مقدمة
جوائز الأدب العالمية
أكبر من الجائزة
التفاوت بين الأمم في جوائز «نوبل»
شروط جديدة لجائزة نوبل الأدبية
الجائزة والأدب النسائي
جائزة نوبل وموضوعات الأدب
رافض الجائزة
المستحق بين المستحقين
تاجور
درجات المثل الأعلى في جائزة نوبل
باسترناك
جائزة الكاتب وجائزة الكتاب
خاتمة المطاف
مقدمة
جوائز الأدب العالمية
أكبر من الجائزة
التفاوت بين الأمم في جوائز «نوبل»
شروط جديدة لجائزة نوبل الأدبية
الجائزة والأدب النسائي
جائزة نوبل وموضوعات الأدب
رافض الجائزة
المستحق بين المستحقين
تاجور
درجات المثل الأعلى في جائزة نوبل
باسترناك
جائزة الكاتب وجائزة الكتاب
خاتمة المطاف
جوائز الأدب العالمية
جوائز الأدب العالمية
مثل من جائزة نوبل
تأليف
عباس محمود العقاد
مقدمة
صاحب الجائزة: ألفريد نوبل1
اسم يدوي في العالم مع دوي المفرقعات، ويدوي في العالم مرة على الأقل كل سنة مع أصحاب الشهرة العالمية في السياسة والعلم والأدب، ووراء ذلك الدوي سيرة للرجل ظاهرة، وأخرى باطنة هي التي تعنينا؛ لأننا نعرف منها صاحب الجوائز، ونعرف منها بواعث عمله الباقي الذي تناط به ذكراه: رجل وديع لطيف قضى حياته يشعر بالفراغ، ويتشاغل بالعمل الدائب عن هذا الفراغ، ولا يحس بنفسه خلوا من شواغل العمل إلا ليحس في ضميره بخيبة الأمل، ويحس في جسده بالوهن والحاجة إلى السكينة والعزلة.
طلب إليه أخوه لدفيج نوبل أن يكتب تاريخ حياته، فكتب إليه ما فحواه: إن له نصف حياة في الواقع، وإن هذا النصف كان حقيقا أن يتولاه عند ولادته طبيب من محبي الخير، يكتم أنفاسه ساعة بدرت منه الصيحة الأولى على أبواب الدنيا.
وأراد - بسليقته الأدبية - أن يسطر ترجمته في صورة بطاقة من بطاقات الشخصية فسطرها على الصورة التالية:
ألفريد نوبل:
نصف إنسان
Demi-man
ضئيل، كان ينبغي أن يتاح له طبيب طيب يقضي عليه يوم قدم صارخا إلى دنياه.
مزاياه:
ينظف أظافره، ولا يحب أن يثقل على أحد.
نقائصه وأخطاؤه:
بغير أسرة، كئيب، سيئ الهضم.
أهم رغباته:
ورغبته الوحيدة ألا يدفن بقيد الحياة.
خطاياه:
لا يعبد إله «المامون»!
حوادث حياته الهامة:
لا شيء .
بطاقة حزينة، فيها مسحة ساخرة، لا يخطر لأحد من المطلعين على حياة الرجل من أهله وصحبه أنه كان مدعيا فيها للتواضع، أو متكلفا للظهور بمظهر الترفع عن الشهرة وبعد الصيت ... وإن الناس - اليوم وقبل اليوم - ليعجبون كيف تخلو حياته من شيء هام يذكره في «بطاقته الشخصية»! وكيف تكون أمنيته الوحيدة في الحياة أن يدفن بعد الموت ولا يدفن بقيد الحياة! وحبذا لو لم يكن دخلها ولم يعرف ما يتمناه فيها وما يحذره منها منذ اللحظة الأولى.
والعجب من هذا حق، ولكنه يزول كلما رجعنا إلى أنفسنا، ولمسنا الفارق في أعمالنا بين ما يهمنا وما يهم الناس فيها، فقد تكون الجوهرة الغالية حلية يتنافس عليها الذين يشترونها، والذين يلبسونها، والذين ينظرون إليها، ولكنها عند الذي يصقلها ويعدها للتنافس عليها: إنما هي تعب الليل والنهار، وعمل من أعمال الحاجة والاضطرار.
وقد كان ألفريد نوبل يعيش حقا في فراغ أليم: بينه وبين وجدانه، وبينه وبين أقرب الناس إليه، وكان هذا الفراغ الأليم هو «أهم شيء» في حياته، إن أردنا أن نعرف الباعث له إلى خلق الاهتمام، وإلى خلق الاهتمام في إبان الحياة، وهو خير عنده من الاهتمام بالذكريات وبالآثار بعد زوال الحياة. •••
وإن هذا الفراغ الذي أضجره على عيشته، وأسخطه على الواقع الملموس في دنياه لعجيب عند من ينظرون إلى شهرة الرجل، ويسمعون بأعماله ومخترعاته، ويعرفون شيئا عن ثرائه ووفرة أرباحه من مصانعه التي انتشرت بين عواصم الغرب وهو في عنفوان شبابه، ولكنه فراغ لا يعجب له من يعلم أنه قضى عمره منذ طفولته دون العاشرة، ولم يمتلئ فؤاده قط من شعور الوطن ولا شعور السكن، ولا شعور الحب والثقة بإنسان من عشرائه وشركائه، ولا بمبدأ من المبادئ التي كانت تروج دعواها بين الناس في زمانه، وهو أعلم من سواه بحقائق هذه الدعوى وراء الستار.
فقد فارق وطنه في طفولته؛ ليلحق بأبيه في عاصمة روسيا التي اختارها مركزا لتجربة مشروعاته ومخترعاته، ثم قضى سائر عمره إلى يوم وفاته متنقلا بين روسيا وأمريكا وإنجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وعواصم الدول، أو ضواحي النزهة والاستشفاء، وأتقن في رحلاته هذه ثلاث لغات غير لغته الأصلية، وهي الإنجليزية والفرنسية والألمانية، ولكنه كان في «حياته اللغوية» مثالا للغربة والانقطاع عن وشائج الفكر في أعماق النفس البشرية، وقد ظهر ذلك من إخفاقه في محاولاته الأدبية، فكان ينظم الشعر بالإنجليزية، فيجيد غاية الإجادة التي يملكها الناظم الغريب عن اللسان والبيئة، ثم يعود إلى لغة الأم - كما يقال أحيانا عن لغة الوطن - فإذا هو غريب عنها يحاول أن يودعها سرائر وجدانه، فكأنه ينقلها من لسان إلى لسان، ومن بديهة إلى بديهة؛ وكأنه في هذه المحاولة يوسط أحدا بينه وبين نفسه قبل أن يوسط الترجمان بينه وبين القراء.
وشعر السري العالمي بالحاجة إلى طمأنينة السكن: إلى «البيت» الذي يأوي إليه الأب والابن والقرين والقريب، ولا تفلح في بنائه الأموال والأمتعة إن لم تتوطد له أركانه الأربعة بين حنايا الصدور.
وكان يتمنى أن يسلم هذا البيت إلى الفتاة التي يهواها، ولكنه فقدها في إبان صباها، ثم أوفى على السن التي ينظر فيها إلى تقرير مصيره «البيتي» قبل فوات أوان التفكير في هذا المصير، وأوشك أن يجد ربة البيت التي توافقه في سنه، وتوافقه في مزاجه، وتوافقه في عمله، فعملت عنده النبيلة «برتا كنسكي» النموسوية كاتبة لرسائله ومديرة لبيته، وكانت في الثالثة والثلاثين وهو في الثالثة والأربعين، فلما أحس ذات يوم أنه يحبها ويرتضيها قرينة لحياته لم يشأ أن يستغل حاجتها إليه وأن يفاتحها بهواه قبل أن يتبين جوابها المنتظر لما سيعرضه عليها في غير حرج ولا اضطرار إلى المواربة، فسألها: أهي طليقة القلب؟ ولم يكن جوابها إلى اليأس ولا إلى الأمل؛ لأنه علم منها أنها أحبت فتى من نبلاء بلادها، وأحبها الفتى فنهاه أهله عن الاقتران بها؛ لفقرها وتفاوت السن بينه وبينها، وأنها هجرت وطنها لتنسى، ولعلها وشيكة أن تنسى ... ولكنه ذهب في رحلة من رحلاته فكتبت إليه في غيبته تستودعه وتعتذر إليه من سفرها قبل عودته، ثم علم أنها استجابت لدعوة عاجلة من فتاها ، وأنه تمرد على مشيئة أسرته فتزوج بها وأرجأ إعلان الزواج إلى أن يقنع الأسرة بقبوله. وقضي على السري العالمي مرة أخرى أن يأوي إلى العالم كله، ولا يأوي إلى بيت. •••
وقد ربح ألفريد نوبل منذ شبابه ثروة عريضة من مخترعاته ومقاولاته، وربح في كهولته ثروة أعرض منها وأوسع انتشارا بين حواضر العالم وعواصم الدول ومراكز الحياة الاجتماعية، فلم تعطه الثروة العريضة في شبابه وكهولته تلك الثقة التي يفتقر إليها ويود أن يطمئن إلى ركن من أركانها؛ لأنه كسب الثروة من صناعة «المتفجرات»، وهي يومئذ تنوء بأوزار قضية التسليح وقضية السلام، وتتجسم بين أيدي العاملين فيها فضائح الرياء والسمسرة والرشوة ومكائد الجاسوسية.
ومن سخرية الحظ أن ثروة نوبل جلبت له شيئا مذكورا من ألقاب الدول التي جرى العرف على تسميتها بألقاب الثقة والتقدير، أو ألقاب الجدارة والاستحقاق؛ فزادته شكا ولم تزده ثقة، ونقل عنه أنه كان يقول: إنه مدين لألقابه من حكومات الشمال لبراعة طباخه، وللمعدات الأرستقراطية التي كانت تقدر براعة ذلك الطباخ، وأنه مدين بألقابه الفرنسية لصداقة أحد الوزراء، وبألقابه من أمريكا الجنوبية لزيارة هذا الرئيس، أو لولع ذلك الرئيس بتمثيل أدوار التشريف والإنعام.
2
وهكذا تكشف لنا هذه الصفحة الباطنة عن رجل وديع، لطيف المزاج، بحث عن الطمأنينة والثقة فلم يجدها في حياته، فتعزى بالعمل لتحقيق الطمأنينة والثقة بعد مماته، وحرص على تقدير العاملين لهما وشعورهم بهذا التقدير وهم بقيد الحياة، وما العمل لتحقيق الطمأنينة والثقة إلا العمل - بعبارة أخرى - لتحقيق السلام والإيمان بالمثل الأعلى؛ مناط الثقة التي لا يدركها المشغولون بالواقع المحدود، ويزيده كلفا بهذه الغاية أنه اخترع شيئا يصلح للتعمير في نطاقه الواسع، فلم يلبث أن رآه بين أيدي الناس سلاحا من أسلحة الحرب والدمار، فهو يرصد المال الذي ربحه من هذه الصناعة؛ للتكفير عن سوء أثرها في أيدي ساسة الأمم وزبانية الحروب، وما كان له من باب للتكفير غير هذا الباب إلا إلغاء ما صنع، ومحو ما اخترع، وليس ذلك بالنافع ولا بالمستطاع.
أما سيرته الظاهرة فقد أصاب حين قال: إنها لا تشتمل على حدث ذي بال، فإن «المتفجرات» لها دويها الذي يزعج الأسماع، ولكنها عند من يخترعها لا تعدو أن تكون سلسلة من الأرقام والمعادلات، وتجارب المحاولة والتنفيذ.
اضطرت الحياة أباه - عمانويل نوبل - أن يعمل وهو يقارب الرابعة عشرة، ثم أصابه نحس الطالع فاحترق بيته الذي اقتناه، وصفرت يده من المال والصفقة، فغادر ستوكهلم سنة 1837 إلى العاصمة الروسية، وألفريد - صاحب الجوائز - يومذاك في الرابعة من عمره، وبقيت ربة الأسرة في أرض الوطن مع أطفالها الصغار - وهم ثلاثة أبناء - مضطلعة وحدها بتربيتهم وتدبير معيشتهم في غيبة أبيهم، وفي انتظار الفرج من تلك المغامرة في البلد المجهول.
ووصل ألفريد إلى بطرسبرج وهو دون العاشرة، لم يختلف قبلها إلى مدرسة من مدارس التعليم المنتظم غير بضعة شهور، فعوض هذا النقص بالدروس التي كان يتلقاها على أستاذه الخاص في داره، ثم انقطعت هذه الدروس أيضا وهو في السادسة عشرة، فتعلم باجتهاده وفطنته كل ما وعاه من تلك المعارف التي أعانته على الاختراع والإدارة، وتحصيل ما حصل من ثقافة جعلته ندا مشهودا له بالفضل بين أصحابه وعشرائه من نخبة العظماء.
وتحل بالأسرة كارثة جديدة تذهب بمصنع ألفريد وأخيه الصغير إميل (1864)، ولم يفق أبوه من جرائرها حتى قضى نحبه (سنة 1872)، ونهض ألفريد بالعبء كله في تجديد المصنع، والإشراف على معاملاته ومعاملات أسرته بين الأقطار التي زارها، وتعرف إلى أقطاب الأعمال فيها أثناء رحلاته أيام الطلب والاستطلاع.
ويتكشف معدن الرجل من قدرته على توسيع أعماله والنهوض من كبواته مع سوء ظنه بالناس عامة وبأقرب المقربين إليه بعد تجربتهم في أيام سعده ونحوسه، ومفاجآت رواجه وكساده.
وأدل من ذلك على معدن هذه النفس القوية أنها احتفظت بقوتها بين متاعب القلب والجسد، متاعب القلب حرفا ومعنى؛ لأنه كان مصابا بالذبحة الصدرية، ومتاعب الجسد من فرط الجهد ومن سوء الغذاء، أو من قلة هذا الغذاء الصالح الذي كانت تسمح به معدته الواهية.
وفي سان ريمو بإيطاليا في العاشر من شهر ديسمبر سنة 1896 توفي ألفريد نوبل ، بعد أن حقق مبادئه، فلم يحفل بنصيب الآحاد من ميراثه كما حفل بنصيب الجماعات، ومنه نصيب خدامها في ميادين الصناعة والصحة والأخلاق.
وأعلنت وصيته بعد أيام من موته، ولكنها لم توضع موضع التنفيذ إلا بعد انقضاء أربع سنوات، وكان هذا التأخير من الأمور المنتظرة؛ لأنها تتطلب إجراءات شتى: قانونية وعملية، يتبعها وكلاء التنفيذ بغير إرشاد من صاحب الوصية، ولا سابقة من وصية قبلها، يهتدون بها، ويعملون على مثالها. •••
وبدأت اللجنة جوائزها الأدبية منذ السنة الأولى في القرن العشرين، وكان أول المختارين لها الشاعر المفكر الفيلسوف «رينيه سولي برودوم» عضو الأكاديمية الفرنسية؛ «تقديرا لتفوقه في الأدب، ولا سيما الشعر الذي يتسم بالروح المثالية السامية والإتقان الفني والتوفيق النادر بين الضمير والعبقرية.»
جوائز الأدب العالمية
إن التحدث عن جوائز الأدب العالمية موضوع حاضر في كل وقت، متصل في كل موسم من مواسم الثقافة، وهو - على هذا - شائق ومفيد، تفضل باقتراحه خبراء الإذاعة العارفون بمطالب المستمعين، فحمدت اقتراحهم واستجبت إليه.
يحب الناس بالطبع حديث الجوائز، كما يحبون كل منظر من مناظر السباق والمباراة في ميادين النشاط الفكري أو ميادين الرياضة البدنية؛ لأنه يحفز النفس إلى التطلع، ويستنهضها إلى طلب العلم بأسباب السبق والشعور بالنقيضين المتقابلين، فوز السابق وتخلف المسبوق.
وفائدة النظر في أحكام المحكمين بين المتسابقين أبلغ وأكبر من لذة الشوق والاستطلاع إلى أسباب الفوز وأسباب الحرمان، فإن هذه الأحكام ميزان صادق لأمانة الفكر، ونزاهة الضمير، وصحة المعرفة، وما من دراسة للنفس البشرية أصلح من أحكام المحكمين في جوائز الأدب لمراقبة العقل والنفس والضمير معا بين مهب الأهواء، وشبهات الأغراض، ونوازع المعرفة والجهل، وأعراض التقلب والاستقرار؛ لأن التمييز على ضوء العقل وهدى البصيرة بين ثمرات القرائح الإنسانية هو المحك الصادق لكل فضيلة من فضائل الفهم النافذ، والخلق القويم، والقدرة على مغالبة الأهواء والشهوات؛ وفائدة الناظر في هذه الأحكام هي فائدة العلم بالطبيعة الإنسانية في قمتها العليا: وهي قمة الإدراك والإنصاف.
وجوائز الأدب العالمية كثيرة في العصر الحاضر، يتشعب الكلام عليها جميعا، فلا ينتهي إلى نتيجة محدودة، ويغني عن تتبعها في وقت واحد أن نقصر الكلام على مثال منها يصدق عليه ما يصدق عليها، فإذا اكتفينا منها بأقدمها وأشيعها وأعمها غرضا وأكبرها أثرا ففي ذلك بلاغ يغني عن التوسع والاستقصاء.
جائزة «نوبل» السويدية هي الجائزة التي تصدق عليها هذه الصفة بغير خلاف.
وليس الكلام على جائزة «نوبل» بالشيء الجديد ... فقد كثر الكلام في كل عام على تاريخها، وتاريخ صاحبها، وتواريخ الفائزين بجوائزها، كما كثر التعليق على اختيارها بين الموافقة والمخالفة، وبين الاستحسان والإنكار، ولنا أن نقول: بل بين التبرئة والاتهام.
ولكننا نحب أن نختار للكلام عليها بابا من التعليق والتعريف: بابا غير مطروق، أو بابا لم يطرقه الطراق من قبل حتى لا مفتتح فيه للعودة إليه، حينا بعد حين.
إن أحكام لجنة الجائزة السويدية ميزان لثمرات القرائح والأذواق.
وتعليقا على أحكامها في هذه الصفحات هو «وزن الميزان» إذا شئنا أن نجمعه في كلمتين.
ما معيار هذا الميزان؟
ما مبلغه من الدقة؟
ما مبلغه من الصواب؟
ما هو مبلغ التعويل عليه من ناحية الكفاية العلمية أو كفاية المعرفة والدراية؟
هل هو مثل عال لما تبلغه الجوائز العالمية من الصواب والإنصاف؟ أو هناك فوق هذا المثل مثل أعلى منه وأقرب إلى التقدير الصحيح؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة بالآراء النظرية شرح يطول.
ولكن المقارنة العلمية أقرب من ذلك إلى التفاهم المتفق عليه، وسبيل المقارنة العلمية هو الموازنة بين أسماء معلومة معروفة القدر عند الجميع من المستحقين للجائزة، وممن لهم من أصحاب الشهرة العالمية التي تمحصت مع الزمن، وتساوت فيها الموازين بغير خلاف كبير.
ولنقابل إذن بين عشرة من الذين استحقوا الجائزة وعشرة من الذين لم يستحقوها، وليكونوا جميعا من الأدباء العالميين الذين اشتهروا منذ قيام اللجنة السويدية بأعمالها؛ أي منذ أوائل هذا القرن العشرين.
أما العشرة الذين نذكرهم بغير ترتيب أو مفاضلة فهم: «كاردوتشي، كيلنح، رومان رولان، جالزورتي، تاجور، أناتول فرانس، برناردشو، برجسون، أندريه جيد، هنجواي.»
هؤلاء هم العشرة الفائزون.
أما غير الفائزين فهم كذلك بغير ترتيب ولا مفاضلة: أميل زولا، بول يورجيه، لون تولستوي، توماس هاردي، محمد إقبال، نقولا كزانزاكس، بلاسكو أباتير، أميل فاجيه، بنديتو كروشه، روبرت فروست.
ويلوح لنا هنا معيار المقارنة الواقعية لأول وهلة؛ لأن سماع الأسماء كاف للموازنة المتفقة بين الأحكام والأقدار.
فمما لا شك فيه أن المتروكين على الجملة لا ينتقصون في معيار من معايير الشهرة والاستحقاق عن الفائزين، ويجوز عند الكثيرين أن يكون المتروكون - على الجملة - أرجح في ميزان الشهرة والاستحقاق من جملة الفائزين.
وإذا جاز الخلاف في هذه الموازنة فهناك أسماء أخرى من الذين فازوا بالجائزة، لا يختلف اثنان في تقديرهم عند المقارنة بينهم وبين من ذكرناهم من الفائزين أو المتروكين.
وهذه عشرة أسماء، نذكرها كذلك بغير ترتيب ولا مفاضلة، وهم: يونتوييدان الدنمركي، وسيلانيا الفنلندي، ولالنس الأيسلاندي، وأسكندر يوتين الروسي، وسلفانور كواسمورو الإيطالي، وهيد نستام السويدي، وجون بيرس الفرنسي، وإيفواندريش اليوغسلافي، وايشيجاري الإسباني، وبول هيس الألماني.
فلا محل للتردد الطويل في حقيقة يجزم بها كل من يستمع إلى هذه الأسماء من المطلعين على أسماء الأدباء العالميين الذين توطدت لهم أركان الشهرة على ممر الزمن: إن هؤلاء الفائزين لم يرتفعوا إلى مكانة المتروكين بتقدير الصيت الذائع ولا بتقدير النبوغ المتفق عليه.
ولا محل - بعد ذلك - للتردد في حقيقة مثلها لا بد أن تترتب عليها؛ وهي أن جائزة نوبل ليست شهادة محققة برجحان من ينالها على من تتخطاه، وإن كثيرين ممن لم ينالوها أرجح قدرا، وأثبت فضلا، وأشيع ذكرا من الفائزين بها، فما معنى هذا التفاوت البين في أحكام اللجنة؟
هل معناه أنه خطأ راجع إلى المحاباة وتحكم الأهواء؟
هل معناه أنه خطأ، ولكن لا يرجع إلى المحاباة بل إلى نقص في موازين النقد والتمييز؟
هل معناه أنه علامة على القصور في كفاية اللجنة لأداء مهمتها؟
أيصح أن تكون لجنة أخرى أقدر منها على النهوض بهذه المهمة العالمية؟
ظاهر الأمر أن هذه الظنون نتيجة لازمة لذلك التفاوت البين في أحكام اللجنة وتقديراتها.
ومهما يكن من مقطع اليقين في هذه الظنون فالمسلم به ، في غير تردد، أن لجنة نوبل ليست بالمعصومة من عوارض المحاباة والخطأ ولا من النقص في معايير النقد والتمييز، ولكنه حكم لا تنفرد به اللجنة السويدية وحدها ولا تسلم منه، على عمومه جماعة من بني الإنسان في كل زمان وفي كل مكان.
فإذا حسبنا للجنة قسمتها من الضعف الإنساني الذي لا محيد عنه، فمن الإجحاف بها أن تحال عيوب التفاوت في الأحكام كلها إلى اختيارها، وأن تلقى التبعة كلها عليها في ترجيح المجروحين وتطفيف ميزان الراجحين ... فإن هناك ظروفا كثيرة من طبيعة العمل في ذاته تعفي اللجنة من تبعات التفاوت في الحكم، وتجعل هذا التفاوت في بعض أحواله ضربة لازب لا حيلة لها - ولا لغيرها من لجان التحكيم - فيها. •••
أول هذه الظروف أن اللجنة مقيده بشرط مقدم على سائر الشروط في الكتابة التي تستحق الجائزة؛ وهو خدمة السلام والاتجاه بالكتابة إلى وجهة المثل الأعلى.
وسبب هذا الشرط - كما هو معلوم - أن مؤسس الجوائز «ألفريد نوبل» كان من مخترعي صناعة الديناميت، وكان يشفق من استخدام هذه المادة المهلكة في أعمال التسليح، فوقف من ماله حصة كبيرة لاستغلالها في الأغراض السلمية، والإنفاق من أرباحها على هذه الجوائز لمن يستحقونها في خدمة السلام وتحقيق آمال الإنسانية، بين الممتازين من الأدباء والعلماء وأقطاب السياسة.
ولا يندر - على هذا الاعتبار - أن ينال الجائزة كاتب متوسط يتوافر له هذا الشرط، ويحرمها كاتب أقدر منه وأوسع شهرة في زمانه، ولكنه متشائم أو منصرف إلى الهدم وإثارة الخصومات في مقاصد الفتح والاستعمار. •••
مسألة أخرى تحسب من قيود اللجنة التي تضطرها إلى التفاوت في أحكامها؛ وهي أنها تعطي جوائزها لمن يستحقونها في عشرات السنين، ولا تقصرها على سنة واحدة - فلا يندر في هذه الحالة أيضا أن يظفر بها من هو أقدر منه وأوفى نصيبا من الشهرة العالمية - لأنه لم يبلغ مكانته إلا بعد سنوات.
وسبب غير هذا من دواعي التفاوت في أحكام اللجنة، وهو أنها - في الواقع - لجان عدة، وليست بلجنة واحدة في تكوين أعضائها، فإن الذين يحكمون اليوم في الجوائز غير الذين كانوا يحكمون فيها قبل خمسين سنة ... ومن هنا يأتي الاختلاف لا محالة في الأذواق والأفكار.
ومن أهم أسباب التفاوت في الأحكام أن اللجنة مرتبطة بالحكومة في دولتها؛ لأن جوائزها تصدر من هيئات رسمية، وتوزع في محافل يشهدها رؤساء الدول؛ فمن العسير على اللجنة أن تتجاهل مواطن الحرج السياسي في علاقة الدولة بسائر الدول الكبرى والصغرى، وبخاصة في مسألة السلام، أو مسألة التمييز بين من يخدمه ومن يجني عليه.
وشبيه بذلك موقف اللجنة في توزيع الجوائز بين الأمم، فربما تعمدت أن تتخطى أديبا كبيرا في أمة كثر فيها المستحقون للجائزة، وتعمدت أن توجهها إلى من هو دونه في أمة أخرى، حذرا من مظنة المحاباة.
وبعض هذه الأسباب صالح لتسويغ كثير من المفارقات في تقدير اللجنة، ولكنه لا يصلح لتسويغها جميعا؛ لأن التفاوت يحصل أحيانا بين أديبين متساويين في جميع مزايا الترشيح والترجيح، ويحصل كذلك أن تتغاضى اللجنة عن نزعة التشاؤم في بعض الكتاب ولا تتغاضى عنها في غيره، وأن تنظر إلى السلوك «الشخصي» مرة، ولا تنظر إليه مرة أخرى، وقد يكون الاعتماد على الواقع في بيان هذه المفارقات أولى من الاعتماد على الرأي والنظر ... وفي تجارب اللجنة خلال السنين غناء عن مناقشة الآراء والنظرات، مما سنبينه في الصفحات التالية إن شاء الله.
أكبر من الجائزة
تقدم أن جوائز الأدب العالمية تتعرض للتفاوت في أحكامها لأسباب شتى غير المحاباة وغير الخطأ في التقدير.
تتعرض للتفاوت في الأحكام أحيانا؛ لأنها مقيدة بشروط تلاحظ إلى جانب الإجادة الفنية والمقدرة الأدبية؛ أو لأنها تمتد بأعمالها زمنا طويلا تختلف فيه الأذواق والمقاييس من سنة إلى سنة، ومن حقبة إلى حقبة ... فضلا عن تغير الأعضاء المحكمين جيلا بعد جيل.
ولكن بعض الحالات التي يظهر فيها التفاوت ظهورا بينا لا تكفي لتفسيرها - أو لتفسيرها كلها على الأقل - ولا بد من الرجوع إلى الواقع مرة أخرى لتفسير تلك الحالات التي يعوزها التفسير، بل التفسير الكثير.
وأصلح الأسماء للاختيار في هذا الصدد، تلك الأسماء التي برزت على الأفق بروزا لا يخفى على أحد، وصح فيهم قول القائلين: إنهم أكبر من الجائزة بالقياس إلى الحد الوسط بين مستحقيها، وليس قصارى القول فيهم اليوم أنهم يستحقونها أو لا يستحقونها.
ونكتفي بأربعة منهم في هذا الحديث، نختارهم من أمم متعددة، تجنبا للأمور العارضة التي قد تنحصر في أمة واحدة.
هؤلاء الأعلام الأربعة هم: هنريك إبسن النرويجي، وليون تولستوي الروسي، وأميل زولا الفرنسي، وتوماس هاردي الإنجليزي، وقد كان الثلاثة الأولون في أوج شهرتهم في السنة الأولى من القرن العشرين، وهي السنة التي بدأت فيها أعمال اللجنة، وكان توماس هاردي في الحادية والستين من عمره مكتمل الشهرة في القصة، صاعدا إلى ذروة الاعتراف والتقدير في الشعر، وإن لم يدرك فيه تلك المكانة الأدبية التي انتهى إليها إبسن وتولستوي وزولا.
كان إبسن في مطلع القرن العشرين علم المسرح الأوروبي الجديد غير منازع، وكانت مؤلفاته كلها قد شاعت في أرجاء العالم، وفرغ النقاد من التنويه بها ومن إحلالها محلها بين المأثورات المسرحية، بعد هدوء الحملات الشعواء التي أثيرت حولها عند ظهروها، ولكنه نرويجي من السكندنافيين كأعضاء اللجنة السويدية المحكمة في جوائز نوبل، وكانت اللجنة تستهل عملها في سنتها الأولى، وتريد أن تقرر لجائزتها مكانة الحكم المحترم في الأرجاء العالمية، وليس مما يحقق لها هذه الصفة أن يفهم الناس من الخطوة الأولى أنها هدية من أبناء الشمال إلى أبناء الشمال، وهذا إن سمعوا بها في أرجاء العالم، وهي محصورة في حدودها الضيقة باحتفالاتها ومظاهراتها وزيارات المدعوين إليها، فانصرفت اللجنة عن هذه الجهة القريبة منها، واتجهت بنظرها إلى الأفق الأوروبي الواسع، وإلى أفق باريس خاصة، وهي كما كانوا يسمونها إلى تلك الآونة عاصمة الثقافة الغربية، واختاروا لجائزتهم الأدبية الشاعر الفرنسي «سولي برودوم» زعيم المدرسة المثالية في عصره، وفاقا للشرط الأول من شروط صاحب الجائزة، وابتعدت بذلك عن شبهة العصبية المحلية، التي كانت تلحق بها وتلازمها لو ابتدأت بواحد من أبناء السويد والنرويج.
وانقضت السنة الأولى والثانية، ثم عاد إبسن إلى رأس القائمة، وزال المحظور بتوجيه الجائزة سنة إلى شاعر فرنسي، وسنة بعدها إلى مؤرخ ألماني؛ بل كثرت الأقاويل بعد السنتين الأوليين حول حرمان أبناء الشمال من حقهم في السمعة العالمية، ورأت اللجنة أنها تستطيع أن تنصفهم بغير حرج من تلك الشبهة المحظورة، ولكن قائمة الترشيح قد ظهر فيها اسم آخر مع اسم إبسن من صميم أبناء النرويج، وهو الشاعر القصاص المسرحي بجورنسون بجور نستجيرن.
كلاهما نرويجي، فمن منهما تفضله اللجنة السويدية عن الآخر؟
إبسن ولا شك أكبر وأشهر، ولكن زميله كان من قادة الحركة الوطنية في بلاده، وكانت بلاده يومئذ تنازع دولة السويد في قضية الوحدة، ولا تزال دولة السويد ترجو أن تصالحها، ولا تحب أن تزيدها من أسباب الخلاف ودواعي المطالبة بالانفصال، فاعتقدت اللجنة السويدية أن حرمان بجورنسون من الجائزة سيفسر بين أبناء قومه بأنه عقوبة له على موقفه من القضية الوطنية، وخطر لبعض الأعضاء أن تقسم الجائزة بين الأديبين الكبيرين، فعارضهم أكثر الأعضاء استعظاما لقدر كل منهما أن يجاز بنصف جائزة، وحذرا من أن يقال: إن نصف الجائزة هو كل ما استحقه أبناء الشمال.
ولما استقر الرأي على الموازنة بينهما لاختيار واحد منهما، كانت الكفة الراجحة إلى جانب بجورنسون، لما تقدم من موقفه في القضية الوطنية، وكان الأستاذ «ويرسين» أقوى الأعضاء نفوذا يعارض - من مبدأ الأمر - في اختيار إبسن، فاتخذ من شهرته السابقة سببا لترجيح زميله عليه، إذ كان بجورنسون في أوج قدرته على الإنتاج وخدمة الفن والمجتمع، وكان إبسن يومئذ شعلة تنطفئ كما قال ... وربما كان السبب الصحيح لمعارضة «ويرسين» أنه كان لا يعترف بالفضيلة المثالية لهنريك إبسن، وكان يعيب عليه تشجيع الإباحة والتمرد في تصويره لبعض أشخاصه من الرجال والنساء، كما يعيب عليه قلة عنايته بالأسلوب. •••
أما «تولستوي» فقد كان اسمه هو الاسم الوحيد المنتظر باتفاق الآراء في السنة الأولى من عمل اللجنة، وكان أدباء السويد قبل غيرهم من أدباء القارة أول من احتج على اللجنة بعد إعلان نتيجتها، فكتب اثنان وأربعون من كتاب السويد وشعرائها خطابا مفتوحا إلى المصلح الكبير يحيونه فيه، ويعتذرون من تغافل اللجنة عنه، وتجدد البحث في ترشيحه في السنوات التالية، ولم تتفق الآراء على قرار قبول، ثم عدلت اللجنة عن البحث في هذا الترشيح بعد أن أعلن «تولستوي» رأيه في الجوائز المالية التي يكافأ بها حملة الأقلام، وبعد أن علمت اللجنة أنه سيرفض الجائزة، ويأبى أن يشار إلى بعض عمله باستحقاقها، واستثناء أعماله الأخرى في هذا القرار.
والأسباب المطوية وراء هذه الأسباب المنشورة لا تخفى، بعد المقابلة بين جميع الفروض والاعتبارات.
فالسبب الأول يرجع إلى النفور القديم بين أبناء السويد وولاة الأمر في الدولة الروسية، وهو نفور من طمع القياصرة في بلادهم يقترن به شعور الحذر من إغضابهم وخلق الأزمات من جراء إثارتهم ومواجهتهم بالعداء والمقاومة.
وقد خيف أن يكون تعظيم «تولستوي» تحديا مكشوفا للحكومة القيصرية، ومناصرة صريحة للثورة عليها.
ولما احتدم السخط على اللجنة في بلادها وفي غير بلادها كان لا بد لها من عذر تدفع به عن خطتها حيال هذا المصلح الروسي المحبوب، فكان عذر «ويرسين» الذي تقدم ذكره أن تولستوي يدعو إلى الفوضى، ويفرط في إنكار الحضارة ورفض الثقافة للعودة إلى ما يسميه بالرجعة إلى أحضان الطبيعة، فإذا أجيزت أعماله بغير تمييز ففي ذلك إجازة لهذه الدعوة، وإذا ميزت اللجنة بعض أعماله ونصت على استثناء غيرها فقد يسوءه ذلك، فيهين اللجنة برفض جائزتها ورفض حكمها ... ثم جاء تصريح تولستوي باستنكار الجوائز المالية على إطلاقها في خلال هذه الضجة، فانفض الخلاف بهذا التصريح.
وتبقى بعد ذلك حقيقة لا بد أن تخطر على البال، فقد كان في وسع اللجنة - من بادئ الرأي - أن تبني تقريرها على أعماله التي ترتضيها دون أن تشير إلى غيرها، وهي إذا قالت: إنها تقدر كفايته الفنية وجهوده الإنسانية وصدقه في الغيرة على الإصلاح لم يكن لزاما عليها أن تنص على كلام بذاته يخالف ما ترتضيه، ثم يفهم الناس - بداهة - أنها لا ترتضي كل ما يدعو إليه.
على أن المسألة الشكلية كان لها شأنها في تجاوز تولستوي أول مرة؛ لأنه لم يكن مرشحا للجائزة بالطريقة القانونية، ولم تكن اللجنة في السنوات الأولى تبيح لنفسها أن تتولى الترشيح من عندها مع وجود الترشيحات الخارجية، وإنما أباحت ذلك بعد تجربتها لمسألة «تولستوي» بقليل. •••
وقد كان ترشيح «أميل زولا» مستوفى في شكله القانوني غاية الاستيفاء، وكان بين يدي اللجنة منذ جلساتها الأولى، تدعمه التزكية القوية من عالم له خطر كبير في حساب مؤسسات نوبل الكيموية، وهو العلامة «پيير برتلو» نابغة الكيمياء المشهور.
ولقد كان لاسم «أميل زولا» يومئذ دوي متجاوب الأصداء بين أرجاء العالم، بعد خطابه الجريء الذي أذاعه في الصحف بعنوان «إني أتهم»، وكال فيه التهم يمينا وشمالا للوزراء والقضاة والقادة والساسة والمحققين، ولم تمض سنتان على إذاعة ذلك الخطاب حين تقدم ترشيحه لجائزة الآداب العالمية، تلك الجائزة المشروطة بخدمة المبادئ المثالية، وأولها مبادئ العدل والحرية.
ولكن ترشيح «أميل زولا» رفض منذ البداءة بغير عناء ... لم؟ ما من سبب واحد يمكن أن يلقي عليه اللوم كله؛ بل هناك أسباب مشتبكة مشتركة يعد منها من شاء خطأ النقد واختلاف النظر بين العصور، كما يعد منها عوامل السياسة ودفع الشبهات ومجاملة المقامات المرعية في تقدير اللجنة.
لقد كان معروفا عن ألفريد نوبل - وهو أديب له مذهب في الأدب - أنه شديد النفور من مذهب «الطبيعيين» الذين يقودهم «زولا» في اللغة الفرنسية، وكان يرميهم بالخشونة وجلافة الذوق التي لا تتفق مع الأريحية المثالية، وكان دفاع زولا عن دريفوس قد ألقى به في معمعة الحرب التي عرفت يومئذ باسم «عداوة السامية»، وجعلته خصما صريحا للدولة الفرنسية، ولم تكن محاكم فرنسا قد أعلنت براءة دريفوس في السنة الأولى من القرن العشرين؛ لأنها أعلنت بعد ذلك بخمس سنوات، ولم يكن أنصار المذهب الطبيعي في الشمال قد غلبوا على خصومهم من المثاليين والرومانسيين، فاشتركت هذه العوامل جميعا في إنكار فضل ثابت، ليس من ينكره في هذه الأيام.
أما قصة «توماس هاردي» فهي قصة مبدأ وقصة حظ في وقت واحد، كان اقتراح اسمه يتكرر سنة بعد سنة، ويتكرر رفضه في كل مرة لسبب واحد، وهو روح التشاؤم الذي تغلب على رواياته وأشعاره، ثم عدلت اللجنة عن اعتبار التشاؤم مناقضا للمبادئ المثالية أو المبادئ الإنسانية، ولبثت على هذا الرأي إلى السنة التي أجازت فيها أناتول فرانس، وهو لا يقل في تشاؤمه الساخر عن هاردي، ثم عرض اسم هاردي مع اسم الشاعر الأيرلندي وليام تبلر ييتس في إبان العطف على النهضة السلتية، وقيل في ترجيحه على هاردي: إن الاعتراف بفضل هاردي قد تأخر حتى أصبح الاعتراف به الآن مذكرا بالإهمال، لا بالتقدير. •••
ظروف متشعبة، مشتبكة، تعمل أحيانا على حجب الجائزة العالمية عن أشهر الأدباء العالميين، ويصح أن يقال - كما قيل مرارا - إن ظروف الجوائز العالمية قد تحجبها عمن هم أكبر منها، ولا لوم على أحد بعينه في النهاية!
التفاوت بين الأمم في جوائز «نوبل»
ظهر لنا - فيما سبق - أن أحكام اللجنة عرضة للتفاوت الكبير بين المستحقين وغير المستحقين.
وظهر لنا إلى جانب ذلك أن هذا التفاوت لا يرجع كله إلى سوء القصد أو سوء التقدير.
ولكن له أسبابا أخرى: أهمها أن اللجنة مقيدة بشرط إنساني أخلاقي، لا بد لها من ملاحظته عند المفاضلة بين الأدباء بالمزايا الفنية والأدبية، وذلك الشرط هو خدمة قضية السلام والمثل الأعلى.
ومن تلك الأسباب ارتباط اللجنة بالدولة، فلا تستطيع أن تسقط من تقديرها حساب العلاقات السياسية والدبلوماسية في مسألة ترتبط بقضية السلام.
ويذكر من هذه الأسباب أن أحكام اللجنة موزعة على عشرات السنين، ويجوز لهذا أن يكون المستحق لها في هذه السنة أقل من زميل له فاته أن ينالها قبل بضع سنين.
ومن هنا تتعرض الموازنة بين الأدباء لكثير من التفاوت في مزايا الفن والأدب، ويمكن أن تنعقد المقارنة بين عشرة نالوا الجائزة وعشرة لم ينالوها، فإذا بالمحرومين أحق بها من الفائزين. •••
لكن التفاوت في الأحكام غير مقصور على أفراد الأدباء؛ بل يتفق في كثير من الأحيان أن تتفاوت الأمم في حظها من عناية اللجنة لأسباب غير فنية أدبية، ولا إنسانية أخلاقية، كما اتفق ذلك كثيرا في الجوائز التي كانت من نصيب أمم الشمال، وهي الأمم التي اشتهرت باسم أمم السكندناف.
وأمم السكندناف - كما هو معلوم - هي بهذا الترتيب: السويد، والنرويج، والدنمرك، وفنلاندة، وجزيرة أيسلانده!
وقد أصابتها الجوائز بهذا الترتيب أيضا، فمنحت السويد أربع جوائز، ومنحت كل من النرويج والدنمرك ثلاث جوائز، ومنحت كل من فنلاندة وجزيرة أيسلانده جائزة واحدة.
وكأنما لوحظ أن الدنمرك تخلفت في المضمار بعد السنوات الأولى، فمنحت جائزتها لأديبين في سنة واحدة، وهي سنة 1917 إحدى سنوات الحرب العالمية.
وقد كانت هذه الرعاية لأمم الشمال مقصودة من السنة الأولى، فكان اسم «إبسن» في مقدمة الأسماء التي عرضت لابتداء الاحتفال بالجائزة عند نشأتها، ولكن اللجنة كانت حريصة على تحقيق الصفة العالمية لجوائزها، وكان الابتداء بأنه من أمم الشمال خليقا أن يفقدها انتباه العالم إليها في أول تجربة من تجاربها، فلما مضت السنة الأولى والثانية، لم تشأ السويد أن تبدأ بنفسها، وكان من مساعيها في ذلك الحين أن تحسم الخلاف بينها وبين جارتها النرويج في قضية الوحدة الوطنية، فاتجهت الجائزة اتجاها «تلقائيا» - كما يقال - إلى أديب النرويج الذي اشتهر اسمه في تلك القضية، وهو الشاعر الناثر بجور نستجيرن بجورنسون.
والحرص على شمول الأمم السكندنافية بالجائزة ظاهر من مراجعة أسماء المؤلفين وأسماء الكتب أو الموضوعات، بغير حاجة إلى التوسع في التفصيل.
ففيما عدا أديبا أو أديبين، لم يعرف أحد من أولئك خارج بلاده في نطاق عالمي واسع.
ولم يتحقق لواحد منهم موقف ممتاز في شرط الجائزة الأول، وهو خدمة قضية السلام والمثل الأعلى، ولا تحققت له المزايا الفنية على ذلك المثال الرائع، الذي يسوغ الإغضاء عن ذلك الشرط بعض الإغضاء أو كل الإغضاء.
فالأدباء الذين ميزتهم اللجنة من أمم الشمال هم: بجورنسون من النرويج، وسلما لاجرلوف وهيد نستام من السويد، وكنوت هامسون وسيجريد أندسيث من النرويج، وأريك كارلفلد من السويد، وسيلانيا من فنلاندة، وجنسين وجيلروب
Giellerup
وبنتو بيدان من الدنمرك، ولاكسنس من أيسلانده، ولاجر كفيست من السويد.
وكلهم على فضلهم وكفايتهم لم يرتفعوا إلى منزلة فوق منزلة الطبقة الوسطى بمقياس الشهرة العالمية، ولم ترفعهم إلى ما فوق تلك الطبقة شهرتهم العالمية التي أحاطت بهم بعد منح الجائزة، ويغلب على الظن أنهم لو نشئوا في غير بلاد السكنداف، لما تتبعتهم اللجنة حيث كانوا بهذه العناية وهذا الاستقصاء.
على أنها لم تنس رعاية السمعة العالمية مع هذه الرغبة الدائمة في مجاملة الأمم السكندنافية، ورعاية أواصر القرابة والجوار بين أمة السويد وسائر تلك الأمم التي شملتها في أوائل القرن العشرين جامعة «النورديك» أو الشمالية، بعد أن شاعت على الألسنة في تقسيم العلاقات العنصرية.
فقد اتخذت اللجنة من الظروف العالمية مسوغا لاختصاص بلاد الشمال بثلاث جوائز في ثلاث سنوات متواليات، فبدأت في إبان الحرب العالمية الأولى بتوجيه الجائزة إلى أديب من الأمة الفرنسية التي كانت في مقدمة الأمم المشتركة في القتال: وهو رومان رولان المعروف بجرأته النبيلة في الدعوة إلى السلام، ثم اتخذت من الحرب الكبرى مسوغا لاجتناب الأمم المشتركة فيها، ومنحت الجائزة سنة 1916 أديبا من السويد، ومنحتها في السنة التالية أديبين من الدنمرك، ووقفتها سنة، ثم عادت إلى أمم الشمال فوجهتها سنة 1920 إلى أديب من النرويج.
أما أسباب منح الجائزة في جميع هذه السنين، فالهدف المقصود فيها أظهر وأدل على الرغبة في الاختصاص؛ لأنها - جميعا - من الأسباب التي يصل إليها طالبها بعد البحث عنها، وليست من الأسباب التي يفرضها على اللجنة وفاؤها بجميع الشروط واتفاق الآراء عليها بغير بحث مقصود، فاعتبرت الدعوة إلى مذهب من مذاهب علم الجمال مرشحا للجائزة التي منحتها الأديب السويدي هيد نستام عضو المجمع المشرف على هيئة التحكيم، وقالت في تحيتها له: «إنها تقدر عظمة شأنه في الدعوة إلى عهد جديد في فنوننا الجميلة.» وهي مزية خاصة باللغة السويدية.
وقالت عن الأديب الأيسلاندي: «إنها تمنحه الجائزة لكتابته الملحمية الحية التي جددت فن القصص الأيسلاندي القديم.»
وقد كان تعدد أسباب المنح خليقا أن يفتح الأبواب أمام اللجنة للاختيار من بلدان كثيرة في كل آونة، ولكنها عددت الأسباب وحصرت الجائزة في اثنين من بلد واحد حين اختصت بها الدنمرك سنة 1917.
فقالت عن جيلروب
Giellerup «إنها تقدر في هذا الشاعر المفكر وفرة محصوله في فن القصة مع التنوع والنزعة المثالية.» وقالت عن زميله بوتبدان
الذي أسهب في بحث مشكلات الروح الإنسانية، وأنها قدرته لما امتاز به من الأوصاف القيمة للحياة الحاضرة في بلاده.
وألطف ما يلاحظ من الرغبة في المجاملة والاسترضاء بين الأختين الكبيرتين في الزمرة السكندنافية، أن اللجنة لم تشأ أن تختار سيدة من السويد دون أن يكون للنرويج نصيب مثل نصيبها في رعاية الجنس اللطيف، فلحقت سيجريد أندست النرويجية بسلما لاجرلوف السويدية، بعد فترة عشر سنوات. •••
فهناك - إذن - ميزانان في يد لجنة نوبل، تزن بهما؛ ميزان لأمم الشمال، وميزان آخر لسائر الأمم.
وهناك تفاوت لا شك فيه، ولكنه في عرف المنصفين تفاوت شبيه بالعدل إن لم يكن هو العدل بتمامه ... لما فيه من رعاية الجوار وحسن المعونة الذي لا ينتظر من غير هذه الناحية، فإن لم يكن عدلا كل العدل فهو إحسان من أجمل الإحسان، وبخاصة لما فيه من المحافظة على قيمة الجائزة عند النظر إلى معايير الفن الصحيح، فإن الجوائز السكندنافية لم توجه إلى أحد خلو من مزايا الإتقان. •••
إلى الناحية الأخرى من الجوار أمة مقصودة بالاجتناب، تقابل هذه الأمم المقصودة بالرعاية.
فمن قبل أيام «نوبل» كانت السويد تنظر إلى روسيا القياصرة نظرة الحذر، وبدأت لجنة نوبل عملها في أوائل هذا القرن بين موقفين: موقفها إزاء الأدب القيصري وهي تخشاه، وموقفها أمام أعداء القياصرة وهي تخشى أن تغضب القياصرة بتشجيعهم والعطف عليهم، ثم بقي الجوار على قلق بين السويد وجارتها الكبرى بعد الثورة التي أزالت عرش آل رومانوف.
فمنذ أنشئت الجائزة لم ينلها أديب من الروس، وقد كان إيفان بونين الذي نالها سنة ثلاث وثلاثين روسيا من البيض، ولكنه كان ينتمي إلى الجنسية الفرنسية حين وجهت إليه.
ورضيت اللجنة عن باسترناك سنة ثماني وخمسين (1958) لمساهمته في مجال الشعر العصري، ومجال التراث القصصي في الأدب الروسي.
ولكن الشاعر الذي أرضى نقاد السويد لم يرض الكثرة من نقاد بلاده، كما يذكر القراء .
على أن هذا الموقف الخاص من الجارة الكبيرة قد تبعته مواقف مثله من أمم كبيرة أخرى، فكان له شأنه في استقلال بعض الدول بجوائزها من الطبقة الأولى، كما حدث في روسيا السوفيتية، وألمانيا النازية، وإيطاليا الفاشية، وغيرها من بلاد العالمين القديم والجديد.
شروط جديدة لجائزة نوبل الأدبية
صدرت الطبعة الجديدة من الكتاب الجامع الذي تطبعه مؤسسة نوبل، وتسجل فيه تاريخ المؤسسة، وتاريخ جوائزها، ومعها بعض التفاصيل عن أعمالها وتقاريرها.
وقد وصلت هذه الطبعة بتاريخ الجوائز إلى سنة إحدى وستين (1961) واشتملت على تعقيبات النقاد التي انتهوا إليها بعد المقابلة بين ظروف الجوائز ومستحقيها، منذ نشأة الجائزة في مطلع القرن العشرين.
وخلاصة هذه التعقيبات - من الوجهة العملية - أن الجائزة الأدبية يجب أن تقتصر على التشجيع المستحق في موضعه، وأن تمنح للذين يقدمون الأمانة الفكرية على المكاسب المادية، ويترفعون عن مجاراة الأهواء المبتذلة طلبا لرواج السوق، ووفرة الربح من أقرب طريق.
فالقيمة المادية التي تقدر لجوائز نوبل - بحسب مواردها السنوية - لا تزال أكبر قيمة بين جوائز العالم، وهي - كما هو معلوم - تتغير من سنة إلى سنة تبعا لموارد المؤسسة، واختلاف قيمة العملة، ولكنها تتراوح على الدوام بين ثلاثين ألف دولار وأربعين ألفا أو تزيد قليلا.
ويلاحظ تقرير المؤسسة أن هذا المبلغ - على ارتفاعه بالنسبة إلى الجوائز العالمية - قد يظفر به الكاتب العصري الرائج ثمنا للعرض على اللوحة البيضاء أو أجهزة التلفزيون، وقد يربح أضعافه من تأليف القصة، ثم من تحويلها إلى التأليف المسرحي، ثم من إخراجها على اللوحة البيضاء وأجهزة التلفزيون، وغير ذلك من وسائل الإذاعة، وتداول النشر بين المعارض العامة، وبين الأندية الخاصة والبيوت.
فإذا نظر الكاتب إلى وفرة العائدة فالقيمة التي ينالها من مؤسسة نوبل ليست بالمطمع الذي يغريه، أو يزين له تفضيل الجد والأمانة في خدمة الفكر والفن على مجاراة الأهواء، ومسايرة السوق، واغتنام تلك الأرباح.
وإذا تذكرنا أن جائزة نوبل قلما تصل إلى الأديب في منتصف الطريق، وأن جميع الأدباء قد تلقوها وهم على أوج الشهرة في بلادهم أو في بلاد العالم أجمع - فالقيمة المادية بالنسبة إلى هؤلاء لا تحسب من المعونة الضرورية عند مسيس الحاجة إليها، ولا تحسب من ضروب الإغراء التي تبعث القريحة الأدبية إلى تغيير الوجهة، أو القناعة بشرف السمعة، وحسن الجزاء، ولعل المؤسسة لم تنس - وهي تراجع هذه الظروف - قصة برناردشو، ولا عبارته التي قالها للمؤسسة حين رد إليها جائزتها قبل نيف وثلاثين سنة ...
فإنه اقترح على المؤسسة أن تنفقها في ترويج الأدب المشترك بين اللغتين السويدية والإنجليزية ... أما هو - كما قال - فقد وصل إلى الشاطئ، فلا حاجة به إلى طوق النجاة.
وما قاله برناردشو يصدق على الأكثرين ممن فازوا بالجائزة بعد أن جاوزوا منتصف الطريق، ولا سيما أبناء الأمم الكبيرة.
فالأديب الذي يبلغ غاية الشهرة في أمة صغيرة، قد تأتيه هذه المعونة المادية، كما تحقق له معنى التشريف الأدبي في وقت واحد؛ لأنها تشيع ذكره في أنحاء العالم، بعد انحصاره بين حدود بلاده.
أما الأديب الذي يكتب باللغة الإنجليزية، أو الفرنسية، أو الألمانية، فهو يكتب للملايين من القراء ويضمن الشهرة العالمية، مع ضمان الشهرة القومية، ويستغني عن الجائزة بما فيها من العون، وما فيها من التشريف أو توسيع نطاق الشهرة على السواء.
بل ربما صدق على أدباء الأمم الصغيرة في العصر الحاضر كل ما يصدق على أدباء الأمم الكبيرة؛ لأن عالم التمثيل على المسرح، وعلى اللوحة البيضاء يزدحم بأسماء الكتاب الذين نشئوا في رومانيا، أو سويسرة، أو إسبانيا، أو أقطار أمريكا الجنوبية ... ومن هؤلاء الكتاب من يطلبهم المخرجون والناشرون، ويبحثون عنهم وهم في ديارهم، طلبا للغرائب، والتماسا للبدع الطارئة على الأسماع والآذان، وإشباعا لرغبة الكشف والاستطلاع التي يتنافس فيها المخرجون والناشرون.
فلا حاجة بالأديب في البلد الكبير أو البلد الصغير إلى المعونة المادية من جوائز نوبل، ولا معنى للقيمة الأدبية - قيمة التشريف والتمجيد - إذا استحقها الأديب بمجرد الرواج والشيوع، وتساوت الكتابة التي تتطلبها بضاعة السوق، وتجد الباحثين عنها والمكافئين عليها بين المخرجين والناشرين، وهم يعملون لحساب شركات تملك الملايين، وتربح مما تنفقه على المسرحيات والصور المتحركة أضعاف ما يربحه المؤلفون، ويربحه معهم المخرجون والناشرون.
ومحصول التفكير في ذلك كله أن مؤسسة نوبل ترى إعادة النظر في أسباب منح الجائزة؛ تحقيقا لفائدتها الأولى: وهي تقدير الأمانة الفكرية في خدمة الفن والثقافة، وتجنيد القرائح في ساحة الجهاد الشريف للسعي إلى المثل العليا.
ولم يذكر نقاد المؤسسة موضوع الأدب الذي يقصدونه بإعادة النظر في قيمة الجائزة، ولكنه - كما هو واضح - كل أدب يرتفع إلى الذروة في البلاغة وأمانة التفكير، ولكنه يقصر عن الكسب في معترك الزحام على إرضاء الأهواء والشهوات، ويعجز عن ادخار الثروة لصاحبه بحساب شباك التذاكر، ونسخ البيع وأبواق الدعاية.
وتكاد الموضوعات من هذا القبيل أن تسمي نفسها لمن يطلب أسماءها ... فإذا استثنينا القصة التي تثير الغريزة، والمسرحية التي تثير اللغط، وتجتذب النظارة بأعاجيب العرض والتشكيل، واستثنينا معها ضروب التهويل على السذج والجهلاء بالمصطلحات والأسرار، فالذي يبقى بعد ذلك لا يعدو موضوعا واحدا: وهو الأدب البليغ من المنظوم والمنثور، يستند إلى شيء في النفس الإنسانية غير شهوة الغريزة: يستند إلى الذوق السليم، والضمير المستقيم.
ومما لا ريب فيه أن الجوائز العالمية ستفقد وظيفتها إذا كان مقياسها هو مقياس الشهرة لا أكثر ولا أقل، وكان مقياس الشهرة هو مقياس الرواج والكسب في سوق الساعة.
وأضيع ما تكون الجائزة العالمية إذا هي نافست أرباب هذه السوق في تجارتهم التي يحسنونها، وينقطعون لتجاربها ومنوراتها، فإن الناظر إلى المثل الأعلى، وإلى القيم الإنسانية الباقية لا يستطيع أن يحقق شروط الكمال، وشروط الربح، والرواج في صفقة واحدة، ومهما يفعل فإن المتجرين بالأدب سيعرفون كيف يجتذبون إليهم طلاب الربح ورواد الشهرة، ولا يعنيهم بعد ذلك أمر الذين يفضلون الإتقان على النجاح، ويقنعون بخمول الذكر إذا كلفتهم الشهرة العاجلة أن يخونوا أمانة الفكر التي يؤمنون بها.
وربما كان في وسع الناشرين والمخرجين أن يسخروا وسائلهم الخاصة لترويج البضاعة الكاسدة في سوق الأدب الرخيص؛ لأنهم يخاطبون جمهور هذا الأدب بما يقنعه ويرضيه، ولا يتوقف إقناعهم إياه على صحة التمييز، وتمام المعرفة؛ لأن «الموضوعات » في بضاعة الأدب كالموضوعات في الملابس والأزياء، تتوقف على معرفة تامة وتمييز صحيح.
ومنذ سنتين دخلت الأساليب الاقتصادية إلى سوق الجوائز الكبرى في أوسع مجال، ونظمت عملها على قواعد التجارة العالمية التي تقتضيها أحوال الزمن ومطالبه العملية، وليس من اللازم أن تتجه هذه الجوائز إلى غير المستحقين للتقدير والتشجيع، أو غير المؤمنين بالمثل العليا، وأمانة الرسالة الإنسانية، ولكن اللازم فيها أن تنظر إلى الرواج قبل كل شيء، ثم يأتي بعد ذلك دور الإتقان والكمال.
تألفت هيئة واحدة تضم إليها مندوبين من دور النشر في كل من إسبانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والسويد، والنرويج، والدنمرك، وهولنده، وتتصل بدارين كبيرتين من دور النشر في إنجلترا والولايات المتحدة، وقد ينضم إليها في المستقبل ناشرون من أمم أخرى.
هذه الهيئة تضمن - مقدما - أن يطبع الكتاب الذي تختاره في بلاد تابعة لأربع عشرة دولة، وتضمن ترجمته إلى عشر لغات أو أكثر من ذلك - إذا اقتضى الأمر - في وقت واحد، وتضمن وسائل الإعلان والتوزيع في الصحف التي تقرأ بتلك اللغات، فلا تعطي جائزتها إلا وهي على ثقة من تعويضها السريع أضعافا مضاعفة، وقد تقترح هي الموضوع على الكاتب كلما أنست من السوق العالمية رغبة فيه واستعدادا لقبوله.
وابتدأت هذه الهيئة بتوزيع جوائزها - واسمها جوائز فورمنتر
Formentor - سنة إحدى وستين (1961) وهي السنة التي فكرت فيها مؤسسة نوبل في إعادة النظر إلى شروط الاختيار للمحافظة على قيمة الجائزة المثالية، ولعل ظهور هذه الأساليب الاقتصادية في سوق النشر كان له شأنه في ذلك التفكير.
والقسط الأول من جائزة فورمنتر يساوي عشرة آلاف ريال، تتبعه أقساط متوالية من موارد البيع، والتوزيع، والعرض في الصور المتحركة، وقد كانت من نصيب كاتب إسباني اسمه سنيور جوان جارسيا هورتلانو، لم يصدر له غير كتاب واحد قبل كتابه المختار، عنوانه
Tormenta de vearono «تورمنتا دي فيرانو» أي عذاب الصيف.
وجائزة نوبل تفقد وظيفتها - ولا ريب - إذا بنت ترشيحاتها على هذه القواعد الاقتصادية، ولكنها تقوم بوظيفة لا ينافسها فيها ناشر ولا مخرج، إذا وجهت عنايتها إلى أدب يضمن البقاء ولا يضمن الرواج على الدوام، وفي مجال القصة التمثيلية، والشعر الرفيع، والبلاغة الجميلة، والثقافة الإنسانية متسع لهذا الاتجاه الجديد.
الجائزة والأدب النسائي
نال جائزة نوبل للآداب نحو ستين أديبا، من مطلع القرن العشرين إلى السنة الماضية، وقد توقفت الجائزة في بعض السنوات لأسباب تتعلق - على الأكثر بالحرب العالمية - ونالها أكثر من واحد في بعض هذه السنين.
من هؤلاء الأدباء الستين أربع كاتبات: هن سلما لاجرلوف السويدية، وجرازيا ديلادا الإيطالية، وسيجريد أنديست النرويجية، وپيرل بك الأمريكية.
وقد كانت (1909) أول سنة ظهر فيها اسم المرأة بين المرشحين لهذه الجائزة العالمية، وقالت اللجنة في شهادتها التي تذكر فيها أسباب استحقاق الجائزة أنها تمنحها إياها «تقديرا للنزعة المثالية الرفيعة، وملكة الخيال الحي، والفطنة الروحية التي اتسمت بها كتابتها.»
واختيرت الكاتبة الإيطالية جرازيا ديلادا
Grazia Deledda
بعد ذلك بثماني عشرة سنة، فنالت الجائزة سنة سبع وعشرين (1927) للسنة التي قبلها، وقالت اللجنة: إنها استحقتها «بكتابتها التي توحيها الروح المثالية، مع وضوح الحس في تصوير الحياة في الجزيرة التي هي وطنها - جزيرة سردينية - إلى مزية العمق والعطف التي تتناول بها المشكلات الإنسانية على الإجمال».
وفي السنة التالية؛ سنة ثماني وعشرين (1928) وجهت الجائزة إلى الكاتبة النرويجية سيجريد أندست
Sigrid Undset «على الخصوص لقدرتها على وصف الحياة في البلاد الشمالية خلال القرون الوسطى».
وفي سنة ثماني وثلاثين (1938) منحت الجائزة كاتبة أمريكية هي پيرل بك
ولم ينلها قبلها أحد من الأمريكيين غير الكاتب المشهور «سنكلر لويس» سنة ثلاثين (1930).
وقالت اللجنة: «إنها استحقتها بما لها من المقدرة الثرية بوصف حياة الريف في بلاد الصين وصفا صادقا على مثال قصص الملاحم، مع كتابة السير التي تحسب من آيات التراجم.»
فالكاتبات الأربع، كلهن من نوابغ أدباء القصة، أو الرواية المطولة.
وكلهن من أدباء المدرسة المثالية، وهي المدرسة التي قد تصف الواقع الصادق بغير كلفة، ولكنها تتجنب الواقعية المبتذلة.
وكلهن يكتبن بهذا الأسلوب، سواء كتبن في موضوعات العصر الحاضر أو موضوعات الأزمنة الخالية، وسواء كانت كتابتهن عن أوطانهن أو عن أوطان أخرى، كالبلاد الصينية.
وإذا روجع تاريخ الأدب الغربي في نصف القرن الماضي، فليس بين كاتباته من هي أحق بالتنويه والتقدير من هؤلاء الكاتبات المختارات، فليس لواحدة منهن قرينة لها في وطنها، ولا في غيره من أوطان الغرب من بنات جيلها، وقد تنعقد المقارنة بينهن وبين نوابغ القصة من الرجال والنساء، فلا يتخلفن وراء الصفوف في هذا المجال.
إلا أن الفضل في هذا الإنصاف إنما هو فضل الزمن الذي يحكم حكمه الباقي، بعد خلافات الحاضر ومنازعات الآراء، أو هو الفضل الذي نعرفه اليوم بعد عرض التاريخ زهاء خمسين سنة، وليس هو الفضل الذي ظهر للنقاد والمحكمين في حينه، قبل تزكية الأيام وانقضاء الخلاف والمختلفين في كثير من الأحيان.
فالمحكمون في لجنة نوبل لم يعرضوا هذه السنين كلها مجتمعات في مقارنة واحدة، وإنما نظروا إلى كل جائزة على حدة في سنتها بحسب المرشحين فيها.
ولم يقصدوا أن يميزوا الأدب النسائي بين ألوان أخرى من الأدب، فإن كل سنة من هذه السنين قد كان لها مرشحوها العديدون من الرجال، ولم يكن في أكثرها وجه للمقارنة بين كاتبة وكاتبة أخرى في بلادها أو غيرها.
ولكن الذي حدث أن هذا الإنصاف لم يأت بغير خلاف شديد، وبغير تردد كثير، ولم يظهر وجه الحق - بعد هذا التردد الكثير - إلا حين حكم الزمن، وتيسر التقدير الصحيح بالمقارنة التي لم تتيسر في أوان الجائزة، وإلا حين اتسعت آفاق المقارنة على مدى العشرات من السنين، ولم تكن هذه الآفاق تتسع في حينها لغير العام بعد العام.
ولدت «سلما لاجرلوف» سنة ألف وثمانمائة وثماني وخمسين، ونالت الجائزة وهي في الحادية والخمسين، وأصيبت وهي في الثالثة بمرض في العظام، سلمت منه بعد العلاج الطويل بقدم عرجاء وبدن هزيل، وأقعدتها العلة عن الحركة الطلقة، فانصرفت إلى المطالعة والدرس في السن التي تنصرف فيها البنات للعب، وتعلم الرقص وفنون الرياضة، فحاولت الكتابة ولما تجاوز العاشرة بكثير، ونظمت الشعر وهي في الخامسة عشرة، وتوفرت على التعليم الجامعي وهي في الثانية والعشرين، وعولت على الاستعداد الكامل لصناعة التعليم في أعلى مراحلها بالبلاد السويدية ، على الرغم من ثروتها التي كانت تسمح لها بالمعيشة في دعة ورخاء، بغير عمل لكسب العيش والارتزاق.
وقد مارست صناعة التعليم فعلا إلى سنة خمس وتسعين (1895) ... ثم انتابتها أزمة من أزمات الشك والتشاؤم، فاضطربت حياتها أيما اضطراب، وانتابتها الحيرة في حياتها الخاصة، وحياتها الفكرية، فاعتزلت وظيفتها في التعليم، وأزمعت الرحلة إلى بيت المقدس لزيارة الأرض المقدسة، وكادت أن تعقد النية على الإقامة فيها مدى الحياة، لتعيش إلى جوار الحرم الذي ولد فيه السيد المسيح كما عاش على سنة النسك والفداء.
ولكنها تحولت بالنسك إلى عالم الفكر والتأليف، وكتبت روايتها المطولة باسم «أورشليم»، فأودعتها كل ما اختلج في صدرها من لواعج الشك والقلق، وكل ما استقرت عليه - بعد ذلك - من عقائد الطمأنينة والإيمان.
ولما قاربت الخمسين أراد المعجبون بأدبها من أبناء وطنها أن تكون الجائزة تحيتها في عيد ميلادها، فعارضهم مواطنهم الكبير ويرسن، رئيس المجمع الأدبي واللجنة المحكمة في الجوائز الأدبية، وكان من خطته أن يتجنب شبهات المحاباة لبلاد الشمال، وإن ترشيح الشاعر الإنجليزي سوينبرن في تلك السنة أولى وأكرم من اختصاص الكاتبة السويدية بها، ولو كانت من حقها بالكفاية الفنية ... على أنه كان ينكر هذا الحق، وكان يرى أن غرابة البدعة وغلبة العاطفة على حكم النقد الصحيح، كان لهما فعلهما في ترشيح الكاتبة السويدية؛ إذ كان يأخذ عليها ما يسميه بتكلف الشعور ومجاراة العرف في الوساوس الدينية.
وحالت معارضة ويرسن دون صدور القرار من اللجنة باختيارها سنتين متواليتين، ثم أعيد الترشيح آخر مرة بتأييد قوي من جمهرة القراء في بلاد السويد، وبلاد الشمال عل الإجمال، فرجحت كفة المرشحين على كفة المعارضة من الرئيس وأنصاره، وتقرر بعد خمس سنوات من منحها الجائزة أن تختار عضوا في لجنة الجوائز، فلم تزل فيها صوتا مسموعا إلى يوم وفاتها، سنة ألف وتسعمائة وأربعين.
أما الكاتبة النرويجية التي كانت الثانية من بلاد الشمال في سجل الجائزة، فقد منحت الجائزة وهي في الثانية والأربعين، وقد كان للشعور الديني شأنه في معارضة ترشيحها؛ لأنها عدلت عن المذهب البروتستانتي إلى مذهب الكنيسة الكاثوليكية وهي في الثالثة والأربعين، ولكن هذا الشعور الديني قابله باعث من بواعث الشعور السياسي لم يزل يتجه إليها، لاختيار كاتبة نرويجية بعد الكاتبة الأولى التي اختيرت من بلاد السويد، وزكاه موقف آخر لها من مواقفها الوطنية أثناء الحرب العالمية الأولى، وما تلاها من الزعازع الداخلية، فكانت لها شفاعة من هذه البواعث المختلفة تزيد على شفاعة الفن والقيمة الثقافية، على رجاحة هذه القيمة بمقياس النقد الأدبي، ومقياس العلم الواسع بتاريخ البلاد.
أما الكاتبة الإيطالية جرازيا ديلادا فقد عرض اسمها مرات قبل أن تمنح الجائزة في سنة 1927 عن السنة التي قبلها، وقد اختارها مجمع الآداب في رومة عضوا من أعضائه الخالدين سنة ست وعشرين (1926)، ولعله كان تعويضا لها، ولسمعة الأدب الإيطالي، بعد العلم بإهمال ترشيحها في اللجنة السويدية.
وقد نالت پيرل بك الجائزة وهي في السادسة والأربعين، ولم تكن عطلا من الألقاب والجوائز قبل أن تتجه إليها جائزة نوبل في سنة ثمان وثلاثين (1938)، فإنها كانت تتلقى ألقاب الجامعات من كل صوب، وكانت أول امرأة تختار لمجمع الفنون والآداب في بلادها، ويظهر من صيغة الشهادة التي أجيزت بها أنها استمدت معظم أسباب الترشيح من ترجمتها لأبويها المبشرين في الشرق الأقصى، وأن الإعجاب برواياتها الصينية قد تأخر إلى سنة ثمان وثلاثين، ثم كان للعوامل الدولية أثرها الواضح في ترشيح الكاتبة التي تعطف على الصين لجائزة من جوائز السلام ... إذ كانت اليابان يومئذ تتحدى هيئة الأمم لتطلق يدها في سياستها نحو الصين. •••
فلم تكن طريق المرأة إلى الجائزة طريقا مفروشة بالورود، ولم يكن إنصاف اللجنة لها عملا من أعمال التحقيق، وإنما كان عملا من أعمال التوفيق.
وهذه أيضا ظاهرة من الظواهر العجيبة التي تستدعي الانتباه في أعمال الهيئات العالمية، فإنها لا تستطيع أن تنعزل عن تيار التاريخ من حولها، ولا مناص لها من تسجيله وتمثيله، وهي تجاريه أو تعارض مجراه.
جائزة نوبل وموضوعات الأدب
تشتمل وصية نوبل على خمسة أنواع من الجوائز: هي جائزة علم الطبيعة، وجائزة علم الكيمياء، وجائزة الطب والتشريح، وجائزة السلام، وجائزة الأدب.
ولم تعين الوصية موضوعا خاصا من موضوعات، ولكن الموضوعات التي اصطلح عليها العرف عند كتابة الوصية هي: الشعر، والرسائل البليغة، والقصة بأنواعها، ومنها النادرة والحكاية والرواية المطولة، والمسرحية المنظومة الملحنة، والمسرحية المنثورة.
ولكن اللجنة توسعت في موضوعات الأدب، فشملت بها أبوابا من الكتابة لم تكن مما يحسب إذا قسمت الموضوعات بعناوينها العامة، فأدخلت فيها الفلسفة والتاريخ والدراسات النفسية الأخلاقية.
وربما صح أن نرجع بالنموذج الأدبي في عرف اللجنة، إلى النموذج الذي كان مختارا مفضلا في عرف نوبل صاحب الجائزة، وقد كان نموذجه الأعلى الشاعر الإنجليزي شلي، من أقطاب الشعر العالمي في القرن التاسع عشر: وهو شاعر غنائي جميل الأسلوب بليغ التصوير، ينظم الملاحم في الإشادة ببطولة الثورة التي تطمح إلى تقرير حقوق الإنسان، ومنها ملحمة برومثيوس الذي تحدى رب الأرباب في أساطير اليونان، وعلم الإنسان كيف يحمل أسرار النار والنور، ولا نرى من مراجعة أسماء الشعراء الذين خصتهم اللجنة بجوائزها أنها اختارت شاعرا من غير هذا الطراز، وإن لم يكونوا جميعا من طبقة «شلي» أو من الناظمين في جملة موضوعاته، فربما كان منهم من قصر نظمه على القصائد الغنائية، ومن نظم المسرحيات للتمثيل والتلحين، ولم ينظمها على أسلوب الملاحم في شعر الأقدمين.
وقد ظل نصيب الشعر أوفر الأنصبة بين موضوعات الأدب إلى اليوم، وأجازت اللجنة شعراء من الناظمين بأكثر اللغات الأوروبية، ولا سيما الفرنسية، والإنجليزية، والألمانية، والإيطالية، والإسبانية، وأجازت شعراء من السويد، والنرويج، والدنمرك، والبلجيك، وأجازت شاعرا من غير الأوروبيين هو شاعر الهند رابندرانات تاجور.
وتأتي القصة بعد الشعر في هذا الترتيب، فليس بين الناثرين المجازين من لم يسهم بقلمه في نوع من أنواع القصص على اختلافه، وقل في الشعراء أنفسهم من لم يكن له قصص منظوم، أو قصص في قالب الرواية التمثيلية.
ويلاحظ الغرض الإنساني في كل لون من ألوان القصص المختار، فلا تخلو قصة من العناية بحالة اجتماعية، ولا بد - مع العناية بالحالة الاجتماعية - من عناية خاصة بنفس الإنسان، أو بضمير الإنسان ... وقلما أجيزت قصة لم تعرض لمشكلة الحياة النفسية في المجتمع، ومشكلة النفس البشرية في نجواها، بينها وبين ضميرها الذي لا سلطان للمجتمع عليه ... وقد تكون أزمة الضمير العالمي، وأزمة الضمير الخاص بين الإنسان ووجدانه، هما المدار الأكبر لكل عمل قصصي نوهت به لجنة الجائزة إلى اليوم.
وقد ترخصت اللجنة أحيانا في شرط الغاية المثالية من القصة، فإذا فعلت ذلك فإنما يدعوها إليه أن المرشح للجائزة عظيم المكانة، عظيم الشهرة، وأن محاسنه الفنية تغطي على ذلك النقص، ويوشك أن تكون هي نفسها غاية مثالية في عالم الذوق والجمال.
ومن هذا القبيل فن أناتول فرانس الذي حالت آراؤه «الشكوكية» زمنا دون ترشيحه، ثم ارتفعت به مكانته وجمال أسلوبه أخيرا فوق هذا الاعتبار.
ولهذه المزية الفنية أجازت اللجنة مؤرخا كبيرا مرة، وفيلسوفا كبيرا مرة أخرى.
أما المؤرخ فهو ثيودور ممسين
Mommsan
الألماني، أكبر المؤرخين للدولة الرومانية في عصره، وهو كاتب فخم الأسلوب نافذ البصيرة مثالي النزعة، فضلته اللجنة على هربرت سبنسر العالم الفيلسوف الإنجليزي؛ لأنه - بعد الموازنة في المزايا الفكرية والفلسفية - يمتاز بأسلوب الكتابة، ولا يضارعه هربرت سبنسر في هذه المزية.
وأما الفيلسوف الذي ألحقته اللجنة بالأدباء فهو هنري برجسون، أشهر الفلاسفة المثاليين في عصره، وقد لاحظت اللجنة في اختياره من بين الفلاسفة أنه يدعو إلى «المثالية الروحية» في زمن غلبت فيه النزعة المادية على أقلام الكتاب والمفكرين، وأنه يحتفل ببلاغة الأسلوب في زمن غلب فيه طابع الابتذال والإسفاف على أساليب الأدباء، وهناك فيلسوف سبق برجسون إلى الجائزة الأدبية بنحو عشرين سنة، وذلك هو رودلف يوكن
Eucken
الفيلسوف الألماني الذي قالت اللجنة: «إنه عرف بالجد في البحث عن الحقيقة، وبالنظر الثاقب، والبصيرة الواسعة، والتصوير الذي يجمع بين الحرارة والقوة، وأنه استخدم ذلك كله في جلاء العالم على البروز في تلك السنة لو لم تظهر فلسفته مترجمة إلى اللغة السويدية قبل بضعة شهور، فكان اشتغال الأذهان بها بين أساتذة الجامعة مرجحا له على سائر الترشيحات، ومن هؤلاء الأساتذة محكمون في اللجنة لهم صوت مسموع.»
وقد وقع اختيار الفلاسفة والمؤرخين للجائزة الأدبية موقع الاستغراب بين نقاد الأدب، وأولهم المعجبون بموضوعات الفلسفة والتاريخ؛ لأنهم حسبوه خروجا عن الموضوع، ولم يحسبوه تكريما في غير موضعه، من الوجهتين الفلسفية والتاريخية، وكان من دواعي هذا الاستغراب أن اللجنة أهملت في كل سنة من تلك السنين أعلاما نابهين في صميم الكتابة الأدبية، فلم تكن مضطرة إلى تجاوز العالم الأدبي لاختيار المرشحين من عالم الفلسفة والتاريخ.
لكن اختيار «الأشخاص» قد لقى في بعض السنين ما لم يلقه اختيار الموضوعات، أو الخروج بالجائزة من موضوعها في سنوات معدودات، على رأي النقاد.
فلما أعلن اسم شرشل في سنة ثلاث وخمسين (1953) سبق إلى الأذهان أنها جائزة السلام، فاستغرب الناس أن توجه هذه الجائزة إلى رجل كان في طليعة قواد الحرب وساستها، وكان من أكبر الدعاة إلى التسليح والاستعداد للحرب، دفاعا أو هجوما، قبل الحرب العالمية الثانية، وهو صاحب الأمثولة المعروفة عن السباع التي اجتمعت للاتفاق على أنواع السلاح التي يمتنع استخدامها، فاقترح الأسد أن يحرم كل سلاح غير الأنياب والأظفار، واقترح العقاب تحريم كل سلاح غير المخالب، ومضى كل سبع يحرم كل سلاح غير سلاحه، إلى أن ضمهم الدب في عناق مطبق وبيل ... وفي الأمثولة ما فيها من السخرية بمؤثرات السلام والدعوة إلى نزع السلاح.
فلما أعلن أن الجائزة للأدب لا للسلام، وشاعت أسباب الاختيار من الناحية الأدبية، لم يتغير شعور الاستغراب مع اتفاق الآراء على تقدير المزايا الفنية في كتابة السياسي الكبير؛ لأن هذه المزايا جميعا كانت معروفة مقدورة قبل الحرب العالمية، وكانت تراجمه وفصوله وخطبه كلها شائعة متداولة قبل سنة الجائزة بأكثر من عشر سنين.
ولما أعلن اسم الطبيب «شويتزر» قبل ذلك بسنة، سبق إلى الأذهان أنها جائزة الأدب ليست بجائزة السلام، فلما عرف الناس أن الطبيب الفيلسوف كوفئ على خدمة السلام لما يتولاه من أعمال التطبيب والتبشير في القارة الأفريقية، عاد الناس إلى ذكر الفلاسفة الذين استحقوا جائزة السلام بما كتبوه وما عملوه، ومنهم برتراند رسل مواطن شرشل ونظيره في المنزلة الاجتماعية.
وهذه أمثلة بينة للغرائب التي تثيرها مسألة الموضوعات كلما اقترنت ببعض الأسماء؛ لأنها تلقي في الأذهان أن المناسبة مقترنة بالشخصية المختارة، أشد من اقترانها بالموضوع أو بموعد الاختيار.
وقد تقدم أن مسألة الموضوع محل نظر جديد في السنتين الأخيرتين، وأن المشرفين على توزيع الجوائز الأدبية يخشون أن تنقضي وظيفة الجائزة، وأن تذهب الفائدة المرجوة منها إذا بقيت موضوعاتها مطلقة عامة بغير تمييز؛ لأن قيمة الجائزة المالية لا تساوي بعض ما يكسبه كاتب القصة الرائجة من نشرها وتمثيلها وإذاعتها وعرضها على اللوحة البيضاء، وتصويرها للتلفزيون.
فليس في قيمة الجائزة المالية من الإغراء ما يصرف طالب الكسب عن الكتابة المربحة في موضوعات القصة والمسرحية، وسائر الموضوعات التي تروج هذا الرواج.
وقد تقضي هذه الظروف على اللجنة أن تعود إلى نموذج نوبل المختار، وهو نموذج الشاعر المثالي الذي يؤثر جمال البلاغة، وعلو العاطفة الإنسانية على بضاعة السوق.
فلعل هذا الموضوع - موضوع الشعر الإنساني البليغ - هو النموذج الوحيد الذي يرتفع فيه الأديب إلى القمة، ثم يقصر جزاؤه منه عن مقدار الجائزة بحساب المال.
رافض الجائزة
ولد برناردشو في سنة 1856، واختارته لجنة نوبل لجائزتها الأدبية سنة 1925 ... فكان يناهز السبعين، ويتسنم ذروة الشهرة العالمية حين وصلت هذه الجائزة إليه.
ولهذا الأديب الغريب قصة غريبة - مع الجائزة - كسائر قصصه وأطواره في حياته، وفي أعماله، ومن أجلها نخصه بحديث مستقل من سلسلة هذه الأحاديث عن جوائز نوبل الأدبية.
فهو الوحيد الذي رفض هذه الجائزة بين المئات ممن نالوا جوائز نوبل على اختلافها، وكانت حجته في رفضها أنه في غنى عنها؛ لأنه وصل إلى بر الأمان، فلا حاجة به إلى عوامة النجاة.
والحجة - كما يبدو - حجة ظاهرة تخفي ما وراءها، فإن جائزة نوبل ليست من جوائز التشجيع، التي يراد بها تنشيط السابحين في طريقهم إلى بر الأمان، وإنما هي جائزة تتويج وتقدير، ينالها القليلون ممن بلغوا الغاية واستقروا على القمة، ولا حاجة بواحد منهم إلى عوامة النجاة في طريقه إلى الشهرة، ولو كانت الجائزة مقصودة للتشجيع لما كان فيها الكفاية للمئات والألوف الذين يبدءون طريقهم أو يجاهدون في عبور عقباته قبل النهاية، وهم عدد لا يحصى في بلاد الأمم الغربية.
فبرناردشو لم يرفض الجائزة لهذا السبب، ولكنه رفضها؛ لأنه رأى - بحق - أنها تخطته عدة سنوات، ووصلت قبله مرات عديدة إلى أناس لا يساوونه في نظر الناس، ولا في نظر نفسه، وقد كان هو - على رجاحة قدره - يرتفع بهذا القدر فوق مستواه بكثير.
فمن نالوا الجائزة قبله «فلادسلاوريمون» البولوني، وجاسنتو بنافنتي الإسباني، وكنوت هاسون النرويجي، وكارل سبتلر السويسري، وبتوبدان الدنمركي، وبول هيس الألماني، وكلهم ممن يصح أن يقال فيهم: إنهم نكرات إذا قيسوا إليه بمقاييس الشهرة العالمية أو القيمة الأدبية.
وممن نالها قبله من أعلام الأدب أناتول فرانس الفرنسي وموريس مترلنك البلجيكي، وهما نظيران له يعز عليه أن يتخلف عنهما سنوات، بعد أن ظهرت له أكبر مؤلفاته التي لم يظهر له - بعد توجيه الجائزة إليه - ما هو أعظم منها وأحق بالتقدير.
وممن نالوا الجائزة قبله بسنتين شاعر أيرلنده وليام ياتس، وهو اختيار يغض من قدر برناردشو بصفة خاصة ... لأنه أيرلندي كويليام ياتس، وليس له من الجهود في ميادين الأدب أو ميادين الإصلاح ما يقرن بجهود برناردشو في هذه الميادين، وكثيرون غير برناردشو يشعرون بالغضاضة عليه من تأخيره، بعد تقديم من ذكرناهم، ومن لم نذكرهم في هذا الحديث ... ولا استثناء في ذلك للعلمين البارزين اللذين يعتبران أشهرهم جميعا في مجال الآداب العالمية وهما: مترلنك، وأناطول فرانس، فإن مترلنك أضيق أفقا من برناردشو في ميادين الإصلاح والثقافة العامة، وفي كتابة أناطول فرانس من شوائب السخرية المتشائمة ما يؤخذ عليه بمقاييس اللجنة السويدية قبل غيرها، عند المقارنة بينه وبين «شو» في إيمانه برسالة الإصلاح.
وإذا نظرنا إلى الناحية العالمية في جهود الإصلاح فقد كانت لبرناردشو كفته الراجحة في هذه الجهود، وقد يتسع المقام هنا لباب من أبواب المقارنة، يأتي في مكانه في سياق هذه الدراسة.
فإن برناردشو قد تطوع بالحملة الشعواء على السياسة البريطانية بعد فاجعة دنشواي، وألف في موضوعها كتابه بعنوان: «جزيرة جون بول الأخرى» مقدما له بتلك الفصول المسهبة، التي أثبت فيها شناعة الحكم، وبطلان التهم المنسوبة إلى الفلاحين، وضمنها من التحقيقات الطبية والشواهد العيانية ما لا يحتمل المغالطة والتمويه، ولم يمض شهور على ظهور هذا الكتاب حتى وجدت الدولة البريطانية نفسها مضطرة إلى إعلان توبتها في العالم عن هذه الخطيئة المنكرة، فعزلت لورد كرومر معتمدها المسئول عنها، وحاولت بعد عزله أن تنهج لسياستها نهجا جديدا للتقرب من أبناء هذه البلاد.
يقارن هذا بمسلك أناطول فرانس في دور من أدوار القضية المصرية، فإنه سئل أن يقدم كتابا باللغة الفرنسية نشره الوفد المصري في أثناء اجتماع مؤتمر الصلح بباريس، وأراد أن يستفيد من شهرة الكاتب الكبير في لفت أنظار المؤتمرين إليه، فكتب مقدمته في صفحتين صغيرتين، وتقاضى عن هاتين الصفحتين ألف جنيه، سلمت إليه قبل كتابة المقدمة بأيام!
فالغرابة في قصة برناردشو مع الجائزة تنقلب إلى استغراب لعمل اللجنة نفسها، بعد بيان الحقيقة.
وقد كان هذا التأخير غريبا في نظر الناس، ولم يكن غريبا في نظر برناردشو إلى نفسه، وقد نفسر نحن هذه الغرابة بتفسير واحد لا نعرف لها تفسيرا أقرب منه إلى القبول: وهو زعامة شو للثورة الاشتراكية في البلاد الإنجليزية، فإن اللجنة السويدية - وهي تمثل معهدا من معاهد رأس المال - لم تعترف قط بحق الجائزة لصاحب دعوة اشتراكية، ولم تعدل عن هذا الموقف إلا في الزمن الأخير، بعد سريان الدعوة الاشتراكية إلى بلادها، اعتصاما بها من خطر الانقلاب الماركسي الذي اقترب منها، ولولا ذلك لما تغير موقفها من تقدير برناردشو وتقدير الثورة الفابية التي كان من زعمائها.
إلا أن غرائب برناردشو تتراءى على أطرفها وأظرفها عند النظر إلى مقاييسه هو في تقدير نفسه، وتقدير أدبه بموازين الآداب العالمية: قديمها وحديثها.
تقدم أنه كان من زعماء الدعوة الاشتراكية في البلاد الإنجليزية، وتلك هي الدعوة التي انتهت بقيام حزب العمال ووصوله إلى الاستقلال بالوزارة بعد الحرب العالمية الأولى.
فلما أراد رئيس الوزارة أن يعلن اعترافه بفضل برناردشو على الحزب، وعلى وزارته، كاشفه بعزمه على كتابة اسمه في قائمة الشرف، أو قائمة الرتب والنياشين، وسأله أن يختار الرتبة التي يرتضيها لنفسه أول هذه الرتب - وهي رتبة الفارس التي يلقب حاملها بلقب سير - كما هي العادة في نظام التدرج بهذه الألقاب.
ولكن صاحبه لم يلبث أن سأله: هل في وسعك أن تطلب لي لقب البرنس أو لقب الديوك؟ إن هذه الألقاب لا تطلب ولا أرى أنني أقل ممن يحملونها، إذا دخلنا في باب الرتب والنياشين ... فخير لنا أن نبتعد من هذا الباب!
أما الرتب الأدبية فقد كان برناردشو يطمح فيها فوق لقب البرنس، ولقب الديوك، بل فوق لقب الملك، إذا كان في الأدب ملوك.
وربما صح أن يكون للأدب ملك يعترف له بتاج الشعر والمسرح «برنسات القلم ودوقاته» في البلاد الغربية، وفي طليعتها البلاد الإنجليزية، وهو وليام شكسبير.
وعند برناردشو أن وليام شكسبير لا يساوية ولا يدانيه، وقد قال مرة: إنه لو كانت له فكرة في كتابة روايات كروايات شكسبير لألفها جميعا في بضعة شهور.
وسمعه ناقد فقال متهكما: أرأيت: لو كانت له فكرة؟! ... ويعني الناقد أن برناردشو لا يملك الفكرة التي تعينه على محاكاة شكسبير.
أما برناردشو فمعناه أن روايات شكسبير لا تستحق أن تكتب في عصره؛ لأنها روايات لم تكن لها رسالة إلى أبناء العصر عند تأليفها، ولكنه هو يؤلف الرواية، ويقصد بها أن تؤدي له رسالة في التعريف بحقائق الدنيا، أو حقائق النفس الإنسانية، ولو لم تكن مقصورة على مشاكل الاجتماع أو على العقد النفسانية في الطب الحديث.
وندع لبرناردشو دعواه على شكسبير، فإنها بينة البطلان، وقد عرف الناس من رواياته كل ما يعرفهم به شاعر من أسرار الحياة الاجتماعية وأسرار الحياة النفسية، وكان تصويره لأسرار البلاط ودسائس القصور مقدمة فعالة للثورة التي نشبت بعد وفاته بأقل من جيل، وكان لها أثرها في تقييد سلطان الملوك وفرض الرقابة القومية على القصور.
ندع هنا دعوى برناردشو على شكسبير، ولا ندع دعواه لنفسه بين معاصريه، فإنه - في الحق - لم يجاوز بها قدره الذي يعرفه المعجبون به وبأولئك المعاصرين، وليس بين الذين تقدموه إلى الجائزة خلال عشر سنوات أحد يساويه في مقدرته الفنية، أو في كفايته الأدبية، ومن ساواه في فنه وأدبه لم يكن كفؤا له في غيرته على الحق وإخلاصه لحب الخير والإصلاح.
ويؤخذ من محاضر الجلسات التي نشرتها لجنة نوبل أخيرا أنها كانت تشعر بأن الجائزة تصل إليه متأخرة، وإن لم تكن متأخرة جدا على رأي أمين السر فيها؛ لأنها - على رأيه - لم تصل بعد فوات الأوان.
لكن الفرصة كانت سانحة لموقف من المواقف الصياحة التي يحبها رجل المواقف المسرحية على مسرح الفن، ومسرح الحياة، ففي تاريخ الأدب الإنجليزي موقف مأثور لحكيم من أكبر الحكماء المحدثين في جميع العصور، وهو موقف الدكتور صمويل جونسون مع النبيل الأديب لورد شسترفيلد، وكان الدكتور جونسون قد شرع في تأليف معجمه الخالد في نحو اللغة الإنجليزية، وهو يطمع في معونة اللورد الأديب، فأعرض عنه اللورد بعد أن تلقاه بادئ الرأي بالمجاملة المعسولة من طرف اللسان، وأبت على الحكيم أنفته التي اشتهر بها أن يعاود اللورد بالطلب أو الزيارة حتى أتم تأليف المعجم، وعلم اللورد أنه وشيك الظهور، فعز على اللورد - حينئذ - أن يفوته شرف الرعاية لهذا العمل الجليل، وأبدى - من جانبه - العناية به والسؤال عنه، ولكن الحكيم العزوف لم ينس الهوان الذي قوبل به غير مرة وهو يطيل الانتظار في قاعة الاستقبال بقصر اللورد، فلا يؤذن له بالمثول بين يديه، فكتب إليه خطابه الذي تداولته تواريخ الأدب منذ ذلك الحين، وصاغه بتلك البلاغة التي عهدت في أحاديث الحكيم وكتاباته، فافتتحه بالاعتذار عن قبول الكرم الرفيع من قبل العظماء؛ لأنه لا يعرف كيف يتقبله إذ كان لم يتعوده، فلا يدري كيف يكون الشكر؛ لأنه لم يدر كيف يكون الإحسان! واختتمه بتلك الكلمات التي تلقى بها برناردشو منحة نوبل، فقال بعد الإشارة إلى حماة الآداب من النبلاء: «أليس حامي الأدب - يا سيدي - هو ذلك الذي ينظر إلى السابح الذي يحاول النجاة بحياته فلا يعنيه أمره، حتى إذا بلغ الساحل أغرقه بالمعونة؟ إن لفتة اللورد لو تقدمت برهة لكانت غوثا، ولكنها تأخرت حتى وصلت إلى غير حافل بوصولها ... تأخرت حتى أصبحت في الحياة فريدا لا أسعد بها غيري، ومعروفا لا حاجة بي إلى تعريف.»
وقد ذاع خبر ذلك الخطاب البليغ في تاريخ الآداب؛ لأنه يسجل مرحلة الرعاية الأدبية من جانب الأمراء والنبلاء، ويذيع اليوم جواب شو؛ لأنه يسجل الموقف بعينه بعد انتقال الرعاية من الأمراء والنبلاء إلى القراء والنقاد.
المستحق بين المستحقين
يتناول البحث في استحقاق الجائزة - جائزة نوبل الأدبية - وجوها شتى من وجوه النقد والنظر، وقد تناولته هذه الصفحات من بعض هذه الوجوه، ولعله قد تبين منها كما تبين من غيرها أن مسألة الاستحقاق هذه إنما هي - في النهاية - مسألة درجات وظروف، وليست من مسائل الحاسم بين الصواب والخطأ، وبين حسن التقدير وسوء التقدير.
فليس بين أدباء الجائزة جميعا أديب واحد مجرد من مزايا الاستحقاق على اختلافها، وإنما يختلفون في درجات الاستحقاق وظروفه الموقوتة.
فيتفق في سنة من السنين أن يكون الأديب الذي استحقها بفنه وخدمته لقضية السلام أقل شأنا من أديب آخر معاصر له في أمة أخرى، له من الفضل ما يعلو به على زميله المختار، سواء في تقدير العمل الفني أو تقدير العمل الإنساني لخدمة السلام، ويتفق أن يكون الحكم كله للظروف الموقوتة دون غيرها، ومنها اجتناب الشبهات من توجيه الجائزة سنتين أو ثلاث سنوات متواليات إلى أمة واحدة، ومنها اجتناب الأزمات الدولية التي تتقيها لجنة التحكيم، لارتباطها في مراسمها بالدولة السويدية، ومنها اغتنام الفرصة قبل فواتها، مراعاة للسن أو تقلب الأحوال الموضعية.
ويصعب على لجنة التحكيم - مع مراعاة هذه الظروف - أن تجد في كل سنة أديبا عالميا توافرت له شروط الجائزة جميعا في درجاتها العليا، فمن توافر له شرط البراعة الفنية قد يقصر عن المرتبة العليا في خدمة قضية السلام، ومن تم له هذان الشرطان قد يزاحمه أديب آخر أصلح منه للجائزة في ذلك العام من ناحيتها الدولية؛ لأن اختياره بعيد من مشاكل السياسة وأزماتها، ولا سيما في أوقات الحروب أو أيام المنازعات التي تنقسم فيها الدول إلى معسكرات وأحزاب.
ومن هنا يجوز كثيرا أن تتجه الجائزة إلى أديب دون أدباء الطبقة الأولى في جميع المزايا والشروط، ولكن الظروف التي أشرنا إليها لا تلجئ اللجنة يوما إلى إهمال المزايا والشروط في جميع درجاتها وطبقاتها، فمن لم يكن أديبا من الطراز الأول في قدرته الفنية ورسالته الإنسانية فهو أديب له قيمته التي لا تنكر في كل من العمل الفني والعمل الإنساني، ولكن بغير مقارنة بينه وبين نظرائه الراجحين عليه.
لا جرم يكثر بين أدباء الجائزة من استحقها بشيء من التجاوز عن جميع شروطها، ويندر جدا أن يستحقها الأديب في سنة من السنين بغير تجاوز عن شرط من تلك الشروط، مستوفيا لمزية الفن، ومزية الرسالة الإنسانية، ومزية الفضيلة الخلقية، والشمائل الشخصية، في أرفع طبقاتها.
ولا نظن أن الآراء تتفق على أكثر من أديب أو أديبين تمت لهما هذه الصفة النادرة بين جميع مستحقيها، منذ ابتدائها في أول القرن العشرين إلى هذه الآونة.
ولا نملك الفصل بين جملة الآراء في هذه الموازنة العالمية، ولكننا إذا سئلنا عن اثنين نفردهما بهذه الصفة، ونقدر الموافقة عليهما - بإجماع الآراء - لم نستطع أن نذكر غير اسمين اثنين: أحدهما رومان رولان، والآخر رابندرنات تاجور، وسنخصه بكلمة مستقلة في هذه الصفحات؛ لأنه يدعو إلى التعقيب من وجهة النظر الشرقية في اعتبار الشرقيين، واعتبار نقاد اللجنة ونقاد الغرب عامة، عند تمييز الأدب الشرقي في ميزان الآداب العالمية.
أما «رومان رولان» فهو مثل نادر من أمثلة التقدير العجيب، وفي مقاييس النقد كلها، لا في مقاييس اللجنة السويدية وحدها.
لقد كان صورة حية لبطل روايته الكبرى «جان كرستوف» الذي قال فيه: «إنه كان يتلقى اللوم كثيرا، ويتلقى الحمد كثيرا، ولكنه كان في جميع الحالات أهلا للتنويه والاهتمام.»
لم يأت زمن من الأزمان كان رومان رولان فيه مستمتعا بالمحبة العامة بين نقاده أو قرائه، ولكن لم يأت كذلك زمن قط كان فيه محروما من التجلة والتوقير.
كان له معجبون بفنه وخلقه ينظرون إليه نظرة التقديس.
وكان له خصوم يتفجرون غيظا عليه، وأشد ما يغيظهم منه أنهم عاجزون عن المساس به في كرامته وأصالة فنه، مضطرون إلى الاعتراف له بالفضل والنبوغ وسلامة الضمير.
وقبل أن يلجئه الحقد عليه إلى اعتزال وطنه والإقامة في سويسرة، كانت الأكاديمية الفرنسية تمنحه أكبر جوائزها الأدبية.
وقد توقفت اللجنة السويدية عن منح جوائزها في سنوات الحرب العالمية الأولى، وقصرتها في تلك السنوات على أبناء الأمم الشمالية، ولكنها استثنت رومان رولان - وحده - فمنحته جائزتها بعد اشتعال الحرب العالمية بسنتين.
ومن عجائب التقدير في شأنه أنه كان عرضة للحنق العنيف عليه من الفرنسيين والألمان على السواء، مع أنه هجر بلاده أثناء الحرب؛ لأنه لم يميز في توجيه دعوته إلى السلام بين هؤلاء وهؤلاء.
ومثله في العجب أن نعرض أسماء مؤيديه، ومحبيه من أقطاب الأدب في الأمم الأوروبية، ومنهم أناطول فرانس مواطنه الساخر، وجبرائيل دانتزيو الإيطالي المتهجم، وستيفان زفايج النمسوي المطرود من وطنه، وتولستوي الحكيم الروسي، ومكسيم جوركي رائد الثورة الروسية، وغاندي قديس الهند، والفريقان المتعارضان في الأكاديمية السويدية.
وربما كان أعجب من ذلك تعدد الجوانب التي أحاط بها في تراجمه ودراساته، بين النحاتين والموسيقيين والسياسيين والثائرين، وبين المرضي عنهم والمغضوب عليهم من رجال الدين.
سر هذا العجب في نظرات الناس إليه وفي نظرته هو إلى الناس، خصلة واحدة من أشرف الخصال وأندرها في بني الإنسان: وهي الإخلاص المحض، الذي لا تشوبه شائبة، ولا ترتقي إليه المطاعن والأكاذيب، فمهما يبلغ من حقد المحنقين عليه فليس في وسعهم أن يتهموه، وإذا وسعهم أن يتهموه لم يجدوا من يصدقهم، ولا من يستند في تصديقه إلى سند مقبول.
وكان إخلاصه لفنه كإخلاصه لعقيدته، بل كان فنه عقيدة من عقائد الأخلاق، وكانت عقيدته فنا من فنون الجمال.
كان إنسانا قبل أن يكون فنانا، وكان المثل الأعلى للإنسان هو مناط الإيمان والرجاء في عقله وقلبه: يرتفع به من حضيض الحيوانية المادية، لينزع به إلى آفاق البطولة والفداء؛ لأن إنفاق العمر في الحياة الحيوانية مسخ وتشويه، وبذل العمر فيما يعلو بالإنسان عن مراغة الحيوان هو الجمال.
وقد سلمت غيرته الإنسانية من الآفات التي تبتلى بها الغيرة في كثير من الناس، ونعني بها آفات الحرج والضيق، أو آفات الحماسة الهوجاء، أو آفات التعصب والصرامة، فلم يكن إدراكه لعظمة البطولة في النفس الإنسانية ليحول دون إدراكه لضريبة الضعف التي لا تنجو منها نفس من النفوس، ولم يكن إعجابه بقوة البطل ليحول دون عطفه على موطن الضعف فيه.
وبهذه السجية السمحة صور لقرائه أبطال التاريخ كما صور أبطاله وبطلاته في قصص الخيال، فليس بين أبطال الواقع وأبطال القصة المؤلفة مخلوق آدمي يتجرد من صلة العطف بيننا وبينه بما يستحقه من الإعجاب، أو يستحقه من العطف والمعذرة.
قالت الأكاديمية السويدية في أسباب ترشيحه: إنها رأت منحه الجائزة «تحية لنزعته المثالية العالمية في أعماله الأدبية، وتقديرا لعاطفته الكريمة، وحبه للحق في تصويره للنماذج المختلفة من الشخصيات الإنسانية.»
ولما عرض اسمه على اللجنة الأولى كان له منافس يقاربه في المقدرة الفنية: وهو الأديب الإسباني بيريس جالدوس
... ولكن الأكاديمية في جلستها العامة وسعت دائرة النظر إلى شروط الجائزة الإنسانية، ومؤهلاتها الشخصية فانفرد رولان بالتقدير، وكان آخر من منح الجائزة من غير أمم الشمال في سنوات الحرب العالمية، إلى نهايتها.
وربما كانت مقدرته القصصية في كتابة الملاحم كافية وحدها لاستحقاقه الجائزة من الوجهة الفنية؛ لأنه ألف أكبر الملاحم القصصية في عصره: وهما قصة جان كرستوف في عشرة أجزاء، وقصة الروح المسحور في سبعة أجزاء، ولكنه أضاف إلى هذه المقدرة في فن القصة مقدرة مثلها في فن المسرح، ومقدرة تفوقها في فن التراجم والسير، ودراسة التاريخ الذي يشمل نقد الأدب والفنون الجميلة، كما يشمل نقد العقائد والمذاهب الأخلاقية.
وربما كان توحيده لمشارب الأذواق في الفنون الجميلة كافيا وحده للاعتراف له بفضل الدعوة إلى الأخوة الإنسانية في عالم الجمال وعالم الروح، ولكنه أضاف إلى هذه الرسالة الروحية رسالة عملية في خدمة السلام بكتاباته الصريحة التي عرضته للنقمة في وطنه وغير وطنه، وباشتغاله المباشر بأعمال الصليب الأحمر وأعمال الوساطة الجريئة لتمهيد أسباب الصلح بين المتقاتلين.
وربما كانت آراؤه وحدها كافية لتقديره من وجهة الفن ووجهة التفكير، ولكنه أضاف إلى ذلك مثالا عاليا من الشمائل الشخصية قلما يؤثر عن أصحاب الآراء في حياتهم الخاصة.
وإذا انعقدت المقارنة الوافية بين رولان وكبار المستحقين للجائزة من أبناء وطنه، ظهرت له هذه المزية الكبرى التي يسمى من أجلها بالمستحق بين المستحقين.
فاللجنة السويدية قد تجاوزت لأناطول فرانس عن شرط التفاؤل في الإيمان بالمثل العليا ...
وتجاوزت لأندريه جيد عن شرط الإيمان بحقائق الحياة؛ لأنه يلخص فلسفته كلها في قوله الجامع عن الحياة، وهي أنها لا تعطينا حقائق نصدقها، ولكنها تعطينا أشياء نحبها ونتعلق بهواها.
ولكنها لم تتجاوز لرومان رولان عن شرط من شروط الفن، ولا من شروط الأخلاق، ولا من شروط الرسالة الإنسانية، ولم تستطع أن تكرر ذلك أكثر من مرة أو مرتين.
ومن هنا تبدو لنا صعوبة النجاح في تحقيق الشروط العالمية، إلا مع التسليم فيها بفوارق الدرجات والظروف.
تاجور
تاجور شاعر الهند الأكبر، هو - بلا خلاف - أحد الأفذاذ العالميين القلائل، الذين استحقوا جائزة «نوبل» بجميع شروطها، وفي مقدمتها الشروط المثالية، أو الشروط الإنسانية.
وقد رأينا في مناسبات كثيرة أن لجنة «نوبل» تجاوزت عن الشرط المثالي أحيانا مع كثير من نوابغ الأدباء، فلم يكن أدباؤها جميعا يدعون إلى المثل الأعلى الرفيع، ولم يكن هؤلاء الأدباء جميعا ممن يخدمون قضية السلام، أو قضية الإخاء الإنساني في العالم بأسره، بل لم يكن هؤلاء الأدباء جميعا متفائلين مؤمنين بصدق الرجاء في مستقبل بني الإنسان، ولكن اللجنة كانت تضطر - في بعض السنين - إلى التجاوز عن هذه المثالية؛ لصعوبة وجودها في عصور الأزمات الدولية والمنافع الواقعية، مستعيضة عنها برعاية المثل الأعلى في مطالب الجمال الفني والذوق السليم.
وقد ذكرنا - فيما تقدم - اسم «رومان رولان» مثلا فريدا للذين استحقوا الجائزة بجميع شروطها، بل استحقوها بهذه الشروط في حياتهم الشخصية، كما استحقوها في حياتهم الفكرية والاجتماعية، ونذكر الآن اسما آخر يضارع اسم رومان رولان في هذه الخصلة وهو اسم تاجور.
كان فن تاجور وحده كافيا لاستحقاق الجائزة في أرفع درجاتها؛ لأنه كان واحدا من الآحاد القلائل الذين استطاعوا أن يجمعوا بين البساطة والعمق في المنظوم والمنثور، وقد جمع بينهما في الشعر الغنائي، كما جمع بينهما في شعر القصة والملحمة، وكانت له - إلى جانب الشعر - مشاركة فى كتابة القصة القصيرة، والقصة المطولة، وكانت له مشاركة مثلها في مطالب الفلسفة والحكمة ومقاصد الرأي والهدايا الخلقية.
أما إيمانه بالمثل العليا في معتقداته وأفكاره، فهو أكبر وأقوى من أن يكون إيمان تفكير أو إيمان دراسة، إنما هو سليقة مطبوعة يشع منها الإيمان كما يشع النور من الكوكب الساطع، أو كما يشع العطر من الزهرة الزكية، وكانت حياته الشخصية تطبيقا عمليا لإيمان وجدانه وضميره، بل كانت حياة كل إنسان عند آية من الآيات الكونية على رجاء الله، وهو القائل «كل مولود جديد يصل إلى عالمنا هذا هو آية حية تقول لنا: إن الله لم ييأس من بني الإنسان.»
عقيدته في الله هي عقيدة المحبة التي تتسع لجميع خلائق الله، وهي ترجمة هندية لمذاهب حكيمنا محي الدين بن عربي، حيث يقول:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
فأصبح قلبي قابلا كل صورة
فديرا لرهبان ومرعى لغزلان
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه، فالحب ديني وإيماني
ومذهب تاجور في سماحة القصيدة كهذا المذهب الصوفي بلفظه ومعناه، ولعله اطلع على مثله في منظومات أستاذه الشاعر «كبير» الهندي المسلم، الذي تتلمذ له نخبة من شعراء الهند وشاعراتها البرهميين والبوذيين.
ولقد كانت سماحته الروحية أوسع أفقا، وأعمق قرارا من سماحة أولئك المفكرين الذين اجتهدوا في توحيد الأديان؛ أو في التقريب بينها للتأليف بين شعائرها ومراسم عباداتها؛ إذ كان تاجور يؤمن بأن الناس قاطبة أهل لمحبته، بغير حاجة إلى إلغاء الفوارق بينهم لاستحقاق هذه المحبة.
ولما حضر إلى القاهرة زاره بعض إخواننا من دارسي الحكمة والفلسفة، نذكر منهم الأستاذين مصطفى عبد الرازق، ومنصور فهمي، وسألوه رأيه في تأليب الجهود بين حكماء الشرق لتوحيد العقائد الدينية وإبطال الفوارق المذهبية، عملا على التخلص من آفة التعصب التي تمزق أوصال الوئام بين شعوب المشرق.
فنظر إليهم مليا، ثم قال مبتسما: وهل ترونهم يعجزون عن الحب، وهم على غير دين؟ إن الله أعظم من أن تحصره عقيدة واحدة، وإن عباد الله يتجددون ويتكاثرون، ولكن الله جل وعلا «محبته» شاملة لهم أجمعين.
فالسماحة المثالية لم تتوافر في أحد ممن أجازتهم لجنة نوبل كما توافرت في الشاعر الشرقي الحكيم، ولم يكن استحقاقه لها بالشروط الفنية دون استحقاقه لها بشروطها الفنية: شروط البلاغة والبيان.
ومع هذا وقع اختيار تاجور موقع المفاجأة عند الكثيرين، وقد كان أوضحهم عذرا أولئك الذين لم يفهموه ولم يقدروا على إدراك مزاياه، أما الذين فهموا فضله وأدركوا حظه في البلاغة والبيان، فربما كانت لجنة «نوبل» هي المسئولة الأولى عن استغرابهم لفوزه بالجائزة، التي لم يقربها من قبله أحد من غير الأوروبيين.
فقبل تاجور لم يخطر للجنة نوبل أن تبحث عن مرشح لجوائزها في غير القارة الأوروبية، ولم ترشح لها أحدا من أبناء القارتين الأمريكتين، ولا من أبناء سائر القارات.
فلما جاءها ترشيح تاجور بحثت هذه المسألة لأول مرة: هل ترفض منحه الجائزة؛ لأنه لا ينتمي إلى القارة الأوروبية؟
لا بد لها من نص في وصية نوبل تبني عليه هذا القرار، وهي لم تجد هذا النص في الوصية، ولم تجد قرينة تدل عليه، فتنبهت لأول مرة إلى جواز منح الجائزة غير الأوروبيين؛ وكان الحكيم الشرقي الكبير أول مصحح لذلك الوهم الذي غلب على جو اللجنة بحكم العادة؛ قبل أن يدعوها داعي العمل إلى إعادة النظر فيه.
وكأنما أرادت اللجنة أن تكفر عن وهمها الأول، فكانت مباحثها كلها في أمر تاجور محاولات متلاحقة لرفع الموانع الموهومة التي تقام من هذا القبيل، ورفضت كثيرا من وجوه الاعتراض التي تقدمت إليها لتنحية تاجور وإيثار غيره من المرشحين عليه.
قال أحد الأعضاء في تقريره: إن الجمال في معاني تاجور قد يكون ميراثا قوميا من الشعر الصوفي في وطنه ، وليس الشعر الصوفي في تاريخ الهند بقليل، فإذا شاءت اللجنة أن تتحرى الإنصاف فقد يطول الوقت قبل الجزم بأصالة الشاعر فيما نظم من معانيه الروحية.
وبحثت اللجنة بين أعضائها فلم تجد غير عضو واحد يستطيع أن يقرأ منظومات الشاعر باللغة البنغالية، ولم تجد غير القليل من شعره منظوما بالإنجليزية أو مترجما إليها.
ووازنت اللجنة بين ترشيحات كثيرة جاءتها في تلك السنة؛ فوجدت بينها ترشيحات كثيرة من هيئات أدبية عريقة، ولم تجد غير مرشح واحد لتاجور، هو الأستاذ توماس مور أحد أعضاء الجمعية الملكية البريطانية، ولم يرشحه باسم الجمعية، ولكنه رشحه باسمه، ولم يقدم مؤلفات الشاعر كلها، مكتفيا بالقليل المترجم إلى اللغة الإنجليزية منها.
ورجحت - آخر الأمر - كفة تاجور على سائر المرشحين، وبينهم علم من أعلام الأدب الفرنسي الحديث، هو الأديب المؤرخ الفيلسوف أميل فاجيه.
وزالت كل غرابة في هذا الترشيح بعد المفاجأة الأولى؛ لأن عبقرية الشاعر، وفضائله النفسية والفكرية قد كانت فوق منال الشبهات، ولم تلبث كتبه التي أخذت في الشيوع بعد ذلك أن قررت له تلك المكانة التي عمت جمهرة القراء، بعد أن كانت مقصورة على النقاد المتخصصين.
إلا أن الغرابة لم تنته عند الاعتراف بهذا الحق لتاجور، فإن السؤال الذي تتابع على كل لسان في الهند، وسائر بلاد المشرق، لا يزال حتى اليوم مترددا متكررا بغير جواب.
لم لم تعترف اللجنة بمثل هذا الحق لمواطن تاجور ونظيره في المكانة الأدبية محمد إقبال؟
لم لم تتكلف اللجنة في سبيل الانتباه إلى اسمه بعض ما تكلفته في إنصاف تاجور؟
إن أعضاء اللجنة قد تنبهوا إلى علاقة تاجور بتراث الشعر الصوفي في بلاده، وأن أصالة إقبال في شعر التصوف أعرق من أصالة زميله البرهمي، فيما استقاه - على الأقل - من ينبوع الصوفيه الإسلامية؛ بل يظن بعض اللغويين الشرقيين أن اسم تاجور نفسه قد يرجع إلى أصل عربي إسلامي؛ لأنه ينطق بالهندية «ذاكور» أو قريبا من ذلك، وهو بمعنى الذاكرة، أو الدارس، أو الأستاذ.
ونحن لا نأخذ بهذه التأويلات، ولكننا لا نشك في مكانة إقبال الفنية إذا وزنت بموازين الأدب الروحي، كما وزنت عبقرية تاجور.
ولا يقال: إن «إقبالا» قد انقطع أو كاد أن ينقطع للدعوة الإسلامية؛ فإن دعوة الشاعر لنصرة دينه أو وطنه لم تكن قط حائلا دون تقديره وتعظيمه في نظر اللجنة، وبخاصة تلك الدعوة التي تتجرد من نوازع العداء والبغضاء، وتتنزه عن عداوة الإنسان من وراء عداوة الأديان ... ولقد أجازت اللجنة طبيبا فيلسوفا من القائمين بدعوة التبشير في القارة الأفريقية، ولم تكن جائزة الأدب، بل جائزة السلام هي التي استحقها الدكتور ألبرت شوتيزر ... وهو لم يعمل قط في قضية من قضايا السلام الدولية!
على أن «محمد إقبال» لم يكن معدودا في الهند نفسها داعية إسلاميا يختص به المسلمون دون سائر الهنود؛ لأنه كان يدعى إلى الجامعات البرهمية للمحاضرة فيها، وكان الراجات البراهمة يستقبلونه في بلادهم ويدعونه إلى قصورهم، وفي جامعة ميسور التي زارها بدعوة من المهراجا قال أستاذ الجامعة: «إن المسلمين يقولون: إن إقبالا لهم، والحق إنه لنا جميعا، ولا يخص منا جماعة أو دينا، فإذا افتخر المسلمون بأنه أخوهم في الدين فنحن فخورون بأنه أخونا في القومية الهندية.»
وأدعى إلى العجب في التمييز بين الشاعرين المواطنين - أن «تاجور» كان بحاجة إلى تنبيه من العارفين بقدره بين الغربيين، أما إقبال فقد كان غنيا عن التنبيه إليه في بيئات الغرب الأدبية، وفي بيئات المستشرقين المشتغلين بدراسات الإسلام، أو دراسات الشرق على العموم، وقد عرف في إنجلترا كما عرف في ألمانيا وفرنسا، ونال لقب الفروسية من الدولة البريطانية كما ناله تاجور، ولم تنقطع أخباره عن معهد من معاهد الثقافة العليا في بلاد الشمال، وقديما كان ملك من ملوك الشمال رائدا مقدما بين رواد الاستشراق.
لقد كان تاجور أول من تأذى بهذا اللغط الذي فتحت اللجنة السويدية أبوابه، ونفذ منه أعداء السلام للإيقاع بين أبناء الأمة الواحدة، وقد تحدث تاجور بذلك في مناسبات شتى، وأشار إليه في تأبينه لزميله الكبير، حيث قال: «إن شهرة إقبال الواسعة ترجع إلى ما احتواه شعره من نور الأدب الخالد، ومما يؤسف له أن يضع النقاد أدبي وأدب إقبال موضع المناقشة، ويبثوا بين ذلك أغلاطهم، وهو أمر لا يجمل بالأدب الفسيح الذي يخاطب النوع الإنساني كله.» ... ثم انطوت السنون، وتجددت أسباب أخرى للقيل والقال بعد قضية إقبال وتاجور، ومهما يكن من عذر للجنة في إهمالها لإقبال قبل إجازة زميله ومواطنه، فإن الإصرار على هذا الإهمال بعد ذلك غير مفهوم.
درجات المثل الأعلى في جائزة نوبل
ينظر النقاد إلى جائزة نوبل نظرة أخلاقية نفسية، إلى جانب نظرتهم العامة إلى محاسن الفن والأدب؛ لأن مؤسسة نوبل - كما تقدم - قد وضعت جوائزها - في أساسها - في خدمة السلام، ورعاية المثل العليا في القضايا الإنسانية، وقد جعلت محاسن الفن والأدب مناسبة من المناسبات الكثيرة لتحقيق تلك الغاية، مع غيرها من مساعي العلماء والمصلحين، وزعماء الأمم وأقطاب السياسة فيها.
فإذا روجعت جوائز عشرين سنة، أو ثلاثين سنة على التوالي، فتلك في الواقع مراجعة لأطوار الأمم الغربية في النظرة إلى الحياة، وفي مقدار الأمل الإنساني فيها، أو في مقدار الثقة عندها بالمطالب المثالية، وبالمستقبل القريب والبعيد في عهدها الحاضر، وفي الواقع الملموس في تقريرها.
وقد روجعت جوائز ستين سنة بهذه النظرة الأخلاقية الإنسانية، فكانت لها دلالتها الصادقة على تطور العصر الحديث في الإيمان بالمثل الأعلى، وكانت خلاصة هذه الدلالة الصادقة أن درجات المثل الأعلى تهبط من فترة، وأن عصر الطيران يحلق بالإنسان في أجواء الفضاء، ولا يحلق به في أجواء الرجاء، ولا يخلق له جناحين للوثوب إلا ليستقر بقدميه على قرار من الأرض؛ قلما يطمئن إليه.
ومنذ أواخر القرن الماضي عرف الإنسان في الغرب طبقات ثلاث من المثل العليا، تهبط كل طبقة منها عما فوقها، ولا يطول بها القرار في مكانها، ولكنها تنتهي آخر الأمر إلى القرار الذي لا حيلة لها فيه؛ لأنها لا تستطيع أن تهبط إلى ما دونه، ولا تفقد الأمل فيه إلا يأسا من كل قرار، ومن كل مصير، فإما صعود بعد ذلك على ثقة جديدة غير الثقة الضائعة، وإما قنوط ينذر بالفناء .
كان للمثل الأعلى - في أوساط القرن الماضي - جو رفيع واسع الأرجاء يتصل بالعقيدة الدينية، ويرتقي صعدا إلى السماء؛ ولا حدود للرجاء في الكمال مع الإيمان بالإله القادر على كل شيء.
وكان المتدينون، وغير المتدينين سواء في تلك الفترة؛ لأنهم ولدوا جميعا في جو العقائد الموروثة، فمن خرج منهم على العقيدة لم يخرج عن تراث الآباء والأجداد، ولم ينس الرجاء في الكمال، ولا الثقة بالمصير، ذهابا مع التقليد، ومجاراة العرف الشائع، وإن لم يخطر في باله أنه سائر على نهج المقلدين.
وغلبت الشكوك على العقائد في معظم الأمم الغربية، فتحولت الأنظار من السماء إلى الأرض، وبحث المؤمنون بالواجب عن شيء يوجبون على أنفسهم أن يؤمنوا به فلم يجدوا قبلة للإيمان غير قبلة الإنسانية جمعاء ... فمن شاء منهم أن يفهم لحياته معنى فالعمل للإنسانية هو كل معناه الذي بقي لديه، وهو كل ما يستحق عنده التضحية في سبيله، والجهاد من أجله، وكل ما يعلو به على عبادة الذات وخسة النفس المطوية على الأنانية وشهوات الحاضر المحدود.
ثم تحطم كيان الإنسانية في مصطدم عنيف من حروب وثورات الشعوب والطبقات، فضاع الأمل في الإنسان الخالد بين صيحات المتعصبين للعنصر، وأباطيل المروجين للدول، وأصحاب السلطان، وشكايات الداعين إلى الطبقة والطائفة دون الأمة والجماعة، واستحال الإيمان بالإنسان في هذا الجو الذي شاعت فيه عداوة الإنسان للإنسان، وشاعت معها ذرائع العداوة والبغضاء على كل لسان، فمن يثبت في نفسه بقية الإيمان بشيء فإنه لا يبحث عنها في السموات، ولا في الأرضين، ولكنه يبحث عنها في نفسه، وينشدها في أعماق ضميره؛ ولم يكن من المصادفات في الغرب كله، أن تشيع في هذه الفترة دراسات علم النفس، وأن يصبح طب الروح دينا تفتح له المحاريب، ويتولاه كهان من العصر الحديث، كأنهم في البحث عن الأسرار والخفايا رهط من كهان الأولين.
فالجيل المعاصر من الغربيين لا يحلق في الفضاء ليبحث عن مثله الأعلى، ولكنه يتعمق في أغوار نفسه ليسأل هنالك عن الرجاء، أو ليخلق فيها الرجاء الذي يقدر عليه ، وشعار الحياة عنده أن الإيمان هو موضع الاختيار الوحيد: بين الثقة والبقاء، وبين اليأس والضياع، وما دام له وجود فثقة الموجودين أولى به من ضياع اليائسين.
إن طلاب المثل الأعلى في هذا العصر - وفي مقدمتهم جماعة نوبل - يقنعون بهذا النصيب المتواضع من طبقات المثل العليا، وحسبهم من الحياة الإنسانية أنها ليست بفراغ ولا خواء، وأن الحي الجدير بها قادر على أن يملأها بشيء يشغله؛ أي شيء غير اليأس والظلام.
وبطل معنى التفاؤل والتشاؤم من مصير الإنسانية، بطل المصير الإنساني عند المتفائلين من أبناء هذا الجيل؛ لأنهم لا يطيلون النظر إلى هذا المصير، وكل ما يطيلون النظر فيه هو حياة النفس الإنسانية: هل يستطيع المؤمن بالحياة أن يملأها بشيء؟ وهل هناك شيء يملأ الحياة ولا يستحق منهم أن يحرصوا عليه، ويقنعوا به ويعرضوا عما سواه؟
فالأدباء العالميون الذين خصتهم لجنة نوبل بجوائزها في السنوات الأخيرة - كلهم معدودون عندها من المثاليين؛ لأنها قنعت منهم بنصيب متواضع من التفاؤل؛ هو غاية المستطاع في غيبة الإيمان بالمثل العليا ... على حد قول القائل: شيء خير من لا شيء!
وخلاصة هذا النصيب المتواضع أنهم غير يائسين، ولا هاربين من الحياة، وأنهم لا يقولون بفراغ الوجود.
فليس بين أولئك الأدباء أحد يبشر بمعنى للحياة الإنسانية، وليس منهم من يطمح إلى الكمال طموح الثقة والإقبال.
وليس منهم من يعشق الحياة أو يفتتن بمحاسنها، وغاية ما يقال فيهم أنهم يصبرون عليها، ويحتملونها بحلوها ومرها على علاتها، وقد يوجد فيهم من يقول للحياة كلمة التحية والمجاملة، ولكن ليس فيهم من ينظم فيها قصائد الغزل، ويتحدث عنها حديث الهوى والهيام.
وفي رأينا أن الأمثلة أقرب إلى الإيضاح من نقل الآراء والصفات، وأنها كلما تفرقت من المصادر المختلفة كان ذلك أدنى إلى فهم الفكرة على سعة وإنصاف.
وهؤلاء ثلاثة من أشهر الأدباء العالميين الذين استحقوا الجائزة في سنوات الستين، وهم همنجواي الأمريكي، الذي نالها سنة أربع وخمسين (1954)، وخيمنيز الإسباني، الذي نالها سنة ست وخمسين (1956)، وألبرت كامي الفرنسي، الذي نالها سنة سبع وخمسين ؛ وهم يمثلون آداب لغات ثلاث، ويمثلون معها أمزجة قومية لا يقل الاختلاف بينها عن الاختلاف بين لغاتها: وكلهم مع هذا مثاليون على شعار واحد؛ شعار القائلين: «شيء خير من لا شيء.»
فالأديب الأمريكي همنجواي قد أعياه البحث عن قضية يؤمن بواجب الجهاد فيها بالقلم والسيف، وجرب الجهاد في الحرب الأهلية الإسبانية، فعرف بعد التجربة أنه قد ضل الطريق، وأن قضية الإنسانية غير قضية الصراع بين مذاهب اليمين، ومذاهب اليسار، ولكنه عرف أيضا أن البحث عن الطريق هو نفسه غاية مقصودة كيفما كانت النهاية، فكانت تجربة الحب في رواية «وداع السلاح» صورة من صور الجد في الحياة، وكانت تجربة الحركة الرياضية صورة أخرى تغني عن التأمل والتفكير على غير طائل، كأنها تجعل الحركة الحيوية ضربا من الحرية الروحية أسلم عاقبة من الركود أو الانتظار، وقد كان الجندي الجريح في رواية «وداع السلاح» قدوة للمتقدمين في الانتقال بالعاطفة من اللهو والمتعة إلى الجد والإخلاص: عشق الجندي الجريح ممرضته فظن أنها متعة من متع اللهو في إجازة عابرة بين المستشفى والميدان، ولما أحس بعطفها الإنساني عليه أحس من جانبه بوفاء الشاكر لذلك العطف الكريم، أحس للعلاقة بين الإنسان والإنسان بكرامة ترتفع بها عن لهو الساعة، وعن متاع الجسد، وانكشفت له ناحية من نواحي الجد في علاقة الإنسان بالإنسان، وخلص له من تجارب الحرب والسلم، وتجارب الرياضة والحركة، أن في الدنيا شيئا جديرا بالاهتمام.
والأديب الإسباني خيمنيز هانت عليه الحياة المادية في القرن العشرين، واستكثر على الصناعة أن تمسخ حياة الإنسان، وأن يوشك بين يديها أن يستحيل معها إلى آلة بين الآلات، وأشفق أن يصل هذا الإنسان يوما إلى القمر فيحسبه بين الأضواء الصناعية إعلانا منيرا عن بضاعة من بضائع الشركات.
ولم يحتقر الشاعر الوجداني عظمة الصناعة، ولكنه أشفق أن تجور على عظمة الطبيعة الحية، فاستمد من هذه الطبيعة جمالا يحيي الصانع والمصنوع، واقترب بالمدنية الصناعية من المنظر الريفي، الذي يذكر المخلوق الآدمي بأنه مخلوق غير مصنوع، وأنه - على جذور هذا الكون - شريك لطير الهواء وزهر الربيع.
والأديب الفرنسي ألبرت كامي صريح في إنكار معنى الحياة، ولكنه يقول: إن الحياة إذا أعطتنا علاقات نحبها، ونشغل بها أذواقنا وضمائرنا، فليس من اللازم أن تعطينا حقائق نصدقها أو نرفضها، ولا من اللازم أن نجعل أغراضنا في حياتنا غرضا للكون كله يتوقف عليه معناه؛ فليس الكون كله سخيفا خلوا من المعنى كما يقول المتشائمون، ولكنه يسخف أمامنا إذا خلطنا بين الغرض في حياتنا المحدود والغرض من هذا الوجود الذي لا نعرف أوله ولا منتهاه؛ وعند كامي - كما عند همنجواي - أن الروح الإنساني قد يبيد، ولكنه لا ينخذل، وهو مالك لزمامه، قابض على عنانه بيديه.
وقد ذكرت لجنة نوبل أسبابها لمنح هؤلاء جوائزها فذكرت منها الحيوية الناشطة، وذكرت منها الروحانية العالية، وذكرت منها النخوة الأخلاقية، ولكنها استغنت بهذه المزايا الفنية، وهذه المزايا الخلقية عن كل عبارة تشير إلى المثل العليا أو إلى «الآيديالزم» بمعناها المشهور.
ويكاد الرأي الأخير في حساب اللجنة أن ينتقل بالمسألة من المقابلة بين الرجاء المثالي والواقع اليائس إلى مفاضلة أخرى توافق ظروف الزمن في العصر الأخير، وهي المفاضلة بين العمل الإيجابي والعبث الفارغ، أو بين الاعتراف بقيمة من القيم للحياة الإنسانية وبين إنكار كل قيمة وإلغاء كل فضيلة من فضائل الجد والقدرة على الحياة.
وبهذه النظرة إلى جوائز نوبل الأدبية يحسبها النقاد ميزانا صالحا لوزن التطور الأخلاقي في العالم الغربي من عام إلى عام، ولسان حال اللجنة بعد تجارب هذه السنين: «إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون.»
وهو كذلك لسان حال الحضارة الغربية في عهدها الأخير.
باسترناك
في موسوعة المعرفة اليهودية كلمة عن جوائز نوبل قالت فيها: إن اليهود - وأنصاف اليهود - الذين نالوا جوائز نوبل، قد بلغت نسبتهم نحو اثني عشر في المائة من مجموع الفائزين بها في بلاد العالم المتمدن، هي تعني بأنصاف اليهود من كان لهم أمهات يهوديات.
وقد صدرت موسوعة المعرفة اليهودية في سنة ست وأربعين (1946)، ولا تزال النسبة في ازدياد، بمن يضاف إليها بعد صدور الموسوعة.
وهذه نسبة كبيرة تجاوزت النسبة التي يلاحظ فيها عدد اليهود في العالم، وهم أقل من عشرين مليونا في بلاد العالم كله، ولعلهم أقل من ذلك بكثير.
وتزداد هذه النسبة إذا لوحظ عددهم في الدوائر العلمية التي ينتسب إليها أكثر اليهود الفائزين بالجائزة، فربما كانوا لا يزيدون على جزء من خمسين جزءا من عدد زملائهم المسيحيين، وربما بلغت نسبتهم أكثر من خمسين في المائة من أبناء ملتهم المشتغلين بعلوم الطبيعة والكيمياء، ومعنى ذلك أن نصف علماء اليهود في أنحاء العالم المتمدن قد وصلوا إلى جوائز نوبل العلمية، وهنا يظهر الفارق الكبير بين نسبتهم ونسبة غيرهم بحساب واحد، فإن الذين نالوا هذه الجوائز من غير اليهود ينقصون عن واحد في المائة من عدد العلماء العالميين، وهم عدة ألوف.
ولم يظهر مثل هذه النسبة في الجوائز الأدبية؛ لأن الأدباء اليهود الذين وصلوا إلى الشهرة العالمية أفراد معدودون، يحسبون على أصابع اليد الواحدة، ولم يكن أحد منهم في طبقة الأعلام النابهين من أمثال أناتول فرانس، وبرناردشو، وبيراندلو، وبرتراندرسل ... فلو أنهم أخذوا الجائزة الأدبية لكان معنى ذلك أن النسبة تبلغ فيهم مائة في المائة، وأن اللجنة السويدية تميزهم على من هم أرجح منهم قدرة وشهرة من غير اليهود، ولعل اللجنة أدركت أن محاباة هؤلاء حاصلة بغير حاجة إلى وساطتها في دوائر النشر والإعلان؛ لأن أنصاف اليهود من أمثال رلكنه، وكافكا، وسارتر، قد زاحموا من هم أفضل منهم في ملكات الشعر والقصة، وقد كان ذلك حسبهم من المحاباة، فلا حاجة باللجنة السويدية إلى توريط نفسها في هذا المجال، وبخاصة عند النظر إلى الشروط المثالية الإنسانية، فإنهم منها على النقيض مما اشترطه مؤسس الجائزة من شروط القيم الأخلاقية والمثل العليا.
وقد استحق الجائزة كاتب كبير له قدره الراجح الذي لا اختلاف عليه، وهو الفيلسوف اليهودي برجسن، ولكن الاستثناء في أمره واضح من ناحية غير ناحية الشهرة والقدرة الفنية، وتلك هي ناحية الموضوع الذي اختير من أجله، وهو موضوع الفلسفة؛ إذ كان بين الشعراء والروائيين وكتاب المسرح والفن الجميل من هو أولى منه بشروط الجائزة الكتابية، فكان تفضيل موضوع الفلسفة على موضوعات الأدب الفني هو باب الاستثناء في أمر هذا الكاتب الكبير.
إن هذه القضية جديرة بحصتها في التعليق في كلام يقال عن الجائزة وتقديراتها ومواضع الملاحظة عن أسباب المحاباة أو الإجحاف عليها، وليس لذلك من مناسبة أقرب إلى موضوعها من باب خاص تستدعيه قصة باسترناك في هذا الكتاب؛ وهي القصة التي أثارت من اللغط حولها ما لم تثره جائزة أدبية في سنة من السنين.
وقد ثار اللغط حول هذه الجائزة - بحق - في بلاد العالم، ولم تنفرد البلاد الروسية بهذا اللغط كما يعلم جمهرة القراء.
إن أدباء الروس لم يظفروا بنصيب من جوائز نوبل منذ نشأتها، ولا استثناء لذلك في أمر تولستوي أشهر أدباء الروس في عصره، بل أشهر أدباء الغرب جميعا في العصر الحديث.
ولما أجيز الكاتب الروسي «إيفان بوتين» في سنة ثلاث وثلاثين لم يكن ذلك الكاتب روسيا بحسب التبعية السياسية في ذلك الحين، ولكنه كان من رعايا الدولة الفرنسية، وكان من المهاجرين البيض المنفيين من وطنه الأصيل.
فلما أعلن اسم الفائز سنة ثمان وخمسين، وعرف الناس أنه بوريس باسترناك، كان موضع دهشتهم من النبأ أنه أول أديب روسي مقيم في بلاده، خصته اللجنة السويدية بجائزتها التي لم تخص بها من قبله تولستوي، ولا أحدا ممن لا يساوون تولستوي، ولكنهم يساوون باسترناك، ويرجحون عليه.
وتساءلوا: ما هي المزية الخارقة التي خرجت باللجنة السويدية من قاعدتها المطردة إلى هذا الاستثناء الغريب؟
إن الموسوعة اليهودية - التي أشرنا إليها في مطلع هذا المقال - لم تذكر اسم باسترناك الشاعر؛ لأنه لم يكن علما من أعلام الأدب في سنة صدورها: سنة ست وأربعين (1946) ... ولكنها ذكرت اسم أبيه؛ لأنه المصور الذي زين بالرسوم قصة البعث لتولستوي.
وقد تسربت له إلى الغرب شهرة محدودة بنظم الشعر، على طريقة وسط بين طريقة الرمزيين وطريقة المستقبليين، ولكنه كان أقل زملائه شهرة في البلاد الأوروبية إلى العام الذي نال فيه الجائزة، بعد ظهور روايته «الدكتور زيفاجو» باللغة الإيطالية سنة سبع وخمسين، وكان ظهورها بالترجمة الإيطالية، ورفضها في بلاد الشاعر بلغتها الروسية سببا من أسباب الالتفات إليها، والتساؤل عن موقف الشاعر من برنامج الأدب كما قرره اتحاد الأدباء الماركسيين، ولم يكن باسترناك من أعضاء هذا الاتحاد.
وتعتبر قصة «الدكتور زيفاجو» عملا جيدا في باب القصة المطولة، ولكنها لا ترتفع إلى القمة في هذا الباب بمزية من مزايا الروائيين الأفذاذ في العالم الغربي، أو في اللغة الروسية على الانفراد، وهي في جملتها مزايا الوعي الإنساني الواسع، والعبقرية الخلاقة في رسم الشخوص والأبطال، والدراما المطبوعة بسياق الحوادث، واستخراجها من ينابيعها الحيوية في نفوس الناس، وظروف العصر الذي يعيشون فيه ... فلم تبرز في القصة مزية فنية تعلو على مزايا المتوسطين من كتاب الرواية، وهي مطابقة الوصف للواقع المحسوس، وتمثيل الأحياء على امتلائه بدوافع الحياة اليومية، وتسجيل التاريخ بسلسلة من التجارب العملية، لا يحيط بها إدراك واسع، ولا تتعمق إلى القرار البعيد من وراء الحركة السطحية، ولكنها في أسلوب باسترناك حركة سطحية، يزينها بعض الوشي من نسيج الشعر والخيال.
أما الشروط المثالية، أو الشروط الروحية التي تعنى بها لجنة نوبل فلم تكن رواية باسترناك خالية منها؛ لأن الترفع عن ابتذال الحياة بالأغراض المادية صريح على وجه الرواية، ملموح بين سطورها، مفهوم من تفصيلاتها، وفي بعض العبارات التي وردت بين ثنايا الحوار أقوال جريئة في انتقاد آراء الماديين، الذين يؤمنون بعقيدتهم على السماع والتقليد، ويهرفون بما لا يعرفون، وهم يحسبون أنهم ثائرون على المقلدين المحافظين ... ولكن هذه الأقوال لم تتجاوز نقل التجارب على علاتها، ولم يكن فيها ما يحسب من الجرأة، لو كتب بلغة غير الروسية، أو كتب لأناس يرفضون الماركسية، أو يقفون منها موقف الحيدة.
كل هذه المزايا لم تكن كافية لترشيح الكاتب للجائزة بين عشرات النظراء من أبناء الأمم الأوروبية والأمريكية، وقد تكفي لترشيح أحد من الفرنسيين، أو من الألمان، أو الطليان، أو الإنجليز، ولا تتبعها تلك الضجة التي تبعت إعلان الجائزة في سنة ثمان وخمسين؛ لأن لجنة نوبل لم تتجنب أمة من هذه الأمم، ولم تتحرج من توجيه جوائزها إلى أدبائها مرتين، وأكثر من مرتين ... ولكن مثار الدهشة أن تصبح مزايا باسترناك كافية لاختياره بين أدباء لغته بعد نحو ستين سنة، لم يسبقه فيها سابق إلى تلك الجائزة بين أقطاب بلاده العالميين.
واللجنة تقول في أسباب اختصاص باسترناك: إنها منحته جائزتها «لمساهمته الهامة في كل من ميدان الشعر المعاصر، وميدان التراث الروسي العظيم في باب القصة.»
ولكن شعر باسترناك قد كان معروفا قبل سنوات، وتراث القصة في اللغة الروسية بدأ قبل باسترناك بأكثر من مائة سنة، ولم تلتفت إليه اللجنة حين التفتت إلى الكاتب الكاتب الروسي إيفان بونين؛ لأنه كان من كتاب القصة القصيرة التي لا يبتدئ بها الباحث عن تراث القصة باللغة الروسية ... وهذا إذا صرفنا النظر عن انتساب بونين إلى الجنسية الروسية، واعتزاله الإقامة في بلاده قبل نيله الجائزة بسنوات.
فإذا كانت هذه المرشحات المعلنة قاصرة عن تعليل هذا الاختصاص العجيب، غير مغنية عن البحث وراءها لتمييز باسترناك وتمييز روايته في حساب اللجنة، فالعذر واضح لمن يعلل ذلك بالعلة الوحيدة الباقية بين يديه: وهى أن باسترناك كاتب يهودى المولد، وأن مسألة اضطهاد اليهود من المسائل التي تتخلل روايته في غير موضع، ويتفق في ذلك الحين أنها كانت تثير القيل والقال حول بعض القضايا والتهم، وراء حدود البلاد الروسية.
وإذا احتاجت هذه العلة إلى علة أخرى تساندها، ولا تحصرها في ناحيتها اليهودية، فتلك العلة الأخرى هي نقد التجارب المادية، والزراية بمن ينتحلون عقائدها على التقليد والسماع.
ولا بد من الإشارة هنا إلى حقيقة تاريخية تفسر هذا النفوذ اليهودي في دوائر معهودة من أمم الشمال: هي دوائر التجارة العالمية، ودوائر العملة الأجنبية، التي لا يخفى شأنها في كل موطن تتصل مبادلاته بما وراء البحار.
فمنذ القرون الوسطى كانت بلاد الشمال ملاذا مفتوحا لليهود، وللطوائف الخارجة على سلطان الكنيسة الكاثوليكية؛ إذ كانت بلاد الشمال بين البلاد التي انفصلت عن تلك الكنيسة، وفتحت أبوابها لمن يخشون البقاء في جوارها، وبين الأمم التابعة لمذهبها في الدين، ومسلكها في السياسة، ونزل اليهود منزلهم المرعي، حيث تتسع الفرص لصفقات التجارة الدولية، ولمبادلات العملة من وراء البحار.
ويذكر القراء أن محافل إسرائيل لم تخل قط - إلى هذه الأيام - من وفود الشمال، التي تشترك في الاحتفال بأعياد أورشليم وتل أبيب، تسجيلا لحوادث اليهود مع النازيين ... وقد يذكر القراء أيضا أن زعماء إسرائيل يتلقون الدعوة تباعا لقضاء الرحلات في أرجاء الشمال، على مثال لم يتكرر في عامة البلاد الأوروبية التي حاربت النازيين.
ولسنا نميل إلى القول بأن هذه المحاباة لباسترناك كانت عملا من أعمال القصد والتدبير والتفاهم المكشوف بين أعضاء اللجنة المحكمين، ولكننا نخاله أثرا من آثار الجو الشعوري، الذي يخلقه كل نفوذ قديم، لا سيما النفوذ الذي يتغلغل في شعاب المعاملات، خارج البلاد وداخلها ... ولولا هذا «الجو الشعوري» لما بحثت اللجنة عن باسترناك، ولولاه لبحثت عن غيره بمؤهلاته، وما هو أكبر من مؤهلاته، في حيث تشاء الصهيونية العالمية، وحيث لا تشاء.
جائزة الكاتب وجائزة الكتاب
مما اطلع عليه قراء الصحف - في أثناء متابعة هذه المقالات - نبأ يقال فيه: إن إحدى جهات النشر والطباعة تستعد لمشروع كبير، تتوفر فيه على نقل المؤلفات التي استحق بها الأدباء العالميون جوائز نوبل الأدبية منذ سنتها الأولى.
وقد سئلت عن هذا النبأ، وهو - في الحق - نبأ يستدعي بعض الإيضاح والتعليق، أو يستدعي السؤال عن هذه المؤلفات للعلم بأسمائها وموضوعاتها، وتيسير الاختيار منها لمن يرغبون في ترجمتها، ومن ينتظرونها بترتيبها، على حسب تأليفها، أو على حسب مواقيت إجازتها.
ولا نظن أن رواة الخبر في الصحف يعنون أن الناشرين يعتزمون ترجمة الكتب التي ألفها الأدباء العالميون، ممن استحقوا الجوائز الأدبية في جميع سنواتها؛ لأنهم استحقوا الجوائز بما نهضوا به من رسالة أدبية شاملة لجميع ما ألفوه، ولم يحصل في حالة من الحالات أن أديبا عالميا أجيز لكتاب واحد من كتبه، وهو ما لم يحصل في حالة واحدة، على ما نعلم من سجلات اللجنة السويدية، وهي محفوظة بتفصيلاتها في محاضرها، وفي التقارير الوافية التي تذيعها.
فالأساس في إجازة الأدباء أنهم يمنحون الجائزة لجملة ما كتبوه، وتعتبرها مؤسسة نوبل تتويجا لأعمالهم، وتقديرا لرسالتهم في خدمة الفن والأدباء المثالية، وأهمها عند المؤسسة أدب السلام والرجاء: أدب الإيمان بمصير الإنسانية ورعاية حقوقها.
وإذا روجعت أسباب الإجازة من سنواتها الأولى لم نكد نعرف منها اسم كتاب واحد مذكور باسمه دون سائر الكتب التي ظهرت بقلم مؤلفه، إلا إذا كان فيه تخصيص لمزية شائعة في سائر مؤلفاته.
فصاحب الجائزة في السنة الأولى، سولي برودوم الشاعر الفيلسوف الفرنسي، ميزته اللجنة «تقديرا لتفوقه في الأدب، ولا سيما الشعر الذي يتسم بالروح المثالية السامية، والإتقان الفني، والتوفيق النادر بين الضمير والعبقرية.»
واتجهت الجائزة في السنة الثانية إلى الفيلسوف المؤرخ الكبير تيودور مومش؛ «لأنه أعظم المؤرخين الأحياء في زماننا، مع التنويه بعمله في تاريخ رومة.»
وكان صاحب الجائزة في السنة الثالثة شاعر النرويج الأكبر بجورستون؛ «تقديرا لعمله الشعري العظيم النبيل في جوانبه المتعددة، مع امتيازه بالوحي المبتكر، وصفاء الروح.»
وفي السنة الرابعة أجيز الشاعر الفرنسي رمسترال: «لسلاسته الرائعة، وإجادته الفنية التي صور بها مناظر وطنه، وحياة الريف» وقاسمه جائزة السنة شاعر إسبانيا إشيجاري
Echegary
لبراعته، وإحاطته، واقتداره، مع استقلاله، وإبداعه في إحياء تراث الدرامة الإسبانية.
وكان «تقدير العظمة في تأليف الملاحم التاريخية» سبب اختصاص الروائي البولوني سينكفيش بجائزة سنة 1905، وهي السنة الخامسة.
وكان اختصاص الشاعر الإيطالي العظيم كردوتشي في السنة السادسة؛ «إجلالا لمثابرته، وروعة أسلوبه، وملكته الغنائية التي بدت في آياته المنظومة، فضلا عن سعة معارفه، ومباحثه النقدية.»
وفي السنة السابعة لجائزة نوبل حصل عليها أشهر شعراء الإنجليز في عصره رويار دكبلنج؛ «لقوة الملاحظة، والتخيل المطبوع، والوعي المتيقظ، والتصوير الصادق.»
وحصل عليها أول مستحقيها من الفلاسفة رودلف يوكني الألماني في سنة 1908؛ «لأنه عرف بالجد في البحث عن الحقيقة، وبالنظر الثاقب، والبصيرة الواسعة، والتصوير الذي يجمع بين الحرارة والقوة، ولأنه استخدم ذلك كله في جلاء العالم على الصورة المثالية.»
وكانت سلما لاجرلوف صاحبة الجائزة سنة 1909 أول امرأة نالتها، وأول من نالها من السويد؛ «لأنها - كما قالت اللجنة - لمست أشرف شمائل أمنا السويد، كما لمست أكرم الشمائل الإنسانية.»
وفي السنة العاشرة للجائزة خصت بها اللجنة الأديب الألماني بول فون هيسي؛ لأنها «تقدر فنه الممتاز بالجودة، والروح المثالية الذي توفر عليه في جهاد طويل قيم، وهو يدأب على نظم الشعر الغنائي، وكتابة الدرامة، والرواية، والنوادر القصار ذوات الشهرة العالمية.»
وهذه هي أسباب منح الجائزة في عشر سنوات متواليات، لم تذكر فيها اللجنة كتابا خاصا من كتب هؤلاء الأدباء، ولم تخالف هذه السنة بعد ذلك إلى السنة الأخيرة، ولا نظنها تخالفها بعد اليوم ما دامت تقيم جوائزها على أساسها الذي استقرت عليه، وهو تقدير الرسالة الإنسانية التي ينهض بها الكاتب المختار، وليس من الاستثناء تنويهها بعمل المؤرخ الفيلسوف مومش في تاريخ رومة؛ لأن التواريخ الرومانية - على اختلاف أبوابها - كانت هي رسالة العمر كله في حياة هذا المؤرخ الفيلسوف، وقد عرفته بهذه الرسالة أمم الشمال قبل منحه الجائزة، كما عرفته بها أمته الألمانية؛ فتبرعت له الدنمرك، وهو دون الثلاثين، بهبة مالية تعينه على زيارة رومة لجمع رسومها الأثرية، وعينته دولة بروسيا، وهو دون الأربعين، مديرا لمتحف الآثار الرومانية، وامتدت بحوثه إلى كل جانب من جوانب التاريخ الروماني، كإحصاء أنواع العملة النقدية في أرجاء الإمبراطورية، وتقسيم مبادئ التشريع الإدارية في دواوينها، ومراجعة بقاياها المهجورة في أنحاء سويسرة، وغيرها من أقطار أوروبة التي بسطت نفوذها عليها.
فكتاب تاريخ رومة لم يكن منفردا بالتنويه في تقدير اللجنة؛ لأنه عمل مستقل بموضوع مادته بين أعمال المؤرخ الفيلسوف، وإنما كان محل التنويه؛ لأنه جزء من رسالته، وعنوان لسائر مباحثه وموضوعاته، وكلها موضوع واحد داخل في مدلول ذلك العنوان. •••
ويعود الأمر في ذلك كله - أو معظمه - إلى طبيعة الجائزة العالمية، وطبيعة اختصاصها.
أو يعود الأمر إلى الوظيفة التي تؤديها الجائزة، والقاعدة التي بنيت عليها.
فإن نظام التخصيص والتوزيع قد سرى إلى الجوائز، كما يسري إلى كل شيء في هذا العصر: عصر توزيع العمل وتقسيم الملكات والكفايات.
لقد بدأت شائعة متشابهة، ثم تخصصت بعد طول العهد بتطبيقها، فتطرقت إلى أنواع شتى، لا يغني نوع منها عن سواه، ولا تصلح جائزة منها بديلا عن جائزة أخرى.
وأشهر هذه الأنواع العصرية نوعان: جائزة التقدير، وجائزة التشجيع.
فالجائزة التقديرية يدل اسمها على وظيفتها وغايتها، فإن الكاتب إنما يستحق التقدير لأعمال كثيرة، وعهد طويل بالإنتاج الأدبي الناضج، والخبرة الفنية التي يستقل فيها بقدرته وبحقه في التقدير، ويسمى التقدير أحيانا بالتتويج؛ لأنه يأتي بعد أمد طويل تاجا على رأس أعماله جميعا، وتنويها برسالته الفكرية التي تبين فيها قدرته، وقد تتبعها مؤلفات أخرى له، ولكنها لا تزيد في قيمة العمل، وإن زادت في العمل والمقدار.
أما الجائزة التشجيعية كما يدل عليها اسمها، فهي دليل على الأمل في إنتاج الكاتب لما هو خير من عمله الذي كوفئ عليه، واستنهاض له لبلوغ المنزلة التي يستحق عليها التقدير والثناء على جملة أعماله، وأكثر من ينالون هذه الجائزة من الناشئين الموهوبين الذين يستحقون النجاح، ولا يدركونه بغير تنبيه من ذي شهادة يوثق بها في هذا المقام.
وهناك حالة ثالثة تتوسط بين التقدير والتشجيع، وهي الحالة التي يجب فيها التنويه بعمل فني ممتاز، يأتي به كاتب جاوز سني التشجيع، ولم ينته من أداء رسالته الكاملة في عالم التأليف ... وهذه هي حالة «الكتاب الواحد» الذي يدل على التفوق والامتياز، ولكنه لا يحتوي في موضوعه، ولا في غايته رسالة حياة.
وتكاد جميع الجوائز الأخرى أن تدخل في نطاق نوع من هذه الأنواع الثلاثة، ولكنها تعود كلها فتنقسم إلى قسمين: أحدهما قسم الجوائز العالمية المتكررة، والآخر قسم الجوائز القومية، متكررة كانت، أو ذات غرض محدود.
ولا محل لجوائز التشجيع ولا جوائز الكتاب الواحد في نظام الهيئات العالمية، التي تكرر جوائزها في كل عام.
لأن أمة الأديب الناشئ أولى من العالم كله أن تبدأ بتشجيعه، وكذلك ينبغي أن تبتدئ الأمة بمكافأة المؤلف الذي يجيد العمل في بحث محدود، ولا ترتبط إجادته هنا برسالة عامة، تنسب إلى إنسان جاوز حدود القومية إلى حدود العمل المشترك بين جميع الأمم، وبين جميع بني الإنسان.
هذا العمل الإنساني المشترك رسالة عامة، تتولى الهيئات العالمية إجازة العاملين في ميدانها، وتتولاها على التخصيص حين تكون مشروطة بشروطها الإنسانية، إلى جانب شروطها الفنية، ومنها رعاية المثل العليا، وتأييد قضية الإخاء والسلام.
وعلى هذا الاعتبار تكون مؤسسة نوبل قد لزمت حدود اختصاصها، حين وضعت جوائزها تقديرا للأدباء من ذوي الرسالة الكاملة في سبيل الإنسانية، ولم تضعها للتشجيع، أو للمكافأة على الإجادة في تأليف كتاب.
ولا نعلم أن هيئة غير الهيئات القومية كافأت أحدا على الإجادة في تأليف كتاب واحد، فإذا وجدت هيئة عالمية تكافئ الأدباء في جميع الأمم على كتاب معلوم؛ فالغالب أن تكون لهذه الهيئة وجهة اقتصادية تجارية تهتم بالترويج والعرض، ولا يهمها كثيرا أن تعرض على الكاتب رسالة إنسانية أو رسالة إنسانية كاملة، والغالب أيضا أن تبدأ هذه الهيئة الاقتصادية باختيار المؤلف والتوصية بموضوعه والاتفاق بين الأمم على المطابع التي تنشره، وعلى دور الصور المتحركة التي تعرضه، وعلى اللغات التي يترجم إليها، والحقوق التي تترتب على ترجمته واستغلاله، وهي - أي الهيئة الاقتصادية - تعتمد على الاتفاقات الدولية في مسائل العملة، وحقوق التصدير والتوريد، وتكثر بين أعضائها من المساهمين في الشركات الدولية؛ لتعميم النشر والعرض في أوسع مجال من بلاد العالم.
وقد نظرت مؤسسة نوبل إلى الغرض الأدبي، ولم تنظر إلى استغلال كتاب معين من الناحية التجارية، فكانت جوائزها جوائز رسالة عامة، ولم تكن جوائز عمل محدودة.
نعم، إن صاحب الجائزة قد يكون له عمل أفضل من سائر أعماله، وقد يقع الاختيار على هذا العمل للترجمة والتعريف بمكانة المؤلف ورسالته العامة، ولكن الوسيلة التي تناسب هذه الجائزة هي وسيلة المختارات والمجاميع، وهي الإحاطة بالنخبة المنتقاة من جملة آثاره في مجموعة واحدة، يطلع عليها القارئ، فيطلع على رسالة الكاتب في الفن والأدب، ورسالته في خدمة الإنسانية.
خاتمة المطاف
ونأتي إلى خاتمة هذه السلسلة عن تلك الجائزة العالمية، وهي - كما نعلم - أشهر جوائز العالم وأقدمها، وهي كذلك أصلحها لغرضين من أغراض البحث في هذا الموضوع، هما البحث في دلالة الجائزة على تطور الحياة الفكرية والنفسية في أكثر من ستين سنة، بدأت بالسنة الأولى من القرن العشرين.
وثاني أغراض البحث التي تصلح لها هذه الجائزة قبل غيرها هو الدلالة على وظيفة الجوائز العالمية في جملتها، ووظيفة الجوائز بأنواعها، بين عالمية وقومية، وبين دائمة متكررة وعارضة محدودة، تنقضي بانقضاء مناسبتها.
ونقول: إن جائزة نوبل تدل على تطور الحياة النفسية، كما تدل على تطور الحياة الفكرية، بأنها مشروطة بشروط أخرى غير شرط الإجادة والإتقان في أعمال الفن والأدب، وتلك هي شروط العمل لقضية السلام والثقة بالمثل الإنسانية العالية، وهي مسألة أخلاقية نفسية، تتغير النظرة إليها، ويتغير الشعور بها بين زمان وزمان، وبين قبيل وقبيل من أمم الحضارة.
ولهذا قصرنا الكلام في جميع هذه الأحاديث على هاتين الدلالتين: دلالة التطور في مقاييس الأدب والأخلاق، ودلالة الوظيفة العامة التي تؤديها الجائزة العالمية.
فلم نقصد إلى إفاضة القول في تراجم الأدباء؛ لأنه شرح يطول، ولا تحتمله هذه الصفحات إلا في حيز ضيق مخل بفائدة الترجمة، وأنفع من الإلمام به في حيزه الضيق أن يرجع إليه في مطولاته أو مختصراته عند الحاجة إليها.
ولم نقصد إلى الإفاضة في التعليق على مؤلفات الأدباء؛ لأن الشروح الطوال في هذا الباب ألزم من شروح التراجم والسير، ومواضعها - عند الحاجة إليها - ميسورة في كل لغة يكتب بها النقاد ومؤرخو الآداب.
إنما كان من اللازم أن نشير إلى ترجمة الأديب، أو إلى مؤلفاته، كلما كان في ذلك إشارة إلى ظروفه الخاصة التي جعلته موضع التمييز والمحاباة، وموضع الإهمال والإجحاف.
وقد أشرنا - فيما سبق - إلى ظروف كثيرة تفسر لنا أسباب التفاوت في أحكام اللجنة التي توزع جوائز نوبل الأدبية، ثم تفسر لنا كيف تتفاوت هذه الأحكام أحيانا، لأسباب غير الخطأ في التقدير، وغير الاستسلام لأهواء النفوس البشرية في علاقات الأفراد والجماعات، وجائزة نوبل شديدة الصلة بالأهواء السياسية التي لا يسهل إغفالها؛ لأنها على صلة رسمية بموقف حكومتها بين الحكومات.
وجملة ما نوجزه في هذه الخلاصة الختامية من أسباب التفاوت جميعا، أنها ضرورية لا مهرب منها في كل جائزة عالمية متكررة. «أولا» لأنها تنظر في أعمال المؤلفين خلال سنوات متوالية في أمم مختلفة، وقد يستحقها في هذه السنة من هو أقل استحقاقا لها قبل عشر سنوات، وقد يحرمها اليوم من كان أهلا لها لو تقدم به الزمن، أو تأخر به، بين أقران غير الأقران، وفي موضوع غير الموضوع.
ولا بد أن يتفاوت التقدير «ثانيا» لأن المحكمين يتغيرون، وتتغير الأذواق والمقاييس معهم بين حقبة وحقبة، وبين مدرسة ومدرسة من مدارس النقد والتفكير.
وتتفاوت الأحكام، «ثالثا» لأن اللجنة مضطرة إلى اجتناب الشبهات، والحذر من تمييز أمة واحدة بين الأمم بنصيب من الجوائز يزيد على نصيب غيرها عند المقارنة العامة، ولو كثر المستحقون بالمصادفة في أمة واحدة، وقل أمثالهم من المستحقين - بالمصادفة أيضا - في أمة تناظرها، ولا تتخلف عنها في ميادين الثقافة أو ميادين العمل لقضية السلام ومبادئ الأخلاق.
فلو اتفق أن اللجنة خصت بجوائزها أديبين من أمة واحدة في سنتين متقاربتين، فمن أكبر الحرج لها أن تعود إلى تلك الأمة بجائزة ثالثة في السنة التالية، وأكبر الظن أنها تتحول بها عمدا إلى أديب في أمة أخرى لا يساوي نظيره في الأمة الأولى، إذا جرت بينهما الموازنة على غير هذا الاعتبار.
وتتفاوت الأحكام «رابعا» كلما اعترضت أزمات السياسة والحروب في وسط الطريق، فإن حكومة السويد تحتفل بتسليم الجوائز احتفالا رسميا يحضره ملك البلاد، فلا يسع اللجنة الأدبية أن تحكم لأديب مستحق للجائزة، يعتبر الحكم له حكما لأمته، أو لقضية بلده، في معركة الخصومات الدولية، وهي تستحكم بين الدول الكبرى بين حين وحين.
وعلى هذه الحيطة من جانب اللجنة لم تسلم من الشبهات بغير الحق في كثير من السنين، فقد كان زعماء ألمانيا النازية يعتبرون حكمها لخصومهم اتهاما للنازية بمحاربة السلام، وقد تكرر ذلك حتى أصبح ترشيح الأديب الألماني نفسه للجائزة عملا مستنكرا في نظر حكومته، وأعلنت الدولة النازية أنها تحرم على الأدباء أن يتقدموا لنيل الجائزة أو يقبلوها، وصدر مثل هذا الأمر من حكومات شتى، كانت في موقف دولي كموقف النازيين والفاشيين، ولم يكن لهذه الحكومات بد من إنشاء جوائز كبرى لأدبائها الممتازين، تساوي جائزة نوبل في طبقة التقدير، وإن لم تكن مساوية لها بحساب المال.
وقد يحدث التفاوت في جوائز نوبل لأسباب «محلية» لها أصولها التاريخية في بلاد السويد، فقد كانت هذه البلاد ملاذا لكل مغضوب عليه من أعداء الكنيسة البابوية منذ القرون الوسطى، ولا سيما اليهود، وقد غلب النفوذ اليهودي على معاملاتها الدولية؛ لأنها أمة كثيرة العلاقات بالتجارة الخارجية، ومبادلات العملة على الخصوص، وهي سوق لا يبتعد عنها السماسرة من اليهود حيثما استقر بهم المقام، لا جرم كان لليهود حظ من جوائز نوبل يفوق نسبتهم العددية بكثير، وغلب ذلك على جوائز العلوم قبل جوائز الأدب، فربما صح أن يقال: إن عدد العلماء اليهود الذين ظفروا بها لا يقل عن نصف عددهم في العالم بأسره، وربما صح - فوق ذلك - أن اللجنة لم تنصف أحدا قط من خصوم اليهود، وممن لا يناصرون الصهيونية العالمية أو يقفون منها موقف الحذر والاشتباه.
وطرأت في السنوات الأخيرة أسباب للاستغناء عن جائزة نوبل، وإنشاء الجوائز التي تناظرها غير أسباب الشكوى من التحيز المقبول.
تلك هي الأسباب الاقتصادية التي يهتم بها الناشرون من أصحاب العلاقات الدولية، فإن هؤلاء يريدون أن تكون الجائزة العالمية في موضوع يروج في عالم المطبوعات «السوقية» أو عالم العرض على اللوحة البيضاء، ويريدون قبل ذلك أن يكون لهم رأي في اختيار الموضوع، وترجيح جانب القصة والمسرحية منه على سائر الموضوعات، وهذه هي الأسباب الاقتصادية التي دعت بعض الشركات إلى إنشاء جائزة دولية ينالها من يعمل بمقترحاتها، ويضمن - مع قيمة الجائزة - أن تتولى هذه الشركات ترجمة كتابه إلى بضع لغات، وأن تطبعه وتحفظ حقوق طبعه في عدة أقطار. •••
على أن التفاوت في أحكام اللجنة لا يتنحى بها عن مكانها الملحوظ في الدلالة على تطور الحياة الأدبية، وتطور الأخلاق ومقاييس النظر إلى المثل العليا، فإن علامات التطور قد تستفاد من التفاوت في الحكم، كما تستفاد من اطراد الأحكام على وتيرة واحدة، وقد يكون البحث في هذا التفاوت معرضا من معارض الأطوار الهامة في معايير النقد وأساليب الترجيح والتمييز، وربما استطاعت اللجنة بإرادتها أن تخالف الصواب في تقدير المزايا الفنية، وتفضيل الحسن منها على ما هو أحسن منه، ولكنها لا تستطيع بإرادتها أن تخطئ في الدلالة على أخلاق زمانها، ولا على نظرات أهله إلى المثل العليا، ومطامح الإنسانية في آمالها، فإذا جاز أن يكون للجنة حكم أدبي لا يمثل عصره، فمن البعيد أن تخلق مثلا أعلى في قيم الأخلاق، يجاوزه كثيرا إلى الصعود أو إلى الهبوط. •••
إن أسباب التفاوت في أحكام الأدب كثيرة متعددة، ولكن أسباب التفاوت في أحكام الأخلاق كبيرة واسعة المسافة؛ لأنها مسافة ما بين الأرض والسماء، بتعبير الحقيقة لا بتعبير المجاز.
كان في الغرب - عند إنشاء الجائزة - بقية من النظرة الدينية إلى المثل الأعلى ... والمثل الأعلى في الدين يرتقي إلى سماء الله، ولا حدود للكمال الذي يرتفع به الرجاء في الله.
وكان الأوروبي في القرن التاسع عشر يطمح مع نيتشه إلى أفق السوپر مان، الذي يعلو على طبقة الآدميين علو الإنسان على طبقة القرود، أو كان الأوروبي - في ذلك القرن - يتغنى مع كارليل بعظمة البطل الأروع، الذي يحل من النفوس محل العبادة والتقديس، فلما غلبت عقيدة الواقع المادي على نفوس الناس في القرن العشرين، هبط المثل الأعلى من سمائه، واستغنى الضمير الأوروبي بالطيران في أجواز الفضاء عن اللحاق بآفاق عليين.
ثم أصبح قصارى الأمل في مصير الإنسان أن يروض نفسه على مواجهة اليأس، والتسليم بضرورة الوجود؛ تسليم قوامه الضرورة المقضية، ولا قوام له من الرجاء فيما وراء العيان، ولا في نحلة البطولة أو نحلة السوبر مان.
وكان آخر ذوي الأفكار من مستحقي الجائزة أديبا يتكلم بلغة الفلسفة، كأنه السياسي الذي يتكلم بلغة «الدبلوماسية» حين يقول: إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون.
وهكذا انتهى المطاف برسالة نوبل في طلاب المثل الأعلى، ولا نخاله مرتفعا إلى قمة تعلو على هذه القمة، إلى مدى سنوات مقبلات. •••
وبعد فإننا نختتم هذه الدراسة ونحن نتسمع على بعض الأفواه سؤالا لا غرابة فيه، ولا سيما ممن قرأ لنا - قبل اليوم - كثيرا في موضوع هذه الجائزة.
لماذا عنينا بموضوع هذه الجائزة غير مرة؟
ومن الواجب أن يجاب هذا السؤال لتصحيح النظر إلى البحث كله، لا لمجرد الإيضاح في مسألة شخصية؛ لأن جلاء الحقيقة عن بواعث البحث جلاء للحقيقة عن الآراء التي تنبعث منها.
ونوجز البيان فنقول: إننا لم نعرض قط لموضوع الجائزة إلا استجابة لسؤال أو اقتراح.
قيل في الصحف يوما: إن زميلنا الأستاذ توفيق الحكيم استعار قصة «حمار الحكيم» من قصة الشاعر الإسباني خيمنيز، وسألني المختلفون عن رأيي فكتبته، وأجملت القول عن الفارق بين الروايتين، فاستتبع ذلك اقتراحا من مؤسسة ثقافية كبيرة للكتابة عن الشاعر الإسباني، وعن الجائزة ومستحقيها، وظهر من ثم كتابي عن الشاعر الأندلسي والجائزة العالمية.
وسألتني قبل ذلك صحيفة أدبية عن حق الشاعر الهندي تاجور في الجائزة، فكان مقالي عنه جوابا لذلك السؤال.
ولبيت اقتراح الفضلاء من نقاد الإذاعة والمشرفين على برامجها، فأعددت للإذاعة هذه الأحاديث، ولا محل للسؤال عن بواعثي للحديث عنها؛ إذ يكون الباعث إليه خاطرا من خواطر المقترحين.
والواضح المحقق أننا لم نشتغل بحديث الجائزة؛ لأننا نطلبها، فربما توافر لنا من ظروف طلبها ما لم يتوافر لغيرنا ... ومن تلك الشروط أن تطلب باسم هيئة رسمية أو مجلس نيابي أو جماعة علمية، وقد عملنا في تلك المجالس والهيئات منذ نيف وثلاثين سنة، وكان من رأي بعض الرؤساء أن يذكروني بين مرشحيها، فكنت - مع شكري لهم - أفصح لهم عن رأيي في شروطها وموقفي منها، وآخر من صارحته بهذا الرأي منذ سنوات: زميلنا توفيق الحكيم.
أما وقد خرجت بنفسي من هذه المظنة فليس من الجائز أن تختم مقالات نوبل وجائزته بغير إشارة إلى موقف لجنته من أدباء العربية، وليس من الدعوى التي ينكرها المنصفون أن هؤلاء الأدباء فيهم من هو أولى بالجائزة ممن تخيرتهم اللجنة في سنوات كثيرة، ولا سيما السنوات الأخيرة، وربما كان لذلك خطره من قبل ... ولكنه أمر لا خطر له في عهدنا هذا، عهد يستعيد فيه الشرق ثقته بنفسه، فلا يضيره أن يرى الغرب فيه وفي أدبه غير ما يراه، وأن له في تقديره للرأي الأول والأخير.
صفحة غير معروفة