العبرة يا صديقي في اختيار المكان الصحيح، فالوسخ وسخ؛ لأنه مادة أخطأت مكانها، ولو اختارت مكانها الملائم لشرفت كما تشرف سائر المواد؛ فهذا الغبار على منظاري قذارة يجب أن تزال، ولو اختار الغبار وجه الأرض مكانا لاختار موضعه وما عرض نفسه لألوان الهوان؛ وقل مثل ذلك في الرجال، فزيد في جماعة من الناس مجلبة للصغار، ولو انتقل زيد إلى حيث ينبغي له أن يكون لأصبح لأقرانه مدعاة للفخار.
على أن القذر قد يكون له فضل عظيم؛ فلوح الزجاج إن خلا من الغبار خفي عن العيون فصدمه السائرون وهشموه حطيما، وإن أردت له أن يرى فلا مندوحة لك عن شيء من العكر فيه؛ إذ ليس من حقك أن تكلف الناس ما لا يطيقون، فلأبصارهم حدود فرضتها عليهم الطبيعة فرضا ليس لهم عنها محيص؛ فامزج صفاءك بالعكر، ولا تقل إن الصفاء خير من القذر؛ فتلك حكمة القدماء.
جنة العبيط
أما العبيط فهو أنا؛ وأما جنتي فهي أحلام نسجتها على مر الأعوام عريشة ظليلة، تهب فيها النسائم عليلة بليلة؛ فإذا ما خطوت عنها خطوة إلى يمين أو شمال أو أمام أو وراء، ولفحتني الشمس بوقدتها الكاوية؛ عدت إلى جنتي، أنعم فيها بعزلتي، كأنما أنا الصقر الهرم، تغفو عيناه، فيتوهم أن بغاث الطير تخشاه، ويفتح عينيه، فإذا بغاث الطير تفري جناحيه، ويعود فيغفو؛ لينعم في غفوته بحلاوة غفلته.
أنا في جنتي السمح الكريم الذي ورث الجود عن آباء وجدود؛ فمن سواي كان أبوه يذبح الجمل والناقة ليطعم كل ذي مسغبة وفاقة؟ من سواي إلى حاتم ينتمي، وبهذا العنصر الكريم يحتمي؟ وهل كانت صفات آبائي وأجدادي لتذهب مع الهواء هباء، أم هي تجري في العروق مع الدماء دماء؟ ها أنا ذا أحنو على البائس عطفا وإن كنت لا أعطيه؛ وأذوب على المصاب أسى وإن كنت لا أواسيه؛ وتبت يدا حاسد يقول إن أصحاب الحاجة عندي يستجدون ولا عطاء، والمعوزين أكفهم تنقبض على هواء؛ فقلب عطوف خير للفقير من قرش إنفاقه سريع، وفؤاد ذائب أبقى له من عون لا يلبث أن يضيع. إني أعوذ بالله من إنسان يفهم الإحسان بلغة القرش والمليم؛ تلك لعمري مادية طغت موجتها على العالم كله، ولولا رحمة من ربي، ورشاد من قادتي؛ لكنت اليوم في غمرتها من المغرقين؛ لقد أقفر العالم حول جنتي فلا عطف ولا عاطفة، واستحالت فيه القلوب نيكلا ونحاسا تعرفها بالرنين لأنها لم تعد من لحم ودم! أهكذا يقوم كل شيء بالمال حتى إحسان المحسن وعطاء الكريم؟ فالقرش والمليم هو معنى الإحسان في الغرب الذميم، الذي غلظت فيه الأكباد، كأنما قدت من صخر جماد؛ كم جامعة عندهم أنشأها ثري؟ وكم دارا أعدها للفقير غني؟ كم منهم يلبي النداء إذا ما دعا الداعي بالعطاء؟ لا، بل إن هذا الغرب المنكود ليسير إلى هاوية ليس لها من قرار؛ إذ هو يسعى إلى محو الفقر محوا، حتى لا يكون لفضيلة الإحسان عنده موضع! فاللهم إني أحمدك أن رضيت لي الإسلام دينا، وجعلت لي الإحسان ديدنا.
أنا في جنتي العالم العلامة، والحبر الفهامة؛ أقرأ الكف وأحسب النجوم فأنبئ بما كان وما يكون، أفسر الأحلام فلا أخطئ التفسير، وأعبر عن الرؤيا فأحسن التعبير، لكل رمز معنى أعلمه، ولكل لفظ مغزى أفهمه؛ استفسرني ذات يوم حالم فقال: رأيت - اللهم اجعل خيرا ما رأيت - رأيتني أنظر إلى كفي، فيغيظني من الإصبع الوسطى طولها فوق أخواتها، ولا أحتمل الغيظ، فآتي من مكتبتي بمبراة مرهفة ماضية، وأجذ منها ما طال، وألقي بالجزء المبتور في النار؛ وما هو إلا أن أرى شبحا مخيفا يخرج من بين ألسنة اللهب؛ كله أصابع، أصابع في كتفيه، وأصابع في جنبيه، وأصابع في قدميه، وأصابع من رأسه ومن بطنه ومن ظهره؛ والأصابع كلها من ذوات الأظفار، حتى لكأنها المخالب، أخذت تنقبض وتتلوى، وتنبسط وتتحوى، تريد أن تنال مني لتفتك بي؛ فتملكني الفزع، والرعب والجزع، وكلما اقتربت مني تقهقرت حتى بلغت الجدار، ولم يعد بعد ذلك مهرب ولا فرار؛ ثم رأيت دمائي تسيل دفاقة من إصبعي الجريح، فصحت وصحوت.
فأطرقت قليلا ثم أجبته قائلا: لقد أضلك الشيطان الرجيم فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وكفارتك صيام عام وإطعام ألف مسكين؛ ولولا أننا نريد بك اليسر ولا نريد العسر لكان جزاؤك ما لاقى «برومثيوس» عند اليونان فيما تروي الأساطير؛ فقد أراد الآلهة أن يستأثروا بالعلم ونوره، وأراد «برومثيوس» أن يهب الإنسان قبسا منه، فسرق من الآلهة شعلة العرفان ليهدي بها البشر، وغضب الآلهة لفعلته، فشدوه على جلمود صخر فوق الجبل، وأطلقوا عليه سباع الطير تنهش كبده كل يوم مرة، فكلما انتهشت له كبدا، بدلته الآلهة كبدا أخرى. فأصابع كفك هي الناس من حولك تفاوتت أقدارهم وتباينت أرزاقهم بمشيئة ربك الذي يعطي من يشاء ويحرم من يشاء بغير حساب، والمبراة التي أتيت بها من مكتبتك رمز لضلالك بما قرأت، كأنك «فاوست» غاص في العلم فأضله العلم ضلالا بعيدا؛ وكنت بمثابة من باع للشيطان طمأنينة نفسه لقاء لغو فارغ لا يسمن ولا يغني من جوع، ثم حدثتك النفس الأمارة بالسوء أن تعدل فيما خلق الله وتبدل؛ فكان جزاؤك عذاب الدارين، فعذابك في الدنيا دماء تسيل رمزا لما أنت ملاقيه من تعذيب في النفس أو في الجسم أو فيهما معا، وعذابك في الآخرة نار تصلاها وبئس القرار، وسيظل الوحش ذو الأصابع ماثلا أبدا أمام عينيك شاهدا عليك بما أحدثته للعباد من فساد، في عالم ليس في الإمكان أن يكون أبدع مما كان؛ وأما الجدار الذي سد عليك طريق الفرار، فمعناه أن عذابك آت لا ريب فيه، إلا أن تدعو ربك بالمغفرة لعل ربك أن يستجيب لك الدعاء.
أنا في جنتي الحارس للفضيلة أرعاها من كل عدوان، لا أغض الطرف عن مجانة المجان، والعالم حول جنتي يغوص إلى أذنيه في خلاعة وإفك ورذيلة ومجون؛ دعهم يطيروا في الهواء ويغوصوا تحت الماء، فلا غناء في علم ولا خير في حياة بغير فضيلة، دعهم يحلقوا فوق رءوسنا طيرا أبابيل ترمينا بحجارة من سجيل، فليس الموت في رداء الفضيلة إلا الخلود. إني والله لأشفق على هؤلاء المساكين، جارت بهم السبيل فلا دنيا ولا دين، أتدري ما معنى الفضيلة عند هؤلاء المجانين؟ معناها كل شيء إلا الفضيلة! فالنساء عندهم يخالطن الرجال، والنساء عندهم يراقصن الرجال، ثم النساء عندهم يعملن مع الرجال، وهن يقاتلن مع الرجال! أرأيت أفحش من هذا الإفك إفكا! وأقبح من هذا المجون مجونا؟ حدثني صديق أنه رأى هناك ذات يوم بعينيه، في مكان واحد من دكان واحد؛ قبعة وقبعا (وأراد بالقبع قبعة الرجل تمييزا للذكر من الأنثى) رآهما معروضين لا يسترهما عن أنظار المارة إلا لوح من الزجاج يشف للمارة عما وراءه، وأعجب العجب أن علامة واحدة من علامات الحياء والخجل لم تبد على رجل منهم أو امرأة؛ وبعد، فهم يتحدثون عن الفضيلة كما أتحدث، لكنها تعني عندهم شيئا عجيبا؛ فإن خالطت هؤلاء القوم، فينبغي أن تكون منهم على حذر؛ لأنهم يسمون الأشياء بغير أسمائها، والرذائل والفضائل عندهم قد يلبس بعضها أثواب بعض؛ سل حكيمهم: ما الفضيلة يا مولانا في بلادكم؟ يجبك حكيمهم: إنها في اختلاط الحابل بالنابل! إي والله، لا يختلف عندهم رجل أمسك صيده بالحبال عن رجل أمسكه بالنبال، ترى هؤلاء وأولئك خليطا واحدا؛ «خليط» هذه هي الكلمة التي أريد، فهيهات أن تعرف في أرضهم أين الرعاة وأين الغنم، فكلهم - إن شئت - راع، وإن شئت فكلهم غنم؛ في هذا الخليط يقترب الإنسان من الإنسان ، وقد يكون أحد الإنسانين ذا لحية وشارب، وقد يكون الآخر حليقا ناعم الخدين أملس الصدغين، وقد يكون في اقترابهما أن يخز الأول والثاني فيدميه؛ لكنه خليط وفوضى، ولن يصلح الناس فوضى لا سراة لهم، ولا سراة إذا «عمالهم» سادوا.
في هذا الخليط يتصايح الناس بما يجيش في صدورهم، لا يكم أحد أحدا؛ لأن أحدا ليس له سلطان على أحد، كأنهم ذباب يطن، لا تملك ذبابة منها أن تسكت عن الطنين ذبابة؛ والمطبعة فاغرة فاها تلتقم من الأقلام حنظلها وشهدها، ومن الأفواه حلوها ومرها؛ لتخرجه للناس صحفا وكتبا؛ وما ظنك بقوم يأذنون لرجل من أعلام كتابهم أن يقول في كتاب مطبوع: إن الفتيان والفتيات، في المعاهد والجامعات؛ ينبغي أن تشرف الدولة على تنظيم غرائزهم، فتدبر لهم لقاء لا ينسل. إن الدولة التي تدرأ عن أهلها السموم، من واجبها أن تكم هذه الأفواه، لكنهم قوم لا يعقلون.
في هذا الخليط لا يؤمن الناس بأن الليل لا ينبغي له أن يسبق النهار، ولا الشمس أن تدرك القمر، وأن كلا في فلك يسبحون؛ فهم يريدون لأجرام السماء كلها أن تسبح في فلك واحد، ثم تختلف بعد ذلك أوضاعها وأشكالها ما شاءت أن تختلف؛ وذلك الفلك الواحد عندهم هو صفة الإنسانية التي تجعل الإنسان شيئا غير الكلب والحمار؛ فكن عندهم فقيرا ما شئت، أو كن عندهم غنيا ما شئت؛ لكنك إنسان. كن عندهم جاهلا ما شئت، أو كن عندهم عالما ما شئت؛ لكنك إنسان. كن عندهم ضعيفا ما شئت، أو كن عندهم قويا ما شئت؛ لكنك إنسان. كن عندهم زارعا أو صانعا؛ فأنت إنسان. كن عندهم خادما أو مخدوما وأنت في كلتا الحالين إنسان؛ كأنهم جماعة من النمل لا تختلف فيها نملة عن نملة! وأقرن فوضاهم هذه بالنظام في جنتي، فأحمد الله على سلامتي. أرادت زوجتي في جنتي أن تستخدم خادمة، فسألتها: اسمك ماذا؟ - بثينة يا سيدتي.
صفحة غير معروفة