قضيت النهار كله بين جدران ضريح من الأحزان، وكان الميت ملتحفا بردائه المدمى وبالقرب منه ولده المسكين موسدا جبينه بين طيات كفن والده كأنه يتسمع إلى غطيط الموت في تلك الساعة الرهيبة!
بينما كان الولد مستسلما لرقاد طويل نزعت ذراعيه عن جسد والده البارد، وحملت الميت إلى خارج الكهف وأرجعته للتراب! ...
على جانب من البحيرة بقعة خصبة نسجت فيها الطبيعة حلة خضراء من الأعشاب والزهور، هنالك، حفرت قبرا وضعت فيه الميت بعد أن زودته الدموع والزفرات، ثم أتيت بخمسة حجارة ورميتها على الضريح! سوف يزهر المنثور والأصف الأخضر على جوانب التربة وتجيء الطيور الداجنة لتنثر ريشها على تلك الحجارة وتستبدله بريش جديد!
في مغارة النسور في 28 آب سنة 1793
قال لي رفيقي الفتى: إنه ابن شريف محكوم عليه بالإعدام وإن اسمه لورانس، ماتت أمه وهو لا يزال في المهد فخلفته وحيدا بين ذراعي والده، وهو الآن في السادسة عشرة من عمره، وقد قضى معظم حياته القصيرة في مزرعة قائمة على ضفاف بحر بريتانيا إلى أن نشبت الثورة وزفرت دماء الأشراف على أسنة الشعب، فهرب مع والده متسترا تحت اسم غير اسمه الحقيقي، إلى أن بلغا هذه الأصقاع فأبصرا جنديين من الجنود القتلة يطاردانهما ... وهنا أجهش بالبكاء فعرفت الباقي من حديثه!
عن المغارة في 16 أيلول سنة 1793
كل نفس هي أخت لنفس أخرى، هذا ما قاله لي قلبي مرارا! لم أعد أشعر بثقل الزمان، فالساعات تلامس أجفاني بأجنحتها المتشابهة، أجل، كل دقيقة، وكل موضع، وكل فصل، تبدو هنيئة وعذبة عند قلبين متآلفين، فماذا يهم النفوس المتحدة إذا تقلبت حواليها الأشياء وتبدل الزمن؟ ألا تقدر أن تسن لبعضها شرائع وأزمانا، وتبني عالما تعيش فيه، وتأخذ من صفائها سماء زرقاء لا تمر في فضائها غيوم سوداء، وترى أفقا جديدا ينفتح أمامها، وتخترع لغات أسمى من لغات البشر تتفاهم بها؟
عن المغارة في 25 أيلول سنة 1773
عندما أعود من الصيد حاملا على ظهري وعلا أو أيلا، وأرى بحيرتي الزرقاء، من على رأس قمة، تضطرب لدى مرور النسمات، والأكاليل الخضراء تكتنف كواكب الصوان، ورءوس الأدواح قد بدأت تنبت أوراقا، ودخان الموقد يتصاعد من الكهف في الفضاء البعيد، تأخذ مجاري الأفكار العذبة بمجاميع قلبي: «فأعرف أن هناك، في تلك المغارة روحا لطيفة تنتظرني، وأن عينا جميلة تبحث عني، وقلبا ينبض لذكري، وصديقا وهبتني السماء عطفه ومحبته، فكنت له وطنا، وأهلا، وأما وأبا وشقيقا وشقيقة، وأنه عندما يبصرني قادما يسرع لملاقاتي ويأخذ من يدي الوعل أو الأرنب ثم يتقدمني إلى الكهف واثبا على الصخور كالأيل المطمئن»، وأحيانا عندما أصل إلى الكهف أجد لورانس جالسا ينتظرني فأقص عليه حكاية رحلتي ويقص علي حكايته ويريني الأسماك الصغيرة التي اصطادها بشباكه، والقش اليابس الذي جمعه لسقف الجهة الغربية من المغارة قبل مجيء الشتاء، ثم يجيئني بالأثمار التي قطفها من الغاب، فنجلس إلى الطعام ونأخذ بأطراف الحديث إلى أن يهبط الليل فنرى النجوم النيرة تنعكس على مياه البحيرة كما تنعكس الوجوه على المرآة الصقيلة، وأحيانا أرى بعض الدموع تتناثر على خده وهو محدق إلى قبر والده، ثم يتجه كل منا إلى فراشه وينام حتى يستفيق على أنغام الطيور!
عن المغارة في 23 تشرين الأول سنة 1793
صفحة غير معروفة