فهذا معنى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده}، لما كان في الأشياء كلها الدليل على جاعلها، وفي الدليل على جاعلها ما يوجب الإقرار به، وفي الإقرار به ما يوجب ذكره بما هو أهله من التقديس والتبجيل ، والتسبيح والمعرفة والإقرار لقدرته(1)، جاز أن يقال: {يسبح}؛ إذ كان بسببه التسبيح من المسبح، المستدل على ربه بما بين له في كل شيء من أثر صنعته(2) فقال: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} وهو يعني بالتسبيح تسبيح المسبحين؛ لسبب أثر الصنع من المعتبرين بذلك، فجاز ذلك إذ كان بسبب أثر الصنع في هذه الأشياء، وكان التسبيح فيها من المسبحين، المقرين بالله المعترفين، وما التسبيح إلا كقول الله: {زينا لهم أعمالهم}[النمل: 4] فليس(3) الله يزين لأحد قبيحا، ولكن لما كان سبب زينة الدنيا وما فيها من الله خلقا وجعلا، وكان منه الإملاء للفاسقين، والتأخير الذي به تزينت أعمالهم، جاز أن يقال: {زينا} ولم يزين لهم سبحانه قبيحا من فعلهم.
وكذلك قوله سبحانه: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا}[الكهف: 28]، فليس الله سبحانه يغفل قلب أحد عن ذكره، ولا يصرفه عن معرفته، ولكن لما أن كان منه سبحانه ترك المعاجلة للمسيء على فعله، والتأخير له في اجله، جاز أن يقول: {أغفلنا}؛ إذ كانت الغفلة هي الإعراض، والترك للحق والتوبة والإنابة. فجاز من قبل إملاء الله وتأخيره للمسيء المذنب أن يقول: أغفلنا؛ على مجاز الكلام.
ومثل هذا كثير في القرآن يعرفه ذو الفهم والبيان.
صفحة ٧٣٩