وعاطفة الحب الإلهى إذا انقذفت فى فؤاد مؤمن فإن الله هو الذى أولى هذا الشرف. وأفاء تلك النعمة، وليس أحد يملك أن يفرض على الله صداقته. حقا إنه تبارك اسمه لا يضيع زلفى متودد إليه؟ ولكنه يمنح وده من شاء صدقة منه على من اصطفى من عباده. وبديهى أن الله يعطى من تعرض لعطائه؟ ويضع الخير فى الأيدى الممدودة إليه. أما من أدبر وتولى؟ فلا شىء له إلا الطرد والهوان. ومحبة الله تنغرس فى قلوب العارفين به. والمعرفة كما تكون عن جهد الإنسان فى الفكر، والذكر، والتأمل، والتنزيه تكون فيما يكشفه الحق عن عظمة الذات وجمالها لبصائر المتعلقين به وعلى قدر هذا الانكشاف يكون الإعظام والحب والتفانى. وجمهور البشر لهم أشياء يحبونها ويتعلقون بها، وتضع على سيرتهم طابعها وتكمن وراء كثير من أقوالهم وأفعالهم. وانعطاف الإنسان نحو شئ معين بدافع الغريزة أو العادة لا شئ فيه ما دام فى إطار الحدود المشروعة. ولكن لا يجوز أن يمتلك هذا الميل زمام الإنسان، ويتولى تصريفه، وينحى غيره من البواعث الأخرى. أو بتعبير أوضح، من أحب الله لم يؤثر عليه شيئا. وعندما تتنافس المشاعر المختلفة فى الاستيلاء على زمام المرء، وتحديد وجهته، فيجب أن تنهزم كل عاطفة أخرى، وأن يرجح جانب الله رجحانا حاسما. ونحن فى الحياة العادية نشهد ناسئا كثيرين يتعلقون بمبادئ، وأشخاص وأشياء مختلفة، ويؤثر هذا التعلق فى طريقة إنفاقهم لأوقاتهم، وبنائهم لحياتهم، وإصدارهم للأحكام الخاصة والعامة. وعاطفة المرء نحو ربه تتحدد فيمتها فى هذا المعترك النفسى البعيد المدى. والمفروض أن حب المسلم لربه أربى من أى عاطفة أخرى عند أى إنسان آخر (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله) . 218 ويظهر ذلك جليا عندما يصطدم فى نفس المرء شعوران متناقضان، فقد تجيش فى قلبه رغبة القعود فى بيته مع ولده وأهله، وقد يهتف به نداء الواجب أن يدع ذلك كله، وينطلق إلى ميدان الجهاد مضحيا بنفسه ورغباته. ومصير الإيمان مرتبط بنتيجة هذا الصراع العاطفى، فإن غلبت محبة الله، ورجحت كفة أمره فبها ونعمت، وإلا فالهزيمة فسق عن أمر الله (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين). والواقع أن محبة الإنسان للكثير من الأشياء هى التى تصده عن الكثير من الواجبات خصوصا إذا غلبت الرغبة على فكره وغطت على بصيرته، فإنه يفقد اتزانه فيما يصدر من أحكام، وفيما يصدر عنه من أعمال، بل إنه قد يهبط إلى مراتب الطفولة وهو المسن لأن الطفل لا تسيطر على تصرفاته إلا شهواته... وقديما قيل: حبك الشىء يعمى ويصم. وكم من رجل أرداه حبه للمال، أو للثناء، أو للراحة بين أهله وعشيرته إذ يقصر هذا الحب خطوه إلى معالى الأمور، ويغريه بالقعود عن نصرة الحق بالنفس والمال. ولذلك كانت نفس الإنسان إذا آثر الحياة لها عدوه المخوف. وكان ولده وزوجه أعداء له كذلك، يوم يؤثر الحياة إلى جوارهم عن تلبية النداء وإجابة داعى الله، وهذا معنى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم) ، والواجب أن يتلطف الإنسان مع أهله وعشيرته حين يتعلقون به، ويبغون بقاءه معهم، تلطف من يرق لضعفهم، ولكن لا يمنعه إعذاره لهم من توديعهم إلى حيث ينبغى أن ينطلق، ومن هنا ختمت الآية بقوله تعالى: (...وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم) . ثم قال محذرا من الركون إلى القعود: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم) . ومقتضى حب الله عز وجل؟ أن يطيع الإنسان أمره؟ ويدع نهيه، ويحرص على رضاه. وكلما ربت هذه العاطفة فعل الإنسان الكثير لله دون أن يحس تعبا، لأن ما غمر 219
صفحة ٢٠٩