وعند برناردشو أن وليام شكسبير لا يساوية ولا يدانيه، وقد قال مرة: إنه لو كانت له فكرة في كتابة روايات كروايات شكسبير لألفها جميعا في بضعة شهور.
وسمعه ناقد فقال متهكما: أرأيت: لو كانت له فكرة؟! ... ويعني الناقد أن برناردشو لا يملك الفكرة التي تعينه على محاكاة شكسبير.
أما برناردشو فمعناه أن روايات شكسبير لا تستحق أن تكتب في عصره؛ لأنها روايات لم تكن لها رسالة إلى أبناء العصر عند تأليفها، ولكنه هو يؤلف الرواية، ويقصد بها أن تؤدي له رسالة في التعريف بحقائق الدنيا، أو حقائق النفس الإنسانية، ولو لم تكن مقصورة على مشاكل الاجتماع أو على العقد النفسانية في الطب الحديث.
وندع لبرناردشو دعواه على شكسبير، فإنها بينة البطلان، وقد عرف الناس من رواياته كل ما يعرفهم به شاعر من أسرار الحياة الاجتماعية وأسرار الحياة النفسية، وكان تصويره لأسرار البلاط ودسائس القصور مقدمة فعالة للثورة التي نشبت بعد وفاته بأقل من جيل، وكان لها أثرها في تقييد سلطان الملوك وفرض الرقابة القومية على القصور.
ندع هنا دعوى برناردشو على شكسبير، ولا ندع دعواه لنفسه بين معاصريه، فإنه - في الحق - لم يجاوز بها قدره الذي يعرفه المعجبون به وبأولئك المعاصرين، وليس بين الذين تقدموه إلى الجائزة خلال عشر سنوات أحد يساويه في مقدرته الفنية، أو في كفايته الأدبية، ومن ساواه في فنه وأدبه لم يكن كفؤا له في غيرته على الحق وإخلاصه لحب الخير والإصلاح.
ويؤخذ من محاضر الجلسات التي نشرتها لجنة نوبل أخيرا أنها كانت تشعر بأن الجائزة تصل إليه متأخرة، وإن لم تكن متأخرة جدا على رأي أمين السر فيها؛ لأنها - على رأيه - لم تصل بعد فوات الأوان.
لكن الفرصة كانت سانحة لموقف من المواقف الصياحة التي يحبها رجل المواقف المسرحية على مسرح الفن، ومسرح الحياة، ففي تاريخ الأدب الإنجليزي موقف مأثور لحكيم من أكبر الحكماء المحدثين في جميع العصور، وهو موقف الدكتور صمويل جونسون مع النبيل الأديب لورد شسترفيلد، وكان الدكتور جونسون قد شرع في تأليف معجمه الخالد في نحو اللغة الإنجليزية، وهو يطمع في معونة اللورد الأديب، فأعرض عنه اللورد بعد أن تلقاه بادئ الرأي بالمجاملة المعسولة من طرف اللسان، وأبت على الحكيم أنفته التي اشتهر بها أن يعاود اللورد بالطلب أو الزيارة حتى أتم تأليف المعجم، وعلم اللورد أنه وشيك الظهور، فعز على اللورد - حينئذ - أن يفوته شرف الرعاية لهذا العمل الجليل، وأبدى - من جانبه - العناية به والسؤال عنه، ولكن الحكيم العزوف لم ينس الهوان الذي قوبل به غير مرة وهو يطيل الانتظار في قاعة الاستقبال بقصر اللورد، فلا يؤذن له بالمثول بين يديه، فكتب إليه خطابه الذي تداولته تواريخ الأدب منذ ذلك الحين، وصاغه بتلك البلاغة التي عهدت في أحاديث الحكيم وكتاباته، فافتتحه بالاعتذار عن قبول الكرم الرفيع من قبل العظماء؛ لأنه لا يعرف كيف يتقبله إذ كان لم يتعوده، فلا يدري كيف يكون الشكر؛ لأنه لم يدر كيف يكون الإحسان! واختتمه بتلك الكلمات التي تلقى بها برناردشو منحة نوبل، فقال بعد الإشارة إلى حماة الآداب من النبلاء: «أليس حامي الأدب - يا سيدي - هو ذلك الذي ينظر إلى السابح الذي يحاول النجاة بحياته فلا يعنيه أمره، حتى إذا بلغ الساحل أغرقه بالمعونة؟ إن لفتة اللورد لو تقدمت برهة لكانت غوثا، ولكنها تأخرت حتى وصلت إلى غير حافل بوصولها ... تأخرت حتى أصبحت في الحياة فريدا لا أسعد بها غيري، ومعروفا لا حاجة بي إلى تعريف.»
وقد ذاع خبر ذلك الخطاب البليغ في تاريخ الآداب؛ لأنه يسجل مرحلة الرعاية الأدبية من جانب الأمراء والنبلاء، ويذيع اليوم جواب شو؛ لأنه يسجل الموقف بعينه بعد انتقال الرعاية من الأمراء والنبلاء إلى القراء والنقاد.
المستحق بين المستحقين
يتناول البحث في استحقاق الجائزة - جائزة نوبل الأدبية - وجوها شتى من وجوه النقد والنظر، وقد تناولته هذه الصفحات من بعض هذه الوجوه، ولعله قد تبين منها كما تبين من غيرها أن مسألة الاستحقاق هذه إنما هي - في النهاية - مسألة درجات وظروف، وليست من مسائل الحاسم بين الصواب والخطأ، وبين حسن التقدير وسوء التقدير.
صفحة غير معروفة