أرأيت يا خطيب الهواء سيارة أمسكها الوحل فأخذت عجلاتها تدور وهي في مكانها لا تتحول؟ لو كانت هذه السيارة لتنطق لزعمت لك أنها طوت من الأرض فراسخ وأميالا؛ لأنها تحس في حر أنفاسها حرارة الجهاد، وتحس عجلاتها تدور، فهيهات أن يقع في ظنها أنها تدور في غير سير إلى أمام، إيمانا منها بأن ذلك ضد طبائع الأشياء، وما تدري أن هذا الوحل الذي يأذن لعجلاتها أن تدور ثم يمسك جسمها عن السير هو أيضا من طبائع الأشياء!
نحن أيها الخطيب شبيهان؛ كلانا رأى الهدف وأخطأ سواء السبيل، أراد لنا نحس الطالع في صبانا أن يخدعنا المعلمون، والمعلمون أحيانا يخدعون، ويبشرون بما لا يؤمنون، فأوصونا أن نجعل من النجم غايتنا، فأبت علينا الأمانة البلهاء إلا أن نكد ونكدح لنبلغ النجم؛ وفاتتنا الحيلة التي يدركها الألوف إدراك البداهة في غير عسر ولا عناء، وهي أن نلتمس النجم في صورته على صفحة الماء، وأولو الأمر لا يفرقون بين النجم وصورته، فكلاهما في أعينهم لامع لألاء؛ وبربك لا تقل إننا إذ نروم النجم في سمائه تستقيم منا الظهور، وتشرئب الأعناق، وتشمخ الأنوف؛ أما إن أردنا الصورة فلا بد من «انحناء»، فتلك حكمة القدماء، والحكمة إنما تساير وسائل النقل في تطورها، فلا ينبغي أن تكون حكمة الطائرة مثل حكمة «الحمار».
قال «مكيافلي» لأميره ناصحا: ليس المهم أن تكون رحيما بشعبك ، إنما المهم أن يقال عنك إنك رحيم، فاقس ما شئت، وابطش بمن شئت؛ لكن ليكن لك في ذلك فن يخدع الناس عن حقيقة نفسك، فإذا أنت في ظنهم الأمير الذي يحنو على البائس ويعطف على المحروم؛ ألقى مكيافلي درسه على أميره، وكان درسا في سياسة الملك، فلقفه من فمه أصحاب الفطنة وجعلوه دستور الحياة؛ فليس المهم أن تكون ذا علم، وإنما المهم أن يعدك الناس بين العلماء، وكم من رجل رأيته يتربع على كرسيه رزينا رصينا وعلى وجهه مخايل العلم والحكمة، وقد علق فوق رأسه قيثارة فخمة ضخمة مشدودة الأوتار؛ فتأتي إلاهة الشهرة فتربت على كتفه وتمضي فخورا بابنها النجيب، ولا تني تنشر ذكره في طول البلاد وعرضها؛ لأنه «لو» عزف كان خير العازفين؛ فلئن جمدت الألحان على أوتار قيثارته الآن، فما أيسر عليه أن يذيبها نغما شجيا طروبا إن أراد؛ وقد ضقت بغفلتها ذات يوم فصحت بها: يا إلاهة الشهرة لا تصدقيهم، إنهم لا يعزفون لأنهم لا يعرفون؛ لكنها ازورت عني وأدارت إلى قولي أذنا صماء؛ وما أكثر ما تحرج أولئك الإلاهات صدري؛ لأنهن ينخدعن كما ينخدع البشر!
نحن أيها الخطيب شبيهان؛ كلانا يبذل الجهد في غير موضعه فيذهب الجهد أدراج الرياح، القيمة كلها في اختيار الموضع الملائم لجهدك المبذول؛ فالمسافر الذي كان يقطع الصحراء جائعا فوجد كنزا من الجواهر، لم يعدل عنده هذا الكنز النفيس رغيفا من الخبز! لم تعد للجوهر نفاسته لأنه أخطأ المكان الصحيح؛ تسعة أعشار الرزق في التجارة، والتجارة هي أن تضع السلعة في مكان تباع فيه. إن عبارة واحدة من خطبتك تلقيها في مجلس النواب خير من مائة ألف خطبة تلقيها في «هايد بارك»؛ وكتاب واحد أقرؤه أنا في «هايد بارك» - أفهمه أو لا أفهمه - خير من مائة ألف كتاب أكتبه في حديقة قصر النيل.
قال: وما قصر النيل؟
قلت: حديقة في القاهرة، وطني الحبيب.
قال: ولماذا؟
قلت: لا تسلني لماذا؛ لماذا يكون الماء في النهر ماء فإذا انتقل إلى خزان القاطرة تحول بخارا يشد العربات؟
قال: لأنه جاور نار الأتون فاستفاد.
قلت: وقارئ الكتاب في هايد بارك ربما استفاد لأنه جاور الغيد الحسان اللائي ليس لهن أضراب في قصر النيل، أو ربما استفاد لأنه استمع إلى خطباء هذا المكان، أو من يدري؟ لعل مذهب التفاوت بين الأجناس يلعب هنا لعبته؛ فلما ساد اليونان كانوا هم الأحرار وغيرهم العبيد، ولما ساد العرب كانوا هم الأشراف وغيرهم عجم، ولما ساد الآريون حقت اللعنة على أبناء سام؛ أفلا يجوز أن يكون أصحاب السلطان من فصيلة هايد بارك، فكانوا هم العلماء وغيرهم في الجهالة يعمهون؟ وبربك لا تقل إنه لا ينبغي أن يكون لعربي فضل على أعجمي إلا بالتقوى، فتلك حكمة القدماء.
صفحة غير معروفة