ويرى بعض أهل التفسير أن إذا هنا عارية عن معنى الشرط، وإنما هي للظرفية وحدها، ويترتب على ذلك كونها للمضي وليست للاستقبال كما إذا كانت شرطية، وهو واضح لأن ذلك ديدنهم قبل الاخبار عنهم، ونحوها قوله تعالى:
حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر
[آل عمران: 152]، فإن دلالتها على المضي فيه واضحة.
وتقديم الظرف على { قالوا إنما نحن مصلحون } هو - كما يقول ابن عاشور - لايقاظ الأفكار وتنبيه العقول على ما وصلوا إليه من الفساد، وانتهوا إليه من الضلال، وفي ذلك تعجيب من حالهم، فإنه من شأن الفساد أن يكون باديا للأنظار السليمة ومتشخصا للأفكار المستقيمة، ولا تكون المكابرة بإنكاره ودعوى أنه عين الصلاح وروحه إلا ممن بلغ الفساد فيه غايته، خصوصا عندما يكون مثل هذا الجواب موجها إلى الناصح الأمين في مقام التوعية والتنبيه.
واختلف في قائلي { لا تفسدوا في الأرض } هل هو الله أو رسوله أو المؤمنون؟ ولا فارق بين أن يكون قائل ذلك هو الله أو الرسول، نظرا إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن الله، أما القول الثالث - وهو أن قائله المؤمنون - فهو محمول على أن طائفة من المؤمنين كانت تكتشف خبايا المنافقين بما يكون بينهم من الاتصال بسبب قرابة أو صحبة، ولا يألون جهدا - عندما يكتشفون نفاقهم - أن يوجهوا إليهم النصح، ويحاولوا تخليصهم مما هم فيه من الضلال راجين أن تجدي فيهم الموعظة ويؤثر فيهم التذكير، وهذا القول مروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وروي مثله عن مقاتل، واعتمده العلامة ابن عاشور نظرا إلى أنه لو كان قائل ذلك هو الله أو رسوله لانكشف أمرهم وانهتك سرهم ولم يعودوا في طوايا الخفاء، ولو كان هذا الخطاب موجها إليهم إجمالا كما تتنزل مواعظ القرآن، لم يستقم جوابهم { إنما نحن مصلحون } لأن مثل هذا الجواب المقرون بالتأكيد لا يصدر إلا ممن خص بالخطاب.
واستشكل كون طائفة من المؤمنين عرفت أشخاص المنافقين أو بعضهم، واكتشفت خبايا نفاقهم، ولا تكشف مع ذلك أمرهم للنبي صلى الله عليه وسلم ولسائر المؤمنين.
وأجيب عنه بجوابين:
أولهما: أن المكتشفين كانت بينهم وبين من اكتشفوهم صلة قربى تجعلهم يطمعون أن تجدي فيهم موعظتهم، ويؤثر فيهم تذكيرهم، فلذلك كانوا يؤثرون سترهم رجاء أن يتحولوا في يوم من الأيام عما هم فيه من الضلال، وإن كانوا أحيانا يشارفون اليأس من صلاحهم عندما يقرعونهم بمثل هذا الجواب الذي يستأصل كل طمع في ارعوائهم.
ثانيهما: أنه لا يبعد أن يكونوا قد كشفوا أمرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن المنافقين كانوا من الحذر على أنفسهم بحيث لا ينكشف أمرهم إلا مع الوحدان دون الجماعات، فلم تكن الحجة تقوم بهم عليهم، وهذا الجواب هو الذي يجب الاعتماد عليه - فيما أرى - لثلاثة أوجه:
أولها: أن المؤمنين لم يكونوا يرعون في جنب الحق قرابة قريب ولا صلة واصل، وما كانوا تأخذهم في الله لومة لائم، بل كانوا يؤثرون الحق على آبائهم وأبنائهم، وأحب الأحباب إليهم، كما يدل على ذلك موقف ابن رأس النفاق عبدالله بن أبي من أبيه حال رجوع المسلمين من غزوة بني المصطلق، فقد اعترض دخوله المدينة إلا بعد إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورماه بألذع الكلمات انتصارا للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقف أمره عند هذا الحد، بل استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتله.
صفحة غير معروفة