الجنقو يعرفون المكان كجوع بطونهم، العسكريون لا يعرفونه، الجنقو يستطيعون دخول الأراضي الإريترية، أو الإثيوبية، إذا تركوا سلاحهم بمكان ما ولو داخل أحراش إحدى الدولتين، ولكن جيش الحكومة لا يستطيع، الجنقو يحاربون؛ لأنهم يحسون بالظلم، والغبن، ويريدون المال، والعسكر لا يعرفون لأجل من يقاتلون، لذا كانت المعارك غير المتكافئة غالبا ما تنتهي بانتصار الجنقوجورا، أو بإيقاع خسائر كبيرة في جيش الحكومة، أما النصر الدعائي الذي تفتعله الحكومة فغالبا ما يضعف الروح المعنوية للمواطنين، ويصيب الأطفال بذاكرة مشحونة بالكوابيس والأسئلة الصعبة عن قيم الحياة والموت، ولكنه لا يخفي حقيقة الهزيمة الشنيعة التي تتكبدها، وهذا اليوم شاهد على ذلك؛ حيث استيقظنا في الصباح الباكر على صوت بروجي وعزف مارش عسكري بغيض، وخرجنا مع جميع السكان إلى الشوارع وهي في الحقيقة ليست سوى أزقة تحددها أشواك الكتر التي تحفظ أحواش القصب والبوص من الأغنام والحمير، ثم - كما لو أن هنالك جهازا سريا يقود أرجلنا - توجهنا إلى الميدان العام قرب الهلال الأحمر السوداني، حيث عرضت جثتا قتيلين معلقتين على صليبين كبيرين من الخشب، الرجلان معروفان لدى جميع السكان، حتى الأطفال؛ الذي يرتدي زي الجيش الحكومي ذو الجثة الكبيرة المنتفخة المزينة بالذباب والرائحة الكريهة هو أبكر هبيلا طليق حلوم الزغاوية، أما الآخر في جلبابه المتسخ ولباسه الكبير، المنتفخ في هذه اللحظة، النحيف في ما مضى، الصامت الحزين الآن، المرح في الماضى، صانع النكات في السابق، هو عبد الله الحردلو، قالوا لنا بالميكرفون، بعد أن كبر آدم لحسات الملقب بأم الشهيد، سبعا: كل يوم ح نجيب اتنين من الجنقو الكلاب، ونعلقهم هنا.
وسميت الساحة في التو بساحة النصر، أطلق جنود سكارى ومسطولون ومنفعلون الرصاص على الجثتين، كانت الروح المعنوية للجميع متردية في مهاو عميقة مرة ومظلمة، عدنا إلى بيوتنا نخمن ما سيكون عليه الحال؟ فيما يشبه الندوة في يوم عسلية أم جابر بالجمعة، توصلنا بسهولة إلى أن الأمر ليس سوى انتقام وتخويف، واتفقنا على أن الرعب قد تملك الموظفين الأثرياء، وربما ذكر رجل أو رجلان أن الفكي علي يفكر في مغادرة الحلة نهائيا، وأنه قد ابتنى له بيتا في الخرطوم بالحاج يوسف، وأنه سيرحل إلى هناك نهائيا، ونقل عنه قوله: «السوق هناك أحسن، ناس الخرطوم تعبوا من الدكاترة والمستشفيات الخاصة، والفكية هناك شغالين زي المكنات، قروش زي التراب، علاقات زي السم، ونحنا قاعدين هنا ، يوميا فلان قتلوه، فلان صلبوه، فلان طردوه للحبشة!»
شيلني صديق العوض أردبين من الذرة كتفلي، وألمح لي بدبلوماسية باردة أنه بالرغم من علامات الاستفهام الكثيرة حولي وحول صديقي الذي هرب إلى الخرطوم، فإنه عملا لله، شيلني الكتفلي حتى أدفع لعمال الحصاد، وحتى لا أخسر مالي الذي أنفقته في الزراعة، ادعيت عدم الفهم، بل وتبالدت وأنا أوقع باسمي على وصل الأمانة بثلاثة أضعاف الذرة التي أخذتها فعليا، ليس لدي خيار آخر، طوال هذه الشهور التي قضيتها دون ألم قشي لم أنسها أبدا، كان مختار علي قد خصص وقته كله من أجلي، ووافق بعد لأي أن نكون شريكين في المشروع الصغير الذي ظللنا نعمل فيه معا منذ بداية الموسم، قبل أن يمضي الشايقي فضل السروجي ليعمل في صفوف ما أسمتهم الحكومة بالشفته تارة، والمتمردين تارة أخرى، وقد جلب لي المشاكل ومراقبة الشرطة، واستدعيت أكثر من خمس مرات للاستجواب بمكاتب الأمن في حي فلاتة، بل حدثني ود أمونة ذات مرة أنني وضعت في القائمة السوداء! علاقتي ببوشي تميزت بأمور ثلاثة؛ أولها أنها كانت معجبة بي كشخص يعرف أشياء كثيرة، بتعبيرها هي: كل شيء. وكانت، كما قالت لي أكثر من مرة، تتمنى أن تكون مثقفة وملمة بأشياء مختلفة في الكون، على الأقل أن تتخرج في الجامعة، ولكنها وهي في الرابعة عشرة تركت المدرسة؛ نسبة لعدم مقدرة أسرتها على دفع الرسوم المدرسية، وبخاصة ملابس المدرسة، فهي ترى في حلمها الذي لم يشأ الله له أن يتحقق.
أما الأمر الآخر فهو حكايتي مع ألم قشي، فقد كان يعجبها في حبي، ووفائي لزوجتي وحبيبتي السابقة، وهذا حسب ما ترى: نادر الحدوث، الرجال في هذا الزمن قلوبهم طايرة؛ لذا هي ترغب بشدة، وإن لم تصرح به، أن تحل محل ألم قشي، أما الأمر الثالث فهو أنني ضعيف جدا أمام النساء السوداوات جدا، والنساء البيضاوات جدا، وبخاصة ذوات القامات العالية، والسيقان الطويلة الممتلئة، إنني أحبهن أكثر إذا كن يجدن الغناء، أو الرقص، أو أي موهبة كانت، ولو طريقة متميزة في الكلام والمشي، بوشي هي أنموذج مثالي لهذه المرأة أكثر من ألم قشي، على أن ما يميز ألم قشي عن كل النساء عندي هو أنها أول من طلبت مني من نساء الدنيا أن أحملها ببنت، ولم أستطع أن أحقق لها أمنيتها التي أصبحت فيما بعد، أمنيتي أنا أيضا، الأهم من ذلك الصدق الذي تتكلم به، عذوبة النطق وسحره، كأن جسدها كله يتكلم، الهواء من حولنا، المرقد، ألم قشي امرأة لا كما النساء؛ حاجة تانية، ولم تعرف بوشي حقيقة أن ألم قشي «حاجة تانية»، وأن محاولتها حل محلها عبث لا طائل من ورائه، وأن البحث عن مكان مجاور ربما كان الأقرب للتحقق، فقد كنت معجبا ببوشي وإن كنت أتعامل معها بحذر شديد خوفا من فكرة الالتزام، وأنا شخص يفي بالتزامه مهما يكلفه ذلك، ولكن في الحقيقة لم أحس إلى الآن على الأقل بحاجة لامرأة تشاركني الفراش، أزمة ألم قشي ما زالت مستفحلة، وما زلت أحبها؛ أحبها حبا شديدا وأحلم بها كل ليلة، وأتذكرها كل ثانية، وأظن بيني وبين نفسي أنني سوف أفشل لا محالة مع بوشاي، بل هذا مؤكد، وكنت لا أصدق ما قاله لي أبرهيت في أن ألم قشي قد تآمرت ضدي مع البنكيين، أو غيرهم، وكنت أكتفي بأن لا تفسير مقنعا لما فعلته معي، وقد قالت لي الأم إن حالتي تسوء كل يوم عن ذي قبل، لكنني في الحقيقة أتعامل مع النساء وفق شروط نفسية معقدة، وربما وراء نفسية، غير أن العلاقة بيني وبينهن تمضي سلسة وطيبة، بل أستطيع أن أقول خالية من العقبات الكبيرة، مثلما كانت ألم قشي تأتيني لتؤانسني عند منتصف الليل كانت بوشاي تأتي أيضا لتغني لي كي أنام، تغني بلغة الشلك والباريا، وتحفظ أغنيتين بالأمهرا، وذلك بالتأكيد يعجبني جدا، عمرها بالتمام سبع وعشرون سنة، وهي في الواقع تكبر هذا العمر بعشرين أو ثلاثين أخرى، فطبيعة الحياة التي عاشتها تجعل حساب اليوم في حدود أربع وعشرين ساعة، مفارقة بائسة، وسيندهش الكثيرون، بل أنا نفسي اندهشت، إذا عرفوا أن بوشي تعيش في أسرة من شخص واحد هو بوشاي ذاتها! حدث هذا منذ أكثر من عامين، كان لها أخوان هما: علي وألالا وأخت صغرى اسمها أبوك، والدها من الشلك، وقد انضم لجيش الحركة الشعبية تحت قيادة القائد عبد العزيز الحلو، واستشهد في معركة على مشارف همشكوريب، أمها توفيت بعد ذلك بزمن قليل، ألالا هاجر إلى أستراليا عن طريق مصر، علي لا أحد يعرف أين هو، آخر مرة رأته فيها قبل عامين، أهل والدتها لا يحبونهم لأسباب عرقية، ولو أن والدهم كان مسلما، أبوك أخذتها التاية للسعودية، وهي ترسل أخبارها بانتظام، وجدت بوشاي نفسها وحدها، فقبلت التحدي وعملت كما تعمل النساء الفقيرات في صناعة الخمور البلدية، ولكنها لم تقم علاقة تذكر مع رجل ما، على الأقل لم يتسن لود أمونة معرفة ذلك، ولم تستطع ندوة ما كشف أي علاقة لبوشي برجل من الجنقو أو غيرهم، غير أن هذا لا ينفي أن لبوشي عشاقا، وأنها تصطفي من تشاء، ولكن خارج بيتها، لأسباب تعلمها، كان الجميع يتعاطفون مع بوشي وكثيرات من صديقاتها يتطوعن للمبيت معها في بيتها، وقد رفضت عرضين للزواج وعرضا للمصاحبة، والآن الناس يتحدثون عن زواج عرفي بينها ومدير البنك تركاوي، ويتحدثون عن الموبايل الذي أهداه لها كأول موبايل في الحي الشرقي، وقدر الأهالي أن علاقتي معها ليست إلا لقضاء وقت من جانبي، ومحاولة فاشلة لزواج من رجل عصامي من جانبها هي.
كان كلانا يجد العزاء في الآخر، ولكنني كما قلت معجب ببوشاي كفتاة عصامية تكد طوال الوقت لتوفير قوت يومها، بل أبعد من ذلك؛ حيث إن بوشاي هي أول من اشترى جهاز استقبال قنوات رقميا في الحي الشرقي كله، لم يكن ذلك اعتمادا على ما ترسله أبوك لها من السعودية؛ حيث إن أبوك في الواقع لا ترسل شيئا؛ إذ ما زالت تناضل لتغطي تكاليف سفرها وإقامتها في السعودية، وهي مدينة بذلك للتاية، وألالا أيضا لا خبر منه في أستراليا، ولا أثر له، ولا تعرف حتى كيف تتصل به ، كانت تبيع المريسة والعسلية، وليس هذا بالعمل السهل؛ لأن التعامل مع السكارى يحتاج لطولة بال وسياسة، فإن السكارى يبدءون هادئين وطيبين، يحكون عن الحلوف ويتغالطون فيما اذا كان يدخل بيته برأسه أم بمؤخرته، ويقصون مغامراتهم مع أبشوك، أو المرفعين الذي يحبون لحمه لقيمته العلاجية الرفيعة، حتى خراؤه فإنهم يستخدمونه في علاج الأزمة، وضيق النفس، ويقيمون ندوات القطيعة والنميمة، هذا في الساعات الأولى إذا لم يكن من بين الندماء رجل مدمن سريع السكر من أول كأس، ويبدأ برنامج الشجار مبكرا، مما يعكر صفو الجلسة وصاحبة البيت، وقد يكون سببا في استقدام الشرطة، أو بوار المريسة، أما إذا لم يكن هذا المدمن موجودا، فإن الساعات التالية تتسم بمحاولة السكارى الاستمتاع بالطرب، يغنون لأنفسهم مستخدمين آنية المريسة الفارغة كأدوات إيقاع، هذا إذا لم تتوفر دلوكة، أو يوجد شتم صغير بالبيت، والبعض وهم قلة يقومون بتسلية أنفسهم بالتغزل في صاحبة البيت، أو بناتها، أو يديرون معهن مجرد أحاديث عامة عن الزواج، والحب، والأسرة، ولكن أخطر ما في هذه الساعات الوسطى أنها تزداد خلالها الرغبة في معاشرة امرأة ما، الأمر الذي قد يؤدي للاصطدام برجل آخر؛ زوج، أخ، أو عشيق، صاحب، أو حتى رجل قانون، ثم يبدأ العراك الفعلي، وقد تستخدم فيه الأسلحة المحلية ببراعة وشراسة، وعدم رحمة أو مسئولية، صاحبة البيت المدربة الذكية العاقلة هي الأمهر في إدارة هؤلاء الناس المنفلتين، وهي تمثل بذلك أمهر الإداريين مطلقا، ما دامت تستطيع أن تعمل في وسط يعتبر حقل ألغام وكوارث كبيرة مثل: طعنة سكين، تليبة في بيت جار، كسر يد بعصا، تدخل الشرطة، مصادرة أدوات العمل، وقد تصل العقوبة لسجن طويل.
تعلمت بوشاي سياسة إدارة السكارى من جامعة السكارى أنفسهم، حتى كانت تعرف طبائع الزبائن كلهم؛ المدمن الذي يبتدر الشجار، والمدمن الذي ينام من أول كأس على البنبر، والمبتدئ الذي عندما يسكر يتبول على ملابسه مثل الطفل، أو يبكي وينوح متحسرا على حياته كلها، الفدادي الشريب المتزن الذي يسكر فيكتفي بالغناء، أو أخذ عكازه والمضي إلى بيته أو فرش عمته على الأرض في مكان جانبي، والذهاب في نوم عميق، تعرفهم بالاسم والصفة، وتديرهم بنمط إدارة شخصي، بوشي في الحق لا تميل للجنقو كرفقاء سرير. - وسخانين ما بيهتموا بنظافة ملابسهم، ولا جلودهم، وريحتهم ترمي الصقر من السما، ديل ناس ساي!
كان يتعين على بوشي فوق ذلك أن تعمل بدبلوماسية أيضا في جبهة أخرى، وهي جبهة البنك، ذلك الغول الذي تدخل في كل تفاصيل الحياة اليومية، قص عليها التركاوي - عبر ود أمونة - كثيرا جدا حكاية امرأته غير الجذابة التي تعشق المال فقط، ولا تهتم به كرجل، وقد تزوجها دون حب يذكر، فقط لأنها بنت عمه: «وأنا دخلي شنو؟» حسنا؛ صنع الخمور البلدية يجرمه القانون، وبإمكان الشرطة والمباحث تخصيص قليل من وقتهما، فليكن الظهر لوقف هذه البلاوي؛ التركاوي يستطيع بإشارة منه أن يمنعهم، كما يستطيع أيضا أن يأتي بهم! فكل مشاريع ضباط الشرطة والمسئولين الكبار هي بتمويل من جيبه شخصيا، أو من البنك، وتركاوي كما وضح لها بنفسه رجل تقي ويخاف الله؛ لذا هو لا يرغبها بالحرام، وأيضا ليس بالفضائح على حساب سمعته؛ لذا عرض عليها الزواج العرفي، وأصل له بنصوص قال إنها شيعية، ولكنها كرهت فيه العجرفة، والادعاء، ورائحة الصنان النفاذة التي زكمت أنفها يوم أن قابلته أول مرة، لن تنساها أبدا. - أنا ما عايزة أتزوج، لا بالعلن، ولا بالعرفي، ولا بالحرام، ولا بالحلال!
ولكن الذي يعرف التركاوي يدرك أن المعركة لن تنتهي هنا، قابلته مرة واحدة فقط، جاءها متنكرا في شكل جنقوجوراي، ثم ما لبث أن أفصح عن نفسه، ولكن اللقاء اليومي بينهما تواصل عبر ود أمونة، كان بارعا في نقل الكلام كما هو، وكأنه جهاز تسجيل إلكتروني أو كتاب؛ وذلك تلبية لطلب التركاوي نفسه، وكان ود أمونة هو الذي رشح بوشاي لمدير البنك، بعد أن شكى له الأخير حاجته لامرأة ينام معها لكن بسرية تامة، وبدون فضائح، وأن تكون نظيفة، وجميلة، وليس حولها رجال من الأقارب، أو عشاق غيورون، قد يسببون له مشكلة، ففكر ود أمونة ودبر وانتهى إلى بوشاي، وتم الاستغناء عنه عندما عملت شركة الموبايل العملاقة، حيث استطاع التركاوي أن يتحدث إلى بوشاي مباشرة، وفي أي وقت أراد وبما أراد، الشيء الذي لا يستطيعه مع ود أمونة؛ لأنه يعرف أن ود أمونة لا ينقل كلامه لبوشاي وحدها، ولكن للحي كله، وكان مجبرا عليه، وعندما عجز التركاوي عن إقناع بوشاي بالزواج العرفي، أو بممارسة الجنس بمقابل، طلب منها طلبا وصفه بالإنساني؛ أن تمارس معه الجنس الشفاهي عن طريق الموبايل، وشرح لها كيف يكون ذلك فرفضت، ولكنه ألح وألح فرضخت فى النهاية، وهذا ما يفسر المشهد الذي لم يجد له ود أمونة تفسيرا، ولا يزال يدهشه إلى اليوم، حينما دخل ذات يوم على بوشاي ووجدها جالسة على بنبرها تطبخ شيئا في الراكوبة؛ وهي توحوح، وتصدر أصوات توجع وألم، وتشهق في غواية لا يمكن أن تصدر إلا من امرأة على فراش رجل، وشاهد ود أمونة الموبايل على فمها، لما رأته ارتبكت ندت عنها صرخة، وأغلقت الموبايل، ثم أخذت تضحك في هستيريا، وعندما سألها عما كانت تفعل، قالت: ما في حاجة، ما في حاجة، إنت سمعت شنو؟
قال لها ود أمونة ضاحكا: ولا حاجة!
الكلام عن الحرب هو كلام الساعة، والكلام عن إعدام طليق حلوم، وعبد الله الحردلو، وصلبهما، ورميهما بالرصاص بعد ذلك طغى على أخبار الخريف، ومكائد البنك التي فسرها الكثيرون بأنها انتقام من ثورة الخراء، التي ما عاد أحد في الواقع يذكرها، لقد كانت دخيلة على هذا المجتمع، وتم إسقاطها تدريجيا من السجل اليومي للقوالات وما يشبه الندوات، وذكر كلمة خراء نفسه يعاني من إشكالية جمالية هنا في مجتمع يحتفي بالطهر والنقاء، بعد مقتل الجنقوجورايين على يد جند الحكومة انحسرت أخبار الحرب قليلا، وقيل إن الجنقو قد انسحبوا إلى تخوم مدينة تسني؛ ليقضوا الخريف هنالك مستفيدين من ثمن الأسلحة التي استولوا عليها من قوات الحكومة، وقاموا ببيعها للزبيدية في جبهة الشرق، وكان ذلك في الحقيقة مصدر دخل كبير جدا لهم، إذا استثنينا العائد من تجارة الخمور ؛ حيث كانوا يهربون الخمور المستوردة من إريتريا وإثيوبيا إلى داخل مدينة خشم القربة، ثم عن «طريق الهوا» عبر البطانة إلى الخرطوم، وعطبرة، وربما شرب سكارى عاشقون الأنشا الإثيوبية اللذيذة، في نواحي دنقلا العرضى، ووادي حلفا وأبي حمد، ونيالا، زارني الشايقي وبعض أصحابه في التاية منتصف ليلة مظلمة مطيرة، عواء ذئابها يطير القلوب شظايا، احتفلنا باللقاء العزيز، وذبحت لهم تيسا من الأغنام التي احتفظت بها في التاية؛ تحسبا لظروف شظف العيش، أو أعطاب الطريق، شربنا الشاي والقهوة، وأخذوا يحدثونني عن مغامراتهم، وقتلاهم، عن انتصاراتهم، وبعض هزائمهم، وعندما تذكرنا يوم باص همدائييت، وكيف تغابوا في المعرفة، ضحكوا وقالوا لي: قروشك ياها دي معانا، هاك ليها.
صفحة غير معروفة