249

جواهر التفسير

تصانيف

وفي هذا الجواب نظر لا يخفى على من أمعن في آي القرآن، ودرس سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكم حاول المنافقون أن يثبطوا المؤمنين عن الجهاد، ويشيعوا فيهم روح الهزيمة، كما هو واضح فيما نزل في غزوة أحد من سورة آل عمران، وما نزل في غزوة تبوك من سورة التوبة، وبهذا يتضح أن أولى الأجوبة بالصواب هو الجواب الأول، ولا يمنع ذلك أن تضم إليه حكمة مراعاة المصلحة بتأليف القلوب، وتجنب ما ينفرها كما ذكر في الجواب الثالث.

[2.11-12]

هذا هو ديدن المنافقين، ومسلك المفسدين، فإن الغرور يتغلغل في نفوسهم فيعميها عن الحق، ويبعدها عن الحقيقة، فإذا طولبوا بالصلاح، والكف عن الفساد، استخفوا بهذه المطالبة ونظروا إلى صاحبها شزرا، وأعاروه أذنا صماء زاعمين أن ما هم فيه وعليه هو عين الصلاح، وروح الإصلاح، فكيف يطالبون بالكف عنه والتحول إلى نقيضه، وهو إن دل على شيء فإنما يدل على ما وصلت إليه قلوبهم من المرض، وانتهت إليه أفكارهم من الانحراف، وبلغت إليه فطرهم من التعفن، وهو الذي أدى إلى انقلاب موازين الأمور عندهم، وانعكاس مقاييسها، فهم يرون الباطل حقا، والحق باطلا، والصلاح فسادا، والفساد صلاحا، وهكذا.

وليس ذلك مقصورا على ذلك الجيل من المنافقين الذين عاصروا نزول الوحي وشاهدوا بزوغ شمس الاسلام، فشرقوا لانتشار ضيائها، وجزعوا من عموم هداها، بل هذه هي سمة أهل النفاق، وطريقة أهل الفساد في كل عصر خصوصا عندما يستشري داؤهما في مجتمع أو شعب أو أمة، فلا تستغرب إن وصفوا المعروف بصفة المنكر أو ألبسوا المنكر حلة المعروف، كما أشار إلى ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر لا يحتاج إلى أن يقام عليه برهان لوضوحه في مختلف العصور لا سيما هذا العصر الذي فتك فيه بالانسانية عامة، وبهذه الأمة خاصة داء الجاهلية العضال، تلك الجاهلية التي جليت للناس في ثوب مهلهل براق محبوك بخيوط من الزور ومصبوغ بألوان من الخداع، فغرقت في ظلمات الجهل والأوهام حتى لم تعد تبصر الحقيقة أو تفرق بين الحق والباطل، فكم من مأساة ارتكبت في هذا العصر باسم العلم أو التقدم أو الحرية، وكم تهمة وجهت فيه إلى الدين وأهله، وإذا خوطب أحد من هؤلاء المتشبثين بغروره، الغارقين في ضلاله، بآيات الله البينات ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا.

ومن أمثلة ذلك ما كان من أحد الطواغيت - الذين طواهم الزمن - عندما طولب بتطبيق شرع الله، فأجاب ساخرا من هذه المطالبة وممن صدرت منه: " إن زماننا هذا أوسع من أن تتسع له شريعة الله " كأنما شرع الله الذي وسع السماوات والأرض، والذي قام على موازينه الوجود، أضيق مجالا وأقل عطاء في نظره من تلك الأوهام الضالة التي أخرجت للناس في صورة قوانين لتبث في الأرض الفساد وتشيع الظلم بين الناس.

ومما شاع في أوساط كثير من أولئك الذين أصيبوا بهذا الداء الجاهلي الدفين، أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تدخل غاشم في شئون الناس الخاصة، ومصادرة لحرياتهم الشخصية ضاربين عرض الحائط بقوله عز وجل:

ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون

[آل عمران: 104]، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل اعتبروا المحافظة على الدين من العيوب التي يستحيي منها الفرد الكيس، ويترفع عنها المجتمع الواعي، فلم يتورعوا أن يصفوا التمسك بالمبادئ الحقة تارة بالجمود، وتارة بالتحجر، ومرة بالرجعية، وأخرى بالتطرف، ولا أزال أذكر جواب أحد المغرورين عندما وجه إليه أحد دعاة الخير نصيحة بالكف عن مفسدة فقال له ساخرا منه ومن نصيحته: (ما أغلى نصحك وأحلى كلامك غير أنهما لم يأتيا في زمنهما المناسب، فقد تأخرا عن وقتهما قرنا من الزمن، وعجلة الأيام لا تعود إلى الخلف)، وهو كلام يدل على أن صاحبه يعتقد بأن الدين طواه الزمن وأبلاه الدهر، فلا يصلح اليوم لما كان يصلح له بالأمس، ولكن - بحمد الله - أصيب الذين يسودهم هذا التفكير بخيبة أمل عندما أثبتت الأيام أن الدين وحده هو القوة الغيبية التي تتلاشى بين يديها جميع القوى، وأنه - رغم محاربته والتآمر عليه بشتى المكائد - لا يزال في إقبال ونمو كما شرع أول مرة، فهذه الصحوة الإسلامية - والحمد لله - أخذت تقض على الجاهلية الحديثة مضجعها، وتثير في أعماق نفسها الخوف والرعب، وسوف يأتي اليوم الذي يسود فيه هذا الدين إن شاء الله، ويهد أركان هذه الجاهلية، ويجتث بنيانها كما فعل بسالفتها الجاهلية القديمة؛ عندما طوى ظلامها بإشراق نوره وسطوع هداه.

وكثيرا ما يتردد على ألسنة منافقي العصر الحديث التشدق بالاسلام، ودعوى الانتماء إليه، والاعتزاز به، ليواروا بذلك ما ينطوون عليه من الكفر والشر والفساد، غير أن طبيعتهم المنحرفة تجعلهم أحيانا تفيض ألسنتهم بما تطفح به صدورهم من الحقد الدفين والكراهية المتأصلة للاسلام والمسلمين.

وقوله تعالى: { وإذا قيل لهم.. } " الآية " ، وارد مورد تعداد مساوئ المنافقين، وهتك أستارهم والنعي عليهم، فلذلك لا أجد داعيا إلى السؤال هل هو معطوف على جملة " يكذبون " من الآية السابقة كما رجحه الزمخشري، أو معطوف على { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر } كما اختاره الألوسي، أو معطوف على { يقول آمنا } كما حكاه الزمخشري، أو على { في قلوبهم مرض } كما استظهره ابن عاشور؟ فإنه مع جواز عطف القصة على القصة - كما تقدم - لا يمنع أن تساق أحوال طائفة مخصوصة في نسق يتبع بعضها بعضا سواء كان الحديث عن بعضها في جملة أو أكثر، إذ المراد تجلية هذه الأحوال للسامعين ليكونوا منها على بصيرة ومن أصحابها على حذر.

صفحة غير معروفة