرة التي اصطادها بشباكه، والقش اليابس الذي جمعه لسقف الجهة الغربية من المغارة قبل مجيء الشتاء، ثم يجيئني بالأثمار التي قطفها من الغاب، فنجلس إلى الطعام ونأخذ بأطراف الحديث إلى أن يهبط الليل فنرى النجوم النيرة تنعكس على مياه البحيرة كما تنعكس الوجوه على المرآة الصقيلة، وأحيانا أرى بعض الدموع تتناثر على خده وهو محدق إلى قبر والده، ثم يتجه كل منا إلى فراشه وينام حتى يستفيق على أنغام الطيور!
عن المغارة في 23 تشرين الأول سنة 1793
منذ أخمدت الأيام أوجاع لورانس وتذكاراته أخذ ينشط وينمو ويزداد جمالا، ففي هذا المساء، نظرت إلى جبينه على ضياء الموقد فرأيته أبهى من الجمال نفسه، فاستفاق في مخيلتي طيف أختي، وخيل إلي أني أسمع صوتها صاعدا من فمه في تلك العذوبة وذلك النغم اللذين كانا موسيقى نفسي في ساعات حداثتي الأولى، فلم أتمكن من إمساك دموعي لدى هذه التذكارات، فاقترب لورانس وجلس على ركبتي صامتا، ناظرا إلي بدهشة وانذهال ثم سألني عن سبب بكائي وعما إذا كنت أفكر بأحد، فأجبته ساردا على مسامعه قصتي الأليمة فبكى لآلامي، قائلا: «إني أحبك كحبهم، ألست أخا لك، أشاطرك ما تتوجع له وأمزج دموعي بدموعك؟ ألم تكن أبا أشعر قربه بما كنت أشعر به قرب والدي؟» قال ذلك وألقى جبينه على حجر أملس فألقيت جبيني بالقرب منه ثم أخذنا نبكي صامتين!
عندما استفقت من أحلامي المرة ومسحت مدامعي بأطراف كمي، رأيت لورانس يستفيق أيضا ويمسح دموعه ثم يضيء كمرآة حية فيضطرب خيال وجهي على ذلك الشعاع الإنساني، وعندما فكرت أن لا ملجأ لهذا اليتيم إلا حناني وعطفي، وأن ذراعي وذراعه، وحياتي وحياته أصبحت ذراعا واحدة وحياة واحدة، نضبت مدامعي واستعاد قلبي ما فقده من الغبطة والسعادة!
عن المغارة في 29 تشرين الأول سنة 1793
أيها الجمال، يا سر الخلود، يا شعاع الأزل، يا رمز الألوهية العظيم، من يدرك في أي مكان ولدت، ومن أي مرتفع هبطت؟ ومن يعلم لماذا يحبك البشر، ولماذا تتبعك الأعين، ويعلق بطيفك القلب المحب، فإذا ما اقترب إليك يحترق ويضطرم، وإذا ما انفصل عنك ينزع ويموت؟ لقد طبعت ختمك على الطبيعة المنتعشة، وأعطيت الأسد رهبة النظرات، والجواد تموجات شعوره المتشعثة، والنسر جلال أجنحته، وأرسلت إلى أوجه البشر أشعة شفافة هي مرآة عظمتك، ونسجت أكاليل الكياسة والبهاء على رأس المرأة والرجل، ما من أحد يدرك أسرارك أيها الجمال وترى الجميع ينزلون عند رغباتك ويخضعون لدى شرائعك، من يدري إذا لم تكن صورة من صور الخالق الذي يتراءى من خلال هذه الغيوم؟ من يدري إذا لم تكن النفس المغلفة بذلك الجسد الجميل قد أبدعت على المثال الإلهي واقتدت بالجمال الأسمى؟ سنعرف كل ذلك فيما بعد، ولكن، فليضئ الجمال في مذاهب الطبيعة، وليسطع على كل عشبة من الأعشاب، وبين كل زهرة من الأزهار، فقلبي لم يولد إلا للحب، ونظراتي لم تتفتح إلا أمام هيكله السامي، ونفسي المشتعلة ترمي عليه من حين إلى آخر ذرة أو ذرتين من موقدها الخافق!
كم مرة ناجيت الله بهذه الكلمات: «رب! أتستنكر هذه العاطفة وتعتبرها تدنيسا للقلب؟ لا، إن العيون لتتحول رغما عنها إلى المصباح الإلهي الذي لن يزال يضيء في الوجود ... أية جريمة يقترفها البشر بحبهم ذلك الجمال وتعلقهم بتلك النجمة الإلهية؟»
عن المغارة في 11 تشرين سنة 1796
إن يد المبدع القدير لم ترسم على جبين لم يتجاوز السادسة عشرة مثل تلك الملامح الخلابة التي رسمتها على جبين لورانس، فالذي يحدق إلى هذا الشاب لا يشك في أنه ملاك هبط من الجنة على الأرض، فكل ما في الصباح من الصفاوة والطهر، وكل ما في العيون من العذوبة، وما في الفجر من الحياة الساحرة قد تجمعت بين تلك الخطوط الباسمة التي تلمع على جملة وجهه، وكونت شعاعا كوردة الطهر وذوبته دموعا شفافة بين محجريه، حيث تراءت الأحلام سابحة كالضباب في سماء من الأنوار البهية الساطعة! تلك الأشعة الإلهية لا تبرح تنطوي بين حاجبيه وتبرز على حافة أهدابه، ثم تبدو على شفتيه بسامة، كأنها ضياء داخلي يلمع في نفسه ويخرج إلى ظاهر وجهه! فمرارا، عندما يكون النهار قد أوشك أن يضمحل وتلبس المغارة حلتها القاتمة، أرى ضياء كضياء الصباح لا يزال ينبثق من ملامحه، ويرسل سنابل من النور إلى أعمق الظلمات، فأخفض ناظري أمام ناظريه، ويخيل إلي أن ذلك الشعاع لإكليل نفسه الطاهرة، فطالما بحثت في ذاكرتي عن جمال يشابه جماله، وعن صوت عذب كنغمات صوته، فلم أكن لأجد بين هؤلاء المبتدئين رفاق حداثتي، من له تلك السمات الطاهرة، وذلك الجبين البض، وتلك النغمات الساحرة، وتلك البشرة النقية، وذلك النظر الجاذب كأنه الفضاء القاتم، وذلك الشعر الحريري كأنه تموجات البحيرة! وعندما أشاهد قدميه العاريتين تتسلقان هذه المرتفعات، وأرى جبينه مبللا بالعرق كزهرة بيضاء تضطرب على برعمها قطرات الندى، أخاله رجلا خياليا أوجدته الطبيعة في هذه الأنحاء المنفردة، فأكاد أعبده لولا أني أعود فأرجع إلى نفسي وأتبين صوته وحركاته فأعرف فيها ذاك الولد الجميل والصديق المخلص المسكين!
عن المغارة في 1 كانون الأول سنة 1793
مرت أشهر النور ولمت السنة أشعتها عن تلك القمم لتنثرها بعد ستة أشهر، فغرقت الشمس في بحر الغيوم وترامت الثلوج بدلا من الزبد على تلك المرتفعات، فلم يبق للنهار إلا شعاع ضئيل تحطمه العواصف، وقد كنست الأخيلة الهائمة ما بقي من الأوراق الصفراء على أقدام الشجر، يخال لي أن الله قد ترك هذه القمم فريسة للظلمات، وأن عجيجا خافتا يدور في الفضاء دورته ويخرج من عظام الجبال، كأنه الهواء يقتتل في مذاهب السماء، والثلوج تتلاطم على نواتئ الصخور، تلك هي طقطقة الأغصان الذابلة ترزن تحت أثقال الجليد وتتكسر غصنا غصنا وترتمي على الأرض، تلك هي وثبات الثلوج المتثاقلة تتدحرج من أعالي القمم وتستحيل إلى تراب أبيض على ممر الهواء، لم تعد السماء لتحيي حفلاتها على المرتفعات الملثمة، ولم يعد الفجر يبرز بحلته المنيرة، والليالي بكواكبها المشعة، فالحمامة التائهة أصبحت تتبع مواكبها السوداء، وأكاليل الزهر أصبحت أكاليل من الجليد حول كهفنا المظلم، أما النهار فلم يعد ليدخل إلينا إلا من خلال الثلوج، وأما نحن فقد جلسنا أمام الموقد نصطلي ونتحدث، تارة نقرأ بعض الكتب وطورا نلتقط الطيور من أعشاشها وقد أويت قريبا من الكهف، غير مكترثين للأعاصير الزائرة، والليالي المدلهمة تحت سماء تكاد تهبط من أثقال غيومها، حتى إذا ما نفذت إلينا بعض أشعة من شمس الشتاء، وثبنا حالا إلى خارج المغارة وملأنا نواظرنا من الجليد الذي يكون قد صنع قصورا شفافة من زجاجه الأثيري، أو جسورا من الياقوت الأزرق، أو مغاور من المياه الخضراء!
عن المغارة في 16 كانون الأول 1793
عندما أستفيق أحيانا في منتصف الليل وأرى الظلمة تكتنفني من كل الجهات، أسترسل لذكريات بعيدة، غير منتبه للورانس راقدا بالقرب مني، ذاهبا في مذاهب الفكر إلى أويقات عذبة وقد طواها الزمان ومرت عليها الحوادث بأثقالها، ثم أستفيق من ذكرياتي فأسمع أنفاس رفيقي تتصاعد من صدره كنسمات متعادلة، تلك الأنفاس الموسيقية الخارجة من ولد نائم، فأنهض نصف نهضة وأسجد أمامه كما تسجد الأم أمام وسادة ابنها، وأجعل أصلي إلى الله شاكرا إياه على ما أسداه إلي من النعم بإرساله هذا الملاك لحراسة قلبي، وأشعر بأن روحي تتنفس وتحيا بقلبين ولهاثين، فأقول في نفسي: «أية موسيقى في هذا العالم تعزف بمثل هذه الأنغام؟» ثم أعود إلى فراشي وأنام!
في 6 كانون الثاني سنة 1794
بينما العالم يتمرغ في أوحال الأراجيف، والأيام تذيب في الأيام جوامد الدموع والدماء، تسود السكينة في هذه الأنحاء، ويهبط عليها السلام من يد الخالق، والمحبة العذبة التي تمقت المجتمعات تصنع لنا وجودا هادئا من الوحدة والانفراد!
من يستطيع أن يفرق بين نفسينا وقد جمعتهما السماء والأرض بخيوط متينة من الحب؟ ونشأتا مع الأيام تحت جزع واحد ودوحة واحدة؟ ولكن المشابهة غير كاملة! فأنا أتذكر أن صديقي في أيام حداثتي كان كلبا أبيض ذا مخطم كمخطم الغزال، وعنق كعنق الحجل، وشعور جعدية كالحرير المتموج، ومقلة عميقة وعذبة كمقلة الإنسان، أجل، كان صديقي كلبا وديعا لا يأكل إلا من يدي، ولا يجيب إلا لندائي، ولا يتبع إلا آثاري، ينام على أقدامي، ويشتم رائحة مكاني، كان يثب على زجاج النافذة ويبقى برهة ملصقا يديه على لوحها البارد، ناظرا إلى جميع الجهات حتى يراني قادما فيسرع لملاقاتي، أو يطوف في غرفتي فيقف طورا أمام ثيابي المعلقة على الجدار وتارة أمام كتابي أو دواتي، حتى يسمع وطء أقدامي على السلم الخارجية فيقفز إلي ويترامى على أقدامي، ثم يجعل يدور حولي ملاعبا ذنبه الأبيض في الهواء، وإذا جلست إلى كتابي لأطالع بعض سطوره يجلس أمامي على الأرض ويأخذ بالنظر إلي منتبها لكل حركة من حركاتي، مصغيا إلى تمتمة شفتي، رافعا رأسه لدى اضطراب الأوراق بين أناملي، وحين مات كانت عيناه محدقتين إلى عيني، كم بكيت ذلك الصديق الأمين! ولكن، تلك الذكريات البعيدة لا تلبث أن تتجسم في قلبي عندما أفكر بلورانس، فهذا الصديق المسكين يحبني حبا لا حد له، حتى إنه لا يستطيع البقاء دقيقة واحدة بعيدا عني، يمشي حين أمشي ويفكر حين أفكر، ويتبعني بنظراته أين اتجهت وكيف تحولت، ولكن هذا الولد، ربيب الأحراج والغابات، سيصير وحشيا فيما بعد!
يا إلهي! إن هباتك لتفوق وعودك دائما! لم أكن أفكر، حتى في الحلم أن عاطفتك وحنانك سيعيدان إلي نصف كياني بين هذه القمم المنفردة والصخور الجرداء!
العهد الرابع
عن مغارة النسور في 15 نيسان 1794
هذا الصباح، وجدت في جوف الصخرة بعض الخبز الذي يجيء به الراعي كل شهر متسترا تحت جلباب الظلام، ورأيت ورقة مع الزاد مكتوبا عليها هذه الكلمات: «كن حذرا، فالويل لمن ينزل إلى مدينتنا الخالية من وجود الله؛ لأن مقصلة الشهداء لا تزال ظمأى إلى الدم!»
رب! حطم سيوف الغضب والحقد، واختصر أيام اليأس والاضطرابات التي تحجب اسمك العظيم عن أعين الأمم، وأنزل ملاك السلام على الأرض، أما أنا فلا يسعني إلا شكرك على نعم أسديتها إلي!
عن المغارة في 6 أيار 1794
إن من الأيام الزاهية والفصول الجميلة ما تكون ملأى بأزهار الحياة الناضجة، تلك الأزهار الملونة، المبللة بالأنداد والمضخمة بالعطر، والتي يذوقونها فترة ويستنشقونها مدة فجر واحد، ثم يتساءلون عما إذا كانت تلك البراعم هي التي تحمل بين أوراقها ذلك الشذى الطيب والعطر الفواح!
هذا النهار كان زاهيا زاهرا، فاستفقنا على زقزقة الشحرور التي تشابه أنغام الشاعر برقتها، وعلى خرير البحيرات المضطربة لدى خطرات الهواء، فرأينا الطبيعة تبسم عن أبدع ما وهبها الله من الجمال، وشاهدنا الربيع رقاصا طربا، يشدو على قيثار الأغصان ألحان الطبيعة السكرى، وأبصرنا الثلوج ذائبة لدى الأشعة الوردية قبل أن تعطي التلال ذلك اللون الأبيض، وكانت كل قطرة متسقطة من الفضاء تبرز بشكل يقرب إلى كريات النور كأنها نحلة ذهبية تنثر الجواهر اللماعة من أجنحتها التائهة في مذاهب الجو، ثم تتوارى عن الأعين وترتمي على فراش الأعشاب في مطارح الوادي، حيث تنحني الأزهار تحت ثقلها اللطيف مستبقية على براعمها نثارا من الزبد اللؤلؤي ثم تأتي النسمات فتمسح ذلك الزبد بأطراف ردائها الشفاف، وكان الهواء الفاتر العليل يزحف مع الشعاع السماوي كأنه الهواء العذري يذيب الأنهر الراقدة في أوائل الشتاء، ويطلق زفرات لطيفة تهتز لديها الثلوج المتجمعة على رءوس التلال، كأنما تلك الزفرات أغاني العاشقين تردد صداها الأرض والمياه والسماء والأثير! كل شيء كان يستفيق لدى مرور الهواء، فأوراق الصباح كانت تأخذ حجما كبيرا، وأعشاب الوادي تمتد بساطا أخضر، فتخرج تارة من بين الصخور، وتلتفت طورا على جذوع الأشجار، مالئة نواظرنا بأمواج من الألوان الجميلة المسكرة، وكأن الماء يتدفق من قشور الأغصان ويجري صموغا من الذهب فتزعج أجنحة الشحرور وهو خارج من بين الأوراق أو مختبئ تحت طياتها، وكانت الأوراق تضطرب لدى النسمات فتظهر كأنها بحيرة ذات أمواج خضراء توحي أسرار الحب إلى القلوب العاشقة، وكانت العصافير والحشرات والفراش تتصاعد أعمدة في الفضاء، ثم تنقلب على الماء أو على الأعشاب كأنها غبار ينتشر في الطرقات فيتصاعد تارة ويقع طورا، من يا ترى سكب تلك الخمرة المسكرة على أجنحة الهواء والنهار والفراشة؟ من دفأ لهاث الهواء فأذاب الثلوج وأمطر الشتاء؟ من حرك الشباب في أفئدة الفتيان فكادت تجري الحياة في صدورهم وتتدفق من أعينهم؟
كنا نركض على الأعشاب ونتسلق الصخور الضخمة ويختفي كل منا عن عيني الآخر، ثم يظهر فجأة على مرتفع تلة أو وراء شجرة، وكنا تارة نضحك ونغني ونتسابق بالركض، وطورا نجلس إلى أحلامنا محدقين إلى الجبل العالي وإلى غيوم الصيف راكضة كالمجنونة على قمته الشاهقة، تلك الغيوم لم تكن إلا زغبا حاميا تنزعه الأشعة المتوقدة من الجليد وتندفه رضابا أبيض، وكانت أخيلة الأشجار المترامية على الخضرة تتقطع قطعا قطعا على الأعشاب وتسكب في بعض الأوداء الصغيرة التي تبرز كأنها أسرة لا تزال مضطجعة أسرارا تحمل في طياتها نغمات عذبة من نغمات الجمال، وأخيرا عندما تعبنا من اللهو والغبطة استرحنا على حضيض منبسط كأنه جزيرة من الأزهار داخلة في بحيرة عميقة ذات أمواج من الظلال، وفي قلبينا صمت ممزوج بسكرة لا حد لها، فجعل كل منا ينثر على المياه أوراقا خضراء، ناظرا إلى كل موجة يلاعبها النسيم ويدغدغها بأنامله الأثيرية، كأنه يبحث عن نفسه الضائعة بين تلك التموجات اللطيفة، وعندما رفعت صدفة نظري إلى لورانس رأيت جبينه يستعيد لونا أحمر وشفتيه تضطربان وشاهدت دمعتين تترددان بين أهدابه كأنهما من دموع الليل التي يلونها الشعاع النقي ويجففها الهواء الفاتر. - ماذا يجري في نفسك يا لورانس؟ أفي قلبك ثقل يضغط على عواطفك كما في قلبي؟ - آه! إني أشعر، أجابني، بأن فؤادي يذوب في صدري، فنفسي تبحث بلا جدوى عن كلمات تطلقها وتود أن تخلق لغة نارية تحمد بها الله والطبيعة. - قل لي يا صديقي، أجبته، أية قوة تدفع نفسي إلى التفكر بمثل الذي تفتكر به أنت، كنت أشعر بنزوات الشوق وإيثاق الحب، فتثب عاطفتي إلى شكر الخالق، غير أن لساني المثلج يقف متلجلجا في فمي، فالطبيعة هي أنشودة غير كاملة، والمبدع القدير لا يتقبل التسابيح التي تروق له؛ لأن الإنسان الذي خلقه الله ليرى مثاله في صورته لا يرفع إليه صوته الحقيقي، أجل، إن الطبيعة لمشهد ونفسنا صوته، فلنجتهد يا صديقي، كما يصنع الطائر أو نسيم الأشجار، أن نلقي على قدمي ذلك الإله حملنا الثقيل ونشدو ألحاننا أمام جلاله، ولنكن كاهني هذه الأصقاع باسم الحب الذي يربطنا.
لورانس :
أيتها النسمات الطاهرة،
الملأى بالحياة والأشذاء الفواحة،
أين كنت؟ ومن أين أنت قادمة؟
أيتها النسمات الخفاقة،
خفاقة كقلبينا في هذه الأصقاع،
لما أنت تتدفقين أوراقا خضراء وأزهارا طاهرة،
كذرات من النور؟
أين ضمخت تلك الأجنحة الذهبية؟ •••
أراك تغتسلين بالعطر،
بين هذه الجبال، والأوداء، والمروج،
حيث الأشهر تكتسي وشاح الربيع،
طيلة أيام السنة!
يا لهاث الفجر الجميل،
خذ أنفاسنا واحملها مع عطور الزهر،
احملها إلى سماء الخلود، لتصلي أمام أنفاس الخالق،
فالصلاة هي عطر القلوب!
أنا :
ألا ترى قوس قزح،
يضطرب لدى مرور الشعاع،
كأنه الأفعى على مضجعها،
كأنه أفعى السماء ذات الألوان البرتقالية،
انظر إليه رافعا عنقه بين الضباب،
كأنه السيف المجوهر،
كأنه جسر الفضاء،
جسر الفضاء العظيم. •••
هل هو جسر لمرور ملائكتك،
أيها المبدع القدير؟
أعلى هذا الجسر ينتهون إليك،
أيها الجالس على عرش الأثير؟
آه! لو كنت أتمكن من الوصول إلى حيث يبتدئ هذا الجسر؟
متسلقا أدراج الفضاء الأزرق،
ماشيا على هامة الموت والزمان،
وكلتا يدينا متلاحمتان يا لورانس!
لورانس :
انظر إلى أنثى البلبل في عشها،
تحضن فراخها بجناحيها،
فالحب ينفخ ريشها،
ويدفئ الفراخ!
ألا تخال قلبها خفقانا سريعا،
ويضطرب العش لدى أنفاسها الراقدة؟
من يا ترى أوحى ذلك الحب،
وتلك العناية بصغارها؟ •••
ألا تسمع أغاني البلبل في الغاب،
تذيب جداول الألحان؟
أولا تخال أن قلبا يخفق،
يخفق في تلك النغمات؟
فهذه الموسيقى المضطربة،
تتقطع في فؤاد أنثاه،
في فؤاد عاشقته،
وتطبع سيماء الربيع الدائم في ذلك القلب المحب! •••
رب، إن الحياة لجمال،
أشعر بالحب الذي تشعر به تلك الأنثى،
وبالنغمات،
التي ينشدها البلبل العاشق!
أنا :
ألا ترى الشعاع ينسل بين ورقتين،
وينطرح على الأعشاب الخضراء،
كأنه عتل من الذهب،
أنهكه التجوال في مطارح الغابات؟
ألا ترى الفراش الملون،
يستحم في مياه الأثير؟
ألا ترى الأجنحة النيرة،
تلقي على الطبيعة شعاعا من ضياء الله؟ •••
ألا ترى الحشرات الصغيرة،
تتطاير في الفضاء كأنها مواكب السراب؟
فأي نظر لا يضيع في هذه المواكب؟
وأية مقلة تستطيع أن تحصي هذه الحشرات؟
غير أن لكل حشرة وجودا تحيا فيه،
وبكل ذرة من ذرات الفضاء
عالم تعيش فيه المخلوقات
مهما كان ذلك العالم صغيرا أو ضيقا
كل ذرة من ذرات الفضاء،
هي وجود فسيح،
وكل شعاع من أشعة النهار،
هو زمان طويل.
وللهوام نهرها ولياليها،
ومنازلها وأقدارها،
وحياتها وأفكارها،
ومنخفضاتها وعلاليها. •••
رب إن ينبوع الحياة لعظيم،
كم في صدرك عاطفة،
تضم بها تلك العوالم؟
وكم في عينك أشعة،
تنير بها هاتيك العيون؟
وكم في دماغك معارف،
تحصي بها مواكب الحشرات،
من ذبابة وذرة وعثة؟ •••
آه! هل لأذنك أن تصغي إلي،
وتسمع تمتمة قلبي،
تمتمة قلبي الوضيع؟
أنت الذي تسمع خفقات الجناح،
جناح الفراشة الصغيرة،
أو الذبابة المغتسلة في براعم الأزهار،
أنت الذي تسمع ذلك،
من علياء جلالك!
لورانس :
فلنطلب من الخالق المبدع،
أن يبقينا في هذا المكان،
لنتملى من الأماني،
ونذوق معا ما تنثره لنا يداه الجبارتان!
أنا :
ليلقن كل منا الآخر،
أغاني المروج وتسابيح الله،
ليلقن كل منا الآخر،
كما يلقن البلبل الصداح أناشيد الطبيعة،
لبلبل صداح! •••
ولنكن صدى الأغاني الأخير،
أغاني الأشجار الباسقة،
والأزهار البيضاء،
البيضاء كالثلوج!
لورانس :
ولنعطر يديه الإلهيتين،
كزنبقتين نابتتين معا في تراب صخرة واحدة،
على ضفاف جدول واحد،
تفوحان بأريج واحد!
نظرت إلى لورانس فأبصرته يبكي فبكيت، ثم أخذنا نصلي!
في 25 تموز سنة 1794
كنت في الماضي أقضي الساعات الطوال في الحديقة أو في بعض المروج الخضراء وفي يدي كتاب وبالقرب مني كلبي الأبيض، تارة أقرأ بعض القصائد وطورا أتلهى بقشر الأغصان أو بنثر الأزهار على مياه الجداول، تابعا بنظري مجاري المياه تلمع على ضياء الشمس كقطع من اللؤلؤ الأبيض، مصغيا إلى خريرها المسكر يتقطع على الحصى بين الأدغال الكثيفة، أو مضطجعا على الأعشاب، حيث الأزهار الفياحة تغرقني في فراش من الأحلام اللذيذة أو من الأسرار المبهمة وتلقي علي ستائر من أخيلتها، فأسترسل إلى عواطف مرة، وتتراءى لي صور الحياة ملأى بالأشباح الهائمة، أشباح الحب الإلهي، ثم تتوارى تلك المشاهد عن عيني وتتلاشى كضباب بعد عاصفة، وتجف الدموع على حافة أجفاني، لم يبق لي من تلك الرسوم القديمة إلا غيوم ملونة من الذكريات تمر في فضاء قلبي! فلورانس يشغل اليوم فراغ نفسي، فأية قصيدة من الشعر تضارع جماله العذب، وأي صفاء يضاهي صفاوة حياته عند ما تمر حمرة الخجل على محياه ويلقي جبينه البض على صدري المضطرب؟ فكم من آلهة تضيء على وجهه النير، وكم من شعاع يلمع بين عينيه بحقائق أسمى من حقائق البشر!
في 15 تشرين الأول سنة 1794
هذا المساء، هب هواء فاتر فكنس ما كان على قمم الجبال، إن التنهدات الأليمة التي تطلقها النسمات وترسلها إلينا لهي قبلات الوداع لفصل الصيف المائت، كانت السماء صافية الأديم، عميقة كالبحر، وفي ذلك العمق كنا نرى موقد الشمس ذات الأشعة الفضية يخفق ويضطرب كشهب من نار، أو كشعلة من قش أضرمها الفلاح على قمة جبل، وكان القمر يلمع كقطعة من الجليد ويركض على مياه البحيرة برعشة بيضاء، والشجر العارية من أوراقها تنتصب بأغصانها كأنها هياكل أجساد عراها البلى! والحطب المائت، الساقط على الأرض، كأنه عظام رماها الحفار على جانب التربة، فاقتربنا بقلب منقبض إلى الصخرة المجوفة، حيث ينام والد لورانس نومه الأبدي، ولا أدري أية فكرة صعدت من تلك الحفرة ومرت في ذاكرتي، فقلت في نفسي: «مسكين لورانس!» ثم نظرت إليه قائلا: «عندما استرجع التراب والدك يا لورانس وهبك الله أبا وأما من قلبي ونفسي وأوحى إلي تلك العاطفة وذلك الحنين اللذين كانا ينسكبان عليك من مقلتي أمك وأبيك، ولكن، إذا نزع الخالق صديقك وأعاده إلى أحضان أمه الأولى، فماذا يحل بك يا لورانس؟» - ماذا يحل بي؟
أجاب لورانس، أتتجاسر أن تسألني عن ذلك؟
ثم قادني إلى قبر والده، ووقف كالتمثال أمام تلك الحجرة الرهيبة، ورفع نظره إلي، قائلا: «لقد ألقاني بين ذراعيك أمانة مقدسة فيجب عليك أن تعيد إليه تلك الأمانة كما ألقاها بين ذراعيك، عفوا يا صديقي، أليس الموت غيابا لا نهاية له؟ لا تعد على مسمعي هذه العبارة الأليمة.»
قال هذا، ووثب إلى صخرة مرتفعة ووقف على شفيرها كأنه يود أن يلقي بنفسه من ذلك العلو الشاهق، فاضطربت اضطرابا شديدا وخفت أن يذهب ضحية غفلته، فانتبه إلى اضطرابي، فقال لي: «لا بأس ، إنك حدثتني عن الموت وأنا أنتقم لذلك!» فحاولت أن أردعه ولكنه أسرع بالهرب وتوارى عن نظري.
في 6 تشرين الثاني سنة 1794
سقط الشتاء على هذه الأصقاع فالتفت من حولنا هضبات الثلوج، ولم نعد نتبين الأودية الصغيرة من القمم، والسيول المتدفقة من شواطئها، ورعن الجبل من هوته، فالطوفان غمر المرتفعات بمحيط من الجليد، والهواء العاصف يبدل في كل ليلة مواضع الهضبات! •••
خرجت هذا الصباح من المغارة وكانت الجبال تلمع بالثلوج البيضاء، فجعلت أتجول بين الأشجار المتثاقلة بالجليد إلى أن بلغت مسافة بعيدة بعد أن قضيت أكثر من ثلاث ساعات هائما على نفسي في مذاهب الطبيعة، فوقفت على مرتفع تتهاوى الثلوج على أقدامه وتتدفق السيول على جنباته وأخذت أسرح الطرف ناظرا إلى جهة الكهف مفكرا بلورانس، وقد تركته نائما بالقرب من وعلته الوديعة فمرت في صدري رعشة شديدة؛ إذ سمعت اسم جوسلين يتقطع بالشهيق ويموت بين تلك الأعاصير، لبثت فترة، مترددا على تلك الصخرة، وقد مرت في مخيلتي فكرة رهيبة: «أتراه خشي علي من الخطر فرمت به عاطفته في لجة من تلك اللجج العميقة؟» ثم أسرعت بالرجوع مناديا لورانس فيرجع الصدى ذلك الاسم اللطيف، إذا بي أرى الوعلة تقترب مني وتقفز أمامي ثم تحاول أن تهديني إلى مكان قريب، فحدثتني نفسي بأن هناك مصيبة أليمة فمشيت ومشت إلى أن بلغنا هوة عميقة فتقدمت الوعلة وأزاحت بمخطمها بعض الثلوج المتراكمة على مقدم الهوة فتراءى لي جسد لورانس ممددا على الجليد والدم الغزير يتدفق من جرح بليغ في رأسه وشعوره الذهبية ملطخة بالدم، فارتميت عليه وحملته بين ذراعي وصعدت به إلى خارج الهوة ثم أسرعت إلى الكهف، حيث مددته على فراشه وأشعلت النار لأدفئه، فنبع دم غزير من صدره، فلم أتردد بأن مزقت ثوبه بأسناني، ويا للعجب عند ما رأيت ثديي امرأة يندلقان من ذلك الصدر المغمى عليه! فتراجعت مذعورا وقد جمد الدم في عروقي وجحظت عيناي، غير أني تجلدت أمامها وجعلت أدب الحرارة في جسدها المدمي حتى استفاقت ... أجل، استفاقت وأجالت بنظرها إلى ما حولها، وقد احمرت وجنتاها من الخجل فأغمضت عينيها بسكرة الألم ثم جعلت تعض يدي تارة وتقبلها أخرى ورقدت رقادا طويلا!
7 تشرين الثاني في الصباح
قضيت الليل على فراش لورانس، ساهرا على آلامها، مغسلا جراحها من الدم، وفي المساء، عادت إليها شاردات الحياة فرفعت رأسها إلي، وقالت: «لقد خدعتك يا جوسلين فسامحني؛ لأن والدي شاء ذلك قبل موته ولم أجد بدا من احترام مشيئته، طالما حدثتني نفسي أن أكشف لك عن سريرتي، غير أن يدا قوية كانت توقف لساني عن القول، ولا أدري أي خجل كان ينسدل علي عند ما أحاول أن أوقفك على أمري، ثم إني كنت أعرف ما تنطوي عليه نفسك من الميل إلى الترهب فأكتم عنك كل شيء مخافة أن تقول لي ما لا أتوقعه، فأضطر إلى قتل نفسي على قدميك، والآن أشعر بالموت يدنو مني شيئا فشيئا، فالهوة قد أخذتني وحدي وتركتك للحياة، عش بعدي يا جوسلين واذكرني في مطارح غربتك، واغفر ذلك الذنب الذي اقترفته نحوك واضرب صفحا عما مضى ...» •••
آه! هل عند الملائكة مثل ما عندها من الفضائل؟ أيقدرون أن يمزقوا أنفسهم في فؤاد من يحبون؟ - أجل، إني أسامحك يا لورانس، فالحب الذي رفعته على مذبح التضحية هو أسمى من الغفران، إني أحبك فاحيي طويلا لتسمعي كلماتي صاعدة من أوتار قلبك، ولينرنا الله بمصباحه الإلهي.
في 8 تشرين الثاني 1894 - لقد كنت لي خير طبيب، قالت لورانس وعلى شفتيها خيال ابتسامة لطيفة، كنا صديقين فأصبحنا أخا وأختا! - أخ! أخت! آه! ألا يوجد كلمة أعذب من هاتين الكلمتين؟ - إذن أنت تحبني يا جوسلين، تحبني بعد ذاك القسم الرهيب! - أجل، أحبك! كان الأحرى بك أن تطلعيني على أمرك قبل الآن، يجب ألا يخفي محب شيئا عن محبه، لقد عرضت نفسك مرارا إلى الريبة فنزل الحب منزلة الشفقة من قلبي؛ لأن صوتك كان يختلف عن صوت الرجل، وعينيك الجميلتين كانتا ترميان قلبي بسهام أقوى من سهام العيون، أجل أحبك! فما من قسم يربطني حتى الآن، ولكن، يجب ألا تفكري اليوم بسوى الحياة، وأن تهتمي بصحتك قبل اهتمامك بشيء آخر، لقد انهدم الصخر وسدت طرقات الأودية بأكواد الثلوج، فلا مخرج من هنا قبل مجيء الصيف. - سأحيا يا جوسلين، قالت بصوت موسيقي، فحبك الشريف يناديني من أعمق أعماق الموت! سأعيش سعيدة طيلة حياتي، فلا يهمني أي قسم يغلل أيامك إذا كان الخالق يسمح لي أن أتبعك، وأسمع صوتك وأراك في أي مكان شاء! يكفيني من الحياة أنك تحبني وأن قلبك ملكي! •••
قلت للورانس: «ربما لم تكوني عارفة أن الله يحكم على الراهب بأن يكون مترمل القلب، ويمنع عنه ذينك الاسمين اللطيفين: الحبيبة والزوجة، إذا أراد المبدع أن أتطوع لخدمة المعبد فأضطر إلى شرب دمي من ذلك الكأس، وإلى العيش بعيدا كل منا عن الآخر.» - إذن، أجابت، فأحرى بك أن تقتلني! بماذا أنت تفكر الآن؟ إن الله الذي جمعنا في هذه الأماكن الرهيبة، ألقاني بين يديك كما يلقى الولد المهمل بين ذراعي امرأة غريبة فتتعهده بحنانها وتسهر عليه سهر الأم على وحيدها، أتلقي بي بعد ذلك بين ذراعي. حظي مائتة وباردة كالقبر، أتقول للإله: «مات أخي الوحيد!» أتقف له حياتك وحياتي كالبخور؟ ماذا، ألا يلعن ذلك النذر، وينادي باسمي ضميرك الملسوع؟ آه! لا، فإرادة الله لم تعد مشكلة يصعب حلها، وأنا أئتمنه على قلبك الذي فتحه لي بيده الشفيقة، أجل! إن سعادتي لشريعتك، وما من سعادة، وما من فضيلة في هذا العالم بدوني.
قالت ذلك ثم أجلستني على فراشها وتنهدت قليلا واستطردت قائلة: «أقسم لي، أقسم لي يا جوسلين لشقيقتك المسكينة، ليتيمك الصغير، أقسم أمام المبدع القدير أنك لن تهجرني، أجل، أقسم، فموتي وحياتي يتنازعان بين شفتيك»، ثم جعلت تحدق إلي مستعطفة متوسلة، فنظرت إليها نظرة تجسم فيها القسم وطبعت على يدها المضطربة قبلة حرى أعادت إليها الحياة! •••
أخذت لورانس تنتعش رويدا رويدا، وفي هذا الصباح تركت فراشها لأول مرة وخرجت من الكهف متكئة على كتفي، أيتها الشمس الجميلة، هل أنرت مرة مثل هذه الزهرة الذابلة على قممك المرتفعة؟
كم أحب أن أشعر بثقل ضعفها على كبدي، وأن أعرف أن قدميها، قدميها الواهيتين، لا تستطيعان الوقوف لولا ذراعي! وكم أحب أن أنظر إلى مقلتيها السوداوين، وإلى بسماتها السحرية، شاعرا بقلبها يخفق تحت ثوبها الأبيض!
في 6 كانون الثاني سنة 1795
لا أعرف أي حياء يوقف نفسي عن النظر إليها، وهي لا تعرف أيضا معنى ذلك الخجل، ولا تشعر أني أصبحت أتردد عن وضع شفتي على جبينها كما كنت أصنع سابقا، لم أعد أسمح لذراعي أن تطوق عنقها العاجي، ولم أعد أجد من اللائق أن أدعها تنام على جنبي، ولا أن أترك شعورها تتبعثر على جبيني، وكما يردعون الولد الصغير عن اللعب بالنار هكذا أحول رأسي عن رأسها غير مكترث لبكائها أحيانا.
لا تلبث لورانس أن تبكي عند ما تراني مبعدا جبيني عن جبينها؛ إذ تعتقد أني ما عدت أحبها، فأخفف ما بها بنظرة أو بتبسمة، وأدعها تحب مصغيا إلى نغمات قلبها المسكرة، ناسيا كل شيء في سبيل جمالها الإلهي!
آذار سنة 1795
عند ما يهبط الظلام، يتحول كل منا إلى جهة، فتنام لورانس في الكهف وأنام تحت صخرة في الخارج، وهنا أحرس عليها ككلب أمين، حتى تستفيق من رقادها في الصباح وتناديني إليها، لا أعرف أية حرمة أحفظها للورانس فأردع نفسي عن لمسها، كأنما هي مخلوقة إلهية سقطت من الأثير العلوي فقدست التراب بقدميها!
نيسان سنة 1795
كم أحب أن أنظر إلى عينيها المغلفتين بالأحلام، بانيا ألف خيال من أخيلة السعادة بتلك الأحلام الذهبية، مؤسسا في هذه المملكة كوخا للحب الطاهر الشريف، آويا تحت أغصان الشجر غبطة لم يذق حلاوتها سوى قلبينا، شاريا راحة المساء العذبة بأتعاب النهار، حامدا مبدع الكائنات على تلك السعادة القاتمة المختبئة تحت طيات البؤس، قائلا للورانس: «أنت جزء من كياني، فانظري إلى نفسك في نفسي»، آه! لا يقدر أن يحمل هذا الحلم اللذيذ الذي اخترعه الله في هذا المكان من الطبيعة إلا الحب المستقطر من نواظر الطهر!
نوار سنة 1795
النهار يعقب النهار، والشهر يخلف الشهر، والسنة تتثاقل على هضبات الأزهار، رب! أنا منطرح على قدميك، فهل في سمائك شموس أجمل من هذه الشمس؟
العهد الخامس
غرونوبل في 2 آب سنة 1795، في الليل في منزل أحد النجارين الفقراء
ماذا؟ أأنا في هذا المكان؟ ... رب! اسهر عليها من عليائك! يا ملاك الرحمة، أجرها بجناحيك! ماذا! تركت لورانس أمانة عند الصخور؟ إن قلبي الكسير لشديد الحزن وتوبيخ الضمير يثقل عليه! •••
ولكن، أيمكنني أن أرفض رجاء الميت الذي يدعوني إليه في ساعته الأخيرة؟ أأقدر أن أخالف إرادة ذلك الراعي القديس الذي تعهدني في أيام بؤسي، وتقبلني صغيرا بين المبتدئين وحنا علي حنو الأب الكريم، وكان صديقا لنفسي، وسيدا علي! •••
عندما رأى أن سجنه المظلم حل محل قصره، وأن ثوبه الأسقفي جنى عليه وكان حكم الموت، وأن المقصلة تشير إلى القدر المحتم عليه، ولم يبق له إلا شرب الكأس التي أعدوها لعذابه، طلب أن يمثل لديه صديقه الحميم ليؤاسيه قبل أن تفيض روحه بين جلاديه، آه! أأقدر أن أكون رجلا ولا أسرع لاستغاثته؟ لا، لا أطيق على نفسي أن تكون جبانة وجاحدة الجميل! •••
بأي لولب غريب تدير يد الخالق القدير ذلك القدر، حيث العيون البشرية لا ترى إلا صدفا وعجائب! ... •••
صعد أحد الجبليين، وهو خادم في السجن الرهيب الذي يضم بين جدرانه ذلك الأسقف المحكوم عليه بالإعدام، إلى قريته ذات يوم وقال للمعاز الذي يعرف دون سواه مكان إقامتي في تلك الجبال، إن الأسقف وقع في يد الجلادين أسيرا وهو قيد المحاكمة وإنه يطلب قبل موته أن يؤتى إليه بجوسلين الصغير ليسر إليه أمرا مقدسا. •••
عندما سمع المعاز اسمي ظن أن الله يأمره بأن يكشف أمري، وأن واجبا مقدسا يقضي عليه بأن يتسلق الجبال مع ذلك الجبلي ويفضي إلي بمشيئة الأسقف، فانتظرا حتى هبط الليل وصعدا إلى مغارتي متسترين فسمعت وطء أقدامهما المتثاقلة، فاستغربت الأمر بادئ ذي بدء وأطللت من الصخرة المجوفة، وكانت لورانس نائمة في الكهف فلم تسمع شيئا، فبلغاني بكلمتين سبب قدومهما، عند هذا أخذ الحب والغيرة يتنازعان في نفسي، ثم استأذنتهما قليلا ودخلت إلى الكهف ، حيث كتبت ورقة للورانس ضمنتها هذه الكلمات: «ارقد بسلام أيها الحب، فغيابي لا يتجاوز اليوم الواحد!» ووضعت الورقة بالقرب من لورانس بعد أن وقفت دقيقة أتأمل جبينها الجميل، وقد مرت عليه سحابة الأحلام العذبة وبرزت على شفتيها ابتسامة الملائكة، ثم سجدت أمامها وألصقت على قدميها جبهتي وخدي وفمي واستنجدت الله والقديسين لحراستها طيلة غيابي، وخرجت من الكهف بعد أن أبقيت قلبي تحت قدمي لورانس!
نزلت على آثارهما تلك السلالم الحجرية بعد أن استبدلت ثوبي الرث بثوب المعاز، وتنعلت حذاءه المسمر، وكان شعري الطويل، وجبيني المشهب، وأناملي المتفلعة بالبرد تعطيني هيئة جبلي لا يزال شابا، بلغنا المدينة بعد أن اجتزنا تلك المزارع المجهولة ونزلت ضيفا عند الجبلي ابن عم المعاز، وفي هذا النهار يجب علي أن أمتثل بين يدي أسقفي الشهيد في ذلك السجن الهائل!
في مستشفى غرونوبل في 5 آب سنة 1795 في المساء
أين أنا؟ رب اغفر ذنوب تلك النفس التائهة! لا لا، بل اضرب ذلك القلب المتردد الذي ما عرف أن يتبين الجريمة من الفضيلة، والذي لم يعد يعرف إذا كانت السماء تمقته أم تهواه! •••
أجل! إني أضغن على نفسي، فلتحتجب روحي عن روحي! هو ذا الأسقف يباركني! ... أنا قاتل ورسول السلام معا، فلقد خلصت بيد وسفكت بيد أخرى! •••
ولكن أين أنا؟ وإلى أي مكان قادتني المقادير؟ كل يتراءى رهيبا لعيني التائهتين، ما هذه الأسرة القطنية؟ ومن هؤلاء النساء، وهذه الأشباح البيضاء؟ أراها تتمشى صامتة كالقبور بين هذه الأروقة المظلمة، وتنحني فوق الوسائد كالأمهات! أتراها ملائكة الرحمة هبطت من السماء؟ أتراها عرائس ابن الله أمام أسرة الآلام؟ أتراها أمهات لجميع الأبناء، وأخوات لجميع الإخوة؟
في 6 آب في الصباح
ماذا جرى في العالم فتبدلت هيئة الأمم وساد السلام؟ أرى الكل يعرفونني باسمي الحقيقي! هم يقولون: إن باريس فتكت بالجلاد، وإن فرنسا غسلت الأراجيف، وخنقت أصوات الدم، وإن السجون فرغت من الأبرياء المظلومين، وأعادوا رموز الله إلى المعابد بعد أن حطم الشعب مقاصل الموت! هم يقولون: إن فرنسا بعثت من القبر ونجت من يد الجلادين!
في المساء
كل نائم ... تلك امرأة قديسة لا تزال ساهرة بالقرب من وسادتي ... أشعر بالنعاس يحاول الهرب من أجفاني، فأقدامي تود أن تصعد إلى حيث يقيم قلبي، غير أنها لا تزال رازحة تحت ثقل الضعف الشديد، سأذهب غدا صباحا إلى مكان قلبي! آه إن مشاهد السهر والآلام تتصاعد من خلال تذكارات بعيدة وتنعقد على جبيني كأنها خيوط مقطعة يحاولون أن يجمعوا أطرافها! •••
حكم قاضي الشعب بالموت على الأسقف السجين! سمعت ضربات المطارق تسمر أخشاب المقصلة في هدأة الليل، فدخلت إلى السجن وكنت أخال أقدامي، وهي تنزل الأدراج الرطبة، أنها تلصق بأدراج من الدم. لا أعرف أية رائحة من روائح الدموع كانت تفوح تحت النوافذ، وأي عرق كان يجري من الجدران سيولا سيولا. كنت أسمع الألواح تردد النحيب، كأنما هي مجرمة ترشح نزعها قطرة قطرة، في أسفل ذلك القمع المظلم، كان ينفتح السجن الرهيب القائم على الصخور، ما كدت أدخل حتى رأيت الحاجب، وفي يده مشعل يعطي الظلمة الباردة أشعة صفراء شاحبة، داخلا إلى مأوى المظلوم، ورأيت الشيخ يحدق في تلك العتمة، والشعاع المترامي على خديه كأنما هو يد من نار تشير إليه بين تلك الجدران القاتمة، راسمة فوق رأسه تاجا من الأنوار المقدسة، أجل! أبصرت ذلك الأسقف المسكين وقد رزح تحت ثقل السلاسل الحديدية، فاحدودب ظهره، والتوت قامته الطويلة، وبرزت أضلعه من خلال أثوابه الممزقة، واضطربت أقدامه العارية على الحضيض البارد، وكان فراش القش، ذلك الفراش المبعثر الأطراف لا يزال مستبقيا آثار جسده، ولحيته البيضاء بارزة من خديه المجوفين كأنما هي قطع من الزبد تجمدت على نواتئ صخرة، وعيناه المقعرتان تلمعان كالجمرة في محجريهما المظلمين، وكان بصره الضعيف يبحث عنا ولا يرانا من عمق أحداقه، وقد تراءت الإنسانية المغلوبة، على جبينه الشاحب فخلتني أمام نصير عظيم من نصراء الحقيقة المبتدعة!
وما كدت أتوسط المكان حتى سقطت على الأرض خائر القوى غير متجاسر أن أقترب إليه أو أن أهرب من وجهه، وبعد هنيهة رفع الحاجب نظره إلى الأسقف ، وقال: «هو ذا الشاب يا سيدي، فلقد قمت بواجبي نحوك»، ثم ترك المشعل على أقدامي وخرج من السجن مقفلا وراءه الباب الكبير، «أأنت؟ اقترب لأراك وأضم إلى صدري ابنا وديعا من أبناء الله، أشعر بساعتي الأخيرة تدق في قلبي، غير أني أود أن ينبثق فجري الخالد من نفسك الطاهرة، وأن أغسل روحي بمياه الكاهن أمام خالق الكائنات، جوسلين، أريد أن أضع بين يديك مفاتيح الله وأن أكل إليك أمر قطيعي المقدس، فالسجون والمنفى والسيوف الظالمة لم تبق على أحد من هؤلاء المبتدئين رفاق حداثتك، ولم يبق سواك أيها المبتدئ الوديع»، لبثت واقفا كالصنم لا أجيب، ولا أرفع جبيني الحيي، ولم أعد أسمع إلا دقائق الظلمة تتمشى بين جدران السجن، فاستطرد قائلا: «يجب أن تصير كاهنا يا جوسلين، فالكاهن ضروري لله! إن الحكمة الإلهية توجب عليك أن تنزل عند مشيئتي، وأود أن أنذرك لله على حافة قبري: اخفض رأسك يا ابني لينزل عليه الميرون المقدس! عندما يسيل عليك ذلك الروح الأقدس أريد أن أتقبل منك أنا الخاطئ المشرف على الموت، قربانة الحياة وخمرة الآلام! اقبل من الشهيد ذلك السر الأعظم، ومت لكي يحيا الله ...» قال هذا ورفع يده ليباركني، غير أني كنت قد ابتعدت عنه قدما، وقلت له: «تمهل قليلا يا أبت، قف، قف، فلست قادرا على ذلك، أجل! إن نفسي لخالقها، ودمي لإيماني، غير أن أيامي المدنسة لم تعد ملكي، فالله لا يطلب مني أن أضحي له ميتين في ميت وقلبين في حياة!» عند هذا نظر إلي نظرة رهيبة وقطب حاجبه الكثيف فاستأذنته ساعة سردت فيها على مسامعه حوادث العامين بدون أن أستثني حادثة، وأطلعته على القسم الذي أعطيته لتلك الفتاة رفيقة آلامي ومصائبي، ثم صمت فترة كنت أقرأ فيها أمارات الغضب على جبينه حتى استطرد قائلا: «إن الروح الخداعة تقذف بك إلى فخ مخجل مدنس، فاحمد الصدف أيها الجاهل، إنها لتهبك أسمى هبات الله للإنسان! آه! حطم تلك المكائد الغرارة واخفض جبينك من الخجل، ماذا؟ أتستسلم لتلك الأهواء الخطرة ثمار الكسل ونتائج الانفراد؟ ألأجل ذلك تخون موتي وتدعه بلا غوث، وتترك معبد الله عاريا من الرعاة؟ لم أكن لأعتقد يوم كان المذبح مخضبا بدماء رعاته، يوم كانت أبناء الله تثب من السجون إلى المقاصل، يوم كان العالم ينظر بعجب إلى دماء الشهداء، شهداء الإنسانية والدين، تتفجر من أيدي الجلادين، أجل، لم أكن لأعتقد يوم ذاك أن أحد الجنود، جنود المعبد المقدس، يأبى أن يسرع لنجاة الله فينطرح بين مخالب الأهواء الدنسة رافعا للخالق، على أقدام المقاصل، حيث فاضت أرواح إخوته الشهداء، نساء غريبات يخضبن خدودهن بحمرة الآثام!» - رحمة يا أبت وشفقة! أية كلمة تتلفظ بها شفتاك؟ إن السماء لتعرف ما إذا كنت أضطرب من رؤيتك، هي لا تجهل تعلقي بك وحبي الشديد لك، ولكنك تقيس قلوبنا بقلبك، وتعتقد أن نفسي العاشقة لا تنزع إلا حلما من صدر تلك الفتاة، لا، بل ثق أن حبي لها سوف لا يرفع إلا على أقدام المذابح، أتريد أن يغمى على العاطفة المغروسة في قلبينا، وأن ينطفئ ذلك الحلم الذي فتح براعم نفسينا، ويضمحل ذلك الشعاع الذي أنارنا طيلة سنة؟ قدر حب الرجل والمرأة يا أبت، ذلك الحب الطاهر الذي يربط حياتهما بلحمة واحدة، ويبقى حيا كالحياة وقويا كالموت! - اصمت! يا جوسلين إنك تدنس هذه الساعة، وهذا الموقف المقدس، وهذه السلاسل المثقلة علي، وهذا المكان المطهر بشهادتي، كيف تتجاسر أن تتلفظ بالحب في هذه الظلمة الخرساء؟ انظر أين أنت! حدق في هذا السجن إلى أعضائي البارزة، وإلى ذراعي المرتفعتين إلى الله! بقيود قتالة، انظر جيدا إلى هذا المرقد، حيث الكنيسة تطلق نفسها الأخير شاعرة بقبلة الله في فرند الحسام، إلى هذا الضريح، ضريح الموت الآهل بالحياة الذي لا ينفتح إلا للخلود، أأمام هؤلاء الشهود، شهود الآلام والمصائب، وأمام هذا المحتضر على خشبات التضحية، تتجاسر أن تتلفظ بمثل تلك الأهواء المميتة؟ آه! إن هذه الحسرات لتثقل على موتي! ماذا؟! أخائن أنت؟ ولكن لا، لا يكون ذلك! لا يمكن أن تلطخ حياتك الطاهرة، لا يمكن أن ترمي جبيني بهذه الرذالة! لا يمكنك أن تسقيني السم عوضا عن الماء، سوف لا تدع روح والدك الشيخ تذهب إلى خالقها قبل أن تتزود الغفران وتلقي خطاياها عن كاهلها المثقل! آه! طالما رجوت الله أن يمنحني كاهنا لأنطرح على قدميه عند ساعتي الأخيرة وأسمع من فمه تلك العبارة الإلهية: «إني أحلك من خطاياك!» جوسلين، إني بحاجة إلى هذه العبارة، ألا تهبني إياها؟ باسم هذه الدموع الأخيرة المتساقطة من أجفاني على يديك، باسم هذا الشعر الذي بيضته السجون بظلماتها، باسم هذه الأعضاء المضطربة فريسة المقاصل وضحية الظلم، باسم العناية الحنونة التي تعهدت بها نفسك يوم كنت صغيرا، باسم أمك، باسم تلك المرأة التي لو رأتك عيناها الطاهرتان في هذه الظلمة، لما ترددت بدفعك إلى الواجب المقدس بكل ما أوتي قلبها من الحب، أجل باسم كل ذلك أرجو منك ألا تضن علي بتلك العبارة لأحملها إلى السماء يا ابني.
ما أوشك أن ينتهي من كلامه حتى كان العرق قد بلل ثيابي، فبقيت واقفا كالتمثال، صامتا كالموت، محدقا في الظلمة كجان ينتظر الحكم عليه، ثم حولت نظري إلى الأسقف فأبصرت عينيه تتألقان بغضب فوق غضب الإنسان، وانتصبت قامته، كأنما فكرته قد رفعته عن الأرض، وبسط ذراعه المثقلة بالسلاسل فوق رأسي، فخيل إلي أن صاعقة من صواعق الانتقام تقذف نارها من جبينه وتتلوى كالأفعى بين جدران السجن القاتمة، وسمعت صوته الغضوب يرمي علي قنابل اللعنات، قائلا: «إذن! فبما أنك تبقى عديم الإحساس لدى مدامعي وتوسلاتي، وبما أن الرحمة لا تستطيع أن تنير في نفسك مشعلها المنطفئ، وبما أن روحك تتردد بين السلام الذي أرجوه منك وبين حبك المرذول الدنس، ألعنك بين المسيحيين لعنة تتبعك إلى القبر: اخرج من أمامي فلم أعد أعرفك! اخرج من جبل الجلجلة، حيث يموت سيدك فما أنت إلا جلاد أفظع من جلاديه، ما أنت إلا شاهد جبان لا تستحق أن ترى كيف يموت المسيحي فداء واجبه، أجل! اخرج من هذه الظلمة المقدسة، اخرج بصورة غير الصورة التي دخلت فيها، واحمل على جبينك ذلك الغضب الإلهي ولتشاطرك إياه ...» وقبل أن ينتهي من كلامه أوقفته قائلا: «قف يا أبت لا تكمل! لا تلعن أحدا بل صوب لعنتك علي وحدي!» وكأنه شعر بخوفي يضطرب لدى قوته ويتساقط على أقدامه كما تتساقط الشجرة لدى فأس الحطاب، فقال لي بصوت جهوري، كأنه يخاطب إنسانا من وراء حجب الموت: «أصغ إلي يا جوسلين، إنك لتسمع صوت الله من شفاه الموتى، فالله يأمرني أن أنزع بيد إلهية قلبك التائه من ذلك الفخ الذي يقودك إليه العالم الشرير، إنه يعير صوتي ذلك الحكم المحتم، ذلك الحكم الذي يوجب عليك أن ترضخ لي وتأتمر بأوامري!» عند هذا شعرت بيده المغللة بالحديد تلامس جبيني، وخيل إلي أن يد الله تمر على رأسي، فسقطت ساجدا على قدمي الأسقف لا أفوه بكلمة ولا أحرك ساكنا، ولم يمض بعض ثوان حتى شعرت بأن تغييرا مدهشا قد طرأ على كياني، وعندما رفعني من الأرض كنت كاهنا! ... •••
ترامى الشيخ بدوره على أقدامي واعترف بخطاياه للإله المصغي إليه، ثم حولت قطعة سوداء من الخبز إلى جسد الله وباركت كأسا من الخمر وغمست القربانة فيها، ثم رددت العبارة التي أملاها علي وكان المشعل يلقي في الغرفة أشعته المأتمية! كنت أخال أن الله يهبط من عليائه ويتحول إلى جسد ودم في تلك الخبزة وتلك الكأس، وبعد برهة قصيرة انطفأ المشعل في الظلمة وزحف النهار! ...
فتح الباب الرهيب ودخل الحاجب فنزع السلاسل عن الأسقف وقاده إلى خارج السجن، حيث تنتظره المقصلة المخيفة، فاقتربت منه وتركته يتكئ على كتفي ليتمكن من قطع تلك المسافة المأتمية، وكان يمشي إلى الاستشهاد كمن يمشي إلى الانتصار مباركا جلاديه تارة بأنامله وطورا ببسماته، حتى بلغ المكان المعد له فأعنته على صعود السلم الرهيبة، وتبعته حتى المقصلة نفسها، وكان الشعب الشرس يعج في الساحة ويهتف هتافا مزعجا فلم يصغ الأسقف إلى تلك التجاديف واللعنات بل كان يبحث في عيني عن الوداع الأخير، وعندما ألقى جبينه على الخشبة الشؤمى تراءى لي الموت زافرا في السكين زفرة المتظلم، فلم أقدر على التجلد لدى هذا المشهد المؤلم فسقطت ملطخا بدم الشهيد، وشعرت أن صورة لورانس قد امحت من قلبي! ... •••
آه! إني أتنفس الصعداء! إيه حكمة الله، أأنت في كل مكان ساهرة مصغية؟ أطلعت شقيقة الأسقف وهي راهبة قديسة على سري العظيم، فقالت لي: إنها تود أن تذهب بنفسها إلى الكهف وتأتي بالفتاة إلى منزلها، حيث تتعهدها بعنايتها الرءوفة وتحبها وتعطف عليها عطف الأم الحنون إلى أن يتبلغ أهلها خبر أمرها فيعيدوا إليها ما حجزته الحكومة من أرزاقها في الأيام العصيبة.
في 12 آب سنة 1795
صعدت الجبال العالية مصحوبا بالراهبة والمعاز فكنت أقف حينا كرجل يمشي إلى الموت وقد نازعته الريبة ودب الخوف في ركبتيه حتى بلغت إلى هوة عميقة فأبصرت دوحتين متكاتفتين صنعت الطبيعة جسرا منهما فمررت ومرت الراهبة والمعاز على ذلك الجسر وجعلت أسرع بالخطى حتى بلغت الكهف قبل أن يبلغاه، ولكني ترددت بالدخول مضطربا ثم تقدمت وأزحت الأوراق عن فوهة الصخر، فأبصرت لورانس ساجدة على ركبتيها، وجبينها الشاحب ملقى بوهن على صدرها الكئيب، وذراعاها الواهيتان مطوقتان عنق وعلها النائم، وشعورها المستطيلة مسترسلة على قرونه الجميلة، وبصرها التائه يرتفع تارة تحت أهدابها الحريرية ويذرف الدموع طورا على خديها النحيلين، فتقدمت قليلا فسمعت وطء أقدامي فنهضت مذعورة من مكانها، ولما رأتني هتفت: «جوسلين!» ولكنها عادت فتراجعت إلى الوراء، قائلة: «رب! ليس هو» وارتمت على أحد الصخور منهكة القوى، ثم جعلت تحدق إلى الراهبة والمعاز اللذين كانا قد وصلا إلى الكهف فاقتربت الراهبة، قائلة لها: «لا تخافي يا بنيتي واقتربي مني فما جئت إلا لأضمك بين ذراعي، إن الله الذي ينزع أخاك من يديك يهبك بدل الأخ أما»، وببعض كلمات أطلعت لورانس على تفاصيل الحادثة فجمدت كالقبر، وقد تاهت أفكارها في مذاهب الآلام وتحولت من فتاة جميلة إلى صنم من الرخام الشاحب، وفجأة، لا أعرف أية فكرة لمعت على جبينها فاستعادت نضارة الحياة، وبرز شبح الغضب من خلال عينيها، وتشعث شعرها على وجنتيها كأنه أمواج في إبان عاصفة، ثم ضحكت ضحكة السخرية، فاضطربت الراهبة لدى هذا المشهد وتراجع المعاز من الخوف، عند هذا رفعت صوتها بغضب شديد، وقالت: «أنتم كاذبون! فعودوا من حيث أتيتم إلى الذين أرسلوكم إلى هذا المكان، ماذا! أكنتم تعتقدون أنني ولد أنخدع بسهولة؟ اخرجوا من هنا جميعا فقلبي لا يغتر بحيلكم، ولا يؤخذ بحبائل مكركم!
هل اغتنمت فرصة غيابه لتنزعيه من بين يدي يا سيدتي؟ إنك لشديدة الغرور بنفسك، أو تجهلين أنك تنزعين الجسد من الروح؟ ...» وكان صوتها النحاسي يدوي في الكهف دويا مخيفا، ويدها المرتجفة ملصقة على نواتئ الصخرة، فلم تتمكن الراهبة من إمساك دموعها، فقالت لورانس بصوت أليم: «أنت تبكين؟ لماذا أنت تبكين؟» ثم أمرت يدها المثلجة على جبينها الشاحب كأنما هي تحاول أن تطرد فكرة رهيبة، وقالت: «لا، لا، لست أثق بسوى جوسلين! أنا البائسة الطريدة المنطرحة بين يديه! أنا ضحية القدر! أنا فريسة المآرب! لقد هجرني بين هذه الصخور وتركني بين مخالب الخوف بعد أن قضينا عامين لا نأكل إلا معا ولا نشرب إلا حليبا واحدا! أمن العدل أن ينهدم هذا المأوى على رأسي، وأن ينفتح ذلك القلب، الذي لم يعرف الجرائم ولم يلطخ طهارته بدم الآثام، ويصبح هوة يقبرني بها حية في أعماقها؟ لا، لا يمكن أن يكون ذلك! أجل، أنت كاذبة! وكذبك تجاديف مدنسة!» ثم صمتت فترة وبصوت ضعيف تراوده التأثرات النفسانية، قالت: «آه، يا جوسلين! آه يا أخي، ماذا فعلت وأين أنت الآن؟ أين أنت لتسمع ما يقول هؤلاء الناس فتسرع لنجدتي، أين أنت يا جوسلين؟ لماذا لا تدافع عن حبيبتك لورانس؟» فلم أقدر أن أهدي روعي فوثبت إليها في وسط هذا المشهد الأليم، وما كادت تراني حتى قفزت قفزة واحدة إلى عنقي وحوطته بذراعيها الواهيتين ثم لامست جبيني وعيني بشفتيها الباردتين وضمتني إليها ضمة شديدة، وأخذت تضطرب بين ذراعي وتتلوى كالحية قائلة: «من يجسر الآن أن ينزعه من بين ذراعي؟ أجبني يا جوسلين، قل لي إذا كنت قد خنت صديقك وحبيبتك وأختك! أجب يا جوسلين، تكلم، خذ بثأري وثأرك وقل لهم من نحن وأي حب يربط قلبينا!»
بقيت واقفا بدون أن أفوه بكلمة وقد غمرتني أشعة رهيبة، وشعرت أن ذراعي تكبل ذلك القلب الذي يحبني دون الناس بسلاسل من حديد، فأخذت أبحث عن مهرب ألجأ إليه غير أن ذراعيها كانتا تضغطان بشدة على عنقي، وأخيرا تمكنت من التخلص منها، قائلا: «لا، لا تلمسيني، فلم أعد ذلك الرجل الذي تعرفينه، فما أنا إلا ...» فقاطعتني قائلة: «لا تكمل! لا تكمل!» فلم أصغ لكلامها وأردفت قائلا: «ما أنا إلا راهب يا لورانس! لقد خنت حبي وسعادتي وقسمي، وشربت دمي ودمك في الكأس الأولى التي رفعتها بيدي، لقد خنت أكثر من إله بخيانتي إيمانك الحي، فاهربي مني، ولا تسمعيني كلمة الوداع الأخير، لا تنظري إلى بائس نظيري بل حولي عينيك عن وجهي، لا بل اسحقيني بقدميك كما يسحقون حشرة بين الأوحال! والعنيني ولا تضطربي! واحتقري نفسي المنطفئة وقلبي الخائن!» قلت ذلك وارتميت على الأرض منطرحا على قدميها لتتمكن من المرور على جسدي وتسحق حياتي الملتهبة وجبيني الشاحب، ولكنها تراجعت شيئا فشيئا، كما يتراجعون عند رؤية الأفعى، وصرخت صرخة واحدة كأنما قلبها المنسحق قد انفجر مرة واحدة وقذف من شفتيها، ثم ارتمت على جسدي واهية القوى فشعرت بيديها تثلجان وبلهاثها يتقطع شيئا فشيئا فأخذتها بين ذراعي وجعلت أدفئها لاعنا نفسي ألف لعنة، ثم قلت لها بصوت عذب: «اغفري لي يا لورانس! وأفيقي من سباتك! أفيقي وارجعي إلى الحياة، فسأجحد فضائلي المرذولة وقسمي المقدس! لا إله إلا في قلبك وبين ذراعيك، ولا معبد إلا في نفسك الطاهرة الشريفة! أفيقي يا لورانس! فلا سماء إلا في عينيك ولا نفس إلا نفسك! لقد كذبوا يا حبيبتي، فعودي إلى الحياة: إن جهنم لا تنفتح لمثل هذا الحب!»
عند ذلك اقتربت الراهبة والمعاز شاحبي اللون، مضطربي الأعضاء، ونزعا لورانس من بين ذراعي ... لورانس العذبة ... لورانس الجميلة ... فأبصرتها تنتعش قليلا، ورأيت شعورها الذهبية تسترسل من جبينها الأبيض كأنما هي أجنحة ملاك ألقت عليها الشمس جواهرها اللماعة، فلبثت محدقا في باب الكهف وقد تواروا عن نظري!
مغارة النسور في 15 آب سنة 1795
يا ابن الله، لقد رشح النزع من جبيني كما رشح من جبينك في تلك الليالي الثلاث، ليالي الأرق والآلام! آه! لماذا لا أسمع ذلك الصوت قائلا لي كما قال لك في جبل الزيتون: «لقد انتهى كل شيء!» أأقدر أن أحمل ثقل المستقبل في فؤادي؟ وأن أسمع صدى الآلام يقول لي في كل مساء: «لا تنتظر شيئا هنا، لا تنتظر شيئا هناك! لا تنتظر شيئا في الغد! إن حياتي لضريح ألقى الله ذكرياتي بين جدرانه! رب! لماذا أنا أحيا؟ لماذا أستفيق من رقادي؟» •••
الموت؟ أجل! ولكن عفوا ... لقد نسيت أني كاهن! كاهن! رسمته الآلام في ظلمات السجون! •••
لقد فطمني الله عن حليب الملذات! فلأشرب إذن كأس العذاب حتى الثمالة! ولأرفع تنهدات الله إلى مذابح الدموع! ولأضم إلى صدري أبناء البؤس بشفقة ورحمة! رب! اسكب في نفسي حبك الطاهر لأذيبه في قلوب العالم كما كنت أذيب حبي في فؤاد تلك الفتاة! وليكن كل ولد من أولاد الإنسانية بمثابة لورانس! أجل! إن في أعماق السماء حيث يراك الإنسان كاشفا عن وجهك، في ذلك المدى الأزرق، في مروج الكواكب النيرة، يتراءى لنا عالم فسيح الأرجاء أعدته يداك الإلهيتان مأوى للحب الطاهر! رب! إني لأنطرح على قدمي عزتك، ولا أرجو من هذا العالم غير الذي نلته، من الناس من يحلمون بسماواتهم ولكن أنا لا أحلم بشيء لأني رأيت سمائي!
عن المغارة في 16 آب سنة 1795
أيها القلب، أغلق نفسك كحفرة فارغة! أيتها الزفرات، ارقدي في طيات قلبي رقادك الطويل! وليختبئ اسمك إلى الأبد بين جدرانه القاتمة! واحذري أن تتصاعدي إلى شفتي من خلال أحلامي المنطفئة! وليجهل الناس المنخدعون أن حبي لهم إنما هو وقف لك وحدك! ولتفترس النار الإلهية، تلك النار المضطرمة في قلبي، اسمك المقدس بلهيبها الطاهر! وليخفف هذا السر العظيم عن كل إنسان، إلى أن يحجبه القبر في ساعتي الأخيرة!
ولكن لورانس، آه! فلتحي طويلا في هذا العالم، ولتتناس اسمي الدنس حتى يجيء الموت ويجمعني بها في العالم اللانهائي!
العهد السادس
26 آذار سنة 1796، في مأوى بيعي من مآوي غرونوبل أثناء اشتداد الحمى
تركت إلى الأبد عدن حياتي، حيث ظهرت حواء لقلبي كما ترك الرجل الأول عدنه الأولى! ولكن! كم أتمنى لو يتيح لي منفى كمنفاه! لقد قضي علي أن أطعن ذلك القلب الذي أهواه بمدية الظلم، وأن أخنق قلبي وألقيه في حسراته! أراني مضطرا أن أرمي سعادتي على قدمي غير متجاسر أن أحول إليها نظرة من عيني الباكية، ولا أن أتلفظ باسم من أندب وأرثي! أجل! يجب أن أحيا وأمشي بلا خيال، وحيدا، دائما وحيدا، ميتا بين الأحياء، ناسجا من ثوبي الأسود كفنا لآلامي! ميتا! آه! لا بل حيا بين هؤلاء الأموات أولي النفوس المثلجة، وإذا كنت في قبر من الظلمة فلكي أغذي الديدان من دمي! •••
آه! ماذا اقترفت أيتها العدالة الخالدة لأجازي صغيرا بمثل هذا العذاب؟ فلولاك، لولا مشيئتك ما لقيت في طريق الحياة ذلك الحب الطاهر الذي أمسى فخا معدا لقلبي! ألم أهرب، وأنا ملتهب بخمرة الشباب، من ذلك الخطر الإنساني لكى أنجي قلبي الطاهر وأبقي على طهارة عيني؟ ألم أقم جدارا مظلما بين العالم وبيني؟ وعندما لجأت إلى الكهف دافنا نفسي بين نواتئ الصخور، لائذا في وكنات العواصف، أعنها كنت أبحث يوم ذاك أم عنك يا إلهي؟ من جاء بها إلى ذلك المكان وألقاها أمانة بين ذراعي؟ من أمرني وأرغمني أن أشاطرها آلامها وهي غريبة عني ولا علم لي بكنه أمرها؟ من سكب علينا عنايته وتعهدنا في تلك الأصقاع الرهيبة؟ ألست أنت يا إلهى؟! فلماذا توجب علي إذن أن أتركها وأن يحمل كل منا نصف الآخر في مطارح غربته؟ ...
إذا كان الله هو الذي قد صنع ذلك، فلماذا أكفر عنه أنا، أمن الواجب أن يدفع البريء عن المجرم، ولكن، إذا كنت لا تخنق سواي بحديد مظالمك أيها الإله فأنا راضخ لشرائعك نازل عند رغباتك! أجل، سأعرف كيف أتحمل خدمتك هذه، تلك الخدمة الطاغية حتى الموت! ولكن لورانس! ... لورانس المأخوذة بحبائل الإنسان! لورانس المظلومة! لورانس البريئة؟! أمن العدل أن تسخط علي وتجدف على خالقها؟ •••
لورانس! رحمة وغفرا! عودي إلي! سامحيني! ضحيت بك في سبيل الله ولم يكن إلهي سوى قلبك الشريف! كنت أخال نفسي ربا! ... لا! ما أنا إلا رجل يلعن انتصاره قبل أن يحترق! إني أكفر عن فضيلتي المزورة! أتسمعين يا لورانس؟ إني أترامى على قدميك فاتحا ذراعي لاستقبال حياتك! آه! أتسمعين؟ عودي إلي! عودي حية أو ميتة! فأصعد بك إلى سماء قلبي، حيث نصم آذاننا عن لعنات الملأ الأسفل، ونغلق مسامعنا عن عجيج الملأ الأعلى! إن نقاوة القلب والشرف لأسمى من فضائل البشر! تعالي، ولنذهب إلى الأسرار، حيث نختبئ عن أعين الإنسانية بما في قلبينا من الحب الذي لا يحجبه إلا ظلمات القبور! عندما يحطم الموت كئوس الحياة بين أضراسنا، من يدري من كان العاقل ومن كان الجهول من الذين شربوا تلك الكئوس كما أراد الله أن يشربوها! حياة معك يا لورانس ثم موتا أبديا! حياة معك ثم جهنم ونيرانها! حياة معك ثم موتا لنفسينا! «يسمع جرس الكنيسة يعلن صلاة المساء وينادي الرهبان.» «الأحداث إلى المعبد.»
هو ذا النحاس المقدس يدوي في الفضاء، هو ذا الصراخ العلوي يناديني إلى أقدام الهيكل، آه! إن قلبي الضائع يستفيق لدى ندائك أيها النحاس! •••
إنك تطرد أفكاري المخجلة من جبيني التائه أيها الجرس! إنك تدفع الجريمة واليأس إلى هوة التلاشي، وتنحب نحيب نفسي الخاطئة وقلبي الأثيم! فكم من نفس معذبة حلمت بنعيك الرهيب! وكم من زفرة حرى صعدت إلى الله على أجنحة أنغامك! وكم مرة أعلنت نهاية الآلام عند حشرجة الروح! أنت تنشد أغاني الفجر وأنغام المساء على مسامع الموتى الراحلين! إيه، فبعد قليل من ساعات النفي الأليم تسمعين أيامك تدق في السماء يا نفسي! فلنمش، أجل فلنمش خافضي الرءوس كمن يتثاقلون تحت أحمال أفكارهم، إلى الله المواسي الرحيم!
عن حجرته، غرونوبل في 14 أيار سنة 1797
منذ عامين وأنا بين رجال الله ساكبا نفسي على موقد الفناء المقدس، غير أن منظر هؤلاء الرهبان، رهبان السلام والسكينة، لم يستطع أن ينزع الحسرات من مكامن قلبي!
إن حمل الأيام لخفيف الثقل على نفوس هؤلاء البشر! فبسمات العذوبة لا تفارق مراشفهم، ولا يسمع من صدورهم زفرة من زفرات الألم! آه لو أمكنك أن تسكن سكونهم أيها القلب الخافق! آه! لو قدرت رؤيا الماضي أن تتلاشى من عيني كما تتلاشى الأحلام، لو قدرت أخيلة هذه الجدران أن تحجبها عن نظري! ولكن لورانس لا تزال تتراءى لي ماشية أمامي كيف اتجهت؟ وأين تحولت؟ يخيل إلي أني أراها تضيء بين جدران الدير وتحت كل عمود من أعمدة الكنيسة، وإذا أغمضت عيني محاولا أن أهرب من ذلك الطيف الحبيب تتراءى لي ساجدة على هيكل نفسي!
إيه قمم الجبال! يا نسيم الأزهار الطاهر، يا أمواج الأنوار البهية، يا هواء الغابات العاصف، أيها الضباب المتلاشى على المرتفعات، يا مياه البحيرات العذبة، أيتها السيول المنحدرة من أعالي القمم، حيث كنت أضم باكيا جذوع الأشجار بدلا من هذا الرخام البارد، وحيث كنت أسمع قلب الله يخفق في كل ذرة من ذرات الطبيعة، إن نفسي لتحطم جدران هذا السجن بقنابل زفراتها باكية أول شفق للشباب ما كاد يبرز حتى توارى! يخيل لي أن هذا السقف المثقل علي يزيد الحياة آلاما ويضغط بشدة على القلوب، وأني أتمكن من استنشاق الهواء نقيا في غير هذا المكان، وأن الهواء الطلق يعينني، كما يعين النسور، على الارتفاع إلى عرش الخالق أكثر من هذه التقاليد الباردة!
بيد أن هؤلاء الناس لسعيدون تحت تلك الشرائع، فهم يتبعون طريقهم بدون أن تحدثهم نفوسهم بالعدول عنها، ذلك لأنهم لم يستنشقوا هواء العواصف الناري، ولم يدفنوا بين أذرعهم قلبا من القلوب، فأيامهم لا ظل لها، وأفئدتهم لا طية فيها!
في 25 تموز سنة 1797
ما كنت عارفا أن الظواهر الباطلة ستكدر براءتنا حتى القبر، وأن العالم سوف لا يؤمنون بطهارة قلبينا يوم كنا في تلك الجبال وحيدين لا حارس علينا سوى عين الله! فهذه الريبة مكتوبة على جميع الجباه، ويعتقد هؤلاء الكهنة بالرغم عن عذوبة كلامهم، أن وجودي بينهم خطر على فضائلهم! فيخافونني ويتجنبونني، كأني رجل بائس أصيب بالبرص! أجد نفسي وحيدا في كل مكان تطؤه قدماي: وحيدا على أقدام الهيكل، وحيدا على المائدة، وحيدا في الدرس، وحيدا في راحات المساء، ومذ يسمعون وطء أقدامي على أدراج الأروقة يخفتون أصواتهم ويقطبون حواجبهم ويتراجعون لدى مرور طيفي بينهم ولا يعودون إلى الحديث إلا عندما أكون قد تواريت!
غرونوبل، آب سنة 1797
قال لي الأسقف: «لقد كثرت عنك الأقاويل يا ابني، غير أن طاعتك وانقيادك ليكفران عنك، إن التوبة لنار تصهر القلوب فتجدد الحياة!» ••• «هناك في جبال الألب قرية تكتنفها الثلوج طيلة ثمانية أشهر من السنة فتغلق جميع الطرقات دون القرويين ولا يصبح المرور مستحيلا إلا متى جاء الصيف وذوبت الشمس تلك الثلوج، هناك، بعض قبائل من الفلاحين البؤساء منتشرة في بعض الأصقاع، لا راع عليها سوى عين الله بين تلك الغيوم المتلبدة والأعاصير الهدارة، أرى من الرحمة يا ابني أن تتخذ تلك المملكة مقرا لك، وأن تسهر على هؤلاء البائسين وتتعهد نفوسهم بالعناية الدينية التي وضعها الله في صدرك، فمعبد تلك المملكة من خشب الغابات وسقفه من القش اليابس، ولكنه أسمى من المعابد ذات الأردية الحريرية والبنايات الفخمة؛ لأن نفس الفلاح القروي لأطهر من نفس الرجل الذي يكون قد ربي في المدن بين فساد البشر ومطامع الإنسان! اذهب يا ابني وليحرسك الله!»
في 17 أيلول سنة 1797
أجل سأذهب، سأمزج نفسي بالوحدة والانفراد، سأسلخ أقدامي على طرقات أشد وعورة من هذه، فباركني يا الله، ولينطفئ قلبي المشتعل بالحب على أقدام مذبحك، ذلك القلب الذي لقي جزاء حبه، أجل فلينطفئ ليضطرم، وليمت ليحيا! ...
كتاب إلى أخته
بعد سبعة أشهر، عن قرية فلنيج، أيار سنة 1798
يا أخت! أي اسم أرق عذوبة
في مسمعي من اسمك المستعذب
اسم تفيق لديه ذكرى ما مضى
من ذلك العيش اللذيذ الطيب
أيام كنا والحياة ضحوكة
والحب بسام اللمى كالكوكب
نلهو ونمرح في حديقة كوخنا
إن تلعبي بحصى الجداول ألعب
إن تبسمي للزهر أبسم مثلما
إن تطربي لغنا البلابل أطرب
إن تنثري الأوراق أنثر باقتي
إن ترغبي في جمع ذلك أرغب
أيام كنا تائهين مع الصبا
أيام كنت فتية وأنا صبي
أيام كان القلب عشا للصفا
أيام أمي كان يسعدها أبي! •••
أمي! ترى ماذا جرى لفؤادها
بين العواصف والدماء الزافره
ماذا جرى للورد فوق خدودها
هل أذبلته صروف دهر جائره
هل بدلت تلك الملامح بعدما
كانت كأزهار المروج الناضره
وهل الأشعة في نواظرها خبت
فتجهمت تلك العيون الطاهره؟
بسمات مرشفها العذاب هل انثنت
أم لا تزال على المراشف ظاهره
وجبينها، هل باقيات فوقه
أحلام عاطفة الفؤاد الحائره؟
هل بيضت أيدي الفراق شعورها
ومضت بأنغام الحنان الساحره
أنغام رقة صوتها وجماله
وعذوبة من لفظها متناثره؟ •••
أمي! أراها من خلال مدامعي
تحنو علي بسكرة وتألم
وتذيب في نفسي عواطف نفسها
وتدب في قلبي الهيام وفي دمي
ما زلت أبصرها كما أبصرتها
يوم الوداع الكالح المتجهم
في عينها دمع وفي أعضائها
رجفات مضطرب ورعشة متهم
يا أخت، هلا ذكرتك رسالتي
بجمال عهد صفائنا المتصرم
أيام كنا بين أذرع أيم
نلهو ونلعب بين أذرع أيم؟
يا أخت، تلك الذكريات أليمة
فتكت بقلب الراهب المتظلم
لم يبق مني غير جفن تائه
بين المظالم في رواق مظلم!
والآن يجب أن أصف لك هذا المأوى الهمجي، حيث أراد الله أن أصرف أيامي، حتى إذا ما شئت أن تذهبي بالأحلام الى حيث يأوي شقيقك المخلص تدفعين أفكارك دفعة واحدة بين الجبال والأودية وتجلسين قريبا من الموقد تتحدثين إلى أخيك بما يوحي إليك قلبك الرقيق ونفسك الشريفة ...
على قمة علياء من قمم «الألب»
مقابر فيها معبد قام للرب
تسلقت الأعشاب والشوك جدره
وقد رفعت سقفا عليه من العشب
أقامت حواليه الصخور حواجزا
فما صاعد إلا على مسلك صعب
من الشرق أدواح يحركها الهوا
وسحب يلاشيها النسيم من الغرب
يرى السهل في الإقصاء أخضر بارزا
خلال غصون الحور أو ورق الدلب
وزرقة أمواه البحيرات تنجلي
فيغطس فيها البدر أو جسد السحب
يحف بها غاب كثيف كأنه
جيوش من الأبطال تزحف للحرب
مشت زمنا حتى إذا غلب الصدى
عليها أحاطت بالبحيرات للشرب
وفي ذلك المرج الخصيب مواكب
من النعجات البيض تمرح في الخصب
كأني بها إذ تنشق الزهر ترتمي
من السكر فوق العشب جنبا إلى جنب
وفي القمم العليا ثلوج تجمدت
وقامت كجدران على الشفق الرحب
كجدر من البلور تلمع في الضيا
فترمي بأنوار على سجني الرطب
ألا طالما أصغيت في هدأة الضحى
إلى نغمة العنيز ذي النغم العذب
وأبصرت فلاح الحقول وحوله
نعاج تلهت بالزهور عن الوثب
وكم مرة أصغيت والليل ساكن
إلى زبد «الشلال» يسقط في قلبي
وحدقت في الأكواخ ألهو بسرجها
وقد برزت وسط الدجنة كالشهب •••
نوافذ بيتي أربع قد تشابهت
من الجدر تبدو كالعشاش من الثقب
فتفتح في الإصباح هدب جفونها
وتظهر في الإمساء غالقة الهدب
يحط السنونو كل يوم رحاله
عليها ويأتيها الحمام لدى الأوب
كأن إطارا من رخام يحيطها
تخلله الأبنوس من خشب صلب
وفي الساحة السفلى فراخ صغيرة
وبعض دجاجات وقن من الترب
حفرت بصخر فيه للماء قربة
وسمرت ألواحا من الحور للحب
وعندي كلب يا له من مداعب
إذا نمت أغفى أو مشيت مشي قربي
له شعر كالقطن أبيض ناصع
وعينان سوداوان كالمخمل الرطب
تخلى جميع الناس عني فلم أعد
أرى في انفرادي من صديق سوى كلبي
وخادمتي «مرتا» كأم شفيقة
تعهد نفسي بالعناية والحب
أقضي نهاري في السهول معلما
أبث تعاليم الديانة في شعبي
وحين يجيء الليل أدخل مخدعي
وأجلس مرتاح الضمير إلى كتبي
ومذ يتراءى لي خيالك باسما
وينفذ من جفني الكئيب إلى لبي
يعاودني حزني فأذرف أدمعا
يراودها نوحي ويقطعها ندبي
لا بد أنك تسألينني عن سبب وجودي في هذا المكان، أليس كذلك؟ وأنا أيضا طالما سألت نفسي عن سبب ذلك، غير أن الحكمة الإلهية لأسمى من أن ندركها نحن يا عزيزتي، ففي هذا الجبل فلاحون جهال لا مرشد لهم ولا من يتعهد نفوسهم يتخاصمون ويتنازعون وربما أدى بهم الأمر إلى أبعد من ذلك، ألا ترين من الحكمة أن يكون بينهم راع صالح يضع الوفق في قلوبهم ويسكب السلام على أنفسهم؟
تابع لرسالة إلى أخته
في 5 أيار سنة 1798
أستفيق كل صباح على دوي الجرس معتقدا أن ملاك الرب يناديني بتلك الدقات الهزازة وأستدعي الفلاحين إلى المعبد فيغدون جماعات ويسجدون حولي بعبادة وتقوى، فأشعر أن إله المساكين يهبط من السماء ويحل في نفوسنا. كم من زفرة تتصاعد من الصدور إلى أذان الفجر الطاهر، وكم ثقل من أثقال القلوب يرتفع إلى السماء على حرارة التنهدات كما ترتفع الدخنة من المباخر، وبعد أن أتلو آيات الإنجيل أعظ على مسامعهم المنتبهة بكلام الرب، فهذا الشعب الساذج يحب معرفة الأمثال الصالحة ...
وعندما أنتهي من عملي هذا أجلس إلى بعض الصبية الصغار فأعلمهم الهجاء مذوبا في نفوسهم لهيب الإيمان واضعا في شفاههم قطرات من حليب المحبة، ثم أعود إلى حديقتي فأحرث بعض زوايا صغيرة وأزرعها أزهارا من جميع الألوان أو أحصد الأعشاب لعجلتي وأجمعها كوما كوما على الأرض، وقبل أن ينتهي النهار أتفقد الفلاحين في أكواخهم مارا من باب إلى باب وفي يدي كتابي المقدس فأحيي هذا وأبارك تلك ساكبا في جميع النفوس قارورة الأمل، وهكذا ينتهي النهار بدون أن أشعر به! عندي كثير من الأشياء أود أن أقولها لك غير أن الجرس يدق، إلى اللقاء!
العهد السابع
عن قرية ولادته، 3 تموز سنة 1800
رب! بأية حالة رأيت أمي بعد غياب طويل؟ لم تشأ أن تموت في باريس فآثرت المجيء إلى قرية ولادتها، حيث قضت الحياة بالقرب من زوجها ورأت ولديها ينشآن في حضنها ويترعرعان تحت ذراعيها!
قضيت الليلة مصليا على حافة فراشها وعندما برزت نجمة الصباح قالت لي: «تشجع يا ولدي! إني أشعر بأصابع الموت تلامس جبيني، فسأتركك إلى الأبد، اذهب وأيقظ شقيقتك ... ولكن لا، لا تفعل، فأختك حامل وربما تقتلها رؤية النزع، فيجب أن تنجو بها وأن تضع حاجزا بين مشهد الموت وبينها»، فأشعلت شمعة وبعد أن صليت ساجدا على أقدامي وضعت في فمها قربانة الحياة ومسحت جسدها بالميرون، ثم قبلت جبينها باكيا وبعد دقيقة رفعت عينها إلي، وقالت: «جوسلين، جوسلين، لا أزال بحاجة إلى شيء آخر يا ابني.» - وما هو يا أمي؟ - أن تهبني الغفران، غفرانك يا ولدي ... فالتضحية التي رفعتها على مذبح حبك لي ولأختك تثقل ضميري وتعذبني!
فلم أجب وألصقت شفتي على يديها الباردتين! «آه! لقد أقفلت أبواب العالم في وجهك يا حبيبي، غير أني سأهيئ لك مسكنا أفضل من هذا، حيث الحب والسعادة لا يذبلان!» ثم شعرت بالموت يمر أنامله على أهدابها، فقالت «اتل على مسمعي تلك الصلوات الإلهية التي ترافق النفس إلى مقرها الأخير»، فرضخت، وكانت تردد ما أقول بصوت كأنما هو همس الموت في آذان الحياة، وفجأة انقطع صوتها فكانت تكمل الصلاة بين ذراعي خالقها، سقط الكتاب من يدي واستسلمت للدموع!
أول آب سنة 1800، على ضريح والدته، في الليل!
أيها الليل! اغمرني بأخيلتك السوداء، غدا أترك إلى الأبد هذه الأرض المقدسة، وهذا الضريح الذي يضم نفسي مع جسد أمي! آه! ليس بيني وبينها إلا ستار الموت على هذا السرير الترابي! لا يحول بيننا إلا طبقة من الرماد، طبقة خفيفة الثقل، غير أنها تحجب العالم بأسره! أيها الليل، دعني أرقد قريبا من أمي، ألامس شعرها اللطيف، أقبل جبينها الشاحب، أصغي إلى دقات قلبها الميت لأسمع صوت الله من تلك النغمات المأتمية! أبلل ترابها بدموع عيني وأجبله بزفرات قلبي! •••
رب! تجل لي بين هذه القبور! يا روح أمي، خاطبيني من عالمك اللانهائي، فالصلة التي كانت تربطنا على هذه الأرض لا تزال بيننا ولم يتبدل سوى الوقت والمكان! غير أن قلبينا اللذين فرقت بينهما مسافة الموت يتألمان سرا، وكل منهما يبحث عن مكان الآخر، أتسمعين الآن؟ إن عينيك ما عادتا تعرفان الزمان والموضع والرجوع والذهاب، وحبك ما عاد يشغل فراغ قلبك النسائي، ولكنه لا يزال يغلف نفسي بغلاف من الطهارة المقدسة! أما أنا فإذا جئت في الليل إلى هذا المكان الرهيب، أبلل ضريحك بدموعي وأذيب روحي في هذا الأثير الطاهر، فما ذاك لأن زفراتي تلهب حفنتك وتدب فيها حرارة الحياة فتصغي إلي بعين ومسمع، بل إن الآلام العذبة، تلك الآلام العمياء، تقود الأقدام على غير علم منها إلى حيث يذهب القلب!
تدفق! تدفق يا قلبي! أيتها الأرض، اشربي دموعي، فدموعي قطعة من كبدي! إيه تراب مهدي، ألا أقدر أن أعيد إليك هذا الجسد الذي جبلته بيديك! ألا أقدر أن أسكب حياتي دموعا من عيني، وأن أرجع هذه الدموع إلى حيث غرفتها، كما ترجع المياه التعبة من الجري وتدخل في الأرض على قيد خطوتين من ينبوعها؟ •••
أمي، ما قلت لك مرة: إن الانسان لن يعرف الحب الحقيقي إلا متى فقد ذلك الحب!
الحب! ألم أكن قطعة من أمي؟ ألم ترضعني حلب ثدييها؟ وتفتح نفسي ببنان حبها؟ وتدفئني بين ذراعيها؟ ألم أستنشق هواء صدرها الطاهر طيلة أشهر تسعة؟ ألم يوح إلي خفقان قلبها عواطف نفسها المحبة؟ ألم يكن جسدي كل جسدها؟ •••
أمي، عندما شببت تحت ذراعيك وفتحت أذني لنغمات صوتك العذبة، كم من عالم وكم من سماء أنارا حداثتي من خلال بسماتك! لقد كيفت عقلي بتعاليمك المقدسة، وكان طرف ردائك شفقي الجميل، وأشعة نفسي ذرة من ضيائك، آه! من كان يستطيع يوم ذاك أن يفرق بين ذينك الوجودين ويعطي كلا منا قسمته من الحياة، فاصلا إلى جزأين ما كان جزءا واحدا؟ •••
لقد كنا اثنين في شخص واحد يا أمي! كنت الجذع وكنت الغصن النضير! كنت الصوت وكنت الصدى! كنت الينبوع وكنت الماء! تلك وحدة عميقة وقوية، تلك وحدة النفوس التي لا يقوى على ملاشاتها سوى الله مبدع الكائنات! •••
أمي، لا أزال ولدك حتى عند موتك! أتقدر السماء أن تملأ فراغ نفس الأم في السعادة الخالدة، حيث الفضيلة تناديك إليها؟ لا! إن قلبك ليطلب ولدك أو العدم! آه! إني أؤمن بالعدم أكثر من إيماني بغيابك! أشعر بجبيني يضطرب كاضطرابه عند قبلتك، يقولون: إن الوجود الحقيقي هو بين ذراعي الخالق، فالخالق وطن الأحباء والبائسين!
العهد الثامن
باريس في 16 أيلول سنة 1800
أرجعت شقيقتي إلى ذراعي زوجها، لقد كانت العودة أليمة وعذبة! أليمة بما تحمله من الحزن والأسى، وعذبة لمرأى البنين الأطفال بعد غيبة طويلة! فثوب شقيقتي الأسود كان يحجب أفراحا تتغلغل في صدرها لدى كل وثبة من وثبات أولادها الصغار، فالأسف والحسرات التي قاستها بعد موت والدتي اضمحلت جميعها عند رؤية أطفالها! فكم من عاطفة تتراءى لدى كل طرفة من عينها، وكم من حب يتجسم في كل حركة من حركاتها! إن الحياة مزدوجة في قلوب الأمهات؛ فعندما يتوارى الماضي ويضطرب المغيب ترى الأم ذلك المستقبل يشرق من جبين أولادها بكل ما في النور من الأمل وينعكس على مغيبها كما تنعكس نجمة الصباح على مرآة الليل الراحل!
باريس في 12 أيلول سنة 1800
قبل أن أعود إلى منفاي الأبدي، أرادوا أن أبقى بينهم بعض أيام إلى أن تكون شقيقتي المسكينة قد ألفت الفراق، فتوهمت أني أتمكن من سمع ضجيج العالم في تلك المدة كما يسمعون الأمواج تتلاطم على الصخور من على كثيب قائم على مقربة من الشاطئ.
إن ضجيج الإنسانية ليزعج نفسي في هذه المدينة الهائلة! فعواصف النفوس تضطرم في باريس وتغلي غليان القدور! أسمع أصوات الشعب تزأر من بعيد كأنما هي محيط عظيم تتصاعد أمواجه وتصطخب اصطخابا يقرب إلى الشهيق المحزن العميق! يخيل لي أن لظى الشهوات يطلع من جهنم على ملايين الأرواح في هذا المحيط العجاج! وأن أسراب النساء والرجال تتلاطم أفواجا أفواجا مصعدة ضجيجها المخيف إلى أجواز الفضاء! أو أن صراخا رائعا يتفجر من ضمير الأرض بعد أن تكون الحمى قد تغلغلت في شرايينها ودبت في صدعها المريض! يا له من ثقل عظيم يضغط بشدة على النفوس عند مرأى الإنسانية سابحة في هذه البحيرة الفاسدة! يا لها عاصفة من عواصف العدم! يا له بحرا من بحور الألم! يخيل لي أن هذا الشعب يود أن يغرقني في لجة عميقة من لجج الفحش! وأن عين الله لم تعد تتبينني بين هذه الجماعات! وأني أشعر بجوع وعطش لم يشعر بمثلهما هذا الجم الغفير! وأن ثوبي يلتقط بأطرافه قذارة الجرائم والآثام! ويخال لي أيضا أني لست سوى نقطة ماء في هذا المحيط الخضم لا تؤثر في شيء من ارتفاعه وانخفاضه، أو ذرة من زبده، أو عشبة نابتة على ضفافه يلطخها بقذراته ثم يسحقها بأمواجه، وأني إذا سقطت تحت قدمي هذا الشعب لا ينتبه أحد إلى صراخي بل تمر المواكب المفترسة على جسدي بدون أن تكترث ولو بفكرة للذي يختبط تحت قدميها! ...
ثم إن خوفا عظيما يملك قواي في باريس! فنفسي تحدثني أن لورانس تستنشق هذا الهواء في هذا المحيط، وأنها تسمع هذا الضجيج، وترى هذه السماء، وتشرب من هذه المياه التي أشرب منها أنا! أجل! إن تلك اللؤلؤة النقية لتغوص في هذا الأوقيانوس وتهيم في هذه الصحراء الدنسة!
عندما أرفع نظري إلى مصابيح الشارع وأرى خيالا يضطرب في إحدى النوافذ أقول في نفسي: «ألا يمكن أن يكون خيالها هذا الخيال؟» ثم إني أرتعش لدن كل صوت أسمعه فأحاول ألا أرفع نظري إلى النساء مخافة أن ألتقي بوجه أتجنب رؤيته!
إيه! ليالي الجبل، ليالي السكون والصفاء! إيه قمر السماء المائس على قمم الأدواح الشاحبة، تلك الأدواح المنحنية أمام أنفاس البحيرات الفضية! إيه أشعة الفضاء البيضاء الذائبة على أعشاب المروج! إيه نسمات الأزهار ومياه الجداول! إيه أغاني البلبل عند الفجر! يا أيام الجهاد المقدس! يا ليالي فلنيج! أي متى أراك وأملأ عيني من جمالك العذب؟
باريس في 21 أيلول سنة 1800
رب لقد وضعت روحين في صدر شعبك، واحدة تنقاد إلى المجهول بفطرة مبهمة وتسبر بحار الشك مكتشفة ذلك الفكر مانحة إياه شكلا يجعله واضحا للإحساس الإنساني بعد أن تكون قد حولت الفعل إلى صلابة قوية، ثم تنزع ذلك الفكر من منجمه العميق كما ينزعون الذهب وتضربه قطعا من النقود حسب عادات العالم، وواحدة تظل قوية وثابتة كبركان إلهي ذي شرر ناري لا يفتأ يغلي غليانا شديدا، فتوحي عاطفة الحرب إلى جميع البشر متخذة هذا العالم ساحة للقتال الدائم، ويعتقد هذا الشعب أنه يخدم الله بقلبه والإنسان بدمه، شبيها لشعب موسى الذي قسم إلى فرقتين، فرقة ماتت لأجل إسرائيل في مطارح الأودية، وفرقة بقيت على المرتفعات لترفع ذراعيها إلى الخالق وتقدم له القرابين! ...
هكذا باريس فإنها ترمي بأبنائها في هوة النزاع الدائم، فلا أرى على أبوابها إلا كتائب من الجنود كأنما هي حصاد قد نما في سهول من الدم، ولا أرى إلا أعلاما ممزقة تنضم العساكر تحت وشيحها المقدس! ولا أسمع دويا إلا دوي المدافع تقذف الكرات من أفواهها! وباريس لا ترى في صباحها إلا غابات كثيفة من البنادق المضطربة على أشعة الشمس، ومع كل ذلك فإنها تنطرح على أقدام جلاديها، نازلة عند تعاليمهم، ملتوية تحت قبضتهم النحاسية كأنما هي عنق جيادهم أو قفازات أيديهم! آه! ذلك لأن الشعب نفسه هو الذي يدع الجلادين يثبون إلى شكيمه، ذلك لأن الإنسانية الواهية قد تقبلت من خالقها في أشد ساعات الخطر تلك الفطرة الغريبة، فطرة الوحدة والاتفاق!
إلى أين يقذف بهم هذا الموج الجارف؟ لماذا يندفعون إلى الموت بتلك البشاشة وذلك الفرح؟ إن عقلهم لا يدري شيئا من ذلك، ولكن الفطرة تعرف كل شيء، هم يذهبون، كما تذهب الكرات عندما تدفعها القوة! فيزلزلون الحاضر، ويدمرون الماضي، ويمحون سلطانا مندثرا على مرأى من جلالك يا الله! ثم يبنون ملكا لبعض الأقدار التي لا نعرفها نحن والتي تدرك أسرارها أنت! هكذا تصنع من الشعب آلة سرية لبعض الأسرار أيها المبدع، فالأمم أداة الأفكار بين يديك الجبارتين، والرجل الذي لا يرى إلا الغبار والدم، فيلعن ويجدف معتقدا أنك بعيد عنه وأن أبصارك لا تبلغ إليه، لا يقدر أن يدرك أن من العمل المنجز يولد عمل آخر، وأن الأرض يجب أن تحرث قبل أن يزرع فيها القمح، ذلك لأنه يكون أسيرا في عقله الضعيف! •••
كانت قافلة الإنسانية ذات يوم معسكرة في غابات تمتد أمام شاطئ ذي منحدر صعب غير قادرة أن تمد طريقها إلى أبعد من ذلك، وكانت الأشجار المرتفعة تفيء عليها حائلة بينها وبين الشمس والهواء، وكانت الخيام تحبك حبالها على الأغصان الخضراء فتؤلف مدنا وقرى حول الجذوع الضخمة، وكان الرجال يأكلون خبزهم ويتحدثون آمنين وهم منتشرون على الحضيض، وفجأة نهضوا نهضة واحدة وأعملوا فئوسهم في تلك الأشجار فترامت تلك القبب العاليات، حيث كانت الطيور قد بنت أعشاشها، وخرجت حيوانات الغابات من وجارها، وهربت الأطيار من تلك الأدواح القديمة العهد محدقة إلى الخرائب بعيون ملؤها الرعب غير مدركة سبب ذلك العمل، لاعنة تلك اليد الأثيمة التي هدمت مآويها! وبينما كانت الحيوانات تتفطر شفقة على الإنسان كان هذا يكمل دماره العظيم ملقيا على الهوة تلك الجذوع لكي يصنع منها جسرا يمر عليه! هكذا يصنع الوقت ليمر على أنقاض رسومه! إيه مبدع الكائنات، قد بيدك تلك القافلة على طرق السلام كما قاد موسى شعبه إلى أرض الميعاد!
باريس، 21 أيلول سنة 1800، في المساء
يا لها من حمى تتآكل جسدي! فلتطرد من مخيلتي تلك الصورة القتالة! أحلم هذا؟ أخيال ما رأيت؟ آه! نعم هي! أيها القلب عبثا تحاول أن تخطئ نفسك، فما من قوة يمكنها أن تطعنك بأشد من تلك الطعنة! أجل، كان ينقص كأسي تلك المرارة الأليمة!
ذهبت أمس مساء إلى الكنيسة لأسمع كلام الله من فم كاهن مسن كان قد هرب من وجه الجلادين، فلما توسطت المكان رأيت الشعب قد ملأ الرواق وتزاحم على الباب والنوافذ فاختبأت في الظلام على أقدام دعامة فاتمة، حيث كانت الشموع العديدة ترمي أشعتها المضطربة وألقيت جبيني بين يدي فسمعت وطء أقدام ورائي وأصواتا مختلفة لا تكاد تسمع لخفوتها، وفجأة رفعت هذه الأصوات كأنما هي دمدمة السنابل عندما تلامسها أنامل النسمات، فشعرت أنها هتاف دهشة وتعجب فالتفت إلى مصدرها لأرى مسبب ذلك، غير أن المرأة كانت قد مرت فلم أبصر منها سوى قدها الطويل وأكتافها العارية، ثم سمعت أحد الشبان يقول لرفيقه: «أجل إنها هي بعينها، فهل في السماء جمال كجمالها الإلهي؟» فأجابه رفيقه: «لا أظن ذلك، فما هو إلا طيفها على ما أرى؛ لأنها تخشى حتى خيال المعبد، وأقدامها الجميلة لم تطأ مرة فناء الكنائس! يقولون: إنها باعت نفسها من اليأس وإن قلبها لن يقترب إلى الهياكل المقدسة!» فقال الأول: «بيد أني لا أشك في أنها هي بعينها، وإذا أردت برهانا على ما أقول فانظر إلى نطاقها الأسود وإلى طوقها الذي يشير إلى أنها أرملة، وانظر إلى الذي يتبعها، أليس هو شهيد أمس وصديق اليوم؟ فليسرع إلى السعادة قبل أن تفوت! فأجابه الثاني: «ولكن ماذا جاءت تصنع في هذا المكان؟» - جاءت كما جئنا نحن، لتسمع كلام الواعظ! يقول البعض: إنها منذ فقدت حبيبها الأول أمست تميل إلى سمع الأرغن يدق أغانيه في هدأة الليل ...
عند هذا نهض الواعظ، وبعد أن لفظ آية ذهبية أخذ يتكلم عن السعادة وعن التضحية في سبيل الإيمان، ثم تطرق إلى ذكر الشهداء الذين ماتوا لأجل الكنيسة والملك حتى كاد يحس قلوب السامعين بعظمة ألفاظه، وكادت تتفجر الحسرات من الصدور، وتتدفق العبرات من الأعين، ولما انتهى من عظته، نهضت إحدى النساء وفي يدها قارورة وجعلت تطوف بين الشعب جامعة حسنة القداس حتى اقتربت من مكاني فرفعت نظري إليها، ولما تلاقى النظران شعرت برعشة تتمشى في أعضائي ورأيتها تحدق إلي من خلال أحلام بعيدة كأنما هي تود أن تتبين خطوط وجهي لتتأكد ما إذا كان الذي يتراءى لها خيالا أم حقيقة، وكنت أشعر بطيفها عائدا إلى عيني من أعماق تذكار بعيد، ثم أبصرتها تصفر اصفرارا غريبا وتتحول من صورة حية إلى تمثال لا حراك فيه، وخيل إلي أني أسمع صراخا أليما لا يكاد يتصاعد من فمها حتى يختنق ويموت في نفسها، وأخيرا عادت إلى محلها شاحبة اللون بعد أن وضعت بين يدي الكاهن ما جمعته في القارورة، فتلاشت قواي وغشيت عيني سحابة من الألم فلم أعد أشعر بما حولي ولا أدري كم مضى علي من الوقت في هذه الحالة! •••
عندما استفقت من غيبوبتي كان المعبد أخرس فارغا، لا يضيء فيه إلا شمعة واحدة يضطرب شعاعها لدى هبات النسيم، فسمعت الساعة تدق ثمانية في سكون الليل، فهرولت هاربا من دعامة إلى دعامة، وكانت نفسي تحاول الهرب من صدري لشدة الألم! رب! كيف رأيتها؟ بأية حالة رأيت تلك الزهرة ملطخة في أوحال العالم ؟ أليست تلك الفتاة ضحية فضيلتي وعبادتي؟ آه! أية ريبة قتالة تولد في نفسي؟ رب! لقد أحييت نفسا وأمت نفسا! أعدالة صحيحة هذه؟
إلى لورانس، في 12 أيلول سنة 1800
يا ملاك الماضي ورمز فؤادي
كيف أمسيت مسكنا للفساد
طالما قد بحثت عن شطر نفسي
باكيا فيك مهجتي وودادي
أنت تحيا، أواه أي حياة
لم يكن ما نظرته باعتقادي
سكب الطهر في فؤادك نفسا
ليس حتى تبيعها بالمزاد
أترى أنت ذاكر يوم كنا
نتلهى بنغمة الأعواد
ونشيد الغدير في الليل شعر
مزج الحب وحيه بمدادي
عد إلى الله يا مسبب تعسي
لا تخضب مستقبلي بالسواد
رب! ما كنت حافظا غير رسم
لا تكدر ألوانه في فؤادي
عد إلى الحب لا تظل بعيدا
كيف يهني لك الحياة بعادي
وإن اخترت أن تعمد أيضا
فدموعي وقف لهذا العماد
آه لورانس كم رأيتك في حل
م ليالي مثل زهر الوادي
قربك الزوج باسما بهناء
وحواليك أجمل الأولاد
باريس في 16 أيلول سنة 1800
منذ تراءت لي وعرفت الشارع الذي تسكنه أصبحت أتوق إلى منفاي الأبدي بين جبال فلنيج، حيث أصغي إلى أصوات السماء وأنغام الطبيعة، نظير آدم عندما نفي من حدائق الله وجلس يتسمع إلى أصوات السعادة تبتعد عنه!
هذه الليلة، خرجت إلى الظلام الحالك وكان الشتاء المتساقط على الرصيف يخنق وطء أقدامي المتثاقلة، ولما بلغت الفندق، حيث تسكن لورانس جلست في زاوية مظلمة على حافة مقعد حجري كما يجلس الفقير على أبواب الأغنياء فأبصرت الشباب تقله المركبات الفخمة إلى أماكن اللذات، حيث ينطرح بين أذرع الغواني باذرا ما في جيبه من المال وما في قواه من الفتوة، وحولت نظري إلى زجاج النافذة فشاهدت الجباه السكرى بخمرة الأهواء تلمع على ضياء المصابيح، وسمعت أصوات النساء والرجال وأنغام الموسيقى كأنها نسمات الملذات التائهة، وشعرت بهذه الأفراح تغرز في نفسي حديدة ملتهبة وهي صاعدة من هذه الجدران الرطبة، فخلت أن النزع والموت يضطربان في كل صدر من تلك الصدور، وأقدمت على الدخول إلى تلك الحفلة غير أني عدت فترددت قائلا في نفسي: «إذا دخلت فجأة وتلاقى بصري ببصرها، إذا حطمت بأقدامي هذه الكئوس الملأى باللذات، إذا نزعت هذا الملاك من بين هذا الفساد وأرجعت البراءة والحياة إلى جبينها الشاحب، أجل، إذا فعلت ذلك فأي حق من الحقوق يخولني أن أكون بريئا تجاه القانون؟ ألم أرفض أن أكون أخاها؟ ألست غريبا عنها وهي غريبة عني منذ تلك الساعة التي ودعتها فيها إلى الأبد؟ آه! لم يعد يحق لي أن أباركها، وأصلي من أجلها، وأبحث عنها وأبكيها إلا في الله! لم يعد يحق لي أن أسرع لنجاتها، وأنا الذي تمنيت مرارا أن أموت في سبيلها!» قلت ذلك وضممت حافة الحجر إلى صدري ثم أجهشت بالبكاء مصليا! •••
رب اغفر لها! إنها لم تجئ إلى هذا المكان إلا لتبحث عن ذلك الحب الذي طرحته على أقدامها وهي فتاة! أنا وحدي حفرت في قلبها ذلك الفراغ الذي لا تملؤه سعادة شاحبة كهذه! فليسقط العذاب على نفسي مع الجريمة! اضرب الخادع يا الله ودع الضحية آمنة! أرجع إلى ذراعيك أيها الراعي الصالح تلك النعجة الضالة! تلك النفس التي شربت كأس الحب وتحاول أيضا أن تملأها من ينبوعها الناضب، من يدري ماذا كانت السماء قد سكبت في إنائها لو لم تحطمه تحت أضراسها؟ من يدري أي كنز لا يزال مختبئا في نفوسها؟ من يدري إذا لم تكن تتمنى أن تكون المجدلية لتذرف دمعها على شعرها وتغسل به ذنوبها الماضية مذيبة على قدميك طيوب نفسها التائبة! رب! اقبل دموعي عوضا عن دموعها، ولتطهر خطاياها بماء عيني!
أنصف الليل وسادت سكينة عميقة في ذلك الفندق، فإذا بي أسمع يدا تفتح نافذة فوق رأسي، وكان القمر قد برز في السماء وألقى أشعته الصفراء على شرفات المنازل، فرفعت عيني فتراءى لي خيال امرأة، ولما أمعنت النظر فيها تبينت نحولها الجميل، فإذا هي لورانس! لقد أنضج العالم جمالها الملكي بدون أن يذبله! لورانس! أجل، أبصرت عنقها الطويل منحنيا بألم على كتفها العارية كأنه يحمل أثقال الملل والتذكارات، ورأيت وجهها الشاحب تنعكس عليه ألوان البدر، وشعورها الشقراء تتدلى على حديد النافذة، وشممت رائحة النسيم تنبعث معطرة من كل طية من طيات ردائها! •••
رفعت رأسها وشخصت طويلا إلى القمر كمن ينظر إلى صورة مؤلمة، ثم أطلقت زفرة من أعماق صدرها وألقت ذراعيها بوهن، قائلة: «واحسرتاه!» وبعد هنيهة سمعتها تردد لحنا جميلا كنا ننشده معا في تلك الجبال وما كادت تصل إلى آخره حتى تحول اللحن إلى شهيق وتقطع في الظلام، فأغلقت النافذة وتوارت عن نظري!
آه! إذن كنت تفكرين بي يا لورانس، ولم يكن بيني وبين سمائي إلا خطوتان اثنتان! لم يكن بيني وبينك إلا موجة من الهواء، أو نفس أطلقه من فمي، أو اسم أناديك به! إن نغماتك العذبة قد ملأت فضاء قلبي، فالهواء الذي كنت تستنشقينه قد حمل إليك لهاثي المضطرب وصراخ نفسي الخافت! رب هل انتصرت على ضعفي؟ إن سكوتي ليضع اللانهائية بيننا! فأنا أبتعد من هذا المكان مضطرب القلب، واهي القوى، تاركا نفسي ونفسها على أقدام رحمتك!
العهد التاسع
فلنيج، 12 تشرين الأول سنة 1820
لقد عدت إلى سجني الأبدي كما يعود الطائر الكسير الجناح إلى ثقب في الحائط، حيث يهن ويموت!
في المساء، أرى الفلاحين يحيونني من بعيد وهم منتشرون أفواجا أفواجا بين كوم السنابل، وعندما أدخل إلى باحة مأواي تنهض مرتا وفي يدها مغزل وتفتح باب غرفتي بدون أن تتلفظ بكلمة، فيثب كلبي الأبيض على ثوبي ويجعل يعض حذائي أو يلجذ يدي. أيها الكلب الأمين، أية رحمة وضع الله في صدرك لتحب الذين لم يعد يحبهم أحد؟ يشهد الله أني ما رفستك مرة برجلي ولا قلت لك كلمة تؤلم حنوك بل إني أحترم دائما رفقك الجميل ورقة قلبك كما يجب على كل إنسان أن يحترم أية مخلوقة كانت من خلائق الله، آه يا صديقي «فيدو» يا أخي المسكين! إن السكوت ليفهم علاقتنا الخرساء عندما تنظر إلي تلك النظرات اللطيفة، فنفس من أنفاسي يكفي أن يوقظك وأنت منطرح على حافة سريري، حتى إذا قرأت حزني في عيني لا تلبث أن تبحث عن سببه بين طيات جبيني وتعض يدي بشفقة وحب لكي تلهيني عن أفكاري السوداء وتسكن ما يجيش في صدري من الألم! أجل، إن الحب يفوق الذكاء، فاقترب أيها الصديق، يا آخر أمل يضيء في سراج الصداقة، اقترب مني ولا تخف أن أخجل بك أمام عيون الله، تعال والجذ بلسانك عيوني الدامعة وضع قلبك بالقرب من قلبي، وليحب بعضنا بعضا أيها الكلب الأمين!
8 تشرين الثاني سنة 1800
مات بائع السلع المسكين ليلة أمس، فلم يشأ أحد من الفلاحين أن يعطي خشبا لتابوته حتى إن الحداد نفسه أبى أن يبيع مساميره قائلا: «هذا إسرائيلي جاء من حيث لا ندري، فلنرمه في هوة بين الصخور كما نرمي كلابنا عندما تموت لئلا يدنس مقابرنا المقدسة بجسده»، وكانت امرأته وأولاده يستعطفون المارة بدون جدوى، فأشعرت صدفة بهذا العار الإنساني والشكوك الفضاحة فأسرعت حالا وأخذت أوبخ هؤلاء المعارضين المسيحيين على قساوة نفوسهم، وقلت لهم: «اذهبوا وانزعوا أخشاب سريري واصنعوا منها تابوتا للميت»، ولكي أعطيهم أمثولة في التساهل وأشرح لهم كيف أن الله قد أوجد الشمس ليستنير بها كل إنسان من أي مذهب كان، وكيف أن النعم قد أسبغت علينا جميعا بدون تفاوت سردت على مسامعهم هذه القصة الوجيزة، قائلا: «بينما كان البشر يبحثون عن مقر لهم في العهد القديم كانت جماعة من الرجال قد هيأت مكانا لها على ضفاف النيل، وعندما طابت لهم الإقامة أمام الماء العذب قالوا لبعضهم: «إن هذا النهر لإلهنا الوحيد؛ فهو يهب الحياة للذين يردونه ولا يحق لأحد سوانا أن يتمتع بمياهه.»
وفي ذات يوم وصلت قافلة إلى ذلك النهر بعد أن تاهت زمنا في الصحاري الواسعة وأرادت أن تملأ قربها من الماء، فما تردد هؤلاء الرجال أن طردوها قائلين: «ماء السماء لنا وحدنا فلا يحق لأحد أن يشرب منه ويحيا فعودوا من حيث أتيتم لأنكم لستم بشرا.» وكأن ملاك الرب سمع خطبتهم، فقال في نفسه: «أف لعقول هؤلاء الرجال كم أنها ضيقة!» ولكي يعلمهم أن ماء السماء ملك لجميع الناس، نادى شعبا كان متخذا وجهته النيل ليستقي من مائه وفتح له حياض السماء فهطلت المياه بغزارة حتى ارتوى ذلك الشعب التائه في مجاهل الدنيا وملأ قربه من البحيرات العديدة، إذ ذاك رفع الملاك صوته وقال لعباد النيل: «أيها الشعب الأحمق، إن الغيوم تسقي في الأماكن البعيدة ذلك الشعب الذي ترفضه أنت، وينبوعها أرفع وأعظم من ينبوعك، اذهب وجل في العالم تجد أن لكل ذرية نهرا يتحدر من غاباته، وأن جميع تلك السيول تولد من مكان واحد، فالله يسكبها ساعة يشاء ويحولها إلى أنهر وجداول، إياك أن تمنع ماءك عن الذين بحاجة إليه أيها الشعب الجاهل، واعرف أن لك إخوة على الأرض وأن الذين لا يملكون ما تملك عندهم الأمطار في الشتاء والندى في الصيف، وأن الله لا يفرق بين شعب وآخر فكل شعب هو شعبه وكل ماء ماؤه.»
أتعتقدون أن الأشعة الإلهية هي ملك لكم دون سواكم؟ أتعتقدون أن ليس وراء قممكم هذه إلا الظلمات؟ وأن الذين لا يستنيرون بمذاهبكم وأديانكم يسيرون عميا في طرقات الموت؟ لا! بل تيقنوا أن الله ينبوع النور يسكب ضياءه في جميع النفوس وفي كل الأجفان، وأن لكل رجل يومه ولكل عمر أشعته، فاحذروا أن تقيموا بين الله وبين إخوتكم خيال كبريائكم ويد غضبكم!»
هذه المغزاة أثرت في نفوسهم وبدلت عواطفهم فرضخوا لإشارتي طائعين!
الفلاحون
مزرعة فلنيج، 16 أيار سنة 1801
أحيانا، بعد أن أكون قد تلوت صلاة الصباح أخرج من غرفتي متأبطا كتاب التوراة وأهيم في مجاهل الحقول متصفحا سفر الطبيعة صفحة صفحة، أجل، إن الذي يستطيع أن يقرأ مثلي هذا الكتاب العظيم لا يجب عليه أن يستسلم للملل أو يتظلم من الحياة!
هذا الصباح، دفعتني نفسي إلى التجوال في أعالي القمم فبلغت مرتفع هضبة وعرة تنبسط على سفحها بحيرة جميلة ويحيط بها جليد تكتنفه أشجار الحور والصفصاف! بلغت تلك الهضبة فتراءت لي أغصان الكستنا والأدواح القديمة العهد تجزئ في الفضاء قببها المفرضة كأنما هي جدران برج قديم أعمل الزمن في حجارتها حديده القاطع! رأيت تلك الأدواح تعير السماء زرقة أشد من زرقتها وتنفرج عن سهول واسعة تفيء عليها بظلالها الغضة فتدع الناظر يرى من خلال أغصانها تلك البحيرة الفضية، وقد لاعبت الشمس شعاعها الذهبي على تموجات مياهها، وذلك القارب الصغير ذا الأجنحة البيضاء يجري مع النسمات كما يمر جناح الطائر من غصن إلى غصن، ورأيت الأوراق المرتوية من الليلة الرطبة تتدلى بعذوبة ولطف وتقطر قطرة ما في طياتها من الأنداء المضطربة، فأسندت ظهري إلى بعض الجذوع وجعلت أسرح طرفي في جميع الجهات، فإذا بي أسمع وطء أقدام صاعدة ذلك المرتفع وأصواتا يتخللها عجيج البقر، وبعد برهة قصيرة أبصرت فلاحا جاء يحرث قطعة من الأرض ومعه بقرتان وسكة وبغل يقل امرأته وأولاده، ولما اختمرت مخيلتي بمشاهد الطبيعة أخذت قلما وورقة ودونت ما أملى علي الجمال! •••
جلس الرجل على جذع شجرة تاركا بقرتيه تلهثان ومسح بيده عرق جبينه، بينما كانت امرأته وأولاده يجمعون الدردار ويلقونه أمام البقرتين، وبينما كانتا تجتران بسكون وهدوء كان الظلال ينطوي شيئا فشيئا تحت الشمس الصاعدة ويموت على أقدام الصخور وبين الأشجار. بعد برهة قصيرة نهض الفلاح ووضع النير على عنقي بقرته وأخذ المقبض بيده ثم اتجه إلى طرف الحقل ليفتح الأتلام. •••
أيها العمل، يا سنة العالم المقدسة، كل أمر ينفذ لدى إرادتك! يجب أن ترطب الأرض بعرق الجباه لكي تخصب وتنبت! يجب أن يشق الإنسان أحشاء تلك الأم، حيث تذر الأثمار والزهور، كما يعض الطفل ثدي أمه ليجري الحليب في فمه! •••
هو ذا التراب يتشقق تحت المحراث ويتراكم قطعا قطعا، فتتلوى الديدان والحشرات في أحشائه، وتتفرق الأعشاب والجراثيم هنا وهناك، فيدوسها الفلاح برجله ويغرز محراثه بشدة في الأرض، فيثب التراب من أعمق أعماقها! •••
أيتها الأرض، أنت تحيين وتحيين! لقد كانت أحشاؤك جنة قاحلة، غير أن الطبيعة التي كانت قد أخفت عن عيون الرجل أسرارها ومقدراتها، عادت فكشفتها له تحت أول تلم من أتلامها، عندما تشققت الأرض لأول مرة، وشربت عرق الإنسانية الطاهر، نشرت السماء طياتها وخفقت عروق التراب فأنشدت الملائك المستغربة ثاني معجزة من معجزات الله! •••
عند هذا، نهضت الرجال المسحورة وأوثقت بقرها على العجلات، فتدفقت المدن في مطارح السهول وأقلت المراكب على أجنحتها العظيمة، كما تقل السنونو إلى أعشاشها، قوت الأمم! •••
ولكي يحفظ كل قسمته، القسمة التي حرثها بيده، وضع حدا بين قطعة وأخرى، وشعر بالعدل في قلبه فسن قانونا لجميع الحقوق نشره في كل الأصقاع، ولكي يقدس شرائعه لجأ إلى الشريعة العليا وطلب القاضي فرأى الله! •••
وأما الأهلون، فإنهم بدءوا ينمون من سنة إلى سنة، ونشأت محبة الوطن في صدورهم، حصاد المجد والقوة، وقد زرعه آباؤهم في السهول المقدسة! •••
وأما المعابد - معابد الخالق العظيم - فقد خرجت من أحشاء الصخور، واقترب إليها الإنسان باكيا! فسر الله من أصوات تمجيده صاعدة من فم الرجل، ولكي يحفظ تذكار هذا التمجيد تقبل السنابل على مذبحه! •••
هو ذا الفلاح وامرأته يقودان البقرتين إلى نبع يتفجر من صخرة، فلتشربا مع هذه المياه نسيان الأتعاب! رب! اهد كل إنسان إلى ينبوع يرد منه، فللإنسانية ساعات عطش مؤلمة، وأفض من ينبوعك السري قطرات الحب والسلام على الشفاه المجففة! •••
آه! كل عنده هذه القطرات الروحية، فمنهم من يشربها من قلب امرأة، ومنهم من جبين طفل أو ولد، أما أنا فينبوعي ليس في هذه الأرض! •••
مياه هذا العالم مرة عند من شربت شفتاه قطرات الحب! لا، ليست مياهي في هذا المأوى، بل هي في زفراتي وآلامي، في شهيق صدري، ونزاع أفكاري، وأما قطرة الأمل فمن دموعي أشربها! •••
هو ذا الفلاح قد حل وثاق بقرتيه فنامتا بعيدا عن المحراث في ظلال أوراق كثيفة وجلس مع امرأته وأولاده إلى طعام مؤلف من الثمار والبيض وقطع من الخبز، وعندما انتهوا من الغذاء أخذت المرأة ابنها الطفل وأعطته ثديها ليرضع ثم أسندت ذراعها إلى جنب زوجها ونامت نومها الهادئ! •••
ارقدوا، ارقدوا تحت غيوم الأوراق الخضراء ولتجمعكم سنة الحب أيها الرجل والمرأة والأولاد! إيه موقد الحب الخافق، يا شعلة الوجود الطوافة، أنت تصلين القلب بالقلب والنفس بالنفس، وتحكمين عرى الحياة بحبالك السرية! •••
هو ذا الجرس يدق من بعيد فيقف الفلاح لدى ندائه المقدس حاسر الرأس، ويجمع يديه القويتين رافعا نفسه فوق الأتلام، بينما يكون الأولاد ساجدين على ركبهم، جامعين أناملهم الصغيرة في يدي أمهم! •••
أيتها الصلاة، يا نسما يهب على الأنفس، إن قلب الأم يتنفس بك، والهواء العاصف ينشر أصواتك، وشفاه الأطفال تتلفظ بك، والأطيار تصغي إليك في غاباتها، أنت تصعدين من مكامن الطبيعة كهمس سري لا يدرك معناه إلا ملائك الرب، فالتنهدات، والأوجاع، ودموع الثكالى والمظلومين ليست إلا تسابيح وأناشيد! •••
يا همس الصلاة المقدس، أنشد أغنية آلامي في فؤادي الوجيع، ومر قلبي الذي تحطمه قيثارة النسمات السماوية، أن ينفجر نعما وبركات! •••
رب! كما يزرع الفلاح بذوره في تراب السهول ويحصدها أيام النضج، هكذا حكمتك تبذر وتحصد الإنسانية - تلك البذور النبيلة التي تنبت للخلود - رب! اسكب أنداءك على مروج الحياة المعذبة، وليطلع الطين الحي رجالا وزهورا!
في 21 تشرين الثاني سنة 1802
جاءني رجل يقول: «في مزرعة صغيرة قائمة على طرقات إيتاليا امرأة مريضة لا تزال في ميعة شبابها تطلب كاهنا» أأصل قبل فوات الوقت يا ترى؟
عن ملتافيرن في 22 تشرين الثاني سنة 1802
لم يكن ينير الغرفة المظلمة إلا مصباح واحد، وكانت أخيلة الخدور تحجب الوجه عن نظري، فلم أستطع أن أتبين في تلك العتمة إلا جبينا شاحبا مستلقى بوهن على وسادة السرير، وشعورا شقراء مستطيلة مبعثرة هنا وهناك! «يا أبت»، خرجت هذه الكلمة كالهمس من فم المرأة ونفذت إلى أعماق نفسي، فلم أدرك أي تذكار مبهم رن في صداها، غير أني تجلدت وجلست مضطربا إلى وسادة السرير، عفوك يا أبت وغفرانك، لقد كلفتك أتعابا كثيرة بطلبي إياك من تلك الأصقاع البعيدة، فالطرق شديدة الوعورة، والأيام باردة وقصيرة، ولكنك تذكر أن المسيح كان يحمل نعجته على ظهره مهما كانت حقيرة غير خائف أن يلطخ ثيابه أو يدمي قدميه، واحسرتاه! ما من أحد كان جاحدا شرفه ودينه كما جحدتهما أنا: بيد أني كنت فيما مضى أحمل اسم الله في قلبي وأود اليوم، قبل رحيلي من وادي الآلام، أن أعود فأموت على أقدام الراعي الصالح، طالما حولت مسمعي عن صوته العذب ورميت نعمه ساخرة بها، ولكن قبل أن تحكم على ذنوبي حسب شريعة الإيمان، تنازل يا أبت واسمع قصتي كصديق ذي عاطفة ووجدان! ماتت أمي وأنا في أيامي الأولى وألقتني بين ذراعي والد أحبني حبا لا حد له وسقاني حنانه وعطفه إلى أن بلغت الخامسة عشرة فتوفي والدي وتركني يتيمة! يتيمة؟ آه لا! لا أدري من الذي أنزل من السماء صديقا تعهدني طيلة عامين! شابا ذا جبين ملكي وقلب كقلب الأم، ذا بسمات إلهية وعين ملؤها أشعة وحنو! بقينا عامين منفردين معا في الجبال، وكنت أحبه بدون أن أفكر مرة بذلك الحب، وكان يحبني! غير أن ثيابا خداعة كانت تخفي كنه أمري، فنشأ حبنا البريء الطاهر في كهف مظلم! أجل! كان يحبني! عفوك يا أبت واغفر لدموعي! إن شفتي المحتضرتين لتستعذبان هذه الكلمة الطاهرة! كان يحبني! أجل، هذه الكلمة لا تزال تدوي على حافة قبري! ومهما كانت حياتي ملأى بالعار فالله لا يتخلى عني في الساعة الأخيرة؛ لأنه أحبني! ...»
كانت نبرات صوتها ترتفع ارتفاعا بطيئا غير أني ما عدت أسمع شيئا: لورانس! ... أكانت هي! ما عدت أتبين إلا أشباحا تمر في الغرفة أمام نظري التائه، وكانت أفكاري تتدفق كالسيول من جبيني الشاحب! فحدثتني نفسي المضطربة أن أقتلها قبل منحها الغفران المقدس غير أني عدت فتجلدت قائلا في نفسي: «أأقدر أن أرفض مشيئتها وأنا رجل الله؟ آه لا! من يستطيع أن يمنحها غفرانا أقوى من غفراني؟ من يتمكن أن يذوب في أجفانها روح الله غير قلبي المحب؟ أية دموع تمتزج في دموعها أطهر مما في عيني؟ أليس الله هو الذي أرسلني إليها؟» كنت جامدا كالتمثال أمام هذه الشكوك إلى أن تسكن جأشي فسمعت صوتها يستعيد نبراته قائلا: «واحسرتاه! ما كادت يد القدر تفرق بيني وبينه حتى همت على نفسي في مجاهل العالم، وارتميت في لجج العار والفحش! فالزوج الذي جمعني به الحظ دون قلب لم يلبث أن أخذ بجريمة حبي؛ لأن احتقاري له وسأمي منه حولا عطفه وتعلقه بي إلى غضب ومقت، فمات حسرة وكان يعبدني، وما غفرت له حبه إلا في ساعته الأخيرة! ... •••
عند هذا، أمواج من عباد جمالي تدفقت على قدمي فتركتهم يحبونني بدون أن أحب أحدا منهم؛ لأن طيف صديقي كان يحيط بي كالغيوم ملقيا بيني وبينهم جمال صورته العذبة، آه! ويل للذي يرى أمام عينيه رؤيا لا تمحي! •••
وأخيرا كنت أحاول وأنا سكرى بالتذكارات المحرقة أن أحب جبينا من تلك الجباه المعفرة على قدمي، ولكن كنت أشعر بروحي تتلاشى الذكريات، باردة كالرخام في وسط تلك الشعلة التي أضرمتها بيدي، فأبعد ذاك الجبين المثلج قائلة: «اذهب فما أنت الذي أحب!» أجل، كنت أنظر إلى ذلك الإله الذي نزع صديقي من بين يدي نظرة الانتقام، وأستطيع الآن أن أقول لك، أمام ذلك الإله نفسه، أمام الحقيقية، أمام ذلك الطيف الحبيب وتلك الذكريات المقدسة، أجل أستطيع أن أقول لك: إن قلبي لا يزال إلى الآن طاهرا عذريا! أجل، ونفسي لا تزال عذراء وستحمل إلى القبر تلك الصورة الشريفة - صورة من أحبت! ... •••
كم أني أتمنى أن أرى قبل الموت ذلك المنفى الجميل، تلك الجبال المرتفعة، ذلك الكهف الطاهر، وأجتمع ولو بالحلم بحبي السماوي وبراءتي الأولى، كم مرة أحييت بالتذكارات تلك الصخور المنحنية، وضممت إلى صدري ذلك الطيف الجميل!» •••
عند هذا صمتت قليلا فسمعت أسنانها تصطك وأبصرت يدها تضطرب، ثم أردفت قائلة: «أنت تعلم الآن ماذا كنت فحاكمني يا أبت!» فرفعت عيني إلى السماء وبسطت ذراعي فوق رأسها وباركتها بقلبي مصغيا إلى ذنوبها، وعندما انتهت قلت لها بعض كلمات تخللتها الدموع وراودتها الزفرات وقبل أن أسكب البراءة في نفسها قلت: «أنادمة أنت على جميع ذنوبك يا سيدتي؟» فأجابت «نعم! إني نادمة على كل ما يوبخ ضميري ويثقل على قلبي، نادمة على أيامي المتلفة، على حياتي الدنسة، نادمة لأني أشعلت زفراتي في قلوب نجسة بعد أن أشعلها الله في قلبين، أجل إني أندم على كل ذلك ولكن لن أندم على أني أحببته! فإذا كان حبي مذنبا أمام الله فليعذبني انتقامه في اللانهاية! لا أقدر أن أنزع نفسي من ذلك القلب حتى في آخر دقيقة من دقائق حياتي! فرسمه الجميل منطبع في عيني المائتتين! آه لو كان هنا الآن، لو أراد الله أن يعيده إلي! لو نظر إلي من خلال الموت وسمعت صوته العذب لشعرت بالحياة راجعة إلي؛ لأن نغمات صوته تسكن آلامي حتى على حافة القبر!»
فصرخت قائلا: «لورانس! لورانس!» فنهضت لتتبين وجهي ولما وقع نظرها على نظري، قالت: «رب! هذا هو!» - نعم يا لورانس، هذا أنا بعيني، أنا صديقك القديم، أنا أخوك حيا بالقرب منك! لقد أرسلني الله لكي أعطيك يدي وأمهد لك طريق النجاة! لقد جئت أغسل ذنوبك بدموعي! فخطاياك يا ابنتي ليست إلا تعاستك، أما أنا الذي ألقيت الاضطرابات في حياتك، أليست ذنوبك ذنوبي أنا؟ أجل، إني أحملها على كاهلي وأكفر عنها بآلامي! تقبلي يا لورانس من قلبي ذلك الغفران الذي لن يعطى إلى أحد! تقبلي من هذه اليد، التي خطفها الله نفسه من يدك، إكليلك الناضج قبل أوانه وحياة الخلود! لورانس، إني أحلك من خطاياك، باسم الآب!
وبينما كنت أكمل إشارة الصليب شعرت بيدها تضغط على يدي وتقربها إلى فمها بلهفة وشوق وقبل أن أنتهي كانت روحها قد فاضت مع تلك القبلة الأخيرة!
بقيت يدي طيلة الليلة في يدها الباردة الصفراء إلى أن برز الفجر فجاءت نساء المزرعة لتواريها التراب ...
عن مزرعة ملتافيرن 24 تشرين سنة 1802
عندما فتحت وصيتها وجدت أنها تضع بين يدي كل ما تملك، ثم إنها تتوسل أن يدفن جسدها في قبر والدها وأن يتعهد دفنه كاهن واحد في ظلمة الليل! •••
آه يا لورانس! أنا هو الكاهن الذي سيرقدك في سريرك الأبدي! إني أتقبل هذا الجسد ولكني أرجع المال، فما أنتسب إليك وتنتسبين إلي إلا في السماء!
في 26 تشرين الثاني سنة 1702 عن مغارة النسور
رب! أطلق سبيل خادمك! فقد شرب قارورة الحزن، وقطع طريق الآلام!
في 27 تشرين الثاني
جاء أربعة فلاحين ليقلوا جسد الميتة على أغصان من الصفصاف ، فرحلنا في الليل وكنت أمشي خلفهم مخافة أن تخونني الزفرات فيرى الفلاحون على وجهي خصام الإيمان واليأس! كانت الليلة من تلك الليالي الرهيبة التي تأخذ بشجاعة الإنسان فتلقيها في لجج الخوف، وكانت الطرقات الوعرة تشرب الضباب المثلج، والغيوم المتلبدة تلامس الأشجار عند مرورها، والأوراق الصفراء تتموج على الأرض، وكان هواء الشتاء الثقيل يهب هبوبا شديدا فيهز التابوت بين أذرع الفلاحين ناثرا أزهار الأكاليل على وجهي الشاحب كأنما هو رمز الحظ الغريب يرمي على جبين الإنسان السعيد حطام أفراحه ومسراته بسخرية وحقارة! وكان القمر التائه بين الغيوم الشاحبة يضئ تارة على أغصان الصنوبر وطورا يسترجع نوره كالضنين بماله فيتركنا عرضة للظلمات وهدفا للعثور، أما أنا فلكي أكمل ما عهد إلي وأخفي سرائر نفسي كنت أحاول أن أنشد بعض ما ينشدونه في جنازة الميت غير أن نبرات صوتي كانت تتقطع في كل عبارة أتلفظ بها وتستحيل إلى زفرات وشهيق! لم يبق علي إلا أن أتبع من أحب! لم يبق ما آسف له في هذا المنفى الجميل! فكل ما كان قد اضمحل وتلاشى وأصبحت وحدي! •••
كان الفلاحون يقفون من وقت إلى آخر ويضعون حملهم الرهيب على الأعشاب الرطبة ثم يذهبون عطاشا إلى بعض البحيرات، فأبقى وحدي، مصليا بخشوع أمام النعش، تاركا شفاهي المضطربة تلامس حافة الأخشاب! ثم أنهض متثاقلا وأسير في طريقي كأني رويت غلتي من أحد الينابيع.
في تلك الساعة كان الغسق يكشف الأفق شيئا فشيئا فنظرت إلى ذلك المشهد كما ينظر الإنسان إلى طيف من خلال أحلامه! كل صخر من تلك الصخور كان يتلفظ باسم لورانس، فهناك الصخرة المجوفة، حيث كان المعاز يضع لنا الطعام كل ثلاثة أشهر، وهناك الجسر، حيث رأيتها لأول مرة هاربة من الجنديين، وهناك الوادي الصغير، وادي الحب والأحلام، وهناك البحيرة المتموجة والأزهار الجميلة!
وأخيرا بلغنا تربة والدها فغيبنا الجسد في تربة بالقرب منها، وبينما كان الفلاحون يحفرون في الأرض كنت جالسا أمام المياه، ملقيا رأسي الواهي بين يدي، مصغيا إلى ضربات المحفر تتلاشى عند كل ضربة منها صورة من صور هذه المشاهد وتتوارى مع التابوت، وعندما حملت الجثة لتلقى في ذلك التلم اللانهائي تمنيت أن آخذها فترة بين ذراعي وأضمها إلى صدري حتى تصغي إلى دقات قلبي من خلال الموت وتستريح ولو قليلا على ذلك الصدر الذي أحبته في أيام طهرها وحلمت به في ليلها العصيب! •••
عندما توارت لورانس عن هذا العالم شعرت أن واجبا لا يزال علي، فالتفت إلى الفلاحين وقلت لهم ليعودوا وحدهم وبقيت أمام الضريح أبكي بسكون وخشوع ساعة الوداع الخالد!
آه، إن الذي حدث في تلك الليلة الرهيبة بين نفسها ونفسي، بين نفسها الراقدة في عالم البقاء ونفسي المضطجعة على تراب الفناء، لا يقدر إنسان أن يصفه! إن من الكلمات المقدسة ما لا يجسر لسان بشري أن يتلفظ بها ولا تجرؤ يد أن تدونها بل على النفس وحدها أن تصغي إلى فحواها وتحمله إلى عالم الخلود! •••
عندما أفرغت قارورة دموعي أمام الخالق وددت أن أعلق نظرة أخيرة بتلك الأماكن المقدسة فقضيت الساعات الطوال طائفا بين الصخور والبحيرات مسترجعا تذكاراتي القديمة باحثا عن آثارنا، وقد أغمي عليها تحت الجليد! فرأيت الأعشاب قد غمرت كل شيء بأمواجها المتسلقة كأنما هي بحر من النبات، وأبصرت الأشواك تمتد في كل الجهات فتعوق الأقدام عن المسير، فالأغراس التي كنا نبسم لها لم تعد تعرفني والبحيرات التي كنا نردها تحولت إلى قذارة وصبغت الأوراق المتناثرة زبد شاطئها بصفرة الموت، أما الأدواح التي كانت تحجب الكهف بأغصانها فقد استحالت واأسفاه إلى خرائب كالحة وأوت الحراذين في جذوعها المنتنة، فاتجهت نحو المغارة بأقدام متثاقلة مضطربة ومشيت على أوراق الخريف المتراكمة على بابها، وبينما أنا أطأ تلك البقايا سمعت شيئا يطقطك تحت أقدامي فانحنيت إلى الحضيض المصفر فأبصرت عظاما عرفت أنها عظام تلك الوعلة المسكينة، وقد أغفلناها بين تلك الصخور الجرداء فماتت من الجوع تاركة عظامها تبيض على عتبة الكهف، وأخيرا دخلت إلى منفاي القديم وقد أمسكت لهاثي من الرهبة فجمد الدم في عروقي وتصبب العرق البارد من جبيني! إيه معبد السعادة المائتة ما الذي أخنى عليك في مدة قصيرة من الوقت؟ ما هذا التراب، وما هذه الوحول على بابك السري؟ لم هذا العوسج يمنع النسيم عن الدخول إليك؟ لماذا لم تعد الطيور تشرب من المياه المتجمعة في حفرة صخرك؟ أين أعشاش الحمائم والسنونو، هل فتكت بها أضراس الثعالب؟ لماذا أصبحت دمارا وتدنيسا بعد أن كنت مأوى السلام والشفقة؟ ما هناك؟ إني أرى عظاما ضامرة وهياكل زرقاء تلطخ هذا المقعد المقدس، حيث كانت لورانس ترقد رقادها العذب على فراش من القش!
أيتها الأرض، يا حمأة تنبت الأزهار وتعفرها، لماذا تحرثين أقدامنا في مروجك؟ ألا تأذنين لنا أن نطبع على وجهك ولو آثار حسراتنا؟ أتأبين أن نشاهد أفراحنا، حيث ذرفنا الدموع؟ ألا تبقي قبورنا في أحشائك بعض رماد من أجساد أحبابنا؟ أف منك أيتها الأرض، فما أنت إلا حقارة وتدنيس!
خرجت من الكهف بحدة وغضب فرأيت السيول قد بلغت البحيرة، وغطت الثلوج أعشاب الأرض كبساط أبيض، فبرز قبر لورانس كأنه رابية خفيفة أو كمندوف من القطن يجمعه ولد صغير! عندئذ أبصرت شحرورين، وقد راعهما ذلك القبر المتحرك، يحاولان أن يهربا فيواربان تارة وينتفضان أخرى تحت الهواء البارد فعرفتهما وناديت كلا منهما باسمه، غير أن دوي السيول حمل ندائي وخنقه في لجته، فنزلت تلك القمة مشتتا أفكاري حتى لا أفكر ولا أرى وكأن رصاصا كان يجر قدمي!
فلنيج في 16 كانون الأول سنة 1802
هذا المساء، صعدت إلى المرتفعات البعيدة لأتفقد بؤساء الأكواخ، وكان الظلام يغلف السهول الخرساء بغلاف حالك، والقمر المتأخر يبرز كجمرة من النار في وسط قمين عظيم فيذوب أشعته على الروابي والمنحدرات، ولما بلغت منتصف الطريق جلست لأستريح فترة من الوقت، وكان السكون شاملا في مذاهب الطبيعة فخلتني أسمع خفقان الكواكب في أبراجها، وبعد دقائق قليلة خيل إلي أني أسمع لهاثا فاستفقت من تأملاتي وأصغيت، فإذا هو لهاث شاق صاعد من صدر إنسان تخلله نحيب وشهيق، فانحنيت إلى جهة الصوت وناديت مرارا فلم يجبني أحد، فنزلت إلى الجسر من عقيق السيل وكان القمر يتموج على الحصى فينير تلك العقبات، ولما دخلت إلى خميلة غضة تحت ذلك الجسر أبصرت ويا للعجب رجلا لا يزال في ميعة العمر مستلقى على التراب ورعشة الموت منتشرة على قسمات وجهه، وأبصرت ذراعه ملقاة على شيء أبيض مستطيل ويده تضغط على قلبه كأنما هي تخفي كنزا عزيزا لديه، فتراجعت قدما إلى الوراء غير أن الشفقة دفعتني إلى الاقتراب منه، فأخذت قليلا من الماء وألقيته على جبينه المغمى عليه، فاستفاق وفتح عينا مائتة ونظر إلى ثوبي، ثم رأى إذا كان حمله لا يزال في موضعه، فسقيته بعض نقط من نبيذ كنت قد أعددته في قربة علقتها في وسطي للطريق، وعندما استعاد قوته أخذ يبحث في نفسه عن عبارة شكر يسديها إلي ثم جلس جلسته، فسألته قائلا: «ماذا تفعل هنا يا صديقي، تحت هذا الجسر وفي مثل هذه الساعة من الليل؟ أأنت مجرم يطاردك إثمك، أم بائس لم يعد لديه مأوى يلجأ إليه في ليالي الشتاء فجاء يختبئ تحت هذا الجسر؟ لا تخف مني يا بني، فأنا عين الله وأذنه، وواجبي المؤاساة وغفران الذنوب! أنا كاهن هذه الجهات فقل ولا تخف»، عند هذا رأيت شعاعا من الأمل يمر على جملة وجهه فجمع كلتا يديه، وقال: «كاهن القرية؟ أحقيقة ما تقول؟ آه! إن الله هو الذي أرسلك إلي لأرتمي على قدميك، أيها السامري الصالح دعني أموت بين يديك»، فقلت له: «وماذا تنتظر مني؟» فأجابني: «انظر أي شيء أضعه على قدميك وتحت رحمتك!» عند هذا نهض من مكانه فأبصرت على التراب صندوقا من الخشب كبيرا تغطي جوانبه قماشة من الكتان الأبيض علقت في أطرافها باقات من الزنبق، ورأيت غصنا من البقس اليابس يعلوه إكليل من الأزهار الاصطناعية كتلك التي يرفعها المهنئون إلى الخطيبين ساعة زفافهما، فعرفت أنه نعش امرأة، فصرخت فجأة في وجهه قائلا: «أيها المسكين! ماذا كنت تصنع؟ تكلم! أكنت تدنس الأموات فسرقت من القبر سره؟» عندما سمع كلامي علا جبينه مسحة من الألم فجمع يديه على التابوت، وقال: «آه! يا سيدي أأنا أدنس الأموات وأنزع من القبور أكفانها؟ لقد مضى علي يومان وأنا رازح تحت ثقل هذا النعش، ذلك لأني لم أستطع أن أنال من الأحياء مساعدة يد تباركها أمام هيكل الرب، أو صلاة لنفسها المسكينة! فهذا النعش ملكي وهذه الميتة امرأتي!»
فأجبته: «أوضح ما تقول، فسوف لا تصلي وحدك على هذه الجثة»، ثم جلست قريبا من النعش وأصغيت إلى كلامه! «كنت يا سيدي حائكا مسكينا، أعيش مع امرأة تزوجت منها صغيرا فرزقت منها طفلا تعهدته حتى بلغ الثالثة من عمره، كانت امرأتي تطرز الحرير، وابني يجهز المغزل أو يحل الخيوط، وفي المساء كنا نجلس إلى بعضنا أمام النافذة ناظرين إلى الشمس هاوية حتى تغيب فنأنس برائحة الأزهار المنتشرة من أواني الخزف ونأخذ طعامنا المؤلف من الثمار والخبز وبعض الحبوب، بينما أحدنا يهز سرير الصغير الباسم تحت ضباب أحلامه العذبة، آه! يا أبت يخيل لي أني لا أزال أراهما كما كانا، فهذا المشهد يؤلمني ألما لا ألم بعده! واحسرتاه! إن أيامنا السعيدة لم تطل، فالله ما لبث أن أخذ الصغير من بين ذراعينا على أثر حمى شديدة أودت بحياته فجأة فبعت صليبه الذهبي وابتعت به نعشا وأريته فيه، وألبسته أمه ثوبه الأبيض بيديها كما كانت تزينه به في أيام الأعياد ثم نثرت الأزهار على رأسه وزودته دموعها وقبلاتها، أما أنا فقد نزعت من إصبعي خاتمي الذهبي لأشتري بثمنه حفرة لا تزيد عن أربعة أقدام!» «وكأن هذا الألم الفجائي كان شديدا على قلب زوجتي فماتت في الليلة نفسها التي مات فيها الطفل! أجل ماتت بدون أن أتمكن من معونة طبيب يتعهد مرضها أو كاهن يحضر ساعة نزعها الأخير، فلجأت إلى القديسين أطلب عونهم وكانت قد زودتني بهذه العبارة الأليمة: «عدني أنك لا تلقي بجسدي عاريا في حفرة الأموات، وأنك تصلي على جثتي في الكنيسة حتى يحملني ملائك الرب إلى ذراعي خالقي طاهرة نقية كزنابق نافذتنا»، فوعدتها يا أبت ولدى هذا الوعد فاضت روحها سعيدة مغبوطة، واحسرتاه! كنت أخالني سأنجز وعدي، غير أن العالم عديم الرفق بالبائس، فأخذت أبحث بلا جدوى عن أخشاب أؤلف منها نعشا للفقيدة وعن كاهن يصلي على نفسها بلا أجرة!» «عدت إلى الغرفة وحيدا وجلست أمام الشموع ناظرا إليها تذوب شيئا فشيئا وتحترق بيأس، وعندما انطفأت كفنتها بثياب عرسها ونزعت أخشاب سريرها وسمرتها على بعضها، ثم وضعت جثتها في تابوت الحب وانتظرت حتى انبثق الفجر وحان وقت جنازة الأموات فحملت على ظهري ذلك الحمل المقدس وخرجت إلى الكنيسة، غير أن الساحة كانت مزدحمة بعربات الموتى والأغنياء يمرون أمام الجميع، فبقيت أدفع إلى الوراء رازحا تحت ثقل الحمل حتى غصت الكنيسة وأصبح الدخول أمرا صعبا علي، فجاء من يطردني من عتبة بيت الله!» «قضيت يومين يا أبت أطوف من كنيسة إلى كنيسة راجيا الحصول على الصلاة، غير أن المعابد كانت صماء عن توسلات الفقير فرجعت إلى غرفتي، حيث لا طعام ولا فراش ولا نار وألقيت التابوت عن ظهري، تابوت الآلام والبؤس! في تلك الساعة، خطر لي خاطر أسقطه الله على قلبي، فقلت في نفسي: «فلأذهب إلى أعالي الجبال، فهناك كاهن ربما يتعهد نفسها رحمة وشفقة ويباركها بدون أن يطلب أجرة لعمله.» «أعدت الحمل على ظهري وخرجت في الليل من المدينة الراقدة كلص متستر يضطرب لدى أية ضجة يسمعها، وتوغلت في مضايق الأحراج مهتديا بدوي الأجراس إلى وجهتي المقصودة، رازحا تحت ثقل نفسي والأيام الثلاثة التي قضيتها في أشد حالة من حالات اليأس، وكنت أسقط أحيانا على الطريق ثم أنهض متثاقلا، مهشم اليد والقدم من نواتئ الحجارة، حتى بلغت هذا الجسر فشعرت بقلبي يهن ويضعف فلجأت إلى هذه الخيمة مخافة أن تعثر بي قدم مارة وأغمي علي حتى ما عدت أشعر بوجودي.» •••
فقلت له: «آه يا أخي، يا قدوة الرجال! ... أية رحمة لا تخجل أمامك وتنطرح بين ذراعيك؟ مهما أعطاك العالم من الأسماء المظلمة فأنا أفتخر بك تحت ثقل بؤسك وأرى نفسي كبيرا متى دعوتك بيا أخي! تعال معي وتشجع! انهض، فملاك حبك يتقدمنا في الطريق! تعال معي، فسأحمل بنفسي جثة امرأتك إلى معبد الله، وأحفر قبرها بيدي في ظلال الرب، ولكن يجب عليك أن تعتصم بالصبر يا بني، فنفس هذه المسكينة لا تحتاج إلى صوتي لكي يتوسل لها في السماء، أية صلاة توازي ما صنعته في سبيلها لدى الخالق العظيم، فالزفرات يا أخي أسمى صلاة يرفعها البائس إلى خالق البائسين، أية جنازة أقدس من تجوالك في هذه الليلة الرهيبة، ومما ذرفته من الدموع والدم والعرق البارد في سبيلها! تعال معي، فلم يبق علينا إلا أن نعيدها إلى الأرض!» قلت ذلك وأخذت طرف التابوت تحت ذراعي فأخذ الشاب طرفه الآخر، وسرنا في تلك العقبات بأقدام بطيئة متثاقلة، فكان العرق يتصبب من جبهتينا ويتقطر على النعش إلى أن بلغنا المعبد وكان الفجر قد بدأ يرمي أشعته الأولى فوضعنا الميتة على العتبة ودخلت فأشعلت الشموع وزينت الهيكل بدون أن أوقظ «مرتا» من رقادها، ثم صليت على الجثة، وكان الزوج ساجدا بخشوع يردد بعدي صلاة الموت، فتخرج العبارات زفرات من فمه، ثم حفرت بيدي قبرا بين القبور وأنزلت التابوت في ترابه، وعندما انتهى كل شيء جلس الشاب على الضريح كمسافر نهكه التعب بعد تجوال طويل فجلس يستريح على حمله!
فلنيج في 27 كانون الأول سنة 1802
مات الشاب في هذا الصباح، فسلام على نفسه! لقد أرقدته في ضريح زوجته!
في 28 كانون الأول سنة 1802
هنيئا للأعين الراقدة في أسرة الموت! إيه أمي! إيه لورانس! متى تغلق جفني يد الحمام الرطبة؟ •••
أشعر بحاجة إلى الراحة السرية، ويخيل لي أن غشاء رهيبا يحجب بصري، وأن أخيلة تتيه في مخدعي، وأجنحة بيضاء ترفرف في قلبي! هو ذا كلبي الأمين يلجذ يدي، أتراه شعر بموتي؟
خاتمة
رؤيا!
بعد مضي ستة أشهر، في أيام الحصاد، صعدت إلى جبال النسور وفي يدي قصة صديقي المسكين، وأخذت أبحث عن ذلك الكهف مسرحا طرفي في جميع الجهات، حيث حدثت تلك الفواجع الأليمة، فإذا بي ألتقي صدفة بالمعاز الشيخ، فجلست على الأعشاب بالقرب منه وجعلنا نتحدث إلى أن قال لي:
المعاز :
عمن تبحث يا سيدي في هذه الأصقاع؟
أنا :
عن مكان جرت فيه حادثة حب دونها هذا الكتاب، عن مغارة يقال لها: مغارة النسور، حيث عاش ولدان عيشة الطهر والسعادة، أرني قبر السيدة المجهولة.
المعاز :
ماذا؟! هل بلغتك تلك القصة؟
أنا :
لقد كنت صديق أحدهما الوحيد، (مبرزا المذكرات)
ومعي الآن مذكرات ذلك الصديق.
المعاز :
أود أن أعرف إذا كان هذا الكتاب يذكر اسمي.
أنا :
اسمك أنت؟
المعاز :
أجل، أنا.
أنا :
وكيف ذلك؟
المعاز :
ما أنا يا سيدي إلا رجل بائس مسكين، كنت سبب أفراحهما القصيرة ويأسهما الأليم!
أنا :
ماذا؟! أوضح ما تقول.
المعاز :
أنا الذي هديتهما إلى طريق الكهف، حيث صرفا عامين تحت سقفه، أنا الذي كنت أغذيهما من خبزي، انظر جيدا إلى ذلك المرتفع، على رأس تلك الأدواح، فمن هناك تتجه يمنة وتتبع مجرى المياه، ثم تنزل في عقبة ضيقة إلى أن تبلغ ضفة البحيرة، وهناك قريبا من الزبد المتموج ترى ثلاثة قبور على قيد خطوتين من المغارة!
أنا :
ثلاثة قبور؟ ولكن القصة لا تذكر سوى قبرين فقط: قبر لورانس وقبر والدهما.
المعاز :
وقبر صديقهما أيضا.
أنا :
ماذا؟ جوسلين هنا؟ أنت في ضلال.
المعاز :
بل على يقين، إنه يرقد قريبا من حبيبته، قيل: إن خادمته «مرتا» باحت بسره، وما أحد يدري كيف توصلت إلى معرفته، فحمل بعض من أبناء رعيته جثته ووضعوها رحمة به في قبر السيدة، وها قد مضى فصلان من السنة على رقادهما معا في مكان حبهما وتحت صليب واحد.
أنا :
آه! هل لك أن تصعد معي إلى القبور الثلاثة أيها المعاز! إني أود أن أقبل تلك الأرض المقدسة، فالوقت لا يزال متسعا لنا، والشمس تنير الجبال بأشعتها الحية.
المعاز :
لا تنتظر مني أن أنزل عند رغبتك يا سيدي، فاذهب وحدك!
أنا :
أأنت تخاف تلك الجهة أيها المعاز؟
المعاز :
في ذلك المرتفع يا سيدي أسرار عظيمة تجري كل يوم، كأنما تلك الأسرار إله مختبئ في دغل من اللهيب!
أنا :
ماذا رأيت هناك؟ تكلم!
المعاز :
آه! مشهدا رهيبا لم يخلق إلا لأعين الملائكة فقط!
أنا :
لا تفتح أمامي نصف قلبك وتدع النصف الآخر مغلقا أيها المعاز، فأنا من المؤمنين بالله، وكنت صديق ذلك المسكين.
المعاز :
إذن فأنت تريد أن أقص على مسمعك ما رأيت؟ يعلم الله إذا كنت صادقا في ما أقول أم كاذبا، كيف أبدأ؟! صعدت ذات يوم إلى القبور الثلاثة وسجدت أمامها مصليا ثم قبلت الحجارة الملقاة عليها، وبعد هذا اتجهت إلى ضفة البحيرة وجلست أفكر تاركا عيني التائهتين تطوفان على تلك المرآة الصقيلة، وكانت المياه راقدة رقادها الهادئ، وقد انعكست عليها قمم الجليد مع الثلوج البيضاء، والكهف مع قبوره الثلاثة، والأدواح المرتفعة مع أغصانها الساكنة، وفجأة رأيت المياه الساجية تستنير بشعاع غريب وتراءى لي كما يتراءى في الحلم وجهان بارزان من السماء اللامعة، وما لبثا أن هبطا على قمم الجليد متكاتفين متعانقين ثم حاولا أن يدخلا باب الكهف كطائرين يضيء في جناحيهما نور إلهي، فجمد الدم في عروقي وجحظت مقلتاي، ذلك لأني عرفت الوجهين يا سيدي!
أنا :
ومن كانا؟
المعاز :
جوسلين! ولورانس معه! آه يا سيدي، لو لم تخني قواي لما ترددت من الهرب، فبقيت في مكاني أضطرب كالأوراق لدى مرور النسيم، ناظرا إليهما في تلك البحيرة الشفافة، وقد غلف جسديهما رداء من الأثير الفضي، وبعد فترة قصيرة وقفا على الأعشاب المرتعشة وأخذا يحدقان إلى جميع الأماكن، ناظرين إلى الأشجار تارة وطورا إلى المياه، ثم يشيران بالعيون إلى البقية الباقية من آثار حبهما القديم ويلتفتان إلى بعضهما كأن كلا منهما يقرأ فكرته في مخيلة الآخر، عندئذ رأيت لورانس تمد يدا إلى الأعشاب المرتعشة وتقطف باقات من الزهر ثم تنثرها على رأسها المكلل بالغيوم الشفافة وتنادي ذكرياتها البعيدة فتبعث جميعها من العدم وتسرع إلى ندائها، وأبصرت الوعلة تلجذ يديهما بسرور لا حد له، والحمائم البيضاء تخرج من عشاشها وتتجمع أسرابا أسرابا على رأسيهما الجميلين، وأبصرت أيضا جماعات من النساء والأطفال لا أعرف من أمرهم شيئا يفدون من وراء الغيوم ويباركون هذا العرس السماوي، وسمعت أصواتا عديدة تتدفق مع المياه وتنشد أغاني الزفاف الملكي، كانت أصوات الملائكة وقد جاءت لتصغ في أنمليهما حلقة العرس الخالد، أما أنا فقد صعقت لدى هذا المشهد العظيم، ولكي أتبين جليا ما يتراءى لي في مياه البحيرة حولت نظري إلى السماء فلم أر شيئا، غير أني سمعت أصواتا تنشد هذه الكلمات العذاب: «لورانس! جوسلين! الحب! الخلود!»
صفحة غير معروفة