إهداء
بيت الأم
السجين السجن والسجان
امرأة اسمها ألم قشي
عزومة الصافية
ود أمونة متبلا
مختار علي
سوق القنزي
سبعة يوم عوضيه بيي
شبق المرفعين
أغنية الفرو، تيراب البنية، بوشاي، وأشياء أخرى
حوار موضوعي وكرميلا
قطع الرحط والدخلة
فوائد ما بعد الحفل
الجنقوجوراي
وصتني وصيتا
في مديح الحبشيات
هدايا ونصائح لود أمونة
الجنقو يدخلون البنك
أحوال: ثورة الخراء
أحوال وثورة ألم قشي
حول محنة أداليا دانيال
السارقون الرحماء
ود أمونة وحده الذي يلم بأطراف القوالات
صيد الحلوف
بوشاي
صديقي الثائر
فتاة من أسمرا
قسم الشيخ العربي
جهنم، جهنم عديل
نشيد الجسد
خاتم النبي سليمان
إهداء
بيت الأم
السجين السجن والسجان
امرأة اسمها ألم قشي
عزومة الصافية
ود أمونة متبلا
مختار علي
سوق القنزي
سبعة يوم عوضيه بيي
شبق المرفعين
أغنية الفرو، تيراب البنية، بوشاي، وأشياء أخرى
حوار موضوعي وكرميلا
قطع الرحط والدخلة
فوائد ما بعد الحفل
الجنقوجوراي
وصتني وصيتا
في مديح الحبشيات
هدايا ونصائح لود أمونة
الجنقو يدخلون البنك
أحوال: ثورة الخراء
أحوال وثورة ألم قشي
حول محنة أداليا دانيال
السارقون الرحماء
ود أمونة وحده الذي يلم بأطراف القوالات
صيد الحلوف
بوشاي
صديقي الثائر
فتاة من أسمرا
قسم الشيخ العربي
جهنم، جهنم عديل
نشيد الجسد
خاتم النبي سليمان
الجنقو مسامير الأرض
الجنقو مسامير الأرض
تأليف
عبد العزيز بركة ساكن
إهداء
إلى روح الجميلة النظيفة النقية الشفيفة مريم بت أبو جبرين؛ أمي.
عبده بركة
الجنقو مسامير الأرض
مقولة لمجهولين
في البدء يتجاهلونك، ثم يسخرون منك.
ثم يحاربونك.
ثم تنتصر.
المهاتما غاندي
بيت الأم
الجنقو يتشابهون في كل شيء، يقفزون في مشيهم كغربان هرمة ترقص حول فريستها، يلبسون قمصانا جديدة، ياقاتها تحفل بالأوساخ التي عمل العرق، وعملت الشمس، وريح السموم، والتربة الطينية السوداء على جعلها شاهدا على صراع مرير مع المكان، والطقس، ولقمة العيش، يفضلون الجينز ذا الجيوب الكبيرة والعلامات التجارية البارزة، المكتوبة بخطوط كبيرة مثل: كونز، وانت، ديوب، لي مان، ونستون وغيرها، لا يعرفون ماذا تعني، لكنها تعجبهم ويفضلونها على غيرها ، ويدفعون لأجل الحصول عليها مالا سخيا، يحيطون خصورهم بأحزمة الجلد الصناعي، فتبدو هيئاتهم كمخلوقات غريبة لا تنتمي للمكان، لكنها تقلد كل شيء فيه بالأخص كليقة السمسم المحزومة جيدا، أحذيتهم التي كانت جديدة لامعة وأنيقة في أواخر ديسمبر الماضي، هي الآن ذكرى تلك، مزق متسخة ذات أخرام وألوان يصعب تحديدها في الغالب، لا يهتم أحد بتهذيب شعر رأسه، في ما بعد حدثنا ود أمونة بأن عاناتهم كثة وأنهم يهملونها، يتركون شعر رأسهم الذي يميل للحمرة من فعل الشمس كثا متشابكا قصيرا أو طويلا في مستعمرات للشرا.
للجنقاوي أو الجنقوجوراي عدة أسماء على مر السنة، وشهورها، وفصولها: فهو كاتاكو في الفترة ما بين ديسمبر إلى مارس، حيث يعمل في مزارع السكر بكنانة، ومصنع سكر خشم القربة، عسلاية أو الجنيد.
ويسمى فحامي في الفترة ما بين إبريل إلى مايو، حيث يعمل أم بحتي؛ أي منظفا للمشروعات الجديدة، أو المهملة من الأشجار، ويصنع من سوقها وفروعها الفحم النباتي.
ويسمى جنقو أو جنقوجورا في الفترة ما بين يونيو وديسمبر، أي منذ هطول الأمطار إلى نهاية موسم حصاد السمسم، أما خلال السنة كلها فتطلق عليه النساء اسم فدادي، وبالمقابل يسمي هو النساء اللائي يصنعن المريسة، والعرقي، فداديات، وعرفنا أيضا من بعض الجنقو الذين أتوا من الفاشر ونيالا أن اسم الجنقوجورا هو المستخدم عندهم للدلالة على ما نسميه نحن في الشرق اختصارا جنقو، لا يطلقون لفظ جنقاوي للمفرد كما نفعل، بل جنقوجوراي.
هي ليست المرة الأولى التي نترافق فيها إلى مكان لا نعرفه، ولن تكون الأخيرة، فمنذ أن طردنا من وظائفنا للصالح العام قبل خمس سنوات تجولنا كثيرا في شتى بقاع السودان: شماله، جنوبه، غربه، وشرقه، كان هو من أسرة ثرية، ويحتفظ بمال كثير لنفسه، يمكنه من أن يتفرغ بقية حياته كلها للجري وراء متعة المشاهدة، كما أطلقنا على ما نقوم به من «تسكع وتلكع» في بلاد الله الشاسعة، أنا فقير لكني عازب، ولا أتحمل مسئولية أحد غير نفسي؛ إخواني، وأخواتي، متزوجون، بعضهم خارج السودان، والبعض الآخر في الداخل، واتخذوا طريقهم المحتوم في الحياة، أمي وأبي متوفيان، هو يساعدني كثيرا في تحمل مصاريف السفر، ومتعة المشاهدة، وأنا أوفر له الرفقة الطيبة، ويقول الناس عندنا: الرفيق قبل الطريق.
تصرخ رائحة العرق المشوي بشمس الدرت الحارقة، شمس سبتمبر، لتملأ الأنوف زنخا لا يحتمل، دندن في صوت مرح: رجال، رجال، نحن في حلم؟
قلت له: أنا شفت واحدة قبل شوية.
يبدو أن الشاب العشريني الذي يجلس قربنا، الوسيم، الذي يحتسي قهوته، لم يكن منشغلا بموضوعات الحصاد، الربح والخسارة، العنتت والقبور الكعوك، وطيور أم عويدات، وود أبرق، كما هو الحال عند الجميع وبمن فيهم صاحب القهوة البدوي الشاب كث الشعر، أو بما تقدمه له رشفات القهوة من متعة تبدو عظيمة، كانت أذناه تتصيدان ما نهمس به، ربما ما نفكر فيه أيضا، قال لنا دون مقدمات بحماس عال ساذج: إنتو ما مشيتوا بيت الأم، معقول؟ لازم تمشوا بيت الأم.
قلت: بيت الأم؟ أم منو «من»؟
قال: نعم، بيت الأم، أم الناس كلهم.
سأله صديقي: بيت الأم؟
قال: أيوه، بيت الأم.
ثم أضاف بلغة التجرنة، وكأنما نحن نعرف كل لغات الدنيا: قذا أدي.
نهض مع آخر رشفة من قهوته، نهضنا خلفه، كان وسيما متوسط الطول، له بشرة لامعة صفراء، وشارب كث، شعره منسق، وحديث الحلاقة، يبدو أن اهتماما خاصا قد صب عليه، تتبعه رائحة طيبة ميزنا ماركتها بسهولة، كان شخصا لا يشبه شخوص المكان: نظيفا، أنيقا، به ليونة بادية للعيان، في مشيته، وطريقة كلامه، ووجهه النظيف.
قال وهو ينظر إلي: أنا اسمي ود أمونة.
ابتسم وهو يضيف: اسمي كمال الدين، لكن ما في زول يعرف كمال، أمي أمونة، وهي تقول لي ود أمونة، الناس لقوا الاسم ساهل، يلا ود أمونة، ود أمنة! الناس يوم القيامة ينادوهم باسم أمهاتهم.
قال له صديقي: ما في مشكلة، الأم ما في زيها، يا ريت لو نادوني باسم أمي كنت حأكون أسعد زول.
قال له ود أمونة فجأة: أمك اسمها منو؟ - أمي مريم. - وإنت؟
قال مخاطبا إياي: زينب ، زينب أبكر.
قال: أمي اسمها آمنة، ولكن اسم الدلع أمونة.
وسألته: إذن بيت الأم دا بيت أمك أمونة، مش كدا؟
قال نافيا بشدة: لا، بيت الأم دا بيت الأم، قربنا نصل.
ثم أضاف: إنتو من وين؟
قلنا معا بصوت واحد: من القضارف.
صمت صمتا طويلا ثم أصدر هواء من فمه بصوت محسور: سجن القضارف، شفتوا سجن القضارف؟ بالتأكيد تكونوا شفتوه، مش كدا؟ في ديم النور.
رد عليه: بالتأكيد، في زول في القضارف ما شاف السجن؟!
قال وهو يخطو بنا خطوات سريعات في عمق المكان: أنا اتربيت فيه.
سيعرف في ما بعد أن والدينا كانا يعملان في ذات السجن، سحبنا من بين قطاقطي، ورواكيب القش، في أزقة طويلة لا تنتهي تتلوى كالثعابين، صاعدة هابطة على أرض وعرة، عليها أخاديد صنعتها الوابورات، واللواري، وعربات الترحيل الخفيفة، مثل اللاندروفرات والبربارات، تعم المكان رائحة البخور مختلطة بعبق المريسة، وبعض الخمور البلدية، على خلفية من ريح فاترة تهب جنوبا، دافئة وطيبة، دون أن نطرق بابا من الزنك على سور من القش والحطب، دخلنا بيت الأم، أو كما يطلقون عليه بالتجرنة: قذا أدي.
السجين السجن والسجان
هذا ما تحصلت عليه من عدة حكاة ورواة، من بينهم حبيبتي ألم قشي، والأم، مختار علي، الصافية؛ وود أمونة نفسه، ما قصه لي مباشرة، وما اقتطفته من مذكراته، مع بعض التدخل، وقليل من التأويل، والتحوير، والالتفاف، والتقويم، والإفساد أحيانا، لحكاية ود أمونة في السجن.
قرر بينه وبين نفسه ألا يغسل الأطباق بعد اليوم، حتى لو نفذوا تهديدهم، ورموا به في الشارع، لا يهم؛ يستطيع أن يبقى خارج السجن، ويمكنه النوم تحت الجدار الذي يقابل غرفة أمه، وسوف يأكل ما ترميه أمه له من أعلى السور، وهو أيضا يعرف كيف يصطاد الطيور، والفئران، ويشويها، عن طريق المهارات القتالية التي اكتسبها من والدته، يستطيع أن يحارب الأشرار، قد لا يعرفهم الآن، ولكنه سينتصر عليهم فور أن يشرعوا في مهاجمته، كانت أمه أمونة تقول له دائما: «كان اعتدوا عليك عشرين أو مية شخص ، إنت أمسك واحد بس، وإن شاء الله تعضيه بسنونك، إن شاء الله تخربشه بأظافرك، إن شاء الله تدخل يدينك في عينه، لكن ما تخلي حقك للناس، ولا تبكي، ولا تجري، الدنيا دي ما ينفع فيها الضعيف.»
قطعت حبل تفكيره أنامل الشامة على رأسه: تعال، عليك الله، فليني يا ود أمونة.
هو لا يحب الشامة، بالذات: «رائحة في فمها أعفن من البول، رأسها كله قمل، ووساخة، وقالوا كتلت راجلها.»
قالت له الشامة: أمك الليلة طلعوها خدمة في بيت المأمور، أنا ما عارفة المأمور دا عايز منها شنو «ماذا»، ما عايز يخليها في حالها. «ما حأغسل الصحانة.»
هكذا قال ود أمونة مصدرا أمرا لنفسه، وهو يتخيل نفسه يصرخ في وجه السجان الطباخ النحيف، صاحب الأصابع الطويلة، واليدين الممسكتين دائما بالكمشة أو المفراكة، كان هذا الرجل يرى في ود أمونة مستقبل طباخ ماهر. «ود أمونة يشبهني في أشياء كثيرة، عندما كنت طفلا كنت مثله وسيما، وكسولا، وكثير الشجار مع الأطفال، ولكني أيضا كنت أحب أن أكون في صحبة النساء مثله تماما.»
أكثر ما لا يحبه ود أمونة في طباخ السجن، بالإضافة إلى أطباقه التي دائما ما تحتاج إلى من يغسلها من الويكة، ودهن إدام القرع، أن طباخ السجن لوطي، هكذا يقول الناس عنه في العنبر، والعازة بالذات حذرته منه، وأوصته ألا يتركه ينفرد به، أو يلمسه في أماكن بعينها، وإذا قال له كلاما به قلة أدب عليه إخبارها، أو إخبار والدته أمونة بأسرع ما يمكن.
ولكن ود أمونة ما كان يحس بالخطر كما تحس به العازة، ولذا مرت نصيحتها كما تمر نصائح أمه اليومية الكثيرة المملة التي لا تفيد في شيء، بالأمس بعد أن فرغ ود أمونة من غسيل الأطباق، ورصها بانتظام على دولاب الحديد، طلب منه طباخ السجن أن يلعبا بالعملة النحاسية «صورة وكتابة»، وقال له: كان غلبتني تديني بوسة، وكان غلبتك أديك بوسة.
وبصق سفة الصعوط جانبا قرب قدر كبير على الفحم، وبحركة بهلوانية أخرج قطعة عملة من النحاس، أطارها في الهواء ثم تلقاها بكفه، وبسرعة البرق أغلق عليها بكل أصابعه واضعا في نفس اللحظة ابتسامة على طول وعرض فمه الكبير، بين أسنان صفراء متفرقة بارزة، سأل ود أمونة: طرة ولا كتابة؟
أطار بعض رذاذ البصاق في الهواء، سقط بعضه على وجه ود أمونة، مسحه بباطن كفه في قرف. «أكثر ما أكرهه في هذا الشخص شفاهه المبتلة دائما بالبصاق، ورائحة الصعوط.»
أعادته الشامة مرة أخرى من شروده، عندما قالت له وهي تعيد نظم ضفيرة من الشعر المستعار على رأسها: أمك حتجي بعد كدا، المأمور كرهها الدنيا، إنت عارف ملابسه، وملابس أولاده، وبناته، وحتى جيرانه، والله أنا شاكة في إنو قاعد يأخذ عمولة من الناس في الغسيل، أمك لو بقت مكنة غسيل حتنتهي، ولكن هانت، باقي لينا كلنا السنة دي بس، أمك باقي ليها ستة شهور، هانت يا ولدي.
قال له ود أمونة، بصورة نهائية وقاطعة: أنا ما عايز ألعب معاك طرة ولا كتابة.
قال له السجان بصوت منخفض محاولا أن يكون رقيقا: كويس، تعال أديك بوسة.
ابتعد عنه ود أمونة محاولا الخروج، لكنه توقف عند الباب: ما عايز، لا تديني بوسة، ولا أديك بوسة.
غير السجان من نبرة صوته، وبدا جادا وحازما: كويس، لمان يجي الصول ويشوف الكباية الكسرتها تعرف حاجة. - حأكلم أمي.
قال الجاويش طباخ السجن مستهترا: أمك تعمل شنو، خليها تقدر على نفسها.
ثم أضاف بلين: بطنك تملاها من وين؟ تعال يا ود أمونة إديني بوسة، أو شيل مني بوسة زي ما تدور.
عندما ينتصف نهار السجن تسمع طقطقة الزنك، كأنها فرقعة عبوات رصاص صغيرة تقدح جماح العرق النسواني التعب، المتبل بفطر إبطهن وعاناتهن، رائحة البلاط وزنخ شعر الرأس الملبك بالأسطبة، والجورسي القديم، وطنين الذباب مختلطا بقهقهة السجانين، نداء الجاويش المسجوع من حين لآخر: موية يا بنات، الموية.
أخرجت الشامة مكافأة صغيرة من مطبقتها، وقدمتها لود أمونة؛ نظير متعة التفلية، وعربون خدمة قد تطلبها منه في يوم ما. العنبر الطويل يحتوي على عشرين سيدة: عجوزان اتهمتا قبل عشر سنوات ماضية بحيازة جوالين من الحشيش، صبية جميلة رقيقة اعتادت سرقة الذهب والمجوهرات، أمه بائعة عرقي البلح، وقد ضاعف قاض غيور على الدين العقوبة عليها سبع مرات؛ لأنها لم تقلع عن الفعل الحرام؛ جلدت مرارا، وغرمت تكرارا، وسجنت شهورا كثيرة متفرقات، الشامة اتهمت بقتل زوجها وتقول: إنه شرب الصبغة مع عصير البرتقال من تلقاء نفسه غيرة عليها، وأخريات، وأخريات، وأخريات، لكن ود أمونة كان لا يهتم بغير واحدة لا يعرف كم عمرها؟ ولا يفهم طبيعة جريمتها، كانت قليلة الكلام، تغني دائما بصوتها الشجي، وتحكي له قصصا طويلة تقصر عليه الانتظار الطويل بالسجن، ولو أنها كانت تقضي فترات طويلة مريضة طريحة بلاط العنبر، إلا أنها كانت الأكثر مرحا، هادئة، وطيبة، لينة، وصبور، أمه لا ترغب في أن يتقرب إلى العازة. - يا ولد أخير ليك تختى «تترك» الشرموطة دي.
وذلك أمام عازة مباشرة، وفي حضرة من حضر، لا يهم، تضحك عازة، وتجلس على الأرض، «تطلب مني أن أركب في ظهرها، وفي قفزة سريعة أركب، تنهض بي على الرغم من أرجلي الطويلة، تجري بي في الفراغ، الذي يقع بين العنبرين».
وعندما دخل الصول فجأة المطبخ، ارتبك الطباخ، أمر ود أمونة بأن يذهب إلى سجن الرجال، ويحضر الأواني الفارغة: بسرعة، يا ولد.
وهرب ود أمونة نحو عنبر الرجال.
أدخل هدية الشامة سريعا في جيبه، ثم تحسسها بكف يده اليمنى؛ ليتأكد من استقرارها هناك، باسته على خده قائلة: اجري غسل يديك، عايز تاكل بيهم كدا؟
عندما يضع هدية الشامة في علبة التوفير مع ما وفره من هدايا المسجونين والمسجونات، وحتى الطباخ نفسه والعساكر، يكون قد تمكن من مبلغ لا يعرف قدره، ولكنه يزداد يوميا ببطء، ولكنه لا ينقص، حتى عندما يرسلونه إلى الدكان القريب، أو السوق لإحضار تمباك أو علبة سجائر، أو ما شابه ذلك، ويطلبون منه الاحتفاظ بالباقي، فهو يبخل على نفسه بقطعة من الحلوى الكثيرة الشهية التي تطل عليه من بين الأرفف والطبليات، وفي أيدي الأطفال الذين في عمره، كان يعرف أيضا المساجين الذين في عنبر الرجال، قد تتغير الأوجه يوميا، ولكن المساجين الجدد يعرفون في اليوم الأول لقدومهم بالاسم، والقبيلة، والجريمة، والمدينة، والقرية، والشهرة، جمع بسرعة الأواني التي دفع بها السجناء خارج زنزاناتهم، أو عنابرهم، ثم أخذ ما يستطيع حمله على جسده الصغير، ومضى به نحو المطبخ، كان الصول لا يزال هناك، وعندما رأى ود أمونة يترنح تحت ثقل الأواني صرخ في وجه الطباخ: إنت عايز تقتل ود المرا دي ولا شنو؟
فأسرع الطباخ في تناول الأواني من على كتف ود أمونة، وهو يعتذر بهمهمة غير مفهومة.
قال لود أمونة في ود: يلا اجري العنبر، أمك في انتظارك، تكون جات من الخدمة.
قال ود أمونة للشامة: أنا ماشي لعازة.
ردت عليه في شماتة: إنت ما عارف إنو دخلوها الزنزانة. - عارف ووديت ليها موية قبيل، مسكينة عازة.
قالت بصورة حادة: ما مسكينة ولا حاجة، عازة دي مجرمة.
قال ود أمونة مستغربا: ما لها، عملت شنو؟ قالت لي هي ما عملت أي شيء.
قالت الشامة: لقوا عندها ممنوعات.
عندها استطاع أن يربط ود أمونة أحداث قبل الأمس بأحداث يوم أمس، بما سمعه اليوم من الشامة.
أحداث أول أمس: كانت عازة تحت الحائط الشرقي، ليس بعيدا عن برج المراقبة، حيث كان السجان بريمة بين وقت وآخر يتبادل الكلمات مع العازة، وأيضا السجائر، حدثتني العازة عن أمانة تخصها عند امرأة في الحمرة بإثيوبيا، وأن المرأة جاءت من هناك، وهي الآن في القضارف، ولم تجد طريقة لإحضار الأمانة لها في السجن؛ لأنها تخاف من البوليس، ولها سوابق كثيرة.
ثم أضافت ضاحكة: سمعتها سيئة.
أحس ود أمونة حقيقة بارتباك في تفكيره عند سماعه الجملة الأخيرة «سمعتها سيئة»، ولم يفهم لهذه الجملة معنى محددا، ولكنه ابتسم واقترح في نفسه أن لها معنى مثل جملة الطعام الفاسد، تجاوز ذلك، أو لم يستطع أن يتجاوز ذلك، قال لها: يعني ما لها؟
قالت له: يعني!
وأحنت رقبتها الطويلة بطريقة عقدت المعنى، ثم أضافت: سجنوها كثير جدا. - زي أمي كدا؟
قالت بسرعة: أمك مسكينة ، ما عندها حاجة غير عرقي بلح بس، ولكن القاضي قاصدها.
قذف بريمة للعازة بعلبة سجائر برنجي، سقطت على حجرها مباشرة، وعندما نظرت إليه غمز لها بعينه اليسرى، فضحكت وضحك، ضمته عازة إلى صدرها بشدة إلى أن اشتم رائحة إبطها، وقالت لي هامسة: تساعدني يا ود أمونة؟ - كيف؟ - تجيب لي الأمانة من ألم قشي؟ - ألم قشي؟ إنت ما قلت لي: مرا من الحمرة؟ - أيوه، إنت ما عارف إنو ألم قشي من الحمرة.
أضاف في استسلام: وين ألاقيها؟
قالت وهي تحك بأظافرها سيخ الباب: في موقف الشواك. - وكيف أطلع؟
قالت لي مبتسمة: سهلة، لما يرسلك الطباخ للسجائر زي كل يوم، تقوم جاري لموقف الشواك، وتلقاها هناك منتظراك، الكلام دا بعدين، بعد صلاة الضهر، زي كل يوم. - لو ما رسلني الليلة؟
قالت بثقة: حيرسلك، دخل الأمانة هنا. - وين؟ - هنا، هنا.
ولا يدري، أحدث هذا صدفة أم عنية، ولكن استقرت كفها هنالك لوقت خبيث لا بأس به، وقبل أن تشرح له أكثر قرصته برقة فيه، رقة وحشية غامضة، رقة أكثر.
ما حدث بالأمس: اعتاد ود أمونة أن ينام مع أمه في ذات السرير، أو هي كانت تصر على ذلك، ربما خوفها الشديد عليه له ما يبرره، خوفها من الجميع دون فرز، مسجونات ومسجونين، سجانين وعمال سجن، لم يكن هو الطفل الوحيد الذي في صحبة أمه بالسجن، بل كانت هناك ثلاث طفلات، ولكنهن رضيعات ولا يعرفن شيئا، بل لا يمكن إصابتهن بمكروه ظاهر، لكن طفلها ود أمونة طفل التاسعة في خطر دائم من الجميع، لأسباب أهمها أن لابنها جسدا أكبر من عمره، وأنه رغم البؤس، وسوء الطعام مع قلته، له جسد سمين وساقان طويلتان مما يجعله أكبر من عمره بكثير، وإذا أضافت إلى ذلك وسامته، فإن الأمر يبدو واضحا وجليا، أمه تعرف أن الطباخ منحرف، وأنه يتقرب إلى ابنها وقالت لنفسها: إذا لمس الولد ده لمسة، لمسة حاقتلو قتلة يتحدث بها الناس إلى يوم القيامة، ولكنها تخاف عليه أيضا من النساء، ولو أنه لم يبلغ الحلم بعد، ولكنها تعرف أنهن يعرفن كيف يستخدمنه.
ولقد خاطبتهن على ملأ: اسمعن يا شراميط هيييي، اليوم اللي ألقى فيه ولدي دا مع واحدة، ح أرسلها الآخرة.
ضحكن؛ غظنها بقولهن إنهن سيفعلن، وإنها فرصة له ليتدرب، ولكنهن في باطن عقولهن، كن يعرفن أنها جادة في قولها، وأنها ستفعل.
عندما استيقظت أمه استيقظ، في الحق استيقظ العنبر كله على جلبة مصدرها عراك في عنبر الرجال، السبب البنقو. - البنقو؟
وكعادة السجانين أنهم يتبعون أقصر الطرق للحصول على الحقيقة، وهي الضرب المبرح، والقرص بالزردية؛ لذا لم يستغرق الأمر طويلا، جاء جاويش يسمى غلبة إلى عنبر النساء، أمسك بيد عازة، أوقفت، ثم صفعت في وجهها بكف كبيرة قبل أن يقول لها غلبة: أرح وراي.
قال ود أمونة للشامة، وقد استدرك الأشياء كلها، وربط بينها: البنقو، مش كدا؟
قالت له الشامة: أيوه، البنقو.
سألها: جابته من وين؟
قالت له: أبت تعترف.
سأل خائفا: وإذا ضربوها حتعترف؟
قالت له: هم ضربوها ولكن العازة عنيدة، ولو كتلوها ما حتعترف.
جلس عند باب الزنزانة، كانت يدها على يده بين السيخ، قوية وواثقة ودافئة، كانت آثار الضرب واضحة على وجهها، اعتاد ود أمونة على هذه المناظر، وما عادت تؤلمه كثيرا، فقد رأى أمه مرارا بوجه متورم، وظهر متقيح، بل شاهد ذات مرة الجاويش غلبة يتحرش جنسيا بوالدته، وعندما أبعدته عن نفسها قام بصفعها في وجهها عدة مرات.
قال بصوت ضعيف مرتجف: حيقبضوني.
ضحكت العازة مؤكدة له أن الشيء الذي أحضره من ألم قشي ليس هو البنقو، ولا شيئا ممنوعا، وفتحت له كيسا كان قربها، وأخرجت منه لفافة، هي اللفافة ذاتها التي أحضرها، مدتها إليه قائلة: افتحها.
أبعد يديه في خوف: لا. - أقول ليك شوف فيها شنو، عشان تتأكد.
وعندما رفض، وحاول أن يهرب، قامت بفضها، فلم يكن بها سوى قطن طبي. قالت له: قطن، قطن تحتاج ليه النسوان، وهو ممنوع في السجن؛ لأن المساجين بيعملوا منه قنابل بالبنزين.
لم يقتنع ود أمونة، ولكنه أحس براحة نفسية عميقة، قالت له : أنا ما بعت أي بنقو للمساجين، ولا يحزنون، وما تخاف علي ولا على نفسك.
قبل غروب الشمس بقليل جاءت أمه، كان قد استحم، وغسل جلبابه الآخر، وحذاءه البلاستيكي، وانتظرها راقدا على السرير، كاد ينام، رمت عليه كيسا صغيرا به تفاحة، وقطعة حلاوة المولد، ورغيف، وطحنية. - الليلة اشتغلنا غسيل في بيت المأمور، غسلنا ملابس ناس الحلة كلها.
قالت له أمه في حنية، وهي تمسح رأسه بكفها: كنت وين بالنهار؟ رسلوك للدكان والسوق؟ - غسلت العدة للطباخ، واتونست مع عازة، لو شفتي يا أمي دقوها دق.
قالت أمونة جملة واحدة، ورمت بنفسها على السرير قربه: تستاهل. - ليه يا أمي؟ - البت دي قليلة أدب شوية، الوداها تبيع البنقو شنو؟
قال دون تركيز: يا أمي هي عندها قطن مش بنقو.
قالت مستغربة: قطن شنو؟ في قطن يبيعوه؟ - والله أنا شفته. - إنت ما عايز تختى الزولة دي؟ أنا مش قلت ليك ما تكون معاها؟
سكت ود أمونة قليلا، بدأ يقضم جزءا كبيرا من التفاحة، أكلها باستمتاع ظاهر، قال: كل يوم جيبي لي تفاحة. - كويس.
عندما نامت أمه، أخذ ما تبقى من الكيس، ومضى نحو الزنزانة، كان الظلام قد بدأ يهبط، ولكن الإضاءة الضعيفة عبر الممر دائما ما تمكنه من التجول بسهولة في أنحاء السجن، كما أن الحرس قد اعتادوا عليه، ولا يعترضون تجواله، بل يرحبون به، ويداعبونه، ويرسلونه، على كل هو شخص محبوب هنا، رفضت العازة في بادئ الأمر تناول ساندوتش الطحنية الذي مده إليها ود أمونة، ولكنه عندما بدأ يبكي، أخذته منه، كانت جائعة جدا، وبدت له شاحبة وهزيلة وأظهرتها الإضاءة الباهتة مثل شبح كبير حقيقي، ولكن كفها الدافئة تؤكدها باستمرار، وتسري في نفسه بهجة وحبا، لأول مرة تسأله عن والده، قال لها: أمي قالت لي أبوي يمني، وقالت رجع اليمن، كان عنده دكان في الحلة، تزوج أمي، وطلقها. - ما عندك إخوان تاني؟ - لا، أنا وأمي بس، أهل أمي في البلد. - وين بلدكم؟ - والله ما عارفها، أمي قاعدة تقول البلد، والبلد دي وين؟ أنا ما شفتها، أنا ولدوني في «الحلة»، وما مشيت أي مكان تاني، غير جينا هنا القضارف في السجن، دخلت مع أمي كتير، قالوا من ما كنت برضع، ولكنها طلعت ودخلوها تاني. - أنا حأطلع قبل أمك، لو أمك وافقت حآخدك معاي أنا عندي أهل وأسرة في القضارف هنا، تعيش معانا في البيت لحدي ما تطلع أمك من السجن: كويس؟
قال لها في يأس: أمي ما بتقبل، لو علي أنا، حأمشي معاك طوالي. - حأحاولها، إن شاء الله تقبل، إنت لازم تمشي المدرسة، هسع «الآن» عمرك كم؟ - تسعة سنين، ما حيقبلوني في المدرسة؟ أنا حأمشي اشتغل مع الميكانيكيين عشان أطلع سواق، وميكانيكي.
قالت بصورة مؤثرة: لأ، حتقرا وتطلع دكتور.
قدم لها قطعة كبيرة من حلاوة المولد وهو يضيف: وأمي قالت بدون شهادة ميلاد ما في لي طريقة.
قالت وقد رأى بريق عينيها عبر ضوء الممر الخافت: حأطلع ليك شهادة تسنين، وحأدخلك المدرسة، أنا بعرف مدير مرحلة الأساس، قاعد يجي بيتنا في القضارف، وبعرف الزول البيطلع شهادات التسنين، ما عندك أي مشكلة، بس كيف أمك توافق.
مر بهما شرطي نحيف طويل اسمه علي، يعرفونه بالجاك طويلة، شخص، مرح ويعرف بأنه متدين، ودائما ما يؤم السجانين في الصلاة، قال مخاطبا عازة: لقيتي زول تتونسي معاه.
ردت عليه عازة: الله كريم.
قال وهو يمسك باب الزنزانة: قابلت أبوك الصباح. - طبعا ما سأل مني. - قاللي لو طلعتوها من السجن، إخوانها حيقتلوها، أخير تكون قاعدة معاكم.
قالت بإصرار: ما فيش زول يقدر يقتلني، والراجل يمد إيدو علي، وأنا حأطلع بعد شهر، ونشوف: الحشاش يملأ شبكته.
قال وهو يحملق في وجهها الذي ألصقته بسيخ الباب: سافري من البلد، امشي أي مكان تاني تعيشي فيهو، وإنت زولة متعلمة، وعندك مهنة.
قالت محاولة أن تبتسم: الغنا دا كمان مهنة؟ - لييه؟ الفنانين ديل دخلهم دهب. - أنا حأشتغل أبيع شاي، وفي القضارف، وعارفة ما فيهم واحد راجل يقدر يلمسني، كان أحمد، ولا الصادق، أو أي طرطور آخر.
قال لها مغيرا مجرى الحديث: المأمور قال بكرة حيطلعك من الزنزانة للعنبر، ولكن حيكتبك إقرار عشان ما تقومي بأي عمل إجرامي هنا في السجن.
قالت: ربنا أحسن منه.
قال ضاحكا: إنت بس لو سبتي بنات حي فوق ديل، ما في حاجة بتجيك.
قالت بضيق: أنا يا مولانا ما عملت حاجة، يعني شنو لو لقوني في بيت عزابة؟ ولييه ما سجنوا العزابة؟
قال: العزابة هربوا.
قالت بمرارة: كلهم معروفين، وقاعدين في القضارف، ولو عايز هسع أرح أمشي معاي أسلمك ليهم واحد واحد، ومنو القال ليك هم عزابة؟
قال في صوت خفيض: دي مسئولية المباحث والتحري والقاضي، أنا زول شغال في السجن هنا، يجيبوا لي أحرس، ما جابوا، ما عندي غرض بزول.
أيضا لم يفهم ود أمونة ماذا يعني أن يقبضوا على امرأة إذا دخلت بيت «عزابة»، اعتبر ذلك مثل الطعام الفاسد أيضا.
عندما مضى جاك طويلة، جلست معطية ظهرها للباب الحديد، وخلف السيخ كان ود أمونة يمشط شعرها بخلاله، وهي تغني بصوت شجي عميق:
من طرف الحبيب جات أغرب رسايل.
يحكي عتابه فيها.
قال ناسينه قايل.
قال ناسينه قايل.
هذه الأغنية لا تعجبه، تعجبه أغنية:
ما هي دنيتنا الجميلة.
شوفو دنيتنا الجميلة.
بأزهارها بأشجارها ونخيلها.
غنتها له، عندما دق جرس النوم، أي دوي الطرق على القضيب المعلق وسط السجن، معلنا أن الساعة الآن التاسعة مساء، تلمس ود أمونة الطريق نحو عنبر النساء، وهو في الطريق، لأول مرة يفكر في شيئين: أبوه، والمدرسة.
وهما شيئان ما طرقا باب مخيلته من قبل، هو لم ير أباه في يوم ما، ولا حتى صورته، بل لم تحدثه عنه أمه إطلاقا، وما قاله للعازة ليس سوى بعض مما سمع من حديث لأمه مع جارة لها، قبل أعوام كثيرة ولم ينسه، أعمل فيه بعض الخيال، وقاله لها.
أما المدرسة فلم يفكر فيها، كأنما هي شيء لا يعنيه على الإطلاق، وهي حلم كبير لا تسعه مخيلته، فقد دخل السجن في هذه المرة الأخيرة مع أمه منذ سنتين، أي أنه كان في السابعة من عمره، وهو العام ذاته الذي التحق فيه أنداده من أطفال الجيران بالمدرسة، هو لم يرهم يذهبون إليها ولا يعرف عنهم شيئا منذ عامين، لا يزال يتخيلهم يلعبون في الخور، وعند الماسورة المتعطلة، أو يصطادون الطيور، الفراشات، الجراد والفئران، أو يلعبون دكاترة وممرضات مع البنات اللائي في أعمارهم، يجرون بترتاراتهم، يركبون الحمير السائبة، وفي موسم الصمغ يذهبون إلى زريبة المحاصيل؛ لخطف الصمغ من الحجات، وعند العصر يلعبون حرب حرب، ضد أولاد الحي المجاور، أما أن يذهبوا إلى المدرسة، فهذه فكرة لا يعرف إليها سبيلا.
وجد أمه ما تزال نائمة ويعرف أنها لن تستيقظ إلا عند صلاة الصبح؛ حيث يصلي جميع المسجونين في العنابر صلاة جماعية إجبارية في الميدان وسط السجن، الرجال في الأمام، والنساء خلفهم، ود أمونة وحده خلف النساء، قرر بينه وبين نفسه أنه بعد صلاة الصبح سيسأل أمه عن أبيه، ويطلب منها أن ترسله إلى المدرسة، وعندما نام حلم بأنه ذهب إلى المدرسة، كان يحمل حقيبة كبيرة فارغة، قابله مدير المدرسة، وهو طباخ السجن ذاته، ملأ له الحقيبة بالكتب والكراسات، وقدم له حلة كبيرة مملوءة بالعدس، والطحنية، وقال له: خذها إلى العازة، وقول ليها دي جنازة أبوك.
فجر الجثة خلفه عبر ممرات الزنازين، إلى أن أوصل الفرس إلى عزة، ركبا الفرس وهربا بعيدا، كان الأشرار يطاردونهما عبر النجوم، والغابات، ولكنهما مضيا على متن سحابة كبيرة ممطرة إلى الأعلى، الأعلى، الأعلى، الأعلى.
حدثهم جاك طويلة عن عذابات يوم القيامة، كأنما كان يخاطبهم فردا فردا، عذاب السارق، عذاب القاتل، عذاب اللوطي، عذاب الشرموطة، عذاب صانع الخمرة، شاربها، مناولها، بائعها، ناقلها والمنقولة إليه، عذاب من لم يطع الحاكم السياسي، عذاب من يهرب من العدالة، من يحرض على الهرب، الكاذب، الغاضب، الذي يموت وفي عنقه دين، المتمرد، الزاني، المزور، الذي لا يصلي، من أفطر في نهار رمضان، ثم تحدث عن عذاب الكافر، وذكر تحت هذا المسمى: الشيوعي، والشيعي، والمسيحي، واليهودي، والوثني، والأمريكي، وناكح الفرجين، وناكح الرجل، والرجل المنكوح، الساحر، تارك الصلاة، والخامسية، والخنزير، شجرة الزقوم، وآكل الخنزير، وآكل الزقوم، وقاتل النفس البشرية ولكن بغير حق، وآكل مال اليتامى.
ولكي لا يغلق الباب الذي فتحه الله للإنسان، أكد أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له:
سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين .
اذهبوا إلى عنابركم يرحمكم الله.
قال لأمه وهو يمسك بثوبها لكي تقلل من سرعتها، حيث إن الجميع يهرول من ميدان الصلاة هرولة إلى العنبر، ليكملون نومهم. - أبوي وين؟
قالت مندهشة وهي تقف فجأة، وتنظر إليه في استغراب كأنها تراه لأول مرة في حياتها: الليلة من وين طريت أبوك؟ بسم الله الرحمن الرحيم! - بس عايز أعرف. - أبوك في اليمن، طلقني ومشى اليمن، وإنا لسع ما ولدتك. - مش حايجي تاني؟
أجابت متثائبة: أنا نعسانة وعايزة أنوم، والله ما عارفاه، لمان تكبر تمشي تفتش عنو في اليمن، كويس؟
صمت قليلا ثم قال: أنا عايز أخش المدرسة. - يا ولد، إنت جنيت؟ الليلة ما لك؟ من الصباح دا قايم علي كدا؟ قول بسم الله، وخلي الشمس تطلع، إنت قايل المدرسة دي ساي «بلا مقابل» كدا، حتقعد مع منو؟ حتأكل من وين؟ والرسوم والكتب، وشهادة الميلاد، زول شهادة ما عندو!
قالتها بطريقة كأنها تحمله المسئولية كاملة، هي عدم امتلاكه لشهادة الميلاد، ثم أضافت برقة: كدا خليني أطلع من السجن وأشوف لي شغل، إن شاء الله فراشة، بعد داك أدخلك المدرسة.
قال لها وهو يمسح وجهه بظهر كفه: لمان تخرج عازة من السجن بعد شهر أنا حأمشي معاها، هي حتدخلني المدرسة. - هي قالت ليك كدا؟
رد في تردد: أنا قلت براي «وحدي».
قالت بصورة قاطعة لا تخلو من الحنق: حنطلع من السجن دا أنا وإنت في وقت واحد سوا سوا، شيطان ما حياخدك مني، إنت ولدي أنا، ود أمونة، فاهم؟
امرأة اسمها ألم قشي
- «علمنا هذا المكان قيمة العمل.»
قالت لي بالتجرنة المرأة النحيفة المتوسطة الطول، وهي تعبث بقدر عليها ماء على موقد صغير، ثم أضافت باللغة العربية، لغة الحدود: راجلي ضعيف «نحيف» زيك.
رفعت عينيها إلي وكأنها تريد أن تتأكد من موقعي في القطية. - بالله، راجلك؟ عندك راجل؟
كان تعليقي محرجا، وأحسست بمرارة ذلك في حركة سريعة قامت بها، حركة غير مخطط لها، عندما أتى صوت جميل يغني في الخارج، قالت منادية: يا ود أمونة، عليك الله تعال دقيقة.
دخل ود أمونة، أنيقا ووسيما كما هو، في جلباب أزرق نظيف، حياني قائلا: كيف؟ - تمام.
ثم نظر إلى المرأة فأجابت: عليك الله ظبت الشيشة لصاحبك دا.
سألني، وفي فمه ابتسامة كبيرة: عادي ولا تفاح؟ - عادي. - عليها شوية سيجارة خضرا «بنقو»؟ - لا، معسل بس.
أضاف ولما تفارقه الابتسامة بعد: عندنا حبشي، وإريتري برضو، وأبو حمار «عرق». - شنو الحبشي، وشنو الإريتري، وطبعا أبو حمار معروف.
قال مندهشا: الجن والكونياك.
قلت ضاحكا: بعدين، بعدين، شكرا يا ود أمونة.
خرج يتبعه عطر فهرنهايت مدهش، قالت بفخر: ولد ممتاز، اتربى هنا معانا في بيت الأم.
قلت لها مراوغا: ولكنه قال لينا أنا اتربيت في سجن القضارف.
قالت مجيبة: صاح، لمان كان صغير، دخل السجن بيرضع، ودخله بيمشي، وطلع منه مراهق، الذنب ذنب أمه أمونة، ومن ما «منذ أن» طلع من السجن دخل بيت الأم هنا، إلى اليوم.
وفي هدوء النسيم دخل ود أمونة، وضع الشيشة أمامي في أدب جم، وخرج دون أن يقول شيئا، أضافت ماء نقيا للقدر الكبير، هدأ فورانه، أخذت تجمع حاجيات القهوة من مكان خارج القطية، لم أعتد لباس الملاءة، لونها أبيض، مما أظهرني كحاج تعب أرهقه التطواف، أعرف أن صديقي قد يفعل في ساعة ما سوف يقوم بفعله شخص مثلي في يوم كامل، أعرف عنه أن ما من غامض يقف أمامه، إنه مغرم بفض غموض كل شيء؛ امرأة، حجرة، كل شيء، لم أشغل نفسي كثيرا به، الزقني الذي أحبه، بالشطة الدليخ أكلته بالقيح بربري «الشطة الخضراء» لذيذا طاعما، كان عبق قلي البن الحبشي أثار في ذكريات كثيرة كثيرة، وفي ما بعد ارتبط عندي بصورة مدهشة بكل ما يخص علاقتي بألم قشي.
كنت تعبا ومرهقا كحمار عجوز ، السفر إلى «الحلة» بالمواصلات العامة، وخاصة على ظهر البربارا يعتبره البعض نوعا من الانتحار والمغامرة، وعلى أقل تقدير الطيش. - الناس البعرفوا البلد دي، بيركبوا الباص، الباص أضمن وأسرع، البربارا موت أحمر عديل.
كانت تدلك ظهري بخليط من الحنظل، دهان أبي فاس، زيت الزيتون، وعجين القمح، تتحدث بصورة مستمرة عن المكان والزمان؛ وأدي وود أمونة، البنك الذي سوف يفتح فرعا في الحلة، شركة الاتصالات التي ستجعل الحلة قريبة جدا من العاصمة الخرطوم، بل يمكن الاتصال بأسمرا، أو أديس أبابا، حتى أمريكا ذاتها، كانت تقول عن ود أمونة إنه الرجل الوحيد، والذراع اليمنى للنساء هنا بالبيت، وفيما يشبه تقريرا قصيرا مقتضبا أفضت إلي بأسرار المكان كلها، كانت ما فوق الثلاثين بقليل، تبدو عارفة بالحياة، خبيرة في كل شيء، تحيط بها هالة من القداسة، أو كما يبدو لي، مثلها مثل كل النساء جميلة، وغامضة، ولديها ما تقدمه، وجهها يخبئ فرحة، أو حزنا، أو أنه يفصح عن الاثنين معا في آن واحد، بحرفية وبراعة سحبت رجلي اليسرى عكس دوران الساعة، ثم جذبتها إلى الأعلى في ذات اللحظة التي تناولت فيها يدي اليمنى جذبتها إليها بقوة، مما جعل جسدي يصدر صوتا بائسا مثل كسر فرع لوسيانا يابس؛ إثر ريح قاسية، ولو أن الأمر لم يتعد عدة ثوان لصرخت، عندما تركتني كنت أنعم براحة جسدية لا توصف، وخدر لذيذ، قالت لي فجأة: أنا ماشة البيت.
قلت مندهشا: البيت؟
قالت: أيوه.
ثم أضافت: بشتغل هنا مع أدي، ولكن أنوم في بيتي، عندي أولاد، وراجل هناك، ثم أضافت بحرفية: عايز واحدة تنوم معاك؟
في الحقيقة، لم أكن متأكدا من هذه الرغبة؛ حيث إنني والحق يقال لست ميالا للممارسات الجنسية، وربما لم أفعل هذا الشيء سوى مرات قليلة في حياتي، وبصورة أستطيع أن أسميها غير كاملة، بل إن ذكرياتي في ذلك الشأن مؤلمة، أظن أنني كنت خجولا عندما يتعلق الأمر بالمرأة، ولكن فاجأت نفسي بالرد: عايز.
أجابت وكأنها تعد الإجابة مسبقا: ألم قشي، ألم قشي حتجي تنوم معاك الليلة ، فاليوم هو يوم عملها، بت ظريفة وحلوة وحتعجبك.
ربما أرادت أن تقول شيئا آخر، عندما اقتحم صوت أدي الأم هدوء المكان، كان صوتا متميزا حادا، به رقة طاغية، وربما سببها الطريقة التي تختتم بها الجمل القصيرة، التي تلقي بها هنا وهناك، استأذنت للدخول وتحدثت إلي مباشرة: صاحبك دا أغرب زول في الدنيا.
تنطق «صاحبك» بكسر الحاء وفتح الباء، لم أفاجأ؛ لأنني أعرفه جيدا، هي لم تكتشف قارة جديدة، كما تشير الطريقة التي أعلمتني بها، قلت ببرود لم يعجبها كثيرا، وربما أثار دهشتها لبعض الوقت: أيوا، هو أغرب زول في الدنيا، عايزاني أمشي معاك ليه؟ ولا تجيبيه لي هنا؟ حيكون عمل مشكلة، أنا عارف.
قالت بطريقة استعراضية: طرزناو، «طردناه.»
قلت منزعجا، حيث إنني لم أتوقع أن يطرد: ليييييه طردتوه؟ وين هو هسع؟
بينما كنت أجمع حاجياتي، وأتحرر من الملاءة البيضاء؛ تأهبا للخروج، كانت الأم تحكي لي قصة لم أسمعها جيدا، لكنني فهمت منها أنه طرد قبل ساعتين كاملتين، وأنه لا يمكنني معرفة مكانه، إلا إذا مضيت خلفها، وبسرعة والآن. - ليه ما قلتي لي من بدري؟ بعد ساعتين؟
قالت وهي تأخذ نفسا طويلا من الشيشة: كنا نحاول نعالج الموضوع.
تناولت خرطوش الشيشة بطريقة تلقائية.
قلت منزعجا، وقد تحررت من الملاءة تماما: وين هو هسع؟
قالت وهي تطلق هواء الشيشة بعيدا في شكل دوائر صغيرة تتلاشى تدريجيا في فراغ القطية: أرح، تعال وراي.
انتعلت حذائي، بالتالي أصبحت بكامل هندامي، لم أكن قلقا، ولو أنها ألمحت لي بأنهم قد يقتلونه ويتخلصون من جثته في نهر باسلام، فأنا أعرف أن لا أحد على الأقل بالحلة يستطيع أن يقتله، فهو من أولئك القلة الذين لا يخطر ببال أحد أنهم سيموتون قريبا، بل دائما ما يعطونك إحساسا بأنهم سوف يسيرون في جنازتك، يحفرون قبرك، ويشيلون الفاتحة على روحك، متنطقين بابتسامة حزينة طوال أيام الحداد، مررنا أولا أمام راكوبة صغيرة مضاءة بمصباح كهربائي يرسل ضوءا ضئيلا حوله، ولكنه يظهر بوضوح ود أمونة، يجلس على بنبر كبير متسع، وهو يدلك قدميه بحجر خشن يستخدم لتنعيم القدم، تقف خلفه امرأة في عمر أدي تقريبا، أربعينية طويلة ذات بشرة بنية تبدو داكنة بتأثير الإضاءة، ولكن ملامح وجهها تدل على أن لونها يميل إلى الاصفرار، كانت تستخدم الحلوى في التقاط الشعر من على ظهره، يتحدثان بصوت خفيض، توقفا عن الكلام تماما عندما مررنا بهما، أنا وأدي، خاطبتهما أدي بمرح: الولد دا شايلنه الدلالة؟
رد ود أمونة ضاحكا: النظافة من الإيمان يا أدي. «بيني وبين نفسي قدرت أن ود أمونة ولد ما نافع؛ رجل يشيل جسمه بالحلاوة، ويكرش رجله زي البنات بالحجر؟ وما معروف تاني بيعمل شنو، الله يعلم.»
عندما ابتعدنا قليلا عنهما، قالت لي أدي، وكأنها قرأت ما يدور في خلدي: ود أمونة دا أرجل زول في الحلة، أنا ربيته في يدي دي، تربية أدي مية مية.
قلت لها محتجا: قال لي بلسانه إنه اتربى في السجن.
قالت ببرود: سجن شنو يربي زول! أنا استلمته لا خلقة، ولا أخلاق، ببصلة ما بينفع.
هززت رأسي إيجابا، ومضينا عبر طريق ضيقة تمر خلف القطاطي المثيرة الكبيرة، التي تبدو أحيانا مثل أشباح عملاقة تقبع في بحر من الظلمة، الأم تسير أمامي، سمينة قصيرة تتبعها رائحة صندلية التاج الأصلية، يسمع لمشيتها طقطقة يعطيها الليل سحرا خاصا، كانت التحايا تصلنا من هناك وهنا، متسللة عبر سياج القطاطي، وأبواب الرواكيب، وسقوف القش. - مساء الخير أدي. - مساء الخير أمي. - أمي أدي. - أدي.
تأتي التحايا مختلطة بوحوحة العاشقين، وثغاء السكارى، وفحيح الفعل الليلي، ونداء الأجساد الحية النشطة الشبقة، تستجدي ملائكة المتعة، أو شياطينها، الأمر سيان.
قالت لي وهي تتحدث باستمتاع خاص: الدنيا لعبة، وآخرها كوم تراب.
هززت رأسي إيجابا، بالأحرى بما يعني: فهمت. مررنا بصوت سيدة تستجدي علنا وبصوت عال بائس أن يأتي من ينقذها، وأنها سوف تموت الآن إذا لم، كانت تسترحمه وتستجديه أن يتركها، أن يخرجه، أن يخليها تتنفس، تتنفس لا أكثر، أن يرفع جسده الثقيل عنها، أن يقذف بسرعة، إنها تموت.
وبشهامة معروفة عني انطلقت نحو القطية قاصدا فك الاشتباك، ولكن أدي أمسكت بيدي بقوة قد لا تصدر من امرأة في عمرها، وخاطبتني قائلة: ما تصدق النسوان يا ولدي، من صدق النسوان كذب الرسل.
ثم انتهرتها بحزم موبخة إياها: يا بت ارجلي، عيب.
فصمت الصوت صمتا تاما مضيفا للمكان رهبة الموت، عبرنا نحو زقاق أكثر ظلاما، خارج مجمع أدي السكني، كان السكارى والعابرون يلقون علينا التحايا في كلمة واحدة سريعة. - أدي.
فتجيب أدي بصورة ميكانيكية حنينة: أهلا ولدي. - أهلا بتي. - أهلا أخوي. - أهلا أمي. - أهلا حوي «أخي».
كانت تميز وجوههم السوداء المظلمة وجها وجها، تعلم أصواتهم المخمورة، المخدرة، المبحوحة وترا وترا، أشباحهم، هيئاتهم، إيقاع مشيهم، أنفاسهم، خاطبتني فجأة: صاحبك دا أول زول ينطرد من بيتي.
في أكثر من تلاتين سنة قبله كان واحد بس، هو منقستو.
قلت مندهشا: منقستو؟ - أيوه، منقستو هايلي ماريام، قبل ما يكون رئيس في الحبشة، كان فالول «قاطع طرق» في غابة زهانة، وخور الحمرة، كان زول صعب، الله يرحمه.
سألتها: وين الزول دا؟
قالت مشفقة علي: الله يرحمه مات زمان.
لم أقل لها أنا أقصد صديقي، وليس منقستو هايلي ماريام، ولكني هززت رأسي إيجابا.
يمكن سماع طقطقة شبشبها، في ظني، في كل البيوت المجاورة، مررنا بامرأة سوف تكون لها حكايات كثيرة في قادم أيامنا بالحلة، وهي الصافية، امرأة نحيفة سوداء كالعادة هنا؛ حيث الظلام يصبغ الجميع ببهائه، تحمل شيئا في يدها ويتبعها رجلان، تبادلتا التحايا بينما سكت أنا وصمت الرجلان، عبق العرقي البلدي مختلطا بصنان نفاذ، وعرق كادح عبرا في وجهينا.
عندما ابتعدوا قالت لي أدي: الليلة الجنقو نزلوا، ما شايفهم شايلين القوقو كيف؟
وتعني بالقوقو حقيبة صغيرة يحملها الجنقو على أكتافهم، يحتفظون فيها بأغراضهم ويعتقدون فيها كذلك، سألتها ما إذا كانت المرأة أيضا جنقوجوراية؟ فأجابتني بأنها أشهر الجنقوجورايات في الشرق كله، من الحمرة إلى أقصى صعيد القضارف، من الحواتة إلى الفشقة، كل الناس يعرفونها، ثم أكدت لي أن جدودها والشياطين هم الذين افتتحوا هذه الأراضي، كانت تتحدث بيقين وعلم راسخ وتقسم بين الحين والآخر بالله، بأن هذه الأنحاء مسكونة بالجن، ثم أضافت قائلة: والكلام دا مذكور في الكتاب.
قلت لها مندهشا: ياتو «أي» كتاب؟
قالت بسرعة: كتاب الدين، في كتاب تاني غير كتاب الدين؟
هززت رأسي بما يعني: لا والله.
بين حين وآخر أجد نفسي منشغلا بمصير صديقي، ولكن أدي لا تترك لي فرصة للتفكير، فهي إما تتحدث أو تسحبني خلفها بسرعة رهيبة في الظلام، هي تحفظ تضاريس الطريق، وشعاب المكان، وأنا كالسكران لا أستطيع أن أمشي غير متعثر، وكدت أسقط عدة مرات، مشينا مسافة قدرتها بالميل، ربما عبرنا صفين آخرين من بيوت القصب والقش والقطاطي الكبيرة، تهيأ لي أننا كنا نسير في زاوية منفرجة، حينما بلغنا ما اعتقدت أنه زاوية المثلث، سمعت صوته عاليا، بل يكاد يكون صراخا، وهذه أيضا إحدى عادات صديقي السيئة، وهي ليست علامة غضب، ولكنها دليل على أن الأمور تسير في صالحه، وبصورة جيدة.
كان يهتف قائلا: إنه لا يدفع ولا قرشا واحدا، ويكرر أن هذا «مبدأ».
كانوا داخل حوش كبير من القصب والأشواك، في وسطه قطية كبيرة وراكوبة ترسلان ضوء شحيحا من عمقيهما، كانوا يجلسون ويقفون تحت ظل الضوء الشحيح، تبدو أشباح الرجال الخمسة جلية واضحة، طلبت منهم أن يتركوه، هتف في أحدهم: إنت منو «من أنت؟»
قالت لهم الأم أدي، وفي وجهها البني تتحرك عينان قلقتان كبيرتان، تلمعان في الظلام كعيني قط يتربص فأرا: خلوه صاحبه دا حيحل معاه المشكلة.
قال مخاطبا إياي بصوت محمول على خدر الخمرة، ولسان ثقيل: أنا عايز أفهم الناس ديل الفرق بين الرذيلة والفضيلة، الفرق هو القروش العايزني أدفعها دي، القروش بتحول اللقاء الحار الإنساني البديع الخير المبارك الحصل بيني وبين الزولة الجميلة القاعدة جوه دي - مشيرا إلى عمق ظلام القطية - إلى نوع من الدعارة والشرمطة.
فجأة أتى صوتها من عمق سحيق مظلم قائلة ببجاحة: أنا عايزة حقي يا زول، دا شغل! أنا ما بتنفع معاي فصاحة الشوعيين الكفار دي، عايزة حقي، عايزة حقي، حقي وبس، دورين زي السم! دورين يا ظالم وتقول لي شرمطة! دورين، دلكة وعصير رجلين وطقطقة أصابع ومص وعض دا كله ملح؟ أنا بعرفك من وين عشان أديك بلاش «أعطيك بدون مقابل؟» لا حبيبي ولا ولد حلتنا ولا أخو صاحبتي.
يبدو أن الحوار كان يدور بهذه الشاكلة لأكثر من ساعتين كحوار الطرشان، في تجمعات صغيرة بين هنا وهناك يرى الندماء قرب راكوبة باهتة، تحت في ما كان ظلا عصريا ابتلعه الظلام وتركهم، رائحة سمسم يشوى، قرقرة شيشة قريبة جدا، سيدتان تضحكان بتحفظ، قال لي: المرا دي جابتك «هل أتت بك تلك المرأة؟»
قالت أدي منفعلة: أنا أدي مش «ليس» المرا دي! سامع؟
انتهره أحدهم: اتكلم مع أدي بأدب.
قلت لأدي متجاهلا كل شيء: أنا عايز أرجع.
قالت لي مندهشة: ترجع وين؟
قلت لها متجنبا النظر إلى صديقي: للقطية.
قالت باستغراب: عايز ترجع قروشك؟
حيث إنها كانت قد رأتني أدفع «للمرأة» نقودا كثيرة جدا.
قال لي صديقي محتجا: إنت دفعت قروش؟ إنت زول داعر.
لم أرد عليه، قلت مخاطبا أدي: عايز أرجع القطية، عايز أنوم، ممكن؟
قالت بانشراح، وقد فهمت ما أرمي إليه: إنت زول تاني، ما زي صاحبك.
خاطبني بسخرية: نتقابل الصباح يا أبو الشباب، يا فالح.
هززت رأسي إيجابا أو بما يعني: على كيفك يا بني.
عبر زقاقين قصيرين مظلمين قادني رجل كلفته أدي إلى بيت الأم، حيث التقيت لأول مرة بامرأة انتظرتني طويلا في القطية اسمها: ألم قشي.
عزومة الصافية
قابلناها في سوق القنذي، وهو سوق للملابس المستعملة الرخيصة، يقام على هامش السوق الكبير، قرب زريبة المواشي في مكان خجول منزو؛ حتى تضمن خصوصية الرواد، البائع والبضاعة، يرتاده الجنقو بين حين وآخر، إما لبيع ملابسهم، وأحذيتهم، وما تبقى من زينتهم، واستبدالها، أو شراء أخرى، وذلك في شهور الفلس قبل موسم الحصاد، أو عندما يقبضون على ما تحصلوا عليه من نقود نتيجة للعمل في الحصاد، ولا يمنع أن يمروا عليه كذلك للبحث عن ملبوسات خاصة، قد لا تتوفر في مكان آخر غيره، وخاصة أن بعض الباعة يجلبون ما يسمى ب «كوشا مكة» أي مزبلة مكة، أو «الميت قدرك»، وهي عبارة عن نفاية من الملابس المستعملة، أو تلك التي يتبرع بها محسنون، وذوو موتى من دول الخليج أو المملكة العربية السعودية، يرسلونها بكميات كبيرة عبر المنظمات التطوعية؛ لتوزع للمساكين في شتى بقاع السودان، ولكنها تجد طريقها سريعا لسوق الفقراء بالقرى والمدن الطرفية، ولأنها غالبا ما تكون مستعملة استعمالا خفيفا، وبها ظلال موضات مندثرة، فهي مرغوبة وغالية الثمن.
شاهدناها من بعيد تقف أمام البائع، تتفاوض في شراء جلباب، قال لي فيما يشبه الهمس: الصافية، الصافية الرهيبة، أنا عايز أتكلم معاها يا صديق.
وكان يطلق علي هذه الصفة عندما يشرع في الحديث عن موضوع يظنه بالغ الأهمية. - المخلوقات البسيطة الصغيرة المهملة المرمية على هامش المجتمع والمكان، تجد فيها أسرارا لا حد لها، إن الله دائما ما يستودع حكمته في نوع زي ديل.
أضاف: أنا عايز أصل لأصل الحكمة فيها.
قلت له ساخرا بذات اللغة التي تحدث بها: عايزها مشروع حياة؟ - بالضبط، حتكون إضافة حقيقية لتجاربي الإنسانية، تصور لو عرفت كل تجربة مرت بحياتها، لو عرفت أحلامها، وأحزانها، وآمالها، لو عرفت كيف بتفكر الزولة دي، كل زول لاقيته في الحلة دي يحكي لي عنها حاجات أقرب للأساطير، كلمني عنها مختار علي، أنا عايز أصل للحقايق بنفسي، وليس من سمع كمن شاف.
سألته: منو مختار علي دا؟ - واحد عجوز مريض إتعرفت عليه إمبارح بالليل، رجل طيب، بت معاهو في البيت.
وبأسلوبه المباشر المعروف طلب منها أن تسمح له بدفع ثمن الجلباب، مانعت قليلا، ولكنها قبلت أخيرا، وشكرتنا الاثنين، وتبعناها إلى سوق الكجيك «السمك الجاف»، دفع لها ثمن رطلين منه.
الكجيك وكوم الكول، الفرندو وربع اللوبة البيضاء، كراعات الشرموط، لفتين المصران، وربع رطل الكمبو «أطعمة بلدية سودانية»، قالت ممتنة: كدا تكونو وفرتوا لي قروش المريسة لأسبوع كامل، ووفرتوا أكل لخمسة عمال مساكين؛ لأنه دا الميز «الميس» بتاعهم، بعد يومين حنرجع الخلاء.
قال لي، وكأنه يهمس همسا: ليه ما نمشي معاهم الخلاء ؟ أنا عايز أشوف الجنقو في مواقع عملهم، في بيئتهم الطبيعية، حتى ولو أشتغل معاهم، أنا عايز أدرس حياتهم دراسة من شاف، وعايش، وعاش.
ضحكت من كل أعماقي، أنا أعرف أنه لا يستطيع فعل ذلك وأعرف أنه لا يعدو كونه برجوازيا صغيرا متخما بالمتناقضات، والادعاء، والأحلام الكبيرة، يحاول أن يقضي عطالته وصالحه العام في مكان يقدم له الدهشة والانفعال، المتعة والإثارة؛ متعة المشاهدة، أما أن يعمل في قطع السمسم فهذا مستحيل، العلاقة بيني وبينه قائمة على الصراحة والوضوح، بالإضافة إلى أننا كنا نعمل في مؤسسة حكومية واحدة، طردنا للصالح العام معا، إلا أننا عشنا طفولة واحدة في قشلاق السجون بمدينة القضارف، ولو أنه كان يسكن في قشلاق الضباط؛ حيث كان والده ضابطا كبيرا ومديرا للسجن ووالدي شرطيا بالسجن، امتدت علاقتنا من المدرسة إلى الحي إلى البيت، ثم لم ننفصل عن بعضنا البعض منذ أكثر من ثلاثين عاما، كلانا كان كتابا مفتوحا مفضوحا أمام الآخر، حيث إننا كونا نفسيا ومعرفيا بصورة تكاد تكون متطابقة، قرأنا في مدرسة ديم النور عنقرة الابتدائية، لعبنا خلف البيطري وعلى تخوم مقابر المدينة معا، تشاجرنا مع أطفال دلسا وسلامة البيه جنبا لجنب، سبحنا في خور مجاديف وبرك مكي الشابك، ولعبنا جيش جيش في وسط غابة الحسكنيت على سفح جبل مكي الشابك، قرأنا ذات الكتب، واندهشنا معا باكتشاف جبران خليل جبران، ميخائيل نعيمة، وإيليا أبو ماضي، ومهرجان المدرسة القديمة، وحرابة المؤذن العجوز، وحكاية البنت مياكايا لإبراهيم إسحاق، ونحن نكبر تدريجيا عرفنا معا نيتشه، والنساء، ودقات ريشة فان جوخ، ثم حفظنا أشعار أمل دنقل، ناظم حكمت، محمد محيي الدين، المومس العمياء، ماريا وامبوي، عشقنا البنات أيضا معا، في باكورة مراهقتنا أحببت أخته، وأحب أختي، كأول مغامرات غرامية لكلينا، ولو أنني ما كنت أدري ماذا يفعل وأختي بالضبط، حيث إنهما كانا يحرصان على إخفاء نشاطاتهما عني، إلا أنني؛ ولأن أخته تكبرني بعامين أو ثلاثة، كنا نعمل على اكتشاف جسدينا بصورة محمومة وممتعة، أختي تصغره بعامين مما جعلني أفترض أن شأنهما قد يختلف؛ لأن البنات الأكبر سنا هن دائما يبتدرن ما يخص الجسد، وأنهن يعرفن كل شيء، ونسبة لصغر سن أختي ما كنت أظن أنها بمهارة أخته، دائما ما أتخيلها بريئة مسكينة عويرة، على كل ليس فيها ما يعجب ولدا ما، فهي في أحسن الأحوال مملة، ومضجرة، وكنت لا أطيقها لحظة، لا تفلح في شيء غير فضح كل ما أقوم به عند أبي، ثم قرأت وإياه ذات الجامعة، ذات الكلية، ذات التخصص، وأول امرأة أجرينا معها فعلا جنسيا كانت هي نفس المرأة؛ محاضرة شبقة بالقسم، أقول كنت أعرفه تماما. قلت له: أنا مش حامشي معاك للخلاء حانتظر هنا.
قال ضاحكا: مع ألم قشي، مش كدا؟
قلت له: بالتأكيد.
قالت الصافية فجأة: إنتم الليلة معزومين معاي في بيت أدي.
قال فزعا: تاني بيت أدي؟ من قبل كم يوم قلعوا ساعتي الجوفيال الأصلية، وشالوا كل القروش اللي في جيبي، ولو ما ستر الله كانوا كتلوني عديل كدا.
قالت الصافية بثقة: إنت حتكون ضيف عند الصافية.
قالت الجملة الأخيرة، وهي تندفع أمامنا مثيرة عاصفة من الصنان مختلطا بعرق المريسة، أضافت: أنا لازم أكرمكم، بتشربوا؟
قلنا معا في آن واحد: بنشرب.
ثم أضاف صديقي: المستورد علينا.
قالت: أنا علي أبو حمار «العرق».
ضحكنا ونحن نتوغل في أزقة الحي الضيقة، تحيط بنا القطاطي، وأصرفة الشوك، والقصب، ورائحة المشك، من كل جانب، يمر بنا السكارى، والعشاق، والأطفال يحيون الصافية بكلمة واحدة: الصافية.
فترد بكلمتين حنينتين تسعان الجميع: أهلا أبوي. - أهلا أمي.
فاجأتني الصافية قائلة: قالوا إنت سبت صاحبك للمجرمين، ومشيت لألم قشي، كيف لو كتلوه؟
قلت مندهشا: منو القال ليك؟
قالت ببرود: كل الناس بيعرفوا الموضوع دا، ما في شي هنا يندس.
قلت لها مبررا: أنا عارف ما في زول بيقدر يكتله «يقتله».
أضاف ضاحكا: على الأقل قبل عشرين سنة، عندي مشروع ما بيخلص قبل عشرين سنة، بعد داك أصبح مستعد للموت.
سألت الصافية في براءة: مشروع في الفشقة؟
حاول أن يشرح لها معنى مشروعه العشريني، ولكنه فشل، فشرحت لها أنا، فهمت، قالت: ولكن الموت بيد الله.
قال: نعم، ولكن الحياة بيد الإنسان.
قالت بيقين عميق: الحياة والموت الاثنين بيد الله، الزول ما بيده حاجة.
قال مغتاظا: إذن الإنسان قاعد ساكت «ليس بإمكانه فعل شيء؟»
قالت في هدوء: والله ما عارفة، أنا بس بعرف إنو «إن» الموت والحياة بيد الله.
أعرف أنه اغتاظ قليلا لفشله في كسب الحوار، وأعرف أنه لن يتنازل بسهولة، ولكنه الآن يوفر نفسه لمعركة أخرى في ميدان آخر، ظهرت طلائعها عندما همس في أذني: عارف يا ولد، الصافية دي فيها أنوثة مجنونة عديل، أنوثة وحشية، أنوثة كلبة معوبلة، أنا شاميها شم.
قلت له: وإنت كلب عاير.
قال بسرعة: تماما، تماما، كلب عرمان.
في حوش طرفي من بيت الأم، حيث جلسنا أنا وود أمونة وألم قشي، وقد هيأ ود أمونة بخفة محترف كل شيء، وجلس قريبا من الباب، كنت أحس برغبته العارمة في التحدث معي، ورغبته أيضا في أن يتركني وألم قشي وحدنا، وتحسست بميتافيزيقية رعناء رغبة ألم قشي في أن تطارحني الفراش، ورغبتها في أن يبقى ود أمونة كما هو في موقعه، المهم حسمت الأمر بأن قلت لود أمونة جملة اعتراضية: قلت لي اتربيت في السجن مش كدا؟ أنا والدي يرحمه الله كان سجان بسجن القضارف.
أحسست حينها أن ألم قشي وود أمونة كادا أن يطيرا من الشعور بالراحة، قال وهو يأخذ نفسا عميقا من الشيشة: آه، السجن، صاح، اتربيت في السجن.
ود أمونة متبلا
عطر البخور الحبشي يملأ القطية، تأتي أصوات المكان مخترقة القش، والأقصاب، عبر الظلمة للداخل، واستطعنا أن نميز غناء جميلا رقيقا يتلمس سككه عبر الليل نحونا، قال ود أمونة: دي بوشاي.
ثم واصل في حكي تفاصيل السجن، تحدث بتلقائية وبساطة، بهدوء ورقة لا تتوفر في شخص غيره، ألم قشي تقاسمني الوسادة البيضاء المستطيلة على طول عرض السرير، تخلف ساقيها مع ساقي، وبين وقت وآخر تتعمد حك أخمص قدمي بأحد أظافر رجليها، مثيرة شبقا وحشيا تؤجله دائما حكايات ود أمونة المدهشة في السجن، الليل كعادته في هذه الشهور دافئ مرح، عنت فكرة لألم قشي عبرت عنها بنهوض مفاجئ من حضني قائلة: ح أعمل ليكم جبنة «قهوة».
هكذا يعبر الناس عن حبهم واهتمامهم بالآخر في هذه الأمكنة، بأن يعملوا لك جبنة.
قال ود أمونة مواصلا حكاية العازة، لم تستطع عازة أن تقنع أمه لكي تتركه معها عندما تخرج من السجن، وأرسلت لها الوسطاء من سجانين ومسجونين، وحتى مأمور السجن نفسه، ولم يقنعها سوى ما حدث لود أمونة في ذلك المساء: «كنت في طريقي إلى عنبر النسوان»، بعد أن عاد من مشوار كلفه به الشاويش خارج السجن، وعندما وصل ود أمونة الممر المؤدي إلى الزنازين، وهو الطريق الأقصر إلى الجزء الغربي من عنبر النسوان حيث مقام أمه، إذا بيد ناعمة قوية تمسك بذراعه، وأخرى توضع في فمه، كانت تفوح منها رائحة البصل، والثوم، والتوابل الأخرى، مما جعله يتعرف بسهولة على الطباخ، ثم همس في أذنه: ما تخاف، دا أنا.
ثم سحبت الكف عن فمه، قال له ود أمونة: عايز مني شنو؟
قال الطباخ: إنت بكره ماشي مع عازة، طبعا حيطلعوها من السجن، وإنت حتمشي معاها، وأنا جيت عشان أقول ليك مع السلامة، طالما إنت ما بادرت بالوداع، مش عيب عليك يا ود أمونة ما تقول لي مع السلامة؟
قال ود أمونة متضايقا: كويس مع السلامة يلا فك يدي.
قال الطباخ محاولا أن يكون رقيقا ومهذبا: لا، ما كدا، مع السلامة دي عندها طريقة تانية، وفي حفلة صغيرة أنا عاملها ليك في مخزن المطبخ برانا «وحدنا»، أنا وإنت، جبت شمع وعندي ليك هدية؛ ملابس جديدة، وجزمة، وكرة، وحلاوة، وحاجات حتعجبك.
قال ود أمونة وهو يحاول نزع يده: إذا ما فكيت يدي حأصرخ وأمي تسمع، وحتجي تقتلك.
فأدخل الطباخ يده في جيبه، وأخرجها قابضة على نقود لها رنين.
قال له ود أمونة: أخير ليك تفكني «من الأحسن لك أن تتركني.»
بيد الطباخ الممسكة بالنقود، أعاد النقود إلى جيبه، وبسرعة ومهارة فتح زرار بنطاله وأخرجه ؛ شيء لم يستطع ود أمونة تمييز معالمه في الظلام، ولكن عندما دفع به الطباخ إلى بطن ود أمونة، أحس به ود أمونة قويا وطويلا، قال الطباخ: الموضوع بسيط، وما بياخد دقيقة واحدة، وأنا أديك أي حاجة عايزها.
وعندما مد فمه الذي تفوح منه رائحة الصعوط مختلطة بسجائر البرنجي، محمولة على عبق عرقي العيش، بحركة رشيقة خاطفة أمسك ود أمونة بشيء الطباخ، كان مظلما كبيرا وأملس، أدخل ما يكفي في فمه وبين أضراسه الحادة، نفذ وصية أمه بحذافيرها؛ الشيء الذي جعل كل من في السجن والذين يجاورونه والذين تصادف مرورهم في تلك الليلة بتلك الأنحاء، يقفزون رعبا في الهواء من جراء صرخة الطباخ العنيفة البائسة التي لم يسمع أحد في حياته مثلها، ولن تتكرر في مقبل الأيام، صرخة أطارت العصافير الصغيرة النائمة في أشجار النيم في وسط السجن، جعلت السمبريات العجوزات الساكنات بالسنطة عند بركة المياه جنوب السجن تضرب بأجنحتها في ذعر، كانت الصرخات التي ألحقها بالصرخة الأولى أقل أهمية؛ لأن أحدا لم يسمعها سوى ود أمونة، كانت أكثر بؤسا ورعبا، ثم سقط. - بصقت رأس الذكر من خشمي «فمي». كان شيئا مقرفا. قالت لي أمي بعدما صلينا صلاة الصبح في الساحة: إنت حتمشي مع عازة إلى بيتهم، أنا تاني ما حأخاف عليك، إنت بس حافظ على أسنانك، حأديك قروش تشتري بيها مساويك.
رائحة قلي البن الحبشي تملأ رئتي عبقا لذيذا، وصوت بوشاي الحلو يغني فيأتي به الهواء الدافئ من حي العمدة إلى قطية أدي شهيا، قالت ألم قشي: بعد دا كله، الطباخ شغال لسع «ما زال» في السجن، سمين زي البغل.
كنت أعرف هذا السجان، وقد سمعت بقصته هذه من قبل، ولكني لم أعرف التفاصيل إلا الآن، ولم أحس ببشاعة الحدث وفداحته بهذا القدر، لقد كان هذا السجان يسكن في ذات القشلاق، الذي كانت أسرتي تسكنه، فأبي يعمل بذات السجن، ويعرف الناس عنه غرابة السلوك، ولو أنه لم يتحرش بأي من أطفال القشلاق، فلقد كان له رفقاء في عمره، لم أقل لهم إنني أعرفه ولم أقل لألم قشي أن ما قالته عن استمرار عمله بالسجن، وسمنته ليسا حقيقة، فلقد مات الطباخ بعد هذه الحادثة بسنة واحدة، لدغه ثعبان في مخزن البقوليات بالسجن، لم أقل لهم أن هنالك صلة قرابة تربطني به.
تحركت ألم قشي وهي تحمل المقلاة تطوف بالقطية مقربة إياها من أنوفنا، فنستنشق المزيد.
قال ود أمونة: طلعت من السجن وأنا عمري عشر سنوات، لكن تقول راجل كبير، كنت بعرف كل شيء، ما تفوت علي كبيرة ولا صغيرة.
أضافت ألم قشي في زهو: ما شاء الله، ود أمونة دا، أصلو ما تقول كان طفل في يوم من الأيام.
صبت البن في الفندك، وأخذت تدق بتنغيم أتبعته بغناء بلغة الحماسين.
قال لي ود أمونة معتذرا: معليش شغلتك بحكايات السجن والأمور الفارغة دي، أنا حأخليك شوية مع ألم قشي وحنتلاقى، أنا قاعد في قطية ما بعيدة من هنا.
ولكنني أصررت عليه أن يحتسي معنا القهوة قبل أن يغادر، وأكدت ألم قشي رغبتي تلك، وقبل على شرط أن يشرب معنا «البكرية» أي الفنجان الأول فقط ثم يكمل البقية مع الأم، فقبلنا.
بالغرفة سرير واحد ولكنه ضخم يساوي سريرين كبيرين، مصنوع من السنط، له قوائم ضخمة ثقيلة، عليه ملاءة بيضاء مطرزة بالكروشيه في شكل طاووسين كبيرين متقابلين بالفم، ويبدو النهج الحبشي واضحا في فن الحياكة والتطريز من حيث استخدام اللون الأصفر، والأحمر، والأخضر، كانت ألم قشي كعادة الحبشيات تبدو في بشرة حمراء ناعمة، وساقين طويلتين نحيفتين منتظمتين جميلتين، عليهما نقوش حناء باهتة، ووشم على القدم غريب بدا لي كصليب، أو ربما وردة سحرية، على كل كان شهيا وطيبا وطازجا.
لا أفهم كثيرا في ممارسة الجنس، في صباي، أنا وغيري من صبية الحي في أيام مراهقتنا الأولى، أتينا الأغنام، والدحوش، وحتى العجول، ولم يكن ذلك ممتعا، ولكنه مهم حيث تبدو كبيرا، وفحلا، أمام أصحابك وإلا لقبت بالمرا، وهذا لا يجوز في حق أحدنا، ولكن تجربة شريرة حدثت لي قبل ذلك - أي قبل البلوغ - كانت الأكثر إدهاشا وأكثر بقاء في ذهني، وربما لا تزال توجه بوصلة الجنس في ظلماء نفسي، اعتادت خالتي التاية أن ترسلني إلى المطحنة عند الصباح الباكر قبل الذهاب إلى المدرسة؛ لكي أوصل جردل العيش إلى هناك، ثم أعود لأخذه في نهاية اليوم، وأنا عائد من المدرسة، أي بعد أن يتم طحنه، حيث تقوم بإعداده لصنع كسرة يوم غد التي تبيعها في السوق الكبير، صاحبة المطحنة امرأة شابة ليس لديها أطفال، يعمل زوجها في سوق الخضار، وكعادته ألا يعود إلا عند المغرب، وهي سيدة معروفة في مجتمع المراهقين بصورة جيدة، وكل واحد منهم له معها قصة ربما أغرب من قصتها معي، ولكن ربما الشيء الذي يميز حكايتها معي؛ هي أنها كانت تضربني ضربا مبرحا لا أدري لماذا في ذلك الوقت، ولكني فهمت في ما بعد بعض الشيء، عندما أعود لأخذ الطحين كانت تأخذني إلى داخل المنزل عبر باب داخلي للمطحنة، وهناك تخلع ملابسها وملابسي، في أول مرة شرحت لي وأرتني إياه، وخفت خوفا حقيقيا عندما رأيته لأول مرة، كان لا يشبه كل التصورات التي رسمتها له وأصحابي، كن نظن أنه شيء جميل جذاب مثل الوردة، ولكن هذا الشيء الذي أمامي شيء آخر، إنه أشبه بفأر كبير على ظهره شعر أسود مرعب، له فم كبير وربما أسنان أيضا، بل له رائحة كريهة، لا أدري كيف خدعنا به طوال تلك السنوات، فلم آلفه أبدا، ولكنها بخبرة المرأة المجربة التي تعرف كيف تثير، أزالت مخاوفي، ثم عرفت كل شيء أو ما ظننت أنه كل شيء، ولكنها كانت تطلب مني غير الإيلاج أن أقذف، بالأحرى كانت تأمرني قائلة: بول، بول، بول.
وأنا لا أعرف كيف أبول هناك وليس لدي بول في مثانتي، فكنت أقول لها ذلك فتغضب فتضربني قائلة: بول، بول الرجال، إت ماك راجل «ألست برجل؟»
ولم أعرف بول الرجال هذا إلا بعد سنوات كثيرة، عندما جاءتني في الحلم هي ذاتها عارية، وبحلق في فأرها المتوحش، وضربتني عندما اشتد بها الشبق. - بووووووووول.
فبللت ملابسي بسائل دافئ له رائحة اللالوب الذي كنت أكثر من أكله في تلك الأيام، خرج البول في لذة، وألم مدهشين، ثم لم أبل في سيدة بالفعل أبدا؛ حيث لم تتح لي فرصة لذلك، أو أنني كنت خجولا أمام النساء، ولم تصادفني من هي في جرأة تلك المرأة، أو لست أدري ما هي حكايتي بالضبط، كل ما امتحنت به جسدي كانت لمسات أخت صديقي الدافئة البريئة، إذن بعد خمسة وثلاثين عاما ها أنا ذا وجها لوجه مع امرأة، ولأول مرة في حياتي، امرأة فعلية مجربة وخبيرة، وأنا رجل كبير في السن راشد، وبالغ ولا خبرة لي في النساء، ولا أدري كيف فهمت ألم قشي ذلك، ولكنها قامت بكل شيء بنفسها، بدءا من لبس الواقي، انتهاء بالبول، بول الرجال، كانت تسحبه من أعماقي بجنون ولذة لا يوصفان.
مختار علي
ثم واصل مختار علي الحكاية، يستطيع الآن مختار علي المشي لقضاء الحاجة وحده، بل أن يذهب للدكان عند ناصية الطريق، ويشتري حجارة البطارية، قال: لما قلنا كدا بسم الله، ودخلنا السمسم، كبر الجلابي سماعين ثلاث مرات: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لمن الخلا كله صن يوووو.
ثم جاء الجلابي سماعين بخروفين كبيرين أقرنين، كرامة، وسلامة، وطلب منهم أن يذبحوهما وقتما شاءوا.
عندما يكون السمسم جيدا فتيا مرصوصا كالدرر على ساق حمراء شامخة، يجبر الجنقوجوراي على الانحناء لحصاده، حينها يصبح الحصاد مهرجانا من الرقص، يغني الجنقو لحنا واحدا ثريا حلوا على إيقاع ضربات المنجل، خشخشة ربط الكليقة، ورميها بالخلف، متعة الإنجاز: كليقة.
كليقة.
كليقة.
كليقة.
تصنع «حلة» والحلة استطاعوا هذا العام أن يرفعوا سعرها إلى ثمانية جنيهات، وهو ثلاثة أضعاف سعرها في العام الماضي، كل ضربة منجل هي جزء من ثروة كبيرة، كل ربطة كليقة، كراع بوليس: هي بعض الحلم يتحقق، كل حلة أنجزت؛ هي ثمانية جنيهات تنضاف إليها ثمانيات أخريات، ثم ثمانيات أخريات، ثم تسلم إلى الخالة؛ بالحلة: ثمانية + ثمانية + ثمانية + ثمانية + ثمانية + ثمانية + ثمانية + ثمانية + ثمانية + ثمانية + ثمانية + ثمانية + ثمانية + ثمانية + ...
ث م ا ، +
م، ني +، م
ا، ة + ث
ني، ث-ث + نية
ة، م + ة
نما، ن ... ية ... + + + نية.
وأحس مختار علي برأسه ثقيلا، بيديه مشلولتين، رجليه؛ أين هي رجلاه؟
أحس أنه ينسحب، قليلا قليلا، ين، س، حب، من حقل السمسم، حقل الحياة: أبكر آدم ما لاحظ إنه أنا اتأخرت، يمكن إلا عندما وقعت في الواطا تب، حتين شافاني.
أسبوع بأكلمه قضاه مختار علي مريضا في التاية وحيدا، حيث يذهب الجميع إلى العمل يتركونه مع الفئران، الزرازير، أولاد أبرق، عشوشاي، وكلب الخفير. - والله لمان تقول جاتني نفسيات، كلمت سماعين الجلابي قلت ليه: أنا يمكن أموت هنا في الخلا دا ساكت «بلا فائدة»، وديني الحلة، عندي أخت لي هناك متزوجة، وديني ليها، وشالاني جاباني هنا، رماني رمية واحدة، بت عمي، أختي سافرت همدائييت، راجلها اشتغل هناك في التهريب.
لم يره الجلابي سماعين مرة أخرى، كأنما رمي بشيء قذر في واد مهمل مهجور، كان قد وعده بأن يحضر المساعد الطبي، أو يأخذه إلى المستشفى المحلي، أو حتى ينادي له الفكي علي ود الزغراد، وهو زول يده لاحقة، لكنه هرب منه هروبا، كما وصفه بعض الجنقو فيما بعد: هروب جبان.
ولكن بارك الله في الأخوات والإخوان، على رأسهم الصافية، وهي غزالة سوداء نحيلة، قل: نحلة؛ لأنها دائمة الحركة، لها رائحة متميزة، عبارة عن صنان مختلط ببقية الليلة الماضية، وعرق كدح دءوب، هذه السيدة البسيطة الهزيلة، التي يتبعها لفيف من الجنقو كظل لها، المسالمة، من يحتفي بالإخوان ومجالسهم الطيبة، هي ذاتها الحيوان الشرس الضاري في المشروعات الزراعية، الذي عندما يقتحم حقل السمسم يرمي الحلة خلف الحلة، خلف الحلة، خلف الحلة، خلف الحلة، خلف الحلة.
وكأنها تعمل بماكينة، ما شاء الله، ينجح الجلابي صاحب المشروع حتما، إذا نجح في أن يضم الصافية إلى فريق عمله، حكى مختار علي: قالت لي الصافية: أنا حأدب ليكم سماعين ود الحايل، حأخليه يبكي بدموعه.
جابت لي الممرضة، جابت لي الفكي علي ود الزغراد بنفسه، جابت لي القضيم، جابت لي العدسية، جابت لي أم جلاجل وعرقها المر، سوت لي المديدة، الفيتريتة الحمراء، وعصيدة الدخن. قاطعة الشايقي؛ وهو كما يعرف الجميع جعلي، ولكنه ملقب بالشايقي لآثار شلوخ في وجهه: قالوا الصافية دي فيها جنس مرا؟
وعض يده في ألم، ثم أضاف: لو كان بتنعرس، والله أعرسها.
ضحك الجميع في آن واحد، ولو أن بعضهم يخالفه الرأي، بل يحتفظ في أضابير وعيه، برأي عكس ما طرح تماما، لكنهم ضحكوا، تململ البعض، آثروا الاستماع، الكلام عن النساء وفيهن مثل أكل الموليتة، مر حارق، ولكنه لذيذ، دائما له طعم متجدد، ربما لأنه يحرك حنينا منطويا في ذواتهم عن أم جميلة فقدت في موطن ما، أو أخت حنينة لم تنس تماما، ولكنها مختبئة في ركن غيب الذاكرة، بعيدة قريبة في آن واحد، أو بنت استحال إنجابها، وربما زوجة، عشيقة، صديقة لم تتبين ملامحها بعد في موطن جاءوا جميعا منه إلى هنا، ولكن أيضا للصافية خصوصيتها، هنالك جوانب مظلمة في حياتها، خاصة في ما يتعلق بنشاطها الجسدي، وكل ما يدور في هذا الشأن ليس سوى أسطورات صغيرات يمخرن في أودية وخيران دافئة، تحت سنطات وسيالات عجفاوات، وعلى حوافر الثعالب والأرانب والحلوفات، أسطورات حالمات وديعات.
قال له مختار علي متحديا، وقد نسي أم تناسى حكايته: إنت لقيتها وين؟
قال أبكر آدم: لو ما لقيتها ما بكون سمعت بحكايتها مع ود فور، يا أخوي لو ما متنا شقينا المقابر.
حسنا، سوف لا نتطرق إلى هذه الحكاية الآن؛ لأنها معروفة ومكرورة، وقد يتولد لدى البعض بأننا نعرف كل ما يحيط بها، وهذا مجانب للحقيقة، فكل شخص في هذا المكان يحتفظ برواية خاصة به عن الصافية وود فور، حكيت من قبل من قبل عشرات الأشخاص؛ نساء ورجال وأطفال، وكل حكاية ما كانت تشبه الأخرى، وما جاءت به، ما يشبه الندوة في بيت أداليا دانيال يوم مريستها؛ كان شيئا آخر.
الجناح الذي خصتنا به الأم من بيتها الكبير المتسع يقع في آخر صف من القطاطي، الملحقة برواكيب صغيرة ممتدة في شريط قد يصل طوله إلى مائتي متر، وهو موقع شبه مهجور، وربما خاص، اكتمل المزاج بالشيشة حيث برع في إعدادها ود أمونة الذي لم يحتمل بقاءنا بدون نساء يحلين طعم القعدة ويكسبن بعض المال، ولم تعجبه فكرة أننا نكتفي بهذا الوحش - في نظره - الصافية، وذكر في أذني اسم ألم قشي، كلما وجد فرصة لفعل ذلك؛ لأنه لا يعرف عني زهدي في النساء، ظل يلاحقني إلى أن لاحظت ذلك الصافية، فتحدثت معه بأسلوب غليظ، حرمنا من نكاته وملاحظاته الجميلة عن الحلة وناسها وعن السجن، وحرمنا من نفحات عطر راق ينسمها، صمت ثم خرج.
قالت لنا الصافية من بين قرقرات الشيشة، وكأنها تمتص العالم كله في نفس واحد: البلد دي أسستها حبوبتي «جدتي» الصافية، أنا سموني عليها، لمان جات هنا كان البلد ما فيها غير المرافعين «الضباع»، والقرود، والحلوف، والجنون، البلد كلها غابة كتر، ولالوب، ونبك.
حكت لنا حكايات كثيرة ممتعة عن المكان قبل عشرات السنين؛ عن سجناء يهربون ب «الفرو» من سجن الحمرة بإثيوبيا، عن شياطين يسكنون ويتزاوجون مع البشر، عن بشر يتحولون إلى حيوانات وغربان، عن أناس يموتون ثم يحيون في شكل بعاعيت «أشباح».
وعن أناس عندما يموتون ويحيون سبع مرات، يتحولون إلى أبي لمبة، وعن بشر يأكلون البشر، وعن، وعن.
إلى أن قاطعها صديقي سائلا: قولي لينا حكايتك شنو مع ود فور؟
أنا والحق يقال خفت، ولأول مرة في حياتي أخشى ردود أفعال لا أستطيع أن أتنبأ بها إطلاقا، نهضت مدت خرطوش الشيشة إلي، دون أن تنظر إلى أي منا، مشت نحو قطية تبعد قليلا عن مجلسنا، القطية الأكبر حجما، منذ أن غابت الشمس أضاءها ود أمونة مع بقية القطاطي الفارغة، حتى لا يتخذها الشيطان مسكنا، اختفت هناك لم يسمع لها حس، لم أستطع أن أتفوه بكلمة، ولو أنني كنت في أشد الحاجة لكي ألومه، وأن أكرر ملحوظتي عن سلوكه الفظ وطريقته المباشرة الفجة عند مخاطبة الناس. «تعلم الكياسة، تعلم كيف تخاطب الناس.»
لم أتفوه بكلمة واحدة، وضعت الخرطوش جانبا، نهضت، ناديت بأعلى صوتي: يا ود أمونة.
وفي لمح البصر، وكأنما كان ينتظر خلف الباب مترقبا النداء، جاء ووقف أمامي في أدب وهدوء قائلا: نعم؟
قلت له: أرح، نمشي.
لم يقل إلى أين ولكنه مضى أمامي ومشيت خلفه، كنا نهرول هرولة، دخلنا زقاقا ضيقا أفضى بنا إلى زقاق ضيق عبر صف من الرواكيب والقطاطي، عبرنا شجرتي نيم خلف زريبة تبيناها من رائحة روث البهائم تفوح منها رائحة «المشك»، ثم يتلوى بنا زقاق آخر؛ ليلفظنا خارج بيت الأم في طريق رحبة، يؤمها السكارى والعاشقون ولفيف من خلق الله، من الجنقو، والجلابة، وبعض عساكر الجيش، ومضى ود أمونة، ومضيت خلفه صامتا إلى أن دخل بيت مختار علي، حينها قال لي: إنت عايز بيت مختار علي، مش كدا؟
قلت له: أيوه.
ولم أسأله كيف عرف ذلك، دخلنا وجدنا مختار علي، وقد خلد إلى النوم، استيقظ بمجرد أن ولجنا الحوش الكبير وصاح: منو؟
قال ود أمونة: نحنا يا مختار. - مرحبا، اتفضلوا.
قال لي ود أمونة مستأذنا: أنا عندي شغل في بيت الأم، لو ما كدا كنت قعدت معاكم، الليلة في ضيوف كتار في البيت، نتلاقى الصباح.
ودون أن ينتظر ردا مني ذهب واختفى في الأزقة التي حتما ستسلمه إلى أزقة، التي سوف تلقي به في بيت الأم.
بيني وبين نفسي كنت قد فسرت هروب ود أمونة مني، وادعاءه المشغولية بعودته السريعة إلى بيت الأم، كان يريد أن يشهد بأم عينيه ماذا سيجري ما بين صاحبي والصافية، سألني مختار علي بصوت نعسان مرهق عن صاحبي، قلت له: تركته في بيت أدي مع الصافية.
قال محتجا وقد طار النعاس من عينيه: لييه؟
قلت له في برود: رغبته.
قال وقد جلس: لكن مع الصافية؟
قلت مؤكدا: نعم مع الصافية.
قال لي: ما سمعت قصتها مع ود فور؟
قلت ببرود: ولكن قصتها معك كانت مختلفة.
قال محتجا: الموضوع مختلف، معاي براو «بشكل»، ومع ود فور براو.
قلت له: هل أنت متأكد من أن قصتها مع ود فور صحيحة؟
قال مستسلما : في الحقيقة ما في زول متأكد من الحصل بالضبط لود فور، ولكن الناس كلها متأكدة إنو حصل ليه شيء، كويس؟ كعب؟ الله يعلم، المهم ربنا يستر.
قلت له وقد عاد واضطجع في السرير: ما يهمني إنا «أنها» ما حتقتله؛ لأنو ما بيموت بالساهل، وكل شيء غير الموت هو تجربة مفيدة في حياة الزول بتنفعه وما بتضره، كعب الموت بس.
ولكي ينهي النقاش سألني مختار إذا كنت أرغب في النوم داخل القطية مثلما يحب صديقي، أكدت له أنها رغبتي أنا أيضا، وأنني معتاد على ذلك منذ صغري، طالما لم تكن لدي رغبة في النوم، قلت لنفسي: لأجرجرنه في الكلام ولو في الموضوعات التي يحبها كبار السن مثله. - ليك كم سنة هنا؟
انقلب على جنبه الأيسر ليقابلني وجها لوجه: والله ما بتذكر أنا جيت «جئت» هنا متين «متى» أول مرة، لكن من ما كانت الحلة دي بيت واحد كبير مزروب بشوك الكتر، والسيال، المرافعين والثعالب تحوم، والشمس في نص السما، كان الجلابة البيزرعوا هنا، محسوبين على أصابع اليد الواحدة، والأرض المزروعة ذاتها كانت صغيرة وضيقة، كنت أنا وكيل مشروع، أكبر مشروع، ما بشوف التاجر الجلابي دا إلا يوم الحصاد وبس، كل البوابير، والعمال تحت إدارتي أنا، ولكن نحنا ما فينا فايدة، الواحد بيلقى العشرة والعشرين في زمن القرش الواحد عندو قيمة، ولكن الواحد مننا يشيل القروش وينكسر في كنابي «بيوت» المريسة في «الحمرة» في فريق قرش: دي حلوة، دي مرة، دي حامضة، دي فطيرة، دي خميرة، دي فتاة، ودي عزباء، دي شرموطة، ودي شريفة، لحدي ما يكمل الفي جيبه، وتاني يبدأ من جديد، أكثر من أربعين سنة بالصورة دي، يمكن حتى تقوم الساعة دا لو ما انتهى الواحد مننا في شجرة الموت، في فريق قرش، وتبقى سوء الخاتمة.
قلت له مندهشا: شجرة الموت؟ تقصد سدرة المنتهى؟ - لا، دي شجرة الموت دي شجرة كبيرة في الحمرة في فريق قرش، لمان يكبر الجنقوجوراي خلاص، ويقرب من الموت، أو يمرض مرض تاني ما في عافية بعده، يمشي وحده، أو ترميه الفدادية «صانعة المريسة» صاحبة البيت في الشجرة دي حتى يموت، الإخوان ما بيقصروا منه يدوه الفيها النصيب كان طعام، كان قروش، كان هدوم، كان شراب، كان تمباك.
قلت له ثائرا: لييه ما يرجعوه لأهله؟ - ما في زول يقبل يرجع لأهله بعد العمر دا كله، يرجع ليهم زول موت؟ عيب والله؟
ثم حدثني أن الجنقوجوراي، أي جنقوجوراي، يأتي إلى هنا للعمل موسما واحدا فقط ويقول لنفسه: إنه بعد هذا الموسم سوف يعود لأهله، يبسط أمه، وأخواته، ويتزوج، فيعمل موسمه الأول، ولكن أولاد الحرام وبنات الحرام دائما له بالمرصاد، فيشرب قروشه كلها مريسة، وعرقي، وينوم مع النسوان، ويصاحب، ويقول السنة الجاية بعد حصاد السمسم مباشرة سوف أعود إلى أهلي وهكذا، إلى أن يبلغ من العمر عتيا، فيمرض ويموت، قال ضاحكا: أنا في حياتي ما شفت جنقوجوراي واحد رجع لأهله! إلا إذا جاء أهله، وساقوه من هنا. - غريبة!
ثم أضفت وقد طغى على ذهني موضوع الشجرة الغريبة: أنا أتمنى أشوف شجرة الموت دي. - في حي قرش، شجرة مشهورة في الحمرة جنب بيت العمدة دودة، هي مصير الزينا ديل.
قلت له مشفقا: إنت أهلك وين يا مختار؟
قال في حسرة: أنا ما عندي أهل، أنا حسي «الآن» عمري فوق الستين، بعد دا في أم ولا أبو ولا إخوان بيكونوا موجودين؟ وأنا كنت أصغر واحد في الأسرة. - أولاد إخوانك وأخواتك وين؟ - لا أعرفهم، ولا هم يعرفوني، وقريتنا ذاتها في دارفور انمسحت بالواطا، ضربتها الحكومة، أنا مصيري بس شجرة الموت يا ولدي، وأنا ما ندمان على شيء، والله عشت زي ما عايز، واستمتعت بحياتي في شبابي، وحتى الآن أنا بعمل وبجيب دخل، وأنا مقتنع أنه أي إنسان ضاق نسوان البلد دي، وشرب مريستها تاني ما بيفارق عيشتها، وأنا لا خليت نساوين ولا مرايس، من خشم القربة حتى فريق قرش في الحمرة، ومن الحواتة حتى الفزرا، بس أنصحك يا ولدي ما تفرط في حياتك.
قلت بيني وبين نفسي: والله فرطت وانتهى.
قلت له: الله يستر، الله يستر.
استيقظنا مبكرين كعادة ناس البلد هنا، ينامون مع الدجاج ويستيقظون معه، ما عدا السكارى، والعشاق، يسهرون إلى ما بعد منتصف الليل، ويستيقظون مبكرين، تركت له ما تبقى لدي من تمباك، وقصدت بيت الأم مباشرة، كانت الشوارع تضج بالمارة القادمين من القرى القريبة في طريقهم إلى سوق الجمعة، البربارات مشحونة بالسمسم، القرويون يقتسمون ظهرها الضيق، مر أمامي لوري، ثم كارو لماء الشرب، ناداني الطفل الذي يقود الحمار باسمي، عندما التفت إليه معيرا إياه كل انتباهي خاطبني قائلا: صاحبك أمبارح نجمتو الصافية.
قلت مندهشا: شنو؟
قال مكررا في استمتاع خاص، ولذة قوالاتية بالغة: صاحبك الصافية أمبارح «بالأمس» ورتو «أرته» نجوم النهار.
قلت بسرعة: وين؟
قال وهو يطرق برميل الماء إعلانا لمائه: أمبارح، بعدما مشيت خليته، وسبته إنت وود أمونة في بيت أدي مع الصافية.
سوق القنزي
افتقدت ود أمونة فور دخولي إلى حوش بيت الأم، كان غيابه واضحا.
قالت لي ألم قشي: ود أمونة قاعد يعلم العروس. - يعلم العروس؟ يعلمها شنو؟ - يعلمها الرقيص، إنت ما عارف إنه ود أمونة فنان؟ ورقاص، وحنان، وحلاق برضو؟
هززت رأسي إيجابا، ولكنني كنت أقصد بيني وبين نفسي نفيا تاما.
أضافت في شهية: العروس بت أبرهيت، حيعرسها محمد عوض كاجوك، سواق البربارا، يمكن سمعت بحمدو.
هززت رأسي إيجابا بما يعني: إلى حد ما.
قالت لي ألم قشي: ود أمونة لو ما الله ستر كان حيجي بت.
ضحكت وقلت: وبيعمل عمل البنات، ظاهر عليه ما راجل.
قالت وهي تضحك: ما في مرا «امرأة» جربته حتى الآن، وما في راجل برضو جربه حسب علمنا ومعرفتنا، غير حكاية الطباخ الفي السجن لمان كان صغير، تاني ما في شيء، حسي هو راجل عمره عشرين سنة، أو أكثر، ولكن أبوه غير معروف.
قاطعتها: قال أبوه يماني. - عشان لونه الأصفر ولا شنو؟ - هو قال كدا، أمه قالت ليه.
قالت وهي تدلك رجلي بعجينة دلكة: كل الناس عارفين قصة أمه.
حكت له أن أمونة عندما هربت من أسرتها، قبل ثمانية وعشرين عاما، وكانت أسرتها في قرية نائية في الغرب، أن سائق اللوري الذي صادفته في الطريق مارس معها الجنس، وأن المساعد الذي يعمل معه أيضا مارس معها الجنس، وأن الجلابي صاحب العربة أيضا، وعندما وصلت مدينة القضارف، صاحب الكارو الذي استقلته لحلة البنات أيضا مارس معها الجنس، ثم اليماني صاحب الدكان، النذير شيخ الحلة، ود جبرين صاحب اللوكاندة، وراجل المرأة التي استضافتها في الحلة، والأستاذ زكريا المعلم بمرحلة الأساس، ثم حبلت بود أمونة، وهذه الحكاية أنا سمعتها مباشرة من كلتوم بت فضل، وهي أعز صديقات أمونة، وقالت أمونة قصتها لها بنفسها. - ولكن ود أمونة طلع يشبه منو؟ - والله أنا الجماعة ديلك كلهم ما شفتهم، ولكن لونو دا لون أمه، إنت ما شفت أمه، أمه بيضاء وجميلة زي القمر، بالرغم من إنها كبيرة حسي، ولكنها جميلة. - وين هي؟ - متزوجة من عسكري سجون في القضارف، ولدت ليه بت، كان شفت أمه الليلة تقول عمرها ثلاثين سنة، دلكة، وخمرة، وحنة، ودلال.
ثم أضافت: يمكن أمه هي الخربته «التي أفسدته»؟ - كيف؟ - كان مدلع. - لكنه قضى معظم حياته في السجن. - برضو في السجن كان مدلع، دلعنه السجينات والمساجين والعساكر، تحت الناس بيقولوا العساكر كانوا بيستعملوه.
الجو صحو، والسماء زرقاء وصافية، كنا نجلس تحت الراكوبة الكبيرة أمام القطية، وهي أجمل الأمكنة للونسة، وشرب القهوة، ولا أظن أن أول من ابتكر الراكوبة كان يعني بها شيئا آخر غير المؤانسة، سألتني: وين صاحبك؟ - مع مختار علي. - صاحبك دا زول غريب.
هززت رأسي إيجابا.
أضافت: يوم حيكتلوه.
قلت لها: لا، ما في زول حيكتله، دا ما النوع البيموت مكتول.
قالت: والله في الحمرة في فريق قرش ما بياخد عشرة دقايق، شفت العملية العملتها فيه الصافية؟
قلت لها: الناس هنا يزيدوا الحكايات، وكل زول بيحكي الشيء البيتخيله كواقع.
ثم أخذت تحكي لي القصة كما تظن أنها الحقيقة، وقاطعتها عدة مرات محاولا محاصرتها؛ لكشف تناقض قد يبدو لي هنا أو هناك في الحكاية، ولكنها مضت في حكيها بثبات وثقة العارف المتأكد، ثقة من شاف، ولو أنها وغيرها لم يروا شيئا، وهذا حسب ادعائي أنا أيضا، لكنني فضلت عدم الخوض في هذا الموضوع، خاصة بعدما انضم إلينا ود أمونة، كانت تفوح منه رائحة الخمرة، والعطور النسوانية البلدية، كان ناعما، لامعا، ونسوانيا أكثر مما رأيته من قبل، قال إنه مستعجل، واشتكى من أن العروس شترا، ولم يستطع أن يرقصها إلا على الأغاني الحبشية. - وحتى الأغاني الحبشية بالله ويا مين، الدلوكة في جهة والرقيص في جهة، وووب علينا من دي شغلانة.
خاطبني قائلا: صاحبك أمبارح الصافية طلعت ميتينه.
وأخذ يقهقه بالضحك إلى أن سمعنا صوت صديقي يلقي السلام: شنو مبسوطين كدا يا شباب؟
استأذن ود أمونة مدعيا أنه مشغول بالعروس، تناولنا وجبة الإفطار فيما يشبه الصمت، وخرجنا إلى سوق العمال، حين وصلنا كانت هناك بوادر ثورة على الجلابة، وبدا لنا أن الأمر جدير بالمشاهدة، فمثل هذه الحوادث نادرا ما تحدث، تركنا ألم قشي في المنزل.
سوق العمال في كل سبت، عند الميدان الكبير، الذي يقع جنب المركز الصحي، الذي شيدته منظمة عابرة تسمى «كرستيان أوت ريتش
Christian Outreach »، كمقر لرعاية الأمومة والطفولة، احتلته فيما بعد مؤسسة التأمين الصحي التجارية مشردة الأمهات والأطفال، فيعرف الآن بميدان التأمين الصحي، تحت شجيرات النيم الخمس، يقع سوق «على الله» يؤمه العتالة، الجنقو، البناءون، النجارون والسماسرة، كانت لاندروفرات، باربارات، بكاسي ولواري الجلابة تصطف عند الجانب الجنوبي من السوق قرب موقف الشواك، حيث سوق الميكانيكية والحدادين، الزيوت والإسبيرات، التجار الجلابة في جلاليبهم الكبيرة، أوجههم المنعمة، يتوسطون حلقات العمال يساومون، يفاصلون، يخادعون، يحاورون، يجادلون، يتاجرون ويسترضون، سألنا جنقوجوراية جميلة بنية اسمها بت الملايكة، فشرحت لنا ما يحدث: أول مرة يحدث في البلد دي يتفق الجنقو على سعر واحد، كلهم بدون فرز.
كان واضحا أن ثمة أمرا قد تم ترتيبه وأن اتفاقا ما قد وقع بين العاملين، كانت وجوههم السوداء والبنية، الغبشاء والتي يبدو عليها ما تبقى من ليلة الأمس واضحا جليا، تلك الوجوه المرحة المتسامحة غير المبالية، تبدو اليوم أكثر جدية وخطورة ، تنطق جملة واحدة فقط: حلة السمسم بتسعة جنيه.
يقول التجار بسعر ثمانية، ويشتكون بأن الثمانية التي يعطونها الآن مقابل أن يقطع الجنقوجوراي حلة واحدة من السمسم لا تطاق، فكيف التسعة؟
يعلم الجنقو، ويعلم الجلابة، أن السمسم هو صاحب الكلمة الأخيرة، وما هذه المساومات والحجج التي تدور الآن سوى مضيعة لوقت الجلابي، وفعلا عندما ارتفعت الشمس في قبة السماء هبت ريح شمالية حارقة أرقصت المكان، سمعت أغنيات السمسم موقعة على دلوكة ود أمونة في محاولاته البائسة في ترقيص العروس الشتراء، فتفتقت السنابل السمينة ممزقة ثيابا يريد لها الجلابي أن تبقى إلى حين أن يصلها المنجل، منجل الجنقوجوراي الحنين، الشمس الآن في برج السمسم بالذات، القمر الذي سوف يطلع عندما تغيب الشمس، بفعل المد والجزر، هذان الفعلان الشيطانان، سوف يفتقان فساتين السنابل، فيندلق الذهب منها إلى الأرض، يلتقطه نمل نشط لا يكل ولا يمل، فيحتفظ به في صوامع أمينة تحت الأرض لأيام الشدة، تحرسه بركة الملكات الرءومات، الجنقو متأكدون من أنهم سوف يكسبون الرهان، والجلابة أيضا يعرفون أنهم سوف يخسرون، ولكن بعض الحوار قد يفيد، دخل الوسطاء، سماسرة، وكلاء مشاريع، داعرات شهيرات، أصحاب لكوندات، سائقو بوابير، تجار الكلام، واقترح البعض أن يأتوا بعمال من محلية الفشقة المجاورة، عمال مهرة ولا يكلفون كثيرا، وأن يتركوا هؤلاء الثائرين وسوف يندمون.
ضحك الجنقو عندما سمعوا بذلك قائلين لبعضهم البعض: هه، الفشقة؟ يخلوا سمسم الفشقة لمنو «لمن»؟
اقترح الجلابة لأنفسهم بصوت مسموع: نجيب عمال من معسكر اللاجئين.
ضحك الجنقو قائلين: لاجئين؟
أنتوا بتحلموا؟ اللاجئين في المعسكرات بقوا أغنى من المواطنين، يحمدوا ربنا الخلقهم.
وما في لاجئ فاضي لقطع السمسم.
اقترح الجنقو لأنفسهم بصوت مسموع: أحسن نحن ذاتنا نسيب الشغلة بتاعة السمسم الما نافعة دي، ونشتغل مع شركة الاتصالات في حفر الكوابل.
قال جنقوجوراي بصوت عال غليظ: أنا لو أشتغل زي ود أمونة، ما بقطع السمسم بثمانية تاني.
قال الجلابة لأنفسهم بصوت عال: حنجيب عمال من خشم القربة.
قال الجنقو لبعضهم البعض: إلا لو عايزين طنبارة «مغنين » ومدرسين.
ثم هتفت الصافية قائلة: أرح يا شباب نمشو «نذهب»، «القوقو» قال داير الحلة، أرح نكمل سكرة أمبارح، النسوان في انتظاركم يا أولاد.
وعندما تحرك فوج العمال نحو الحلة، وعندما قاصد مباني البنك تحت التشييد، تحدث السمسم سرا لجيوب الجلابة فقالوا: رضينا بالتسعة، وإن شاء الله ما تنفعكم، وتبقى ليكم بالساحق، والماحق، والبلا المتلاحق.
قال الشايقي وهو يبصق سفة تمباك كبيرة على الأرض: نحن قروشكم دي عندنا زي قروش الحرام، نشربها بالنهار، ونبولها بالليل.
قبل الجنقو ولكن على ألا يذهبوا اليوم، بل غدا؛ لأن القوقو إذا اتجه إلى مكان ما، لا بد أن يواصل مشواره، سيكملون سكرة الأمس، فالقوقو يتجه الآن نحو الحلة، ومخالفة اتجاه القوقو شؤم ما بعده شؤم.
في الصباح الباكر غادروا إلى المشاريع، ما عدا مشروع الجلابي سماعين؛ قالوا إن عليه أن يتأدب، مما أعاد الاعتبار إلى مختار علي، فبكى من الفرح.
ونحن راجعين إلى داخل الحلة سألت صديقي: شنو حكايتك أمبارح مع الصافية؟
قال لي وهو ينظر بعيدا: حأحكيها ليك بعدين، حتعرف كل شيء.
قلت له: قالوا فعلت بك الصافية فعلة نكراء؟
قال مندهشا: فعلت بي شنو؟ - قالوا إنو الصافية عندها «موضوع» زي بتاع الرجال، وأكبر شوية، نص حمار مثلا، يعني قدر بتاع الدحش كدا.
قال وهو يبتلع ريقه في ضيق بين: حأحكي ليك، الموضوع مختلف تماما، الناس هنا مغرمين بالأساطير، هو موضوع غريب، لكن ما عنده علاقة ببتاع حمار، ولا بتاع كلب، ولا بنية الوعي التناسلي.
جلسنا على قهوة في سوق العيش قرب الصيدلية، كان الجنقو يعبرون أمامنا إلى بطن الحلة جماعات جماعات، يتحدثون بأصوات عالية، وبلكنات كثيرة مختلفة، يثيرون الأغبرة من مشيهم السريع؛ حيث يسحبون أرجلهم سحبا على الأرض، يضحكون وهم يحاكون الجلابة، أخذ أصحاب المطاعم يغلقون أماكنهم، ونساء الشاي والطعام يفعلن الشيء نفسه؛ لأنهن يعرفن أن السوق قد «سبح وربح» وأن الجنقو لا يقنعهم الآن سوى مجلس الشراب، على النساء أن يلحقن بهم في الحلة لكي يبعن لهم العرقي، أو يهيئن لهم المفارش ، فهذه الأيام هي أيام الحصاد والمحصول هو الجنقوجوراي، دينه مضمون، ونقده أكثر ضمانا، بس كيف يدخل البيت، فالنساء يتخاطفنهم من الشوارع.
اعتذرت لنا صاحبة القهوة عن تقديم أي شيء لنا قائلة بوضوح: الرزق دخل الحلة، وعندي عرقي خايفاه يبور، أخير ألحق أبيع كباية كبايتين، ولا شنو يا إخواني؟ ربنا أجل سفرهم الليلة، فرصة، ولا شنو يا إخواني؟
هززنا رأسينا معا بالإيجاب، ونهضنا في وقت واحد من «البنبرين» مظهرين رضا تاما بقرارها، بل عن طريق حركات مقصودة، وهمهمات طيبة، أكدنا لها أنها تفعل الشيء الأكثر صوابا، وربنا يكون في عونها، تمنينا لها ذلك بصدق وإخلاص مما جعلها تترك لنا «البنبرين» في الراكوبة، طالبة منا عندما نغادر أن ندخلهما الحجرة، ونغلقها بالطبلة، التي تركتها دون إغلاق. - سمح يا إخواني؟
رد عليها بحنية: سمح يا أختي، سمح.
قلت لها: شكرا.
وقالت وهي تنسحب وعلى رأسها قفة المهمات: أنا بيتي جنب بيت الأم.
ونظرت إلى صاحبي نظرة فيها معان كثيرة، وخيل لكلينا أنها ابتسمت، الشيء الذي أكدته لنفسي أنها لم تبتسم، رأيت وقع ذلك حزنا طفيفا على وجه صاحبي، ذهبت وهي تترنم بأغنية بنات هابطة، قال لي: تقصد شنو الزولة دي؟
قلت له دون مبالاة: تقصد موضوعك الامبارح مع الصافية.
قال: لا بد من أن ود أمونة هو النشر الدعاية دي؟
سألته: إنت عملت شنو بالضبط؟
وأكدت له أن ود أمونة كان يرقص العروس في ذلك الوقت، بعدما قام بتوصيلي إلى بيت مختار علي، سمعت صوته يغني بالدلوكة: «اللولية بسحروك يا لولة الحبشية.»
وتقريبا ناس الحلة كلهم كانوا يسمعونه، صمت صمتا طويلا، وهي صفة يتسم بها أيضا، خاصة إذا كان يفكر في أمر شائك، لم أجد سببا وجيها يمنعه من أن يخبرني بالحقيقة، فبيني وبينه دائما الصراحة والوضوح، وليست الحواجز والصمت.
مر أمامنا نفر من ضباط الجيش يتبخترون في مشيهم كالطواويس، سألنا موظفون من شركة الاتصالات ما إذا كانت بخيتة موجودة، قلنا لهم إنها في المنزل، فذهبوا نحو الميس، كان صديقي يعرف بعضهم ومن بين هذا البعض مدير الشركة، مر بنا عمال يلبسون أفرولات زرقاء، وسوداء، وبيضاء، عليها بقع من الزيت، تشهد الحلة هذه الأيام نهضة تنموية ينظر إليها الجميع بعين التفاؤل والتقدير، ويهتم الأهالي ويشجعون مظاهرها الخارجية، وتنظم البنات الأغنيات عن المعلمين، وضباط المحلية، والشرطيين، ومهندسي شركة الاتصالات، وحتى عمال طلمبة الوقود بشارع همدائييت.
سألنا رجل وهو يدخل نصفه في الراكوبة: بخيتة مشت وين؟
قلت له: في البيت.
فنظر إلى صاحبي نظرة فاحصة وقال: إنتو جداد في البلد دي مش كدا؟ «أنتم جدد في هذه البلدة، أليس كذلك؟»
قلت له: نعم. - نازلين في بيت الأم؟
قلت له: نعم.
ابتسم ابتسامة عريضة، أظهرت أسنانا متفرقة بنية؛ بفعل التسوس والصعوط، فسر صاحبي هذه الابتسامة بأنها نوع من السخرية، أو الشماتة، وحكى لي ما سماه كل شيء حدث بينه وبين الصافية، حتى يغلق هذا الباب على الأقل من جهتي.
سبعة يوم عوضيه بيي
البلد، ويقصد الحلة، لم يكن بها في الماضي سوى المرافعين، الحلوف، أبو القدح والقرود والثعالب، وفي كل مكان تلقى الجنون، في الكرب، وطرف البحر، وحتى في باطن الحلة، ساكنة مع الناس، الحلة كانت عبارة عن بيت واحد كبير جدا مزروب بالشوك، بيت طوله نحوى ألف متر وعرضه أكثر من ذلك بكثير، ومحروس بالكلاب وهو بيت الصافية الحبوبة، في الداخل كان مقسما لبيوت كثيرة، كلها قطاطي من القش، والقصب، ورواكيب كبيرة من حطب الكتر والدهاسير، وفي المنتصف توجد مطامير الذرة، والدخن، وخمارات الكول، كل الجدد القادمين إلى الحلة يجدون لأنفسهم براحات يبنون فيها قطاطيهم داخل هذا الحوش الكبير.
أما العابرون إلى جهات إثيوبيا، وإريتريا، أو الصعيد، الذين أتى بهم الطريق فإنهم يستضافون في ديوان الجدة الصافية، حيث توجد زاوية الصلاة، وسبيل للمياه والمستراح؛ وهو عبارة عن حفرة معروشة بالحطب القوي والقش تستخدم كمرحاض، وقد عبر بهذا الديوان حجاج جاءوا من تشاد، نيجيريا، النيجر والكاميرون، وحتى مغاربة بيض الوجوه لهم ذقون ولحى طويلة شقراء، استراحوا هنا، وهم يمضون نحو باب المندب إلى اليمن ثم إلى مكة، كان بعضهم يقيم لأكثر من عام فيتخذ لنفسه أرضا، يقوم بفلاحتها وزرعها بالسمسم والدخن، وقد يتزوجون وينجبون الأطفال، منزل واحد كان مركز الدنيا، وامرأة واحدة كانت سمعتها تملأ الشرق كله، وقد نقل سيرتها الحجاج إلى بيت الله الحرام بمكة، ولما رجعوا لأهلهم حكوا لهم عنها كذلك، في الحقيقة ما كانت الصافية الجدة هي مؤسسة هذا النزل، ولكنها الأشهر بين صافيات كثيرات عشن في هذا المكان، سلالة جد جاء هاربا من سجن في الحمرة في سنة موسومة بسنة النجمة أم ضنب التي لا تظهر إلا في السنوات التي سوف تشهد أحداثا عظيمة، كان نجما كبيرا تبختر في السماء بذيله الطويل لأسبوع كامل، جدها «اتهم» في إثيوبيا بسرقة بيت «القشي» نفسه، وسيقتلونه بالتأكيد ضربا، أو جوعا، المسجونون في ذلك الزمن الغابر يخرجون في مجموعات.
يربطون في حبل واحد من التيل، يطوفون بالأحياء والأسواق والمطاعم، يأكلون البقايا، ويسألون الناس الطعام والمال، التباكو والصعوط، وهي الوسيلة الوحيدة للحفاظ على الحياة، وتجنب الموت جوعا، فالسجن ليس مسئولا عن طعام المساجين، يكفي أنه يوفر لهم سقفا يقيهم المطر وحر الشمس، كان الجد عبد الرازق مع بعض أصدقائه في مطعم بالحمرة، قرب سوق همدائييت، وهي سوق يؤمه لفيف من السودانيين للبيع والشراء، ولأنهم يأتون عن طريق همدائييت عابرين نهر سيتيت؛ فقد سمي بهذا الاسم، كانوا يتناولون الزقني بالأنجيرا والشطة الدليخ، وهي وجبتهم المفضلة في إثيوبيا، عندما رأى توأمه عبد الرزاق مربوطا من قدميه في حبل من التيل مع عشرين من المساجين كانت حالته بالبلا، ووجهه أصبح عظاما من الجوع، تفوح منه رائحة كريهة، احتضنا بعضهما البعض إلى أن فرق بينهما السجان والمسجونون المتعجلون؛ حيث إن زمن البحث عن الطعام لا يمكن تضييعه في علاقات اجتماعية لا فائدة ترجى منها، وتكلما بلغة تخص قبيلتهما، ثم أعطى توأمه طعاما ومالا ووعدا صادقا، يعرف عبد الرزاق عن توأمه أنه خجول وعديم الحيلة، ولا يمكن أن يسرق شيئا مهما صغر وأهمل، ويعرف أيضا أن عبد الرزاق قد يموت بالسجن إذا لم ينجده، الحبشة بلد غربة، وهو لا يعرف رجلا مسئولا، أو وجيها إثيوبيا يستعين به، وحتى صاحبة البار التي كان دائما ما يختلف إليها، قالت له عندما حدثها عن محنة أخيه وتوأمه: لا، القشي حيقتلني، وهو ليس لديه مال للرشوة، أمامه بديل واحد فقط، ومضى نحوه دون تردد، عليه أن ينقذ توأمه مهما كلف ذلك، كان مختار علي يحكي لنا الحكاية كأنما حضر كل حادثة منها، أو أنه أحد أبطالها، على الرغم من أنه يؤرخ لذلك بين حين وآخر قائلا: دا حصل من أكثر من مية وخمسين سنة.
كنا نسير ببطء عبر الأزقة، لا نهدف لمكان بعينه، هي فكرة مختار علي، أن نتمشى قليلا في شمس الصباح؛ لأن بها فيتامينات مهمة، وأكد لي أنه حتى الثعابين تطلع من جحورها لتأخذ منها قوة النظر، صحته بدت في تحسن ملحوظ اليوم، كان متفائلا ويضحك لأتفه الأسباب، يتحدث بصوت عال، وهو ما ليس من طبيعته في شيء، وجدنا نفسينا ندخل زقاق بيت أداليا دانيال التي فاجأتنا من أعلى صريف بيتها: يا مختار علي، إنت وصاحبك تعالوا جوه، صاحبكم ذاتو قاعد هنا في بيتي، تعالوا اشربوا ليكم مريسة، وونسوا خشم خشمين.
قبلنا الدعوة الكريمة شاكرين، فالدنيا صباح والمريسة أطيب ما يستفتح به، وونسة الصباح هي مصيدة حكايات الليلة السابقة، سميتها وصديقي: جريدة الصباح، فالمريسة تطلق الخيال الذي بدوره يطلق اللسان، فينفتح القلب للقلب مباشرة، وتهبط ملائكة الحكايات الرائعة في المجالس فتحلو، وجدناه يجلس على بنبر كبير كشيخ أسطوري نسي من مذبحة العنج، على بنبر آخر قربه العجوز وهو أشهر مغن يستخدم أم كيكي في الحلة والحلال المجاورة أيضا، بالأحرى لم ير الساكنون مغنيا يستخدم أم كيكي غيره، ولم يسمعوا به مجرد سمع، يبدو أنهما أنهيا فاصلا ممتعا من الأغنيات؛ حيث إنهما الآن يتحدثان عن مناسبة أغنية:
سبعه يوم عوضيه بيي
أبو اللقنى روداي بقنيص.
فالتقطنا بقية كلام نطق به العجوز: ناس الكلش هم أصحابها الحقيقيين، أنا جبتها من قيسان، وسمعتهم يغنوها في قنيص والكرمك ، وحتى حي الزهور، وفي يابوس وكل حفلات الروصيرص، لكن أنا أول زول يغنيها بأم كيكي.
التفت إلي صديقي قائلا في انشراح: وين إنت يا أبو الشباب؟
ضحك، ضحكت أداليا دانيال، ضحك مختار علي، وضحك هو في هستيريا، قال لي: إنت الوحيد البتضحك عن معرفة.
قالت أداليا وهي تهز صدرها الناهد، فيما يشبه الرقص: يوم ليك ويومين عليك، كلنا عارفين يا أخوي، الدنيا أصلها كدا.
أحضرت أداليا دانيال العسلية، والمريسة، أحضرت الأم فتفت بالشطة الخضراء، والفول الدكوة، قالت: عندي موليتة.
قال العجوز: أنا أحب الموليتة.
سألتها: عندك أبنغازي؟
قالت وهي تشير بأصبع عليه خاتم كبير من الذهب إلى الشطة: فيها، الشطة فيها أبنغازي.
قدمت لنا أداليا الكئوس الأولى بيديها الناعمتين السوداوين، تبدو الحناء على أظافرها رقيقة ساحرة، شهية وأكثر سوادا، بمنزلها أيضا قليل من الجنقو، حيث سافر الجميع في الصباح الباكر لقطع السمسم، كان مختار علي، بين حين وآخر يذكر الناس بانتصاره على إسماعيل الجلابي: سماعين ود الكدك، ما لقى جنقوجوراي واحد يمشي معاه.
ودون رد أو تعليق من الحاضرين أخذ العجور يغني بصوته الشجي:
قيسان البعيدة.
قيسان البعيدة.
عندي فوقو الحبيبة.
قيسان البعيدة، عندي فوقو الحبيبة.
ولأن كل أغانيه جماعية يستحيل أداؤها دون كورس، أخذنا نردد خلفه المقاطع الأولى من الأغنية، وليست تلك مهمة صعبة؛ حيث إن كل الأغاني معروفة لدى الجميع، أنا وصديقي غريبان، ولكن ترديد جملتين لحنيتين بالسلم الخماسي، بهما كلمتان من اللغة العربية، وخمس كلمات من لغة البرتا، وثلاث بالأنقسنا ليس بالأمر العسير، ولو أننا قد نشتر عن اللحن والإيقاع أحيانا، ولكننا نغني خلفه بإصرار وحماس، مدتنا به عسلية ومريسة أداليا دانيال بجمالها ومذاقها الحلو، في الحقيقة لا يوجد غرباء هنا في الحلة؛ فور أن تنزلك بربارا أو يلقي بك باص كئيب، أو تهبط من ظهر لاندروفر، أو يرمي بك لوري في الحلة، أو بمكان ما في السوق، تصبح أحد أفراد الحلة المؤسسين، وتعرف كل شيء عن كل شيء، في ذات اللحظة وذات مكان الوصول، ويصرح لك بأن تسرد تاريخا متخيلا أو حقيقيا، يؤكد تواجد جدودك القدامى في هذه الحلة منذ أن كانت مفازة تسكنها القرود، والضباع، والشياطين بقايا مملكة سليمان وبلقيس، رقصت أداليا دانيال بصدرها المملوء باللبن بصورة رائعة، خلدت في ذهني إلى الأبد، تبرع جنقوجوراي شاب من قبيلة الوطاويط اسمه أغازي، ويعني بلغة البرتا المر، بأداء إيقاع الكلش السريع الصعب، بواسطة وعاء بلاستيكي يستخدم لتقديم المريسة، عندما انتهت الأغنية، صفقنا جميعا لأنفسنا؛ حيث كانت الأغنية من أداء الجميع، رقصت أداليا دانيال عنا بصدرها الناهد الوافر؛ ما جعلنا نطلب باقي المريسة «البايرة» عندها؛ لأن الجنقو الفدادة ذهبوا، وأعطيناها ثمن جردلين من المريسة لم نشربهما، بحر إرادتنا ووعينا، وحشر لها صديقي في فراغ ما بين النهدين في ما يسمى ب «وادي الكدايس»، ورقة نقدية كبيرة، همس لي مختار علي في أذني ونحن ننصرف: لو ما عملت كدا كان تبيع مريستها الحامضة دي لمنو «لمن»؟ وعسليتها البايرة؟
وضعنا سريرينا قرب قرب في المساء، كان الضوء الباهت يأتينا من داخل القطية في شكل عمود ضخم، حكى لي عن أسرة الصافية كما طلبت منه، الجدة ووالدها عبد الرازق، حدثني أن الجد جاء إلى هنا بعد هروبه العجيب من سجن الحمرة وعلى رأسه «الفرو»، وهو أول شخص في تاريخ الحبشة يهرب بالفرو، وربما في إيطاليا ذاتها؛ لأن الإيطاليين هم الذين جاءوا بالفرو إلى الحبشة، وهو يستخدم لتأديب الثوار واللصوص، شربنا قهوة أعدتها لنا إحدى الجارات، وناولتها لنا من على الصريف، مذكرة إيانا بأن اليوم هو عيد القديس يوهنس، باركنا لها العيد، واعتذرنا عن المباركة المتأخرة؛ لأننا ما كنا نعلم، قالت لي الجارة: ألم قشي تسلم عليك، سألتها بسرعة: وين ألم قشي؟
قالت وبصوتها احتفالية جزلة: هي قاعدة معانا هنا، عايز تشوفها؟
وجودنا في بيت مختار علي، حرمنا من حضور الاحتفال العظيم الذي أقامته أدي في منزلها؛ احتفاء بعيد القديس يوهنس، وحرمنا من وجبة الديوك الحمر والأم بابا، ولو أنه لم يكن هناك رقص وغناء نسبة لانشغال ود أمونة بتعليم العروس الشتراء ، إلا أن اليوم كما حكي لنا لاحقا كان «خطير»، على حسب تعبير ألم قشي، وأشير هنا إلى أن ألم قشي هو الاسم الذي يلاحقني في هذه الأيام، وأنا وهي متهمان بأننا ننوي القيام بخطوة ما كانوا يتوقعونها، يقولون إننا سوف نتزوج في عيد الأضحى القادم، وأقل الأقوال تفاؤلا بعلاقتنا هي أنني أحبها حبا شديدا، وهي أيضا متأكدة من حبي لها مثلها مثل الجميع، إلا أنا لا أعرف شيئا عن هذا الحب، كل ما أعرفه أن ألم قشي أول من أنهت عذريتي بصورة واضحة وطبيعية، وأنها إلى حد ما كسرت حاجز الخوف الذي بيني وبين المرأة؛ والحق يقال أيضا كنت دائما ما أتخيل نفسي بأنني سوف أفشل مع النساء حالما تتاح لي الفرصة كاملة، لذا كن يخفنني، كما أنني كنت مقتنعا بفكرة غريبة مفادها أنني إذا فشلت مع المرأة الأولى سوف أصبح عنينا بقية حياتي، ولم تنفع الشهادات الهشة التي كنت أستعين بها للدفاع عن رجولتي من حين لآخر، مثلا ذكرى صاحبة الطحانة التي اغتصبتني وأنا طفل، وذكرى أخت زميلي، ذكرى دحشة، ومعزة، أتيتهما وأصحابي المراهقون، ذكرى كلبة ألبسناها طبقا من السعف حول عنقها واغتصبناها، وأستاذة الجامعة الشبقة وغيرها من الممارسات غير السوية المقرفة، ألم قشي هي التي أعادت لي ثقتي بنفسي بحرفية عالية، بذكاء بالغ، بمتعة مدهشة، وجدت نفسي أتعامل مع امرأة كاملة طبيعية وإنسانة، أتينا الفعل في ليلة واحدة ما لا يقل عن عشر مرات، أو قل الليل كله، وعند الفجر، وقبل وبعد الإفطار، أعطيتها أجرها بكرم سخي، ثم لم نفعل مرة أخرى، ولو أننا تقابلنا وشربنا القهوة معا وتلامسنا، أما مسألة الحب، والزواج، وغيره، وغيره لم أعرف منها شيئا، ولم أفكر فيها أبدا، وإذا صدقت القول أنا لم أحب في حياتي مطلقا، وغالبا ما يصفني أصدقائي بأنني «بارد»، ألم قشي سيدة طويلة، لها بشرة ذهبية ناعمة، بل قل حمراء، لها عينان حبشيتان كبيرتان، يحيط بهما ظل ثقيل يكسيهما سحرا خاصا بساكني المناطق الجبلية والهضاب العالية ذات المناخات المطيرة ، فوق ذلك لم تكن بالسيدة الفاتنة فتنة ظاهرة صارخة، على الرغم من أن لها جسدا شهوانيا، وإلا لأصبحت عاملة بار ناجحة في الحمرة، أو قندر، أو حتى أديس أبابا ذاتها، ولكن ما يبدو من فتنتها أبعدها، كما تقول دائما، عن منافسة البارستات المحترفات شكلا ومهارة هنالك، وقادها إلى الأراضي السودانية الجديدة، حيث شيع وعلم عن السودانيين حبهم للحبشيات وتفضيلهن على نسائهم الوطنيات، وسبب ذلك كما تؤكد ألم قشي: الطهارة «الختان» وعدم الحنية، وعدم الحنية سببه الطهارة برضو، قلت للجارة الطيبة: قولي لألم قشي مبروك عيد القديس يوهنس، وأنا ح أجيها بعد شوية عندكم، أصدرت الجارة صوتا بباطن لسانها، وشفطت كمية من الهواء بفمها، فيما يعني في هذه الأنحاء: حسنا.
ساعدت مختار علي على الاستحمام، لأول مرة تقريبا يستحم، منذ أكثر من أسبوعين، أي منذ أن أصيب، حيث نصح بعدم الاقتراب من الماء، حتى لمجرد الوضوء للصلاة، عليه بالتيمم، نصحه أفراد كثيرون أصيبوا قبله بضربة الدم، وهو التصنيف المحلي لمرضه المجهول، عندما فرغنا من الاستحمام وجدناها في انتظارنا خارج القطية، في الراكوبة مضجعة على عنقريب عجوز دون لحاف، تظهر عري ساقيها بصورة استعراضية إيروسية في غاية الإغواء، قالت: طالما أنا رافض أن أزورها، فبادرت هي بالزيارة، ولكنها أكدت أيضا أنها لن تكرر هذه المحاولة: كلنا عندنا عزة نفس.
تشاغل مختار علي بأمر ملابسه، ونظافته الشخصية، سأعترف هنا بأن ألم قشي أحبتني، ولكن في ظاهر الأمر أنا الذي أغار عليها؛ لأنني طلبت منها أن تترك العمل مع أدي كفتاة مبيت، وتعمل طباخة في ميس شركة الاتصالات الجديدة، قلت معلقا ومحببا الفكرة: عمل شريف.
قالت بغنج، وهي تحاول أن تخفي عري ساقيها، بحركة أخرى أكثر إثارة: عملي مع أدي عمل شريف.
قلت لها: على الأقل أنا شايفه غير شريف.
قالت بإصرار: أنا شايفاه عكس كدا، دا شغل، العايز يدفع، وأنا بصراحة ما قاعدة أستمتع بالرجال، شغل يعني شغل.
وأكدتها باللغة التجرنة «سرح سرح بيو» ثم أضافت: العيب فيه شنو؟
عرفت فيما بعد، بعد سنوات كثيرة، وذلك بعد أن قرأت كتاب «نقد الفكر اليومي» لمهدي عامل، أن العيب الذي فيه تربيتي أنا، القيم الخاصة بي كآخر أقيم في ظرف مختلف، ونوع مختلف، وثقافة مختلفة، تراني أعترف بأنها فتحت لي آفاقا إنسانية فيما يخص علاقتي بالمرأة. وتراني استمتعت تماما بالفعل الجنسي معها، ولكنني رغم ذلك أنظر إلى الأمر كله بميزان الخطأ والصواب، وهذا فضح لرجل انتهازي يسكن في خبايا شخص مدع آخر وهما أنا، هذه شزوفرينيا أعاني منها كثيرا، ولا أظن أن الأمر له علاقة بالدين، أو السلوك الشخصي، المسألة معرفة فحسب طالما كنا أنا وهي ندرك أن الخير والشر، وكل الديانات، والكفر أيضا من ذات المصدر، وأن العمل مقدس. ناداني في هدوء، خاطبني قائلا: تعال ح أحكي ليك موضوع الصافية.
قلت له متعجبا: إنت مش حكيته لي أمبارح؟
قال وفي فمه ابتسامة تعبة: الحكاية القصيتها ليك قطعتها من رأسي، إنت حاصرتني، وأنا حاولت أفوتك، تعال يا مختار علي كون شاهد، هي حكاية على كل حال ظريفة، ولا رأيكم شنو؟
أشرنا برأسينا في وقت واحد إيجابا، وجلسنا على عنقريب وبنبر قربه.
شبق المرفعين
استيقظ إثر نداء الصافية له، كان قد نام على الكرسي الذي تركته عليه، دخل القطية الكبيرة، كانت شبه خالية من الأثاث، عدا سريرين من خشب السنط مفروشين بلحافين، لم يتبين تفاصيلهما، الإضاءة لحد ما جيدة، طلبت منه أن يجلس في السرير الآخر، جلس، قالت له: عايز تعرف حكايتي مع ود فور؟
رد عليها بدبلوماسية ليست من طبيعته: لو ما بزعجك الموضوع دا.
قالت وهي تأخذ نفسا طويلا من الشيشة فتصدر صوتا بائسا: كويس.
الخريف الفات كنت شغالة في مشروع الزبيدي، تعرف مشروع الزبيدي؟ وقبل أن تسمع إجابته واصلت الحكاية، كانت هي المرأة الوحيدة بين عشرين رجلا من الجنقو، وتستطيع أن تتذكر أسماءهم، اليوم، الشهر، والساعة، أنا وود فور كنا ماسكين مقاولة سوا في مشروع الزبيدي، كانا يعملان في فريق واحد، لاحظت أن ود فور في الآونة الأخيرة كان يتقرب منها كثيرا، ودائما ما يضع نفسه في مجموعة العمل التي تضمها، ولاحظت أنه يتعمد الالتصاق بها ومداعبتها، وبغريزة المرأة التي لا تخيب عرفت أنه يرغب فيها، وعرفت أنها تريد ذلك ولأي مدى، إنها لن ترفضه إذا طلبها للزواج، فهو شاب ونشط ومسئول، والأهم أنه كان دائما ما يحترمها، فهي ترغب في أن يكون لها أطفال، وبيت، ورجل، وفوق ذلك كله لها رغباتها التي يجب أن تشبع؛ لذا لم تدفعه عنها ولم تستمله إليها، تركته يقوم بالدور كاملا، وهي طريقة تجيد النساء تمريرها للرجل الغبي المتعجل العاشق الأعمى، وهي صفات لحسن الحظ يشترك فيها الرجال كلهم، «قلت لنفسي يا بت خلي المسألة على الله»، وبلع المسكين الطعم، أطلق المبادرة تلو المبادرة، إلى أن نفدت حيله الصغيرة المسكينة التي أجادت الصافية ادعاء تجاهلها، قال لي والدنيا ليل ولكن القمر أبيض في السما وكل شيء واضح: يا الصافية، أرحكي معاي للحفيرة نونسو «نحكي»، أنا ما قادر أنوم، شايفة القمرة بيضا كيف؟
تثاءب صديقي، شرب كوبا من الماء كان على الترابيزة جنبه، قفز على تفاصيل كثيرة كثيرة كثيرة، تحدث عما رآه فقط مهما، قال: إنها أصرت على أن تحكي تفاصيل تفاصيل ما حدث بينها وود فور، ربما يكون هو الشخص الوحيد في الدنيا الذي يفهمها، إنها لم تحكها لأي كان من قبل، ما من أحد طلب منها ذلك، اكتفى الجميع بالإشاعة، قالت له بألم: أنا تعبت، تعبت من الحكاية دي، عليك الله اسمعها كلها وما تزهج، وغرقت في التفاصيل، التفاصيل، التفاصيل، أكدنا له، أنا ومختار علي أنه ليس مطالبا بأن يختصر، فالليل طويل، ونحن ليس لدينا ما نفعله بما يتبقى منه: خذ راحتك، قال: قالت له: مشينا الحفير، طلعنا فوق الدولة، كان ذلك المكان هو الوحيد الذي لم ينم به عشب الخريف، هي تخاف من الثعابين حصرا، ولا تخاف شيئا آخر، طمأنها بأنه يمتلك ضامن عشرة مجرب، وأراها له مربوطا بصورة محكمة على ذراعه اليسرى، سويا مع سكينته، فرشا برشا صغيرا أتيا به، قالت لي فجأة، وقد علا شهيقها وزفيرها: قام جاري؟
قال لها مندهشا: منو؟
قالت وهي تمسك بيده بشفقة: ود فور، قام جاري «هرب» مني. - ليه؟
سأل محتجا.
قالت بصوت عميق مخنوق بعبرة مرة: جرى مني أنا، جرى ود فور.
ثم هدأت قليلا وهي تقول: كنت عايزاه، وبدأنا كل شيء، في الحقيقة كنت في حالة قريبة من الغيبوبة، ولكنه قام جاري، فجأة جرى زي المجنون.
أحسست أنها لا تستطيع أن تشرح أكثر من ذلك، من الأحسن ألا أطالبها، أو أجبرها على الحكي، أحسست بالشفقة تجاهها، قررت في الحال أن أضاجعها، وذلك لما توصلت إليه من تحليل متعجل بعض الشيء، وسريع لحالتها وهو: أنها تفتقد الرجل في حياتها، الذين يحيطون بها لم يعرفوا المرأة فيها، ما عدا ود فور، ولم ينتبهوا إلى الإنسانة البائسة، ولا يفهمون شيئا عن حاجاتها الصغيرة الحقيقية، باختصار كانوا يعاملونها كرجل في ثوب امرأة لا أكثر.
صدمت لاكتشاف الحقيقة، أو ما أسميته بالحقيقة الأولى، وهي أن رائحة جسدها لا تطاق، وقالت صراحة في ذلك: معليش، ما كان عندي وقت لنفسي، وقامت لأجلي بمسح جسدها بالماء، مستخدمة ملاءة قديمة من ملاءات الأم أدي، كانت لا ترتدي شيئا تحت فستانها، وهذه فضيلة؛ لأنني لا أطيق رؤية ملابس المرأة الداخلية متسخة أو ممزقة، ولدي فوبيا سرية من ذلك، ففور رؤيتي لما ذكرت، أصاب بالعجز الجنسي التام، كانت تحتفظ بعطر الخمرة في القوقو، لم تستخدمه من قبل، قالت إنها اشترته من دلالية متجولة قبل عام، وأخذت تدلك أطرافها به، عطر قوي جدا، كان تافها، لم يرق لي إطلاقا، الأمر لا يحتاج إلى كل هذا المجهود من جانبها؛ لأن الفكرة بسيطة، كما شرحتها لنفسي: سوف أحاول الجسد إلى أن يستجيب، وتصل ذروة نشوتها ثم ينتهي كل شيء، لا أكثر ولا أقل، الأمر في الحقيقة أقرب لمقاولة، وهذا في ظني ما تحتاج إليه الصافية، وأحتاج إليه أنا لأقنع نفسي بأنني قدمت لها عملا خيرا وإنسانيا كبيرا، بل ونادرا، فعلا حرمت منه طوال حياتها، وأتمنى أن أكون مخطئا في هذه الفذلكة، اقترحت هي اقتراحا آخر، وهو أن أتركها تستحم استحماما كاملا، وقوبل هذا الاقتراح أيضا من قبلي بالرفض، الموضوع لا يستحق كل هذا التعب، قامت، أغلقت الباب بصورة جيدة، ربما خافت أن يقتحمنا أحد الزبائن، أو يتلصص علينا ود أمونة، أو قل ربما أنها خشيت أن يهرب منها كما هرب ود فور من قبل، ولو أنه رفض فكرة قفل الباب، ولكن يبدو أن ذلك حدث بعد فوات الأوان، اقترحت هي أيضا اقتراحا آخر، وهو أن تبقى الإضاءة كما هي، وافق، ثم طرحت علي بسرعة مجموعة من الإجراءات لم يكن هناك داع لطرحها في ذلك الوقت بالذات، كل ما أرجوه أن ينتهي هذا الموضوع، وبأسرع ما يمكن، المفاجأة الأخيرة التي لولا قوة عودي، وعزيمتي، وصبري على المكروه لكانت القاتلة، قال إنه ليس بالسهل أن يصف لنا ما شاهد، بدا ذلك واضحا من الطريقة التي أخذ يتحدث بها، لا يمكن لشخص مثلي أن يتخيل ذلك مجرد تخيل، بل لا يمكن أن يخطر ببال شيطان رجيم، إذا كان للشيطان بال، قالت بصوت حزين: مما ولدوني إلى اليوم، ما قطعت شعرة واحدة منه، قالوا حلاقته تجيب النحس وسوء الحظ، وبرضو ما لقيت وقت، وقتي كله للشغل، بعد دا، ح أخلي بالي من نفسي شوية.
قلت لنفسي: الموضوع ما بيستحق، خلينا نخلص.
كنت مصمما على أن أجعلها تدخل تجربة جديدة مثيرة في حياتها، تجربة لا تنسى، بما يساوي نقطة تحول، قالت: قاعدة أنظفه وأسرحو بالمشط كل يوم جمعة.
حكى لنا بالتفصيل الممل، في الحقيقة ليس مملا، بل مؤذيا وضارا جدا، ثم أقسم، وأقسم، وقال: الصافية انقلبت مرفعين.
قلنا بصوت واحد كما لو كنا ممثلين في دراما تلفزيونية: مرفعين؟ - مرفعين عديل كدا؟
اللحظة التي وضع يده على عري جسدها، وبدأ يداعبها في أذنيها، وأنفها الكبير، بدأ الصوف ينمو في جسدها، صوف أسود غليظ خشن وقبيح، تماما مثل صوف الحمار، كان ينمو بصورة مذهلة، بسرعة رهيبة، ثم أخذت ملامح وجهها تتغير، برزت أنيابها، ثم أخذت تصدر صوتا غليظا، ثم انقضت علي كما لو كانت أسدا ضاريا، وأنا فريسة بائسة جريحة، حدث كل ذلك في ثوان معدودات، لا أدري كيف تمكنت من الهرب، عبر الباب المغلق، أم عبر الشباك الصغير، أو أنني قد اخترقت السياج اختراقا، لا أدري، ولكنني وجدت نفسي خارج القطية، خارج بيت أدي، خارج الحلة كلها، حدث ذلك في لمح البصر، خلع جلبابه وأراهما خدوشا في ظهره وأليتيه: ضحكنا.
أغنية الفرو، تيراب البنية، بوشاي، وأشياء أخرى
ذات صباح باكر، أرسلت لي ألم قشي ود أمونة برسالة شفهية، فهمت منها أنها تريد مقابلتي في بيت أدي الآن، المسافة ما بين بيت أدي ومنزل مختار علي حيث أقيم وصاحبي قريبة جدا وبعيدة جدا، يتوقف الأمر حسب العلاقات الاجتماعية مع الجيران والوقت ليلا أم نهارا؛ حيث يمكن استغلال ما يسمونه بباب الجيران؛ لاختصار مسافة كيلو متر من الهرولة عبر الأزقة والطرق الجانبية، إلى ما لا يتعدى العشرين مترا، وشخص مثلي غالبا ما تكون علاقته جيدة مع الجيران؛ لذا دخلت منزل أول جارة وهي سعاد، تبادلت التحايا وزوجها، ثم عبرت عرض المنزل إلى بيت الداية بت البرون، وهي امرأة عجوز طيبة بوجهها شلوخ عريضة وابتسامة دائمة، ليس لها زوج، ليس لها أطفال، بنت أختها التي تقيم معها كانت نائمة في تلك اللحظة، تبادلنا التحايا، وعبر باب الشارع كان علي أن أعبر منزل الدينكاوية الحسناء أداليا دانيال ولم تكن بالمنزل، عبرت بيتها، لأجد نفسي وجها لوجه مع باب مجمع أدي السكني، وجدت ود أمونة قد سبقني لبيت أدي وكي لا أموت دهشة، قال لي إنه ركب موتر مع الحاج البوليس الذي وجده مصادفة يمر بطريق منزل مختار علي، وذلك بعد أن أخبرني برسالة ألم قشي مباشرة، أومأت برأسي أن فهمت، بادرتني ألم قشي معاتبة: إنت ما سألت مني تاني؟ دا أسبوع كامل.
أضاف ود أمونة، بأسلوبه الخاص: وحات ربي، ألم قشي مما نامت معاك، تاني رجلها دي ما رفعتها لزول.
قالت ألم قشي بصورة مباغتة وهي تنظر في أم عيني: أنا ما عجبتك ولا شنو؟
أضاف ود أمونة: في زول ما بتعجبوا ألم قشي؟
قالت ألم قشي بغنج وهي تحرك صدرها بما يشبه الرقص: مزاج ناس المدن صعب يا ود أمونة، ديل متعودين على البنات اللي في التلفزيون يمكن، أضاف ود أمونة مخاطبا ألم قشي برقة خبيثة فاجرة: أنت ما أدخنت ليه ولا شنو؟
ادعت ألم قشي الخجل، أما أنا فكنت محرجا من كل شيء، مع وعيي التام بالشرك الذي أصطاد به، قلت: العفو، العفو، ألم قشي جميلة، ونظيفة، كل في الكل.
أضاف ود أمونة: أنا ح أدخنها ليك الليلة، وأدلكها وأبقيها ليك عروس عديل كدا، قصرت معاك؟
قلت له مجاملا: إنت ما بتقصر، ولو إنها كدا كويسة معاي.
قالت ألم قشي: كويس، عايزاك في موضوع تاني، موضوع الشغل مع ناس شركة الاتصالات. - يعني خلاص وافقت على الشغل؟
قالت دون مبالاة وهي تهز صدرها بتلك الصورة المدهشة: قلت أجرب، يمكن ربنا كاتب لي رزق في مكان تاني.
تعرف ألم قشي أن العلاقة بيني وبين موظفي شركة الاتصالات الوافدة حديثا للمنطقة هي عبر صديقي، فهو تربطه علاقة شخصية بالمدير، وقد طرح علي فكرة أن تعمل ألم قشي طباخة في ميس الشركة؛ إذ إن الموظفين لم يحضروا زوجاتهم بعد، في انتظار اكتمال البرج والتوصيلات الأرضية، وإحضار الأجهزة الإلكترونية، وغيرها من الأشياء التي تؤكد استقرار العمل، قلت لها: كويس، ح أكلمه أقول ليه: ألم قشي وافقت.
طلبا مني أن أشرب معهما قهوة الصباح، إلا أنني تعللت بارتباطي بمختار علي وصديقي في البيت، وأننا سوف نذهب معا كما اعتدنا أن نفعل في الأيام الأخيرة إلى العجوز؛ حيث نحتسي عندها القهوة، وأنا أخرج من المنزل سألني ود أمونة إذا ما كنت سأحضر في المساء، أكدت له ذلك، فغمز لي بعينه اليسرى بما يعني ما يعني، ابتسمت أومأت برأسي مباركا مساعيه وشاكرا.
يبدأ صباحي كالعادة بكسل يتسم به العاطلون عن العمل ولديهم مصدر رزق يحول دونهم والموت جوعا، وليست عليهم مسئوليات أسرية، عبارة عن مطاليق مثلي يبحثون عن متعة المشاهدة لا أكثر، لدينا زبونة واحدة فقط نشرب عندها قهوة الصباح، شمطاء، تستغل راكوبة بيتها لتقدم الشاي والقهوة للعابرين من الجنقو، والعمال الآخرين، بيتها في أقصى الشرق على طريق همدائييت، حيث يعمل عدد من العمال على تأسيس طلمبة الوقود، ذهبت إليها وحدي إذ إن صديقي فضل دخول الحلة، أما مختار علي فلبى دعوة جارة حبشية كريمة، طلبت منه أن يشرب معهما هي وزوجها قهوة الصباح، وكما هو معروف لا يرفض عينة هذه الدعوة إلا شخص أهبل، فالناس يؤمنون هنا أن لا أحد يصنع القهوة بمهارة تفوق الحبشيات، أعدت لي العجوز قهوة وعليها كمية أكبر من الزنجبيل، وهي علامة أنني من مدينة كسلا، بينما أنا من مدينة القضارف، مر أمامنا شرطيان يتبعهما شيخ الحلة، وبعض أعضاء اللجنة الشعبية، رموا علينا السلام ومضوا في عجلة نحو الطلمبة. قالت لي العجوز: إمبارح «بالأمس» واحد من عمال الطرمبة ديل طعنوه. - طعنه منو؟
قالت وهي تحرك جمرة صغيرة بملعقة السكر: أولاد من المعسكر، معسكر اللاجئين القريب دا، كانوا بيلعبوا القمار مع بعض واختلفوا، كلهم كانوا سكرانين لط.
قلت لها: إن شاء الله ما اتعوق شديد؟
قالت بحسرة: مات قبل شوية في مستشفى الشجراب، شالوه بلوري عثمان عيسى لخشم القربة، لكنه مات في السكة.
ثم أضافت: إنت ذاتك بتعرفه.
وأخذت تصفه لي، ولكنني، وهي عادة سيئة عندي، عندما يموت شخص أعرفه معرفة غير عميقة، أقصد معرفة عابرة، فإنني أنسى ملامحه، بل قد لا أتذكر أنني قابلته من قبل، الأمر الذي يكون سهلا إذا ما زال على قيد الحياة، لا أعرف ماذا وراء ذلك. - هو واحد من زبايني، أنت شفتو هنا في راكوبتي ذاتها.
قلت: الود البرناوي؟
قالت ضاحكة: يشبه البرنو، ولكنه مولد.
وشرحت لي أن تسعة وتسعين في المائة من سكان الحلة ليست لهم أجناس، ليست لهم قبائل، كلهم مولدون، أمهاتهم حبشيات بازاريات، بني عامر، حماسينيات، بلالاويات، أو أي جنس، وآباؤهم في الغالب إما غرابة: مساليت، بلالة، زغاوة، فور، فلاتة، تاما، أو حمران وشكرية، أو شلك ونوبة ونوير، وفي قلة من الشوايقة والجعليين، وكضاب الزول البقول عندو قبيلة هنا، ولا جنس ولا خشم بيت، قلت لها متحديا: كويس أداليا دانيال؟
قالت: أداليا دانيال أمها دينكاوية، أبوها أشولي، وراجلها لكويا.
قلت: إنت؟
قالت: أنا أمي بازاوية، وأبوي أمو حبشية وأبوه مسلاتي، وولدي متزوج من الحباب من أسرة الكنتباي ذاتها، وأنت عارف الحباب ديل ناس سمحين، وكل الأجناس القلتها ليك دي هي مجرد أسماء، ولكن في الحقيقة انمحوا في بعض، بس الواحد فيهم بيتمسك بقبيلة الأب، وطبعا دا كلام ساي، الدم كله من الأم، والروح من الأم، والأبو دا عنده شنو غير الموية؟ ثم أخذت تعدد لي الأشخاص وكيف خلطوا، وختمت حديثها بما يعتبر من المسلمات: أهلنا ديل يموتوا في الحبشيات، وحكت لي قصة الحاج الذي ألهاه الشيطان عن اللحاق بركب الحج، حيث تمثل له في شكل فرج أنثى على فرع من شجرة لالوب شائكة استظل تحتها بمصوع في طريقه إلى مكة، حيث أخذ الحاج يرمي العضو بالحجارة لكي يسقط في الأرض، يهتز العضو، ويكاد يسقط ولكنه يبقى في مكانه، وهكذا ظل الحاج يرمي الحجارة إلى انتهى موسم الحج، ولم يحظ بالعضو الجيد، ولم يحظ بالحج.
قلت لها: الصافية دي شنو؟ - جدها مسلاتي، أمها من الأمهرا من جهة الأم، فوراوية من جهة الأب، وبيتهم فيه البازاوي، والحبابوي، والقمراوي، والإنقريابي، والرباطابي، وحتى الحلفاوي، والمحسي، والدنقلاوي.
قلت لها: كويس الجنس البينقلب مرفعين دا شنو؟
قالت بطمأنينة العالم العارف: الحكاية كلها في اللبن.
صبت لي فنجانا آخر من القهوة، وهي تكمل حديثها: الحكاية كلها في اللبن، من جهة الأم، وخلط اللبن باللبن ما كويس، الواحدة تخلي أطفالها يرضعوا هنا وهناك، وهي لافة من بيت لبيت وما عارفة الناس، فيهم تيراب البنية البعاتي، وفيهم البنقلب غراب، وفيهم البنقلب أسد، أو مرفعين، أو برطا برطا، وفيهم البياكل الناس عديل كدا، وفيهم السحار، والبلد ملانة بالجن، تلقاهم في شكل نسوان، ورجال، وحمير، وكدايس، وشجر، وربنا يكون في العون، وحتى البومة دي لو لقت طفل وحده بترضعه، وربنا يكرم السامعين، دا هو تيراب السحارين، اللهم احفظنا واحفظ المسلمين، آمين يا رب العالمين.
قلت لها: أسرة الصافية هي أول أسرة في البلد هنا، مش كدا؟
قالت، وقد بدا عليها الارتباك قليلا: منو القال ليك أسرة الصافية، الصافية السكرانة دي ربيناها نحنا في أسرتنا تربية، أمها ولدتها ورمتها لينا هنا، وفاتت ما في زول يعلم وين، وأنا السميتها الصافية على جدتي، الأسرة الكانت هنا هي أسرتي أنا، ثم حكت لي الحكاية الحقيقية، وما عداها اعتبرته تشويها دافعه سوء النية، والجهل، والحسد، عندما جاء أهلها إلى هذا المكان، لم يكن به سوى الثعالب، المرافعين، القرود، الحلوف، أبو القدح، الأرانب، والصقور، والحبار، وأحيانا يرى الناس بعض النمور، كانت هناك غابات كثيفة من شجر الكتر، واللالوب، والهشاب، وبعض السيال، وعند الخيران، وبرك المياه، تنمو أشجار السنط، أما في الكرب وعلى شاطئ النهر فالعرديب والتبلدي، ولكن البلد مشهور بالجن وأبي لمبة، منذ أن تغرب الشمس يخرج أبو لمبة، كانت أسرتها في طريقها إلى مدينة القضارف، بعد أداء شعيرة الحج، حيث إنهم قدموا عن طريق اليمن، باب المندب، مصوع، الحبشة ثم إلى هنا، وقد داهمهم الخريف في هذا المكان، فأقاموا وبنوا أول منزل، قطع جدها وأبناؤه الأشجار، نظفوا الأرض، وزرعوا محصول الذرة والدخن والسمسم، قالت: دا قبل أكثر من مية، مية وخمسين سنة، حكت لها بذلك جدتها عن جدتها عن جدتها، قالت: جدنا الأكبر اسمو عبد الرازق وله توأم اسمو عبد الرزاق، حبوبتي قالت، حبوبتها قالت ليها: كانا يعملان في تجارة الحطب، والمحاصيل الزراعية التي ينتجانها، حيث يقومان ببيعها إلى الحبش في الحمرة، وبحر دار، وحتى نواحي قندر، قد يسافران لأيام تطول، بينما يبقى أبواهما في المنزل مع أختهما الصغيرة وهي التي تسمى الصافية، حكت لها جدة عن جدة عن الصافية، كان عمرها لا يتجاوز السنوات العشر في ذلك الوقت، ولكنها تتذكر إلى الآن اللحظة التي جاء فيها أخوها عبد الرازق التوم على رأسه طوق من الحديد، مربوط بشكل محكم، عيناه محمرتان وبارزتان إلى الخارج ولسانه خارج فمه مثل لسان الكلب، ورغم ذلك كان صامتا، فقط يصدر صوتا من صدره مثل نداء البوم، فهب إليه أبوها وأمها وأخوها عبد الرزاق، الذي خرج من السجن قبل يومين فقط، تذكر إلى الآن جملة واحدة وهي: أنا ممكون بالفرو.
وكان جسده كله يتصبب عرقا، أخذ أبي يقرأ على رأسه آيات من القرآن، ولكن عبد الرازق قال له: المبرد، المبرد يا حاج.
وفعلا أتى أخي عبد الرزاق بالمبرد، وقاما بقطع الفرو، وكانت لحظة عجيبة جدا، كلنا أحسسنا بالراحة، وكأنما هو ولد من جديد في تلك اللحظة، ولم يهتم أحد من الأسرة إطلاقا بالهواء العظيم الذي اندفع من دبر أخيها عبد الرازق، في شكل دوي هائل مدهشا سكون هواء الخريف الثقيل، ناثرا عفونة إسهال حبيس بئيس، ثم استفرغ، ثم نام، أيقظه أبوه في منتصف الليل، حيث أطعم، ثم نام مرة أخرى تاركا الأسرة كلها قابعة قرب رأسه ينظرون إليه مندهشين، وكان عبد الرزاق بين حين وآخر يردد: أنا السبب، دا كله عشاني أنا.
لكن أمه كانت تخفف عنه بالقول: في النهاية أخوك، تكررها في قلق، قالت لي العجوز وهي تحكي باستمتاع وقد نسينا فنجانا من القهوة يقبع في صمت فتساقط عليه الذباب: كان المساجين في الحبشة وإلى وقت قريب لا يطعمهم السجن، يربطونهم ليشحدوا في السوق والاندايات، وأثناء ما كان عبد الرازق يتناول طعاما في سوق الحمرة مع أصحابه التجار إذا به يرى توأمه عبد الرزاق مربوطا ضمن عدد من المسجونين يسأل الناس طعاما، كاد يقف قلب عبد الرازق من المفاجأة: تومي عبد الرزاق؟ أطعمه وأعطاه مالا، وقال له بلغة المساليت إنه سوف يأتي إليه يوم الجمعة في السجن، الجمعة التي بعد جمعتين كاملتين، يرتدي نفس الملابس التي يرتديها توأمه الآن، نفس الحذاء، ونفس الطاقية، وسوف يطلب مقابلته وهنالك في السجن يتبادلان المواقع، وأضاف: أنا بعرف بتعامل مع الجماعة ديل كويس، أنا بعرف ليهم، أنا عشت مع الشفته والفالول سنة كاملة، وبالفعل تبادلا المواقع في التاريخ المتفق عليه، ولكن في اليوم الثالث بلغ عنه المساجين الذين اكتشفوا الخدعة منذ اليوم الأول، بالرغم من أن عبد الرازق عبارة عن نسخة أخرى من عبد الرزاق، كأنما الأول صورة للآخر في المرآة، ولكن طبيعة عبد الرازق تختلف بصورة جوهرية عن توأمه؛ حيث إن عبد الرازق كان يميل لنوع من الحياة لا يحبذها أخوه، حيث إنه كثيرا ما يختفي لشهور كثيرة باحثا عن المغامرة والمتعة، الخمرة والنساء، مع قطاع الطرق الأحباش في أحراش إثيوبيا، كان ملولا سريع الغضب، وعنيفا ويتعاطى كل ما حرم الله، ولم يصل أو يصم إلا في صغره، عكس عبد الرزاق تماما؛ حيث كان طيبا مسالما، ولو أنه ما كان ميالا للعبادة، إلا أنه كان لا يتعاطى المسكرات، ولا حتى الصعوط والسجائر. - قدر ما قلت أقلد أخوي عبد الرزاق؛ ما قدرت خالص خالص، ما قدرت؛ فالطبيعة جبل كما يقول الناس.
وأخبر عنه المسجونون إدارة السجن علهم يجدون وضعا مميزا، أو على الأقل يتجنبون المساءلة إذا اكتشف أمره السجانون بأنفسهم، فقامت إدارة السجن بضربه ضربا مبرحا، ثم خيروه ما بين الخازوق أو الفرو، وكلاهما يعني الموت ببطء وألم شديد، فاختار الفرو، فربط في رأسه بأقصى درجة ممكنة وقالوا له: لو ما جبت أخوك خلال نصف ساعة ح تموت، ومفتاح الفرو عندنا هنا في السجن يللا «قلتف»، وتعني بلغة التجرنة التي يعرفها جيدا: أسرع.
في الثواني الأولى من ربط الفرو، تمنى لو أنه وجد أخاه ليسلمه للسجانين؛ حتى يفكوا من رأسه الفرو، ثم أخذ بالفعل يبحث عنه دون تركيز، دون خطة، دون أمل، كان يصرخ في الطرقات وهو يجري في كل اتجاه باحثا عن لا شيء، كان يهتف باسمه، لقد أصيب بهلع شديد، وحالة من التشتت، ولكنه كان يمضي بعيدا عن السجن على أي حال، كانوا متأكدين من أنه سيعود، حتما سيعود أو يموت، ويعرفون أنه لن يموت بعيدا عن السجن، يهمهم في الأمر الفرو الذي لا بد من إعادته للسجن، جثته سوف يرمون بها في البئر المهجورة عند سفح الجبل. - بعد لحظات بقيت أوعى، حسيت بنفسي، وتذكرت كيف الفالول يتعاملوا مع الفرو. ادعى أن الذي يلتف حول رأسه ليس هو الفرو آلة الحديد القاسية المميتة؛ ولكن ثعبان، ثعبان قد يقتله بلدغة واحدة، وقد يتركه في حاله إذا تعامل معه برفق وكلمه بالحسنى، وأقنعه بالمنطق، ولأنه يريد أن يحيا ولا يرغب في الموت ملدوغا من ثعبان سام؛ عليه بسياسة النفس الطويل، طولة البال، وأن يربط مهمة أن يخرج من الحدود الحبشية بترضية الثعبان، وأخذ يتلو نشيدا طويلا بالتجرنة، كان نشيدا طويلا يتكون من كلمات بسيطة قليلة:
لا أموت.
لا أموت، لا أموت، لا أموت، لا أموت.
لا أموت، لا أموت، لا أموت.
سوف أحيا، سوف أحيا، سوف أحيا.
ويستمر النشيد في كلمتين هما سوف أحيا، ولن ينتهي إلى أن يطلق الثعبان رأسه، واتجه نحو الحدود السودانية، مهرولا منشدا في اتجاه الغرب متجنبا طرق المشاة، السيارات، الحمارين، كل السكك المطروقة إلى همدائييت، اتجه جنوبا، قليلا جنوبا، عبر غابة الطلح الصغيرة، الواقعة على أرض حجرية صلدة حمراء، بها خوران، وعران، وبعض شجيرات الكتر الشوكية، تنبت ما بين هنا وهناك، يعرف هذا المكان جيدا، اشترى منه قبل عامين مائة قنطار من الصمغ العربي مقابل عشر جوالات من السمسم الأحمر النادر من برهاني كداني الحبشي الممسوخ كما يحب أن يسميه، وهو أحد أكبر الفالول في نواحي خور الحمرة وغابة زهانة الأكثر وعورة ورهبة، اشترى منه الصمغ على علمه التام أنه لا يمتلك ولا رطلا واحدا منه، ولا يفهم في طق الصمغ ولا لقيطه، وللمبالغة يقولون عنه إنه لا يفرق بين الطلحة والكترة، لكن ليس بإمكان المزارعين الفقراء البائسين أن يبيعوا صمغهم إلا من خلاله هو فقط، وبالسعر الذي يضعه، وكان غالبا لا يظلمهم ودائما ما يحميهم من قطاع الطرق واللصوص الآخرين، إذا التقى به هنا سوف يساعده دون شك في التخلص من الفرو، تبدو الشمس أمامه كبيرة حمراء مثل الدم، تغيب الآن، يمضي نحوها، يعرف أنهم أطلقوه في هذا الوقت بالذات؛ ليصعبوا أمامه خيارات النجاة؛ حيث إن الليل هنا عدو اللصوص أيضا، في ذلك المغرب التقى فالول وشياطين، فروا منه، وقبل أن يكتمل الغروب استطاعت ساقه أن تسلمه إلى البيت.
عاد الشرطيان، توقفا قليلا عند العجوز، سألاها عن فتى باسمه ولقبه، واسم أمه، مصحوبا بكلمة الشرموطة نكاية وغضبا عليه، قالت لهما: مشى زهانة، معزوم مع أصحابه كلهم عيد القديس يوهنس.
حوار موضوعي وكرميلا
أكد لي أن مشروع الصافية بالنسبة إليه لم ينته بعد، وأنه قرر أن يخوض المعركة إلى آخر طلقة، ولم يكن تصريحه هذا غريبا، فأنا أعرفه لما يزيد على الثلاثين عاما من الصحبة، القراءة المشتركة، السفر، الفشل، الإحباط، النجاحات الكبيرة، العمل والعطالة، سيكون تصريحه غريبا إذا قال لي إنه تنازل عما سماه بمشروع الصافية، أو خاف، قال بثقة كبيرة: أنا بحلل وضع الصافية بالطريقة دي: امرأة عندما تثار جنسيا ينمو الصوف في جسمها كله، تطول أظافرها، وأذناها، تتحول ملامح وجهها إلى ما يشبه ذئبا كبيرا، أسدا، أو حتى قردا، فتهاجم العشيق، فيهرب، وهي نفسها لا تكون واعية بحقيقة ما يجري لها، ثم طرح سؤالا: الزول لو انتظر للنهاية ح يحصل ليه شنو؟ دعونا نفكر في هذا الموضوع بجدية، دعونا نفكر كيف نتعامل معها، يجب ألا نتركها هكذا تعاني وحدها هذه الأزمة الإنسانية الفريدة، نحن شركاء على الأقل في الإنسانية، نحن بشر، يعني هنالك مسألة تخص الفرد، تخص الجميع، وما يخص الجميع يخص الفرد، مسألة مصير واحد، مآل واحد، ثقب واحد يجب أن نعبر به جميعا نحو الحياة، أن يتعثر أحدنا فيه، يعني ألا يمر الآخرون، وأخذ يهذي بكلام أعرف أنه يجيده، والأسوأ أنه يؤمن به، والأسوأ أكثر أنه سيفعله، قدمت له نصيحة لا تفيده، وقد تكون طوق نجاة لغيره: أتمنى إنك ما ترمي بنفسك في التهلكة.
قال بقلق: تقصد ما أتطفل.
قلت ضاحكا: أيوه. قال: وجودنا هنا في «الحلة» مش نوع من التطفل؟ عندنا هنا شنو، غير ناس مطرودين من وزارة الصحة للصالح العام، كل يوم متطفلين على بلد من بلاد الله، وناس من ناس الله؟
فهمت أنه يعني فيما يعني أننا طالما تطفلنا على المكان، فنحن أيضا تطفلنا على الإنسان، والأمر سيان، كان دائما ما يكرر القول إنه يجب أن يترك أثرا واضحا أينما يذهب، وأن يدهش، وهذا الأثر وهذه الدهشة لا يتأتيان ما لم يفعل ما لا يستطيع فعله غيره وهم العامة والخاصة معا، ويختصر ذلك بالقول: اركب الصعب، أينما حللنا، كان يبحث عن الصعب والصعب فقط، يبحث عن الغرباء في الناس، في المجتمع، في المكان، في كل شيء، كان يتصيد السؤال، ولا يخشى التهلكة، بل يرمي فيها نفسه رميا. قلت له: ألم قشي وافقت على العمل في ميس الشركة.
أكلنا طعاما طبخه هو ومختار علي من اللوبيا البيضاء، والفرندو بالشرموط، اشترينا إنجيرا من بيت الأم، كان مختار علي دائما ما يحتفظ بمخزون من الدليخ في قطيته، حضرت ألم قشي وصنعت لنا القهوة بالزنجبيل والهبهان، ذهبنا الثلاثة إلى مقر الشركة جوار زريبة المحاصيل، حيث وجدنا العمال مجتهدين في بناء المؤسسة، لكننا استطعنا أن نلتقي بالمدير، وكان رجلا قصيرا نحيفا مبتسما قليل الكلام، مرحابا، مضيافا، أنيقا.
شكرنا مدير الشركة كثيرا، اعتبر قدومنا بألم قشي كي تعمل معهم في الميس، في هذا الوقت بالذات، عملا إنسانيا كبيرا، بركة من الله، ومساهمة في نجاح الشركة. في الحقيقة نحن نحتاج لامرأة نثق بها، أضاف: لولا وجودكم أنتم في الحلة، ما عارف كان نحنا نعمل شنو.
ولكني أحسست بمسحة غبشاء من الإحباط تعتري وجهه وهو يرحب بألم قشي، ويكيل لنا ولها الشكر.
قالت ألم قشي فيما بعد: كانوا عايزين بت صغيرة في العمر، على الأقل أجمل وأخف مني، أضافت: ح يقتنعوا إنه أنا أجمل مرا في الدنيا.
قلت لصديقي: ربما كان صاحبك عايز ملكة جمال في مكان في طرف الدنيا، تحيط به الغابات والخيران الموسمية، ومن سكانه الأصليين القرود، هذا المكان البعيد، الأرض المهمشة النشأت أصلا من المطاريد.
تركنا ألم قشي هناك ترتب أمر وظيفتها الجديدة، وعدنا أدراجنا إلى السوق، الساعة تشير إلى منتصف النهار، عمال البنك يعملون بجد ونشاط، سيدرك البنك الموسم الزراعي القادم، ويشاع أن هذا البنك سيغير خارطة الثروة والسلطة، وعلاقات الإنتاج في المنطقة لمصلحة محدودي الدخل، صغار المزارعين والفقراء، وسوف يقدم قروضا وسلفيات إسلامية غير ربوية لكل منتج ومزارع، وقد اجتهد البعض مفسرين كلمة منتج بأنه سوف لا ينسى أحدا، ويشمل ذلك فيما يشمل الاندايات الكبيرة، تجار الشنطة، وبائعات عرقي البلح والفحامة، وفكر ود أمونة في بار صغير على شاطئ النهر، كذلك الذي يوجد على الضفة الشرقية من نهر سيتيت بالحمرة، مطلا على قرية همدائييت، يرتاده أصحاب المزاج والملاماتية ما بعد منتصف النهار، حيث يعبرون النهر سباحة، بالرغم من أنه يوجد داخل حدود دولة أخرى وهي إثيوبيا، لكن ليس لأحدهم جواز، أو بطاقة، ولا حتى ورقة تحمل اسمه، من جهة أخرى فإن السلطات الإثيوبية لا تسأل عن شيء، سوف ينشئ ود أمونة بارا يستقطب هؤلاء الفارين إلى الكيف العابرين الأنهار، ولن يضطروا إلى المخاطرة بحياتهم غرقا.
ويبدو أن فكرة التمويل لم تكن إشاعة، ولكن المحاضر الذي أوفده البنك يوم جمعة لا ينسى قال كل ذلك، أو لم يقله، ولكن المؤكد أنه تحدث باستفاضة عن السلم، المرابحة، والمشاركة، وأصل لذلك بآيات، وأحاديث، وخطب، وشهادات فقهاء وفتاوى، وذكر فيما ذكر اسم عالم غامض لم يسمع به أحد في القرية، وهو القرضاوي ربما اشتق اسمه من قرض، من يدري؟ لم يفهم العامة الشيء القليل من خطبته العصماء، ولكنهم فهموا المهم والذي يخصهم وهو: أن هناك قروضا للجميع دون فرز، وحق للجميع، دون ربا، على سنة الله ورسوله، كل هذا تفوه به الخطيب، ولم يجتهد الناس كثيرا في التأويل، وعلى بركة ذلك بادرت المحلية بتخصيص قطعة أرض مجانية للبنك كي ينشأ عليها، وسمح باستخدام وابور المحلية لنقل الحجارة والرملة السفاية، والطوب الأحمر بسعر رمزي يغطي تكلفة العمالة، وتحصل إداريو البنك المشرفون على إنشائه وقودا، وكهرباء، وإمدادا مائيا مجانا ولوجه الله وحده، ولأجل خاطر التنمية، وابتغاء رفعة البلد.
وللحاق بركب هذا العطاء المجاني سعى المقاول الذي يعمل بالتشييد؛ لأن يحصل على عمالة مجانية للبناء من الجيش، طالما يجلس العساكر هنالك في ثكناتهم دون عمل، يلعبون الورق، والضالة، ينتظرون حروبا لن تقع في القريب العاجل، ولكن لسوء حظه أن قائد الحامية في ذلك الوقت كان جنديا يمتلك رأسا يسمى في الخفاء: ناشفا، لم يسعفه في تفهم التنمية والتطور، ودور البنك العظيم المنتظر، أو أنه كان يفهمه جيدا، فرد إليه طلبه مشفوعا بتهديد شفاهي: احذروا، واحذروا، واحذروا، الجيش دا قايلنوا شركة على الله؟ سوى هذا الصد الواضح، لم يجد البنك أي صعوبة في الحصول على أي تسهيل ومباركة، بل إن معظم الناس كانوا يحسون بأن لهم واجبا ما تجاهه، ولا يتأخرون في مد يد العون متى ما طلب منهم ذلك، كان البنك بمثابة مهدي المكان المنتظر، شربنا كركدي عند عزيزة الزغاوية، كان يجلس قربنا اثنان من السماسرة يتحسران لأجل سعر السمسم المنخفض في هذا الموسم، مع أن الإنتاج شحيح، يتعجبان؛ لأنهما يريان أن انخفاض إنتاجية السمسم يؤدي مباشرة إلى ارتفاع سعره، هذا ما تعلماه من التجربة، الشيء الذي لم يحدث هذه الأيام.
دا آخر أسبوع لحصاد السمسم، تاني ما تبقى الحته.
ولكن كان أحدهما متفائلا بعض الشيء؛ لأن شركة السمسم - حتى الآن - لم تدخل السوق لشراء متطلباتها السنوية من السمسم لأجل التصدير: ح يرتفع، ح يرتفع أكثر من السنة الفاتت، وهنا تدخل صديقي قائلا: السبب إنتاج الفول، الفول السوداني، وبرضو عباد الشمس.
ودون أن يستأذنهما طرح من رأسه سيلا من الأرقام المدهشة عن إنتاج الفول السوداني، وعباد الشمس في هذا الموسم، ثم تحدث عن سعر رطل الزيت من الاثنين: إنه ينخفض، وسوف ينخفض أكثر، وربط ذلك بالمستخدم من السمسم في زيت الطعام والحلوى، وكيف أن الفول السوداني الرخيص حل محله زيت عباد الشمس النقي الصحي منخفض الثمن المفضل لدى المصدرين، وأصبح إنتاجه ضخما، ثم أسهب في الحديث عما أسماه «مستقبل إنتاج السمسم في السودان»، هل سيصبح مثل مستقبل إنتاج القطن والصمغ العربي؟ نظرا إليه باستغراب، سأله أحدهما بعفوية: إنت في الأمن؟
مما جعلنا جميعا نضحك في وقت واحد، قال له صديقي: لا، أنا من القضارف.
قال الرجل هو يحملق في وجه صديقي: نعم، عارف، إنت الزول العندك حكاية مع الصافية، لكن إنت شغال شنو؟
قال له صديقي، وقد ظهر عليه بعض الغضب: البلد دي غير القوالات والإشاعات ما فيها شي، بلد نكد.
قال الآخر محاولا الخروج من موضوع الصراع: كدا أحسن نشوف موضوع السمسم، وقطع الحوار صوت أبواق سيارات، ونهيق ونباح بربارات ولاندروفرات مختلطا بزغاريد نساء وصبايا، غناء وجلبة، ثم عم المكان الغبار المختلق من رفس إطارات السيارات على الأرض، قالت عزيزة الزغاوية مستنكرة: دا زمن عرس؟ لسه الحصاد ما انتهى.
قال أحد السماسرة مقررا أمرا قد يبدو معروفا للجميع: العريس دا قايلاه منو؟ دا محمد عوض، سواق باربارة البرناوي، ديل بيعرسوا في أي وقت، طالما الخريف انتهى وانفتحت الشوراع، دي مرتو التالتة.
السيرة مكونة من عشرين باربارا، خمسة لاندروفرات، باص همدائييت، وباص الشواك، لوري الحفيرة، تراكتور بمقطورة يتبع لأحد التجار من زهانة، المغني المتفرد ود أمونة، يصدح بصوت نسائي عليه بحة خفيفة، ربما نتيجة للسهر وتعليم العروس، وشرب القهوة الكثير في بيت العرس، حيث لا تنطفئ نار القهوة لما يزيد على الأسبوع، يتبعه كورس من الصبيات والنساء في حماس وإثارة.
علق أحد السماسرة في ضيق: الله يسخته، ما بتعرفو، مرا ولا راجل.
ضحكت عزيزة قائلة: دا ود أمونة وبس، هو كدا.
قال السمسار الآخر: دا زول مخنث ما نافع، والله لو ولدي كنت ح أكتلو عديل كدا.
قالت عزيزة: ما لك ومال الزول دا ربنا الخلقه عايزو كدا، ثم أضافت: إنتو عارفين محمد عوض اتزوج منو؟
قلت: لا، بالتأكيد.
قالت: اتزوج زينب بت أبرهيت الفلاشاوي.
قلت مندهشا: الفلاشاوي؟ يعني من الفلاشا.
قال أحد السماسرة: أيوا، وقالوا الفلاشا ديل يهود، هم ذاتهم الباعهم جعفر نميري لإسرائيل، مش كدا؟
قال جملته الأخيرة موجها كلامه إلى صديقي.
قلت: ولكن هنا في فلاشا؟
قال السمسار: أسرة واحدة ، هي أسرة أبرهيت ولدو إسحاق.
قالت عزيزة: ولكن أبرهيت دا مسلم، قاعد يمشي صلاة الجمعة، كل الناس شافوه.
قال أحد السماسرة بثقة العالم العارف: اليهود ديل فيهم المسلم، وفيهم الكافر، زيهم زي الجن، فيهم المسلم، وفيهم الكافر، ثم أضاف: وفي مسلمين يهود عديل كدا، وديل الما بيصلوا، ولا بيصوموا، ويأكلوا الربا ومال اليتيم، ديل شنو، مش يهود؟ ثم أضاف فيما يعني أنه لو وجد أي إسرائيلي أو دولة تشتري منه الفلاشا، لباع لها أبرهيت وأسرته جميعا ليغنى للأبد، ديل بيعهم مش حلال؟ ربنا ذاته ما حرم بيع العبيد، سيبك من الفلاشا، مش كدا؟
أومأت برأسي أن نعم، وكنت أعني بيني وبين نفسي أني: أمتنع.
همس صاحبي في أذني، الذي كان يتتبع النقاش بانتباه كبير: لازم نزور أسرة أبرهيت دي، أنا أتمنى أشوف وأحاور يهودي، فلاشا، ولا أشكناز، ولا سفرديم، ولا أي يهودي تاني، حتى لو كانوا بني قريظة، أو بني النضير.
قلت له: أنا مش ح أمشي معاك، كفاية العملة العملتها في الكنيسة الأسبوع الماضي مع الأم مريم كودي راعية الكنيسة.
قال محتجا وقد علا صوته فجأة: عملتها أنا ولا عملتها هي، أنا كنت عايز أقيم معاها حوار موضوعي عن الأديان، وقصدي شريف جدا، ولكن الأم مريم ما فهمتني واعتبرتني مخرب، هي عايزة تتحاور معاي كمسلم عربي، وأنا عايز أتحاور معاها كإنسان يتبنى كل التراث الروحي للبشرية بما فيه الدين المسيحي نفسه، وكما تكلم زرادشت للفيلسوف نيتشه، وكتاب الطبقات لود ضيف الله، وغيرها من السرديات الكبرى والصغرى.
قلت له: إنت طريقتك في تناول المواضيع هي المشكلة وليست نواياك.
وخوفا من أن يقال إني تركته في محنة جديدة وحده ذهبت معه. الذهاب إلى بيت أبرهيت لم يكن صعبا، فالبيت كان متاخما للسوق، وأبرهيت نفسه معروف ومشهور، كما أن الذهاب إلى منزل فيه مناسبة عرس كان أسهل الأشياء هنا، ونحن نطرق الباب، طلبت منا الصبايا وبعض النساء أن ندخل مباشرة، وما في داعي لدق الباب، الشيء الذي أدهشهن، وأظهرنا ضيوفا مساكين لا يفهمون طبيعة أهل البلد، وما زلنا نرفض الدخول دون إعلان، فإذا بأبرهيت يأتي مبتسما، طويلا يلبس بنطلونا وقميصا أبيضين نظيفين وربما جديدين، وبلكنة أمهراوية سلم علينا وقدم لنا لوما خفيفا؛ لأننا لم ندخل مباشرة البيت، وطرقنا الباب مثل الأجانب، كان يتحدث في لطف وهو يسحبنا إلى داخل ديوانه، ونادى بصوت خفيض على ابنته جوديت
Judite
التي جاءت وفي يدها الماء والحلوى والأمبابا، والابتسامة الساحرة تحلق في فمها الصغير الحلو، انحنت الصبية العشرينية أمام كل واحد منا، وهي تصب الماء من وعاء زجاجي أزرق في أكواب عليها علم وأسد إثيوبيا الشهيرين: همس صديقي في أذني قائلا في إثارة واضحة، وانفعال باللغة الإنجليزية: «أسد صهيون
The Lion of Zion .»
تجاهلت همسه حتى لا ألفت الانتباه، رحب بنا مرة أخرى، فباركنا له زواج ابنته الكبرى زينب من محمد عوض كاجوك، سائق البربارا، وتمنينا لهما بيت المال، والعيال، وسترة الحال، قال: البن جاهز، والفطور برضو جاهز.
اعتذرنا بأننا شربنا القهوة مع عزيزة الزغاوية، وفطرنا في المنزل، ثم دخل صديقي إلى الموضوع مباشرة ودون مقدمات، وبوضوح تام عرف به وتهور، في الحقيقة أنا أعجبت بالطريقة الذكية البليغة التي حسم بها أبرهيت الموضوع، في هدوء ورباطة جأش، وكأنه كان يعد الإجابة منذ أن ولد قبل خمسة وخمسين عاما خلت، وأنه أجرى عليها تجارب كثيرة، واختبارات صحة وخطأ في شتى أصناف البشر وأحوالهم، وربما الحيوانات والجن أيضا؛ للتأكد من مدى صلاحيتها قبل أن يتبناها أخيرا كإجابة نموذجية تصلح ردا شافيا كافيا لكل المتطفلين، والمتحشرين، والمتسكعين الكسالى، الذين لا هم لديهم سوى البحث عن الغوامض، مثيري الأسئلة، المتشككين، ضعيفي الإيمان، والمتطرفين من الناس، والجن، وهوام الأرض كافة، قال بصوت واضح، بينما كانت عربات السيرة تدور في الخارج، وصوت ود أمونة يصدح بأغنيات بنات رائعات محفزات للرقص، وابنته العشرينية تضع مزيدا من الأمبابا على وعاء الحلوى، وهي تتفحصنا بركن قصي من عينيها الكبيرتين، وتنصرف لتستقبل السيرة في الخارج.
أنا مسلم. تفحص وجهينا وابتسم ابتسامة بنية قبل أن يواصل كلامه: أنا مسلم.
مسح وجهه براحة كفيه، قبل أن يضيف في حدة: وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأقيم الصلاة، وآتي الزكاة، وأصوم رمضان، وأحج البيت إذا استطعت إليه سبيلا.
ثم أضاف في برود كالصقيع، بينما هو يحاول الاحتفاظ بابتسامة دائمة لئيمة: يلا مع السلامة، وقولوا لمدير الأمن: أبرهيت ولدو إسحاق يسلم عليك.
وبذلك قال لي صديقي فيما بعد أكد أنه يهودي، ويهودي متطرف، ونحن نخرج من الباب معتذرين خائبين، وناكرين أي صلة لنا بالأمن، إذا بابنته جوديت، تلك العشرينية الجميلة على الباب مباشرة، كانت تتنصت للحوار الذي دار بين صديقي ووالدها، الحوار القصير جدا، حيث إن صاحبي سأله: هل أنت من يهود الفلاشا حقا؟
كانت جميلة، في فستانها الأبيض العشائري، وبلسانها الذي أخرجته إلينا، في حركة لإغاظتنا، بقع صغيرة سوداء، ورائحة حلوى كرميلا.
قطع الرحط والدخلة
جلس أمامي في بنبر كبير ود أمونة، كانت عيناه تشعان بهجة وغموضا، ويبدو أنه يود أن يقول كلاما مهما، ولكنه يحتاج لمفتاح ما، وأعطيته إياه عندما سألته: في شنو؟
قال وقد مد ساقيه النظيفتين، وهما يلمعان في ضوء المصباح: إنت عارف أنا طالبك كم؟ قلت له مشجعا إياه على الكلام: كم؟
قال وهو يستخدم أصابع يديه في الحساب بطريقة طفولية، ويحرك عينيه في غواية نسوانية: ثلاثة جنيه ونص دي حطب الدخان والطلح، سمح؟ سبعة جنيه ونص دي حق الدلكة اشتريتا من أدي، سمح؟
خمستاشر جنيه بتاعة الصابون، وكلونيا الحمام، خمسة جنيه دا حق شغل الدلكة الأنا دلكتها ليها، حق يديني ديل، ومد يديه بطريقة بناتية لا تخلو من غنج، خمسة جنيه دي حقت شيل الجسم؛ والله شلت ليها أي شعرة في جسمها خليتها تلمع زي القمر، وح تشوف براك، والجنيهين ديل بتاعة صباع أمير، سمح؟
قلت مندهشا: صباع أمير بتاع شنو؟
قال وهو يضحك باستمتاع خاص: ح تلاقيه قدام، وح يعجبك.
قلت: إذن الحساب كله كم؟
قال مبتسما: خمسين، سبعين، جنيه كدا، سمح؟
أعطيته مائة جنيه، أعد بسرعة البرق الشيشة، عرض علي أن يدلك جسمي بالدلكة مجانا، أو ينظف ملايني فاعتذرت بأدب، قام بتغيير الملاءات وأحضر لبنا، وحساء، وعصير كركدي، أعد أدوات صنع القهوة، أحضر مسجلا كبيرا بسماعتين خارجيتين، فعل كل ذلك بسرعة، بهدوء، بإتقان وحرفية، قبل أن يقول لي: الحمام جاهز، الموية دافية، أخير تلحقها قبل ما تبرد.
ناولني بشكيرا جديدا، فرشة أسنان، وصابون لوكس، ومضى أمامي يرقص ردفين كبيرين. كان الحمام عبارة عن بناية صغيرة من القش، القنا وأعمدة أشجار السنط، لا سقف له، بأرضيته حوض كبير من الأسمنت، وبنبر من البلاستيك، وجردل به ماء ساخن، بابه من الزنك يتم ربطه عند الدخول بحبل قصير على عمود من حطب السنط، يوجد فانوس يعمل بالجاز يقبع في ركن بعيد عن مرمى الماء، بوعاء بلاستيكي صغير يسبح على سطح ماء الجردل، أخذت أستحم، أنا في العادة أطيل البقاء في الحمام، أغسل جسدي جيدا، مرات عديدة، وألعب بما تبقى من ماء، أحب الماء، وعندما يكون دافئا أحبه أكثر، اليوم كان دافئا، ومعطرا، وساحرا، أحسست بفرح عظيم يغمرني تجاه ود أمونة، ألم قشي، بيت الأم، المكان، المكان كله، بعد أن غسلت جسدي جيدا، تجففت بالبشكير الأبيض الكبير الذي تفوح منه رائحة الصندل، ومضيت نحو القطية، وجدت القطية غارقة في دخان الكبريت، تقف في منتصفها ألم قشي التي لم أستطع تمييزها في بادئ الأمر، حيث كانت مغطاة تماما بثوب القرمصيص، ولولا أنني شاهدت ود أمونة يقف أمامها مباشرة، لظننت أن الذي يلتف بالقرمصيص هو ود أمونة نفسه، وبمجرد دخولي ضغط ود أمونة على المسجل الكبير؛ ليغرد فنان بناتي على إيقاع سريع راقص:
اللول اللول لول ليا.
بسحروك يا لولة الحبشية.
لولية إنت ما صعبة.
في الخرطوم أنا مغتربة.
أنا بحب كسلا وأديس أبابا.
وأخذت ألم قشي تهتز مع النغمات والإيقاع، وكفاها في وجهها، قال ود أمونة وهو يأخذ بيدي، يقودني نحو ألم قشي: تعال أقطع الرحط، وافتح وش عروستك.
دون أن أقول شيئا مشيت مثل المنوم مغناطيسيا نحو ألم قشي، وأدخلت يدي بين ملابسها، وفي وسطها وجدت حبلا رقيقا من السعف، قمت بقطعه، وألقيت به في الأرض، التقطه ود أمونة، وأخذ يلوح به في الهواء، ويزغرد مسرورا، وهو يجتهد ليجعل صوته منخفضا بقدر الإمكان: أيوي، أيوي.
وانطلقت ألم قشي ترقص وهي تهز ردفيها، وصدرها، ويديها، ورأسها، قدميها، وساقيها، وكل ذرة في جسدها، ما جعل القرمصيص الناعم يسقط من جسمها على الأرض، وتبدو واضحة أمامي؛ كانت ترتدي فستانا قصيرا جدا بحمالتين عبارة عن قطعتين رقيقتين من القماش، تمران على كتفها وظهرها، فستانها الأسود، المشغول بخيط ذهبي يشع ضوءا وعيدا، رائحتها تملأ المكان عبقا جميلا، كانت تبدو مثل عروس في خمسينيات القرن الماضي، تلبس في عري ساحر، كنت أقف مندهشا أنظر إليها وهي ترقص، ود أمونة يساعدها على الأداء بالتصفيق، والزغاريد، قال لي ود أمونة بعد أن أكملت ألم قشي رقصتها: مبروك يا عريس، الليلة يوم دخلتك.
أوقف زر تشغيل المسجل، بدا لي غير راض تماما عن أدائي، لاحظت ذلك من حركة شفتيه، وما قامت به عيناه من مسح كامل شامل لهيئتي، وخرج، كل شيء مر كالحلم تماما، لاحظت ألم قشي أنني لا أبدو في كامل وعيي؛ لأنها أخذت تلاحقني بسؤال عن حالي بإلحاح كبير، بقلق أجلستني على السرير الكبير الذي أعده ود أمونة، بإتقانه المعهود، وسألتني ما إن كنت أرغب في شرب القهوة، وقبل أن أجيب: لا، طوقت نصفي الأعلى بساعديها، غمرني عطر نسائي بلدي قوي منعش، مما جعلني أفيق فجأة، كانت تجربتي مع النساء قليلة، وكل ما عرفته عنهن في الواقع كان عن طريق ألم قشي نفسها، في المرة السابقة، لكنني أحسست الآن أن علي أن أبدأ من جديد، وعاودني الخوف القديم من العجز، الحق يقال، خفت من ألم قشي، وتمنيت أن يبقى ود أمونة، إنه شخص مرح، ولو أنه عملي أكثر مما هو إنساني، إلا أنني كنت دائما أحس معه بالطمأنينة، على الأقل؛ لأنني لا أتوقع منه أن يختبر مقدرتي الجنسية، إنه غريب وغامض، ولكنه مؤنس وأشعر بأمان بقربه.
قلت لها: اعملي لينا جبنة.
قالت: كويس.
نهضت من قربي، قالت لي: قوم.
وأخذتني من يدي، قالت بصوت هادئ، وقد جعلتني أقف في مواجهتها: إنت خايف، مش كدا؟
قلت مكابرا: من شنو؟
قالت وهي تطوقني بساعديها من خصري غير مبالية بسؤالي: من عروستك.
قلت وقد أحسست بأنني حوصرت: بس.
قالت مقاطعة: عشان نحن عملنا ليك عرس؟ قلنا عايزينك تنبسط، وإنت ...
قلت لها مقاطعا: أنا مبسوط.
قالت وهي تضع رأسها على صدري: تعال ننوم سوا بعدين نعمل الجبنة، إنت مش نعسان؟ تعال أنومك.
أخذت البشكير من على كتفي، ورمت به بعيدا على بنبر في أقصى القطية، أطفأت النور، سألتني سؤالا مباغتا وهي تتحسس جسدي: صاحبك وين؟
قلت لها: مع مختار علي.
سألتني: لسع ما عايز يسيب الصافية؟
قلت لها: زول راسه قوي.
قالت لي وأظافرها تغوص في شعري: وإنت، راسك كيف؟
ضحكنا.
قالت: أنا بحب الراجل اللي بيتجرس، وإنت واحد منهم، عارف نفسك؟
قلت لها وأنا أدفن أنفي تحت ضفائر شعرها ما فوق أذنها: اشرحي لي أكتر. - عندنا هنا الرجال في الحلة دي بيتعاملوا مع النسوان زي ما بيتعاملوا مع السمسم، امسك، اقطع، اجدع، ولكن إنت راجل جرسة، بتصرخ.
ضحكنا، قبلتها، ذابت في فمي مثل عجينة من الزبد والحلوى، استيقظنا في الصباح الباكر على صوت ود أمونة مناديا ألم قشي، فتحنا أعيننا في لحظة واحدة، كان يقف أمام السرير، حيث إننا تركنا الباب مفتوحا، كان يرتدي جلبابا أبيض نظيفا، وجهه حليق، شاربه كث في نظام ودقة، كان فرحا ونشطا وطليق اللسان كعادته، بارك لنا الدخلة التي كانت من إنجازه، بل أحد أعماله الفنية؛ حيث إنه كان منتعشا ونشوان، عرفت فيما بعد أن ود أمونة قد يصل إلى ذروة اللذة إذا أنجز عملا بصورة يعتبرها كاملة، مهمته الأساسية هي أن يجمع امرأة برجل، وأن يستمتعا، خاطبنا قائلا: موية الحمام حتبرد، مش عايزين تستحموا، أنا ما ح أجيب ليكم شاي ولا فطور، إلا بعد أشوفكم مستحميين نظاف وظراف زيي كدا.
واستعرض ملابسه ووجهه، قالت له ألم قشي بصوت ناعس، وهي تتحرر من الغطاء برفسات متتاليات: خلاص، زح شوية ألبس ملابسي.
فادعى ود أمونة الانشغال بترتيب بعض الأشياء بالقطية، فلبسنا ملابسنا وخرجت ألم قشي خلفي نحو الحمام، تحمل بشكيرا كبيرا، الحمام خلف الراكوبة، ما يقل عن عشرة أمتار من القطية، دخلت خلفي، وهذا ما لم أكن أتوقعه، ساعدتني في خلع جلبابي، خلعت ملابسها بسرعة رهيبة، أشارت إلي أن أجلس على البنبر، سألتني ما إذا كانت هناك امرأة حممتني من قبل؟ قلت لها: أمي فقط، قالت إنها كانت تتوقع ذلك، عملت الليف في ظهري، وأرجلي، وفخذي، وذراعي، شعر صدري الكثيف منعها من استخدام الليف فاستعاضت عنه بكفيها الناعمتين، كانت تغني بالأمهرا بصوت خفيض حلو، قالت لي وهي تشير إلى مكان حساس في جسدي: ح أكلم ود أمونة يحلق ليك.
فزعت من الفكرة، ولكنها أكدت لي أن ود أمونة خبير في حلاقة هذه الأمكنة، وهو حلاق قائد المنطقة العسكرية وعميد الشرطة أيضا، وذكرت غيرهما كثر، قلت لها: أنا لا أحب أحدا غيري أن يقترب من تلك الأمكنة، ضحكت، كان الصباح رائقا وهادئا، المكان يخلو تماما من أصوات الجنقو المعتادة، حيث إنهم لم يعودوا من المشاريع، كان صوت الأم تحكي شيئا لود أمونة يبدو واضحا وجليا، بعض أسراب الطيور تذهب في جماعات نحو الشرق، تمتلك ألم قشي جسدا أنثويا مثيرا، وأعتبره بالرغم من خبرتي الفقيرة في النساء، جسدا مثاليا؛ حيث إن النساء اللائي أحب النظر إليهن كثيرا ويثرن إعجابي، هن ذوات الأفخاذ الكبيرة، والأرداف العريضة، وألم قشي بالرغم من نحافتها كانت واحدة منهن، قالت لي وأنا أحدث نفسي عنها في صمت: إمبارح كان يوم كويس ولا لا؟ - كان أجمل يوم في حياتي، إنت رهيبة.
ابتسمت عن رضا، ولم تقل شيئا، في الحقيقة بعد هذا اليوم أصبحت محترفا في النساء، أو ظننت أنني كذلك، ولكن ما يزال هنالك عيب في؛ هل كل النساء يعرفن كيف يتعاملن مع الرجل الذي لا يعرف شيئا عنهن؟ الرجل الذي دائما ما يحس أنه عاجز عن ممارسة شيء ذي فائدة معهن ، إذن، هل بإمكاني أن أعرف امرأة غير ألم قشي؟ أم أن خوف الفشل هو الذي سيبقيني سجين هذه المرأة العجيبة؟ قالت لي وأنا أحدث نفسي عنها في صمت: إنت راجل ما نافع.
فوائد ما بعد الحفل
تأقلمت ألم قشي على الحياة الجديدة بسرعة فائقة، أحبت عملها ولو أن المبلغ الذي تتقاضاه مقابل القيام بإعداد الطعام، وترتيب الميس لا يساوي نصف ما كانت تحصل عليه في العمل في بيت أدي كفتاة مبيت، إلا أنها كانت كل مرة توجد لنفسها مصدرا آخر للدخل، مثلا؛ طلبت من الموظفين ألا يأخذوا ملابسهم إلى الغسال، هي ستقوم بذلك وبصورة أفضل؛ لأنها لن تخلط الملابس مع بعضها، ستغسل لكل فرد على حدة؛ وذلك حتى لا يختلط عرق شخص مريض بشخص سليم، فتنتقل العدوى: وح تشوفوا الفرق، ثم ابتكرت فكرة بيع الملابس والمصنوعات القطنية الحبشية المتميزة بالتقسيط المريح لعمال وموظفي الشركة وأصدقائهم، حتى يتمكنوا من أخذها إلى أسرهم عند عودتهم الشهرية إلى مدنهم ومواطنهم الأصلية، ثم أخذت تبيع أشرطة الكاسيت الحبشية، والزائيرية، والأحزمة الجلدية الأصلية، والجزم الإيطالية المهربة من إثيوبيا، ثم الجن، البراندي، الأنشا، الكونياك، ثم الكوندوم، والفياجرا، وعقاقير فتح الشهية.
ثم زاد دخلها بصورة ملحوظة عندما استضافت في بيت أدي، في خميس بني، كل العاملين في شركة الاتصالات وأصدقائهم من العاملين في تشييد البنك؛ ضباط المحلية، بعض قادة الجيش والشرطة، ثم نفرا من أعيان البلدة، ووفرت لهم ما لذ وطاب من شواء بالسمن والعسل، وشيشة معطون تمباكها بالاستيم، الذي يحل محل الماء كذلك، ثم فاجأتهم بالمغني العجوز آدم بلالة في صحبة الأم كيكي، ورفقة أجمل سبع بنات في الحي الشرقي؛ صفية إدريس الملقبة بصفية ناسات، سنايت، وليس هناك أفضل من ساقي سنايت إذا رقصت، أميرة الدبابة وهي خلاسية نجلاء ردفاء، مناهل سعيد، شهيرة بمناهل النوباوية، وهي فتاة تتصف بعنق طويل ناعم مصقول، أمها يمانية، وأبوها من المحس، أمونة بت خدوم، وهي امرأة قدمت من مدينة القضارف مؤخرا في صحبة أمها الجنقوجوراية، ولكن لما تتصف به من جمال وفصاحة وثقافة؛ أخذت موقعا متميزا بين نساء الحلة، ولا يمكن أن تنسى في مثل هذا الحفل التاريخي أستيرا كيداني بشير، وهي أيضا من الذين قدموا حديثا للحلة من الحمرة، حيث إنها كانت تسكن فريق قرش، تماما جوار شجرة الموت، وهي تعمل بارستيا في البار الخارجي على شاطئ نهر سيتيت المقابل لهمدائييت، ولكنها اتهمت بقتل إحدى زميلاتها في العمل، فهربت إلى الحلة، جميلة صريحة وواضحة، لا تتحدث اللغة العربية إلا بصعوبة، بوشاي شول، أبوها من الشلك، أمها من الحمران، وهي مغنية لا تقوم لحفل قائمة إذا لم يصدح فيه صوتها العذب، وقد قال فيها أحد صعاليك الحلة أغنية:
جنى الباباي.
إنت يا بوشاي الحلو زي منقاي.
بريدو واي.
واي، وآآي.
وكي يكتمل الحفل كان لا بد لود أمونة من أن يكون حاضرا، نظيفا، ظريفا، رشيقا، تراه في كل مكان، لا ينجو أحد من خدماته السريعة المتقنة، ولا من عطره القوي، أو صوته الخفيض الهادئ، رقص، غنى، دوبى، مدح، وعقد صفقات سرية سريعة مع من شاء فيما يشاء، بدءا بالخمور المستوردة، انتهاء بالبنيات، وكل له سعره، الفتاة، العزباء، المتزوجة، الأرملة، المحافظة، الشرموطة، الجن، الويسكي، الأحجبة والتمائم، المحاية، الأنشا، البيرة، الكونياك وحتى عرقي البلح، المريسة والعسلية مع خدمة توصيل الطلبات إلى الموقع، نسبة لما يتميز به الموظفون من عفة وتأفف، وكثير من الخجل والحرص يمنعهم من الحصول على الخدمات في مواقع إنتاجها، ولكن الله يخلي ود أمونة، حلال الكرب، لم يضايقه سوى طلب همس به أحدهم إليه في أذنه، وأكده بقرصة مباغتة في أليته، غمزة بعينه اليسرى وحركة لسان: أنا عايزك إنت يا ود أمونة إنت، في روحك دي يا ود أمونة.
قال لي ود أمونة فيما بعد، إنه أحس أن الدنيا أظلمت في وجهه، بالرغم من أنه ليس هذا هو الطلب الأول الذي يقدم له في شأن نفسه، وليست هي القرصة الأولى، ولا الغمزة الأولى، ولا هي أول حركة لسان داعرة يلوح بها إليه، ولكن لا يدري لماذا أدهشه هذا أكثر ، قال: قلت ليهو تعال بكرة في بيت أدي هنا، تلقاني قاعد، ولكنه لم يحضر.
فسألت ود أمونة: ماذا كان سيفعل به إذا حضر؟ قال لي وهو يضحك بطريقته الملتوية، التي تجعله دائما في موطن التشكك والظن: بصراحة بصراحة، الزول دا عجبني، والحمد لله إنه ما جاء.
كان حفلا جميلا مر بهدوء، استمتع به الجميع، حضرناه مع غيرنا من مواطني المدينة، حيث إن من لم يدع رسميا هنا، فهو مدعو عرفيا وعن طريق العادة، خسرت ألم قشي لإقامة هذا الحفل مالا كثيرا، ولكن فوائد ما بعد الحفل كانت أجدى.
قلت لألم قشي ونحن في بيت الأم، حيث اعتدنا أن نلتقي: تجارتك بقت كبيرة، وبقيتي غنية.
قالت مدعية البراءة: ناس المدينة يحبوا الملابس الحبشية.
قلت بمكر: وتاني؟
قالت في مكر: الأشرطة الحبشية والزائيرية.
قلت: وتاني؟ قالت بتحد: تقصد شنو؟
قلت لها بوضوح: البنات، ما بيحبوا البنات؟
قالت في بجاحة: أنا وسيط ما أكثر، وإنت عارف إنو أنا ما عندي ذنب، إنت ذاتك لو عايز واحدة ح أجيبها ليك.
ولأول مرة في حياتي يصل بي الغيظ حد أن أتهور وأضربها في وجهها إلى أن سقطت على الأرض، عندما نهضت أخذت زجاجة جن فارغة ورمتني بها، ولكني خفضت رأسي قليلا، فانكسرت على الباب محدثة دويا مرعبا حضرت على إثره أدي، وود أمونة، في لمح البصر، وحضر ما يمكن أن أسميه نصف سكان الحي، أو جميع سكان الحي المستيقظين في تلك الساعة من الليل، هذا بالتأكيد كان من حسن حظي؛ حيث إن ود أمونة وأدي لم يستطيعا أن يرفعا ألم قشي عن صدري، أو يطلقا حنجرتي من كفيها القويتين، وصف لي ود أمونة فيما بعد حالتي بأنني: قربت أطلع الروح، ولكن ألم قشي قالت لي إنها ما كانت لتقتلني، ولكنها فقط كانت عايزة تهازر معاي شوية، ولكنني على كل وعيت الدرس واعتبرت الحادثة أيضا من فوائد ما بعد الحفل، اكتفى الناس بفض المشاجرة، لم يلمني أحد، ولم يلمها أحد، الملام في كل هذا هو الشيطان الرجيم، العنوا الشيطان، الناس هنا يفعلون المستحيل حتى لا يخسروا بعضهم، وتعجبهم اللمة، فالناس بالناس والكل لرب العالمين.
يا دوب ألم قشي ح تحبك بالجد بالجد؛ لأنها ضاقت إيدك، وعرفت إنك بتحبها؛ لأنك بتغير عليها.
ثم سألني سؤالا مباغتا: إنت بتحبها يا ولد؟
كنت مرهقا، نمت، تركتهما يتحدثان عن باص همدائييت، الذي نهبه الفالول بعد ظهر اليوم، عند غابة زهانة، نمت يملؤني العجب، كيف يصل الخبر عن الباص الذي نهب في غابة زهانة بعد الحادثة بما لا يزيد على نصف الساعة، والباص نفسه، كأسرع دابة في تلك البقاع، يحتاج إلى ساعة كاملة كي يصل إلى هناك من الحلة؟ أليس صحيحا أن الجن وحده هو المسئول عن نقل الأخبار في هذه البلاد؟
الجنقوجوراي
في الدرت يحنن وفي الخريف يجنن
يوم الخميس هنا يوم عيد، يقضيه الجنقوجوراي تحت شعار محفوظ ومعروف وهو: خميسك ولو تبيع قميصك. يهبطون إليه من المشاريع والتايات البعيدة والقريبة، عابرين مزارع الذرة والسمسم، أو غابات الكتر والطلح الصغيرة المتفرقة بين هنا وهناك، مثيرين الرعب في الأرانب البرية والفئران والسحليات، عن طريق دق أرجلهم الخشنة على الأرض الطينية السوداء، عن طريق أصواتهم التي تطلق أغنيات حصاد بائدة قديمة نشاز، في سماوات الفلوات الشاسعة، على ظهورهم القوقو متخما بعروق الشجر، ووصفات لعلاج مرض الصعيد، ولدغات الثعابين والعقارب، وحتى خادم العقرب الصغيرة السوداء المؤذية، وما استطاعوا جمعه من زينة إلى تلك اللحظة، وعندما يصفو لهم الجو، أو يبلغ بهم التعب أشده، يجلسون تحت شجرة لالوب أو طلحة رءوم، ويحكون عن أرباب العمل والنساء وحي قرش، وهم غالبا ما يتجنبون الحديث عن المال، هذا المخلوق الغريب اللزج، الذي لا يستقر في جيب، ولا كف، ولا قوقو، الذي يأتي بالمريسة والعرقي، يأتي بالشية والمرس والكجيك وما لا يحلمون به من طعام، يأتي بالنساء في لمح البصر، يعرف كيف يهين الرجال ويمرغ أنوفهم في التراب، وينهي رحلة حياتهم بشجرة الموت في فريق قرش بالحمرة، ولكنه في هذا الشهر.
وطالما كان الجنقوجوراي في كامل صحته ، وفي تمام مقدرته على العمل، ومواقعة النساء، فإن المال مهم لإكمال الزينة، وهي جزمة أديداس، أو كموش، بنطلون جديد، ويفضل الجينز البوقي بجيوب كبيرة وأحزمة، قميص أو قمصان جديدة ذات ياقات كبيرة لها ألوان زاهية، أو حارة، عطر البخور، أو المنتخب، بطارية جديدة ماركة رأس النمر الإنجليزية الأصلية، سويتر، منديل كبير مصنوع من القطن، علبة فازلين كبيرة تستخدم كحقة للصعوط فيما بعد، مسجل كبير بسماعتين ملحقتين، والأجمل والأكثر إثارة والذي يعطي وضعية اجتماعية أفضل للرجل هو ماركة سانيو بالذات، أو إنترناشونال المكتوبة بالفضي بارزة ما فوق علبة التشغيل، شنطة هاندباج كبيرة، وهي ما يطلقون عليها تدليلا: قوقو، نظارة شمسية سوداء اللون، أو عاكسة للضوء كبيرة تغطي نصف الوجه العلوي، تحب البنات رؤيتها هناك، ساعة يد كاسيو طالما لا توجد سيكو أصلية ولا ستيزن أو جوفيال، والبعض وهم قلة يحتفظون بقلم بك ونوتة صغيرة، وهما طالما يدلان على معرفة بالكتابة والقراءة والثقافة، ويحددان موقع الشخص في منظومة العمل؛ حيث إنه غالبا ما يكون قد حظي بوظيفة وكيل مشروع، وهي غاية ما يحلم به الجنقوجوراي، وتلك هي فائدة العلم ودخول المدارس، ويستطيع أي جنقوجوراي مع بعض الاجتهاد أن يكمل زينته في فصل الدرت، في شهر ديسمبر هذا، ففي كل خميس يحاول العامل جهده أن يشتري بعضا من هذه الأشياء، وأن يستمتع فوق ذلك بخميس جيد متميز يرفع من قدره وهو يحكيه في العودة، عند التاية وكنتوش اللقمة على النار، والأصدقاء التعابى يفترشون جوالات الخيش على الأرض، يطلقون عضلاتهم وأخيلتهم لسحرة الراحة يعبثون بها ما شاءوا، لا يميل الجنقوجوراي كثيرا للنساء، بل هم زاهدون في شأنهن، ولا يبطئون في إطلاق لقب هوان على كل من فضل مصاحبة النساء على معاقرة الخمر، المريسة هي المعشوقة النهارية الأمتع الأفضل، العرقي يشربونه بالليل، حيث يبرد الجو وتتبخر سكرة المريسة، ويحتاج الذهن إلى مسكن يجعل العضلات المرهقة التعبة تسترخي وتنام، إنهم الآن في شهور الكسل، التي تبدأ منذ الخامس عشر من ديسمبر؛ شهور ما بعد الحصاد، وهي عبارة عن استراحة محارب إجبارية، نزقة بليدة مرة طيعة حلوة شقية مراوغة، تنبهنا لكل ذلك عندما أتى لمسامعنا الحوار الذي انسرق عبر صريف القصب من بيت خميسة النوباوية، بينها وأحد الجنقو، عرفنا أن اسمه عبدارامان. - أنا غلطان يا أمي، سامحيني. - يا عبدارامان، إنت لسانك حلو، ولكن عملك شين زي الخرا.
ثم دار حديث خفيض فلم أتبينه، ولكن عندما طلب منها عبدارامان غرضه كان الصوت واضحا: كويس، خلي قميصي الجديد دا معاكي وأديني نصية واحدة، وبكرة لو ما جبت القروش ما تديني القميص.
ضحكت خميسة ضحكة مجلجلة: نفس حكاية المسجل، شربت خمسة شهور؛ عرقي، مريسة، عسلية، كاني مورو، بقنية لمان شبعت تب، وبعدين جيت قلعت المسجل، لا قرش ولا تعريفة، حتى البت القلت عايز تعرسها غشيتيها، عروسي، عروسي، ولكن اليوم البدا الكديب، تاني عين تشوفك تنقد، إلا الليلة، لمان الدرت جاء وبقيت عاطل ما عندك شغل.
قال في سرعة: البت! البت يا أمي حسع نعرسيها، شوفي فكي علي الزغراد وين، حسع يشيل لينا الفاتحة.
قالت بصوت قوي وصارم: منافقة ود أم تيظ. - وحياة جدي برمبجيل! والله يا أمي ما نكضب، جد جد، وحياة رأس أبوي جد جد، أتى صوت رقيق من مكان قصي في بيت خميسة: يا أمي أنا ما عايزاو، ما عايزاو، ما عايزاو، وتاني ما عايزاو، الجنقوجوراي يا أمي في الدرت يحنن وفي الخريف يجنن.
قال عبدارامان ضاحكا في انتشاء بين: هييه كلتومة، أمسكي عليك لسانك، لمن نعرسيك نوريك أدب المدايح.
دخل الحوار شخص آخر، تحدث عن بيت الحلال، وحلف بالطلاق والحرام، أن يأتي المأذون الآن ويتم العقد الآن، ويدخل عبدارامان على كلتومة: حسع دي.
يأتي صوت كلتومة من عمق قصي في بيت خميسة النوباوية: ما عايزاو، ما عايزاو، ما عايزاو، يجيني لمان يفلس، إنت وين لمان القروش في إيدك زي التراب في موسم السمسم، إنت وين بعد قطع العيش؟ ما عايزاو، ما عايزاو يا أمي، ما عايزاو.
قال بهدوء: والله السنة دي معانا سنة كبيسة، أنا بعت فيها مسجلي، ونظارتي الاشتريتها من القضارف ويا دوب دا شهر! شهر واحد دخل علينا، ما عارف يجي شهر ستة كيف؟ قالت خميسة النوباوية: البت قالت ما عايزاك. - تسمعي كلام المرا؟ في مرا تابى الجواز! الشخل «الشيء» الحلو دا بينأبى؟ ثم أضاف: يا أمي خميسة كدا أدينا نصية عرقي نشربها على بال ما موسى ود محجوب يجيب الفكي الزغراد، ويقرأ الفاتحة، ونخش على بنيتك دي ونبقى لحم ودم. - ما عايزاك، ما عايزاك، إن شاء الله نصك للكلاب.
أكدت أصوات أخرى على أهمية أن تنزل الآن خميسة النوباوية نصية إكراما لزوج ابنتها المرتقب، واحتفاء بالمناسبة ومباركة للدخلة العاجلة، والخمرة - كما يقولون - زغاريت السرير، أبشري يا كلتومة، أكدت خميسة أنها لن تفعل، إذا أراد أن يتزوج من ابنتها عليه إحضار الرجال غدا بعد الظهر، وإحضار ماله. - الرجال ساهلين يا أمي بخيتة، ولكن المال في درت سخن زي دا، الله يعلم.
ثم أضاف بصوت خفيض بعض الشيء، وكأنه يحدث نفسه: أنا لو عندي مال كنت اشتريت النصية شربتها، ونمت مرتاح البال عزيز ومكرم، لا عرس ولا كلام فاضي، أنا حسع عايز أعرس ليه؟ مش عشان ما عندي حق النصية؟ قروش قبال ما يجي موسم قطع القصب، ولا أمبحتى ولا الفحم؟ والله إلا لو عندي جان، ولا شنو يا جماعة؟ - ما عايزاو، يا أمي أنا ما عايزاو، وتاني ما عايزاو، جنقوجوراي مفلس أنا دايره بيه شنو؟ وعايز كمان يعرسني عشان نصية؟ ما عايزاو ما عايزاو.
دار حوار بعيد عن مسامعنا، وكانت تصلنا منه همسات مشوشة ما يشبه الطنين، وحك الحناجر، يتخلله صوت كلتومة صارخة أو شاتمة، كانت ألفاظها المرة الساخنة تتسلل عبر صريف القصب؛ لتنتشر في المكان كله، تنخلط مع ثغاء السكارى، ووسوسة الوطاويط، هرجلة الكلاب، وحوحة القطط، وفحيح بعض الذين أووا لعناقريبهم يتجاسدون، وفجأة دوت الزغاريد شارخة ظلام الحي الشرقي الدامس من وسط حوش خميسة النوباوية، في الثواني الأولى عرفت الحلة كلها أن عبدارامان ود أبكر البلالاوي قد تزوج كلتومة بت خميسة النوباوية، في تلك الثواني ذاتها علق الناس أن عبدارامان يتزوج للمرة الرابعة في سنته الرابعة في الحلة، وأنها لن تكون الأخيرة، إذا كان في العمر بقية، وأن كلتومة بت خميسة النوباوية قد تزوجت للمرة الرابعة كعذراء، حتى لا يسأل المأذون، ذات المأذون الذي عقد عليها في المرات السابقات، عن قسيمة الطلاق في كون أنها ثيب، وأكد الجميع للجميع أن عبدارامان ود أبكر لن يخرج من هذه الزيجة بأخوي وأخوك، سوف يحصل له ما حصل لأزواج كلتومة السابقين أو أسوأ؛ واحد منهم في السجن إلى الآن، ثانيهم مات مقتولا في ذات البيت، ثالثهم طفش لا أحد غير الله يعلم أهو حي أم ميت، والسبب وراء ذلك أن خميسة لا ترضى الحقارة، وينتقم لها كجور التيرا عاجلا وليس آجلا، والجنقو حقارين وعبدارامان يعرف، ولكن كما قال لنفسه: المعايش جبارة.
الناس هنا لا يتنبئون ولكنهم يعرفون، يقرءون المستقبل دون لبس أو تشويش، بل يرونه.
وصتني وصيتا
الصافية أصبحت مشروع حياته الآني، والآني هنا كلمة مهمة وذات دلالات غير محايدة، وسوف يغتاظ فعليا إذا علم أنني أستخدمها في هذا السياق، فهو متقلب المزاج، طائش، تطوف برأسه أفكار كثيرة، وقد تكون متناقضة في ذات لحظة تولدها، ولكن الثابت أنه يتبناها ويشرع في تنفيذها مباشرة، تماما كما يفعل طفل نزق في الحلم، أو فنان مجنون في لوحة، وهذا طبعه منذ أن تعرفت عليه في طفولتنا الأولى، وأعرف ما دام اختلق فكرة مشروع الصافية، فإنه سيصل إلى قاع الفكرة المظلم البارد، وسيلقم من حصبائها المالحة، فما أعتبره تطفلا يسميه هو مهام صعبة، وهذا ما يفرق ما بين شخصيتي وشخصيته، وهو ليس اختلافا في الدرجة كما يظن كثير من أصدقائنا المشتركين، فهو مشكل أخلاق وفهم للحياة، أنا أحب الآخرين مع الاحتفاظ بمسافة، وإن كانت متوترة بيننا، أما هو فأول ما يفعله هو إلغاء هذه المسافة، لا يوجد - حسب وجهة نظري - في الصافية ما يجذب رجل مدينة، شرب مفاهيم جمال عربية منتجة بدقة عبر المدرسة ومناهجها، عبر التلفزيون والراديو والجرائد، عبر الشارع والتربية الدينية وحتى مفهومات أسرية، وفي إمكانه، وبين يديه هذا الموديل، رهن إشارته، فهي خيارات متنوعة سهلة وجاذبة في تناغم مع ذوق تنشأ عليه، وهو أيضا ليس مريضا نفسيا ولا رجلا شهوانيا، وإن يكن أعرف بالنساء مني، ولكن دافعه الأكبر نحو الصافية، كان دم المغامرة الساخن الذي يغلي في عروقه، فهو رجل لا يتحمل انغلاق اللغز إطلاقا، هذا ما أفهمه عنه؛ لذا لم أندهش عندما قال لي: أنا عايز أحسم موضوع الصافية دا.
قلت له: سوف تموت.
قال بثقة لا معنى لها: أنا لن أموت مقتولا، كلمتني قارئة فنجان وكف حلبية قابلتها في بورتسودان، أنا ح أموت غرقا وفي عمر كبير، ربما بين السبعين أو الثمانين. - كويس، هل قالت ليك ح تغرق بكامل أعضاء جسمك وأطرافك، عيونك مثلا؟
ضحك وهو يغلق باب الشارع خلفه، ولكني تلمست في ضحكه خوفا جيدا ومؤثرا، وقالت لي نفسي إنه سوف يلغي المغامرة، وهذا مؤكد؛ أنا العارف به.
كعادتها في الأيام الأخيرة، أخذت ألم قشي عندما ينتصف الليل تغلبها الوحدة، حيث إن أدي الأم خصصتها لي وحدي، أو هي التي خصت نفسها بي، تأتي إلي في منزل مختار علي، ونمضي معا إلى بيت أدي، طلبت مني ألم قشي ولأول مرة أن أجعلها تحبل مني بطفلة، قالتها واضحة هكذا: أنا عايزة كدا! عايزة بت منك! بت سمحة تشبهك كدا.
راقت لي الفكرة، وشحنتني بحماس شبقي رهيب، سيطرت على لساني، ومكامن اتخاذ القرار في عقلي، وكأنما أنا صاحب الفكرة، أو أنني كنت أنتظر مبادرة ما منها في هذا الشأن بالذات، وحتى لا يطلق على ابنتي بنت حرام، في مجتمع متخلف كمجتمع الحلة هذا، قلت لها: خلاص، ح أتزوجك.
قالت في هدوء: طبعا.
قلت لها: إمبارح اتزوج جنقوجوراي اسمه عبدارامان كلتومة بت خميسة.
قالت ضاحكة: عبدارامان حملها ثلاث مرات، كان ساكن معاهم في البيت، ياكل ويسكر ويصاحب بالدين، حيطة العوضة كلها شخوط. - كان مصاحبها؟ - أيوا، دا راجلها عديل، وهي بدونه ما بتقدر، وهي تحبه زي عيونها، لكن عرسها إمبارح؟ الجنقو ما بيعرسوا إلا لمان يفلسوا، ويعرسوا النسوان العندهم قروش، وكلتومة دي عندها قروش. - عندها قروش ودهب، أمها عندها شياطين وكجور تجيب ليها أي حاجة عايزاها، عندها سفلي كمان.
جاء ود أمونة في هالة من العطر في صحبة الفكي الزغراد، وأدي التي تلبس زي الحماسين القومي الأبيض الجميل، تحمل مذبة جميلة، حضر صديقي، مختار علي كان أبي ووكيلي، حضر نفر من الجيران والسكارى العابرين، تم عقد الزواج، باركنا الفكي علي، وتمنى لنا ذرية خيرة تزيد من أمة محمد
صلى الله عليه وسلم ، تبرعت لنا أدي بسكن معها إلى ما شاء الله، أو أن نبني بيتا خاصا أيهما أقرب، تبرع ود أمونة بتجهيز ألم قشي لي كلما أطلب منه ذلك، ولكنه لم يفصح عما إذا كان ذلك مجانا أم نقدا، وأقامت لي الجالية من موظفي الشركة والآخرين الذين جاءوا من المدن الأخرى أي الجالية احتفالا كبيرا، جاءوا بفنان من القضارف، وكان له الفضل في إدخال أغنية:
وصتني وصيتا.
قالت لي اترجل.
خليك في الواقع.
أصلو الفراق واقع.
كان ترضى كان تزعل.
التي أخذ الناس فيما بعد يرددونها في حفلاتهم، حفظها ود أمونة عن ظهر قلب، غناها العجوز بأم كيكي، بعد أن حور قليلا في لحنها لتتماشى مع وتره الواحد، وسلالمه الموسيقية العجيبة، في الحق هو الذي جعلها متاحة للجميع ولجميع الأغراض كأغنية سيرة، وأغنية دلوكة، كأغنية كلش ودبك، كأغنية كيتا ونوبة، كأغنية تم تم لترقيص العروس وقطع الرحط، وحينما طلب منه كردفانيون حنوا فجأة لرمال بلدهم، غناها لهم بإيقاع المردوم، وغناها لعزابة من الشمالية يعملون في الطلمبة بإيقاع الدليب، بالإضافة إلى أنه مكنها من أن تصبح أغنية الحمام المفضلة للجميع، ثم ظهر فستان وقميص وطريقة للبس التوب باسم وصتني وصيتا، بل سميت بها طريقة لركوب الحمير، الشيء الوحيد الذي صعب على القرويين في الحلة هو ابتكار رقصة معينة محددة الملامح بهذا الاسم، وتم التأريخ لزواجنا بظهور هذه الأغنية في الشرق، وهذا ما اعتبرناه فألا حسنا، بالرغم من القصة الحزينة التي شيع أنها السبب في تأليف الأغنية، والمصير المأساوي الذي آل إليه الشاعر المسكين؛ حيث إنه أصيب بالجنون بعد كتابة القصيدة مباشرة، ولم ينته الأمر هنا، بل إن الشاعر هام في فلوات الله الفسيحة، وفي قرية على أطراف الخرطوم سقط في بئر مهجورة، ومات شر ميتة، وليتها كانت هذه هي النهاية للمأساة، ولكن حبيبته المسيحية الجنوبية الجميلة التي رفض والدها أن يزوجها له عميت من البكاء، وشيع أن أول قصيدة كتبها هذا الشاعر في حياته وآخر قصيدة هي وصتني وصيتا، ورغم ذلك اعتبرنا ألم قشي وأنا أن ارتباط زواجنا بهذه الأغنية فأل خير؛ لأن بها، في كلماتها: جوامع وكنائس، أجراس ومعابد، وأهمها وجود المنجل؛ حيث إنه من الأشياء المشكورة في الحلم، هنا في الشرق.
في مديح الحبشيات
في هذه الأيام تشكو النساء بأن السوق بارد؛ حيث تكسد المريسة، وتبور وتضر بها سخونة الجو، فتصبح حامضة وتفسد، يكسد عرقي البلح أيضا، وقد يتوقفن عن صنع العسلية إلا بالطلب؛ لأنها مكلفة وتفسد بسرعة، ويقل المال المتداول في الحلة، تنتعش روح المقايضة، وتصبح مسئولية كل ربة منزل هي أن تحافظ على تماسك أسرتها في هذا الفصل، الصيف، ما أمكن، فالمسألة مسألة حياة أو موت، والاعتماد على الرجل في هذا الموسم بالذات ليس سوى عملية تعجيل الطلاق، أو إفساد هدوء المنزل، وقد يعرضها هي وأبناءها للضرب، كنت أستمع باهتمام لألم قشي، لقد أصبحنا من لحم ودم ونحن الآن مشغولان في إنجاب الطفلة بنشاط وهمة وعمل دءوب، وفيما يشبه استراحة المحارب، كنا نحتسي القهوة بالزنجبيل، كانت تحكي لي بلكنتها الخفيفة المنعشة التي هي كرائحة البن الحبشي التي هي كالصباح على شاطئ النهر، كتنهيدة حبشية تعشق.
دعوني هنا امتدح الحبشيات قليلا، دعوني أصف الهالة السوداء الساحرة حول أعينهن، هي ميزة تخص سكان الهضاب وحدهم، دعوني أصف كتفها وهو يشبه كتفها وحسب، ربما، صنفت اليوم من الرجال العنينين، وهم صنف من الرجال لا تفك طلاسم حزنه سوى امرأة، ولكن أي النساء؟ تحررت من عنتي في ظل لمسات هذه الساحرة، في ظل صبر أناملها المجنونة الشبقة، في ظل ظليل من ذات صبرها، ذات معرفتها، ذات صوفيتها، ذات جنونها، ذات حنكتها، سكتها، ذات حبشيتها، ودعوني أقل: وأنا في هذا الجذب العنيف، دعوني أقدر أن النساء في الكون اثنتان: إما حبشيات، وإما أخريات، أما الحبشيات فحبشيات، أما الأخريات فشتى؛ فمنهن العاملات، والعاطلات، وذوات الجنسيات، اللاجئات، المغتربات، الجنقوجورايات، النحيفات، ذوات الأرداف، العالمات، المعلمات، النبيات، الطالبات، العاشقات، العشيقات، الطويلات، الجدات، السكرانات، المحاميات، القاضيات، الصحفيات، ذوات الكعب العالي، الناكحات، العطشى، اللائي يضعن نظارات طبية سميكة، الناظرات، الضاحكات، اللائي يمشين كما يمشي الوجي الوحل، الراقصات، العاريات، اللابسات، الزانيات، العفيفات، الشريفات، النظيفات، التقيات، البائسات، الجائعات، الأمهات، الصديقات، الأخوات، البنات، الشاعرات، الكاتبات، اللات، السامايات، كانت ألم قشي تحكي لي، زوجتي وحبيبتي ألم قشي، وهذا مقام ضد العنة، وتسألني عن خوف الرجال المميت من العنة؟ قال لي ود أمونة ذات مرة: أنا حلمت كم مرة امرأة، وكنت فرحان جدا جدا.
ولكنني أنا أحب أن أكون رجلا، رجلا يضاجع النساء بقدرة وفعالية، ويقذف في أرحامهن، ويجعلهن يحبلن ويلدن، ولا أفهم كيف يرغب ود أمونة أن يكون امرأة؛ لأنه ببساطة أن تكون امرأة يعني أن تتحمل الرجل، وهذا أسوأ ما في الأمر، لعمري كيف يمكن تحمل مخلوق بهذه البجاحة والأنانية والعنطظة؟
قالت لي ألم قشي إنها تزوجت من قبل من رجل في همدائييت اسمه موسى حربة حربة، له أسرة تعمل في التهريب إلا هو، فكان الجنقوجوراي الوحيد في الأسرة، كانا يسكنان الجيرة في بيت على شاطئ النهر مباشرة، ولأنه ليست هناك منازل للأثرياء وأخرى للفقراء؛ فكانا يسكنان كما يسكن الجميع، قطية كبيرة، أمامها راكوبة من القش والعدار، لها سور من أشواك الكتر وقصب الذرة، كانت تعمل في الصيف مثل كثير من النساء في صناعة الخمور البلدية، وفي كل ثلاثاء تصنع برميلا من المريسة، هو لا يفعل شيئا سوى لعب الكوتشينة تحت الأشجار الظليلة مع العساكر، أو أحيانا يذهب في رحلة القنيص لصيد الأرانب، الحلوف، القرود والأصلات في غابة زهانة، مرة مرة يذهب لسوق الكترة شاريا أو بائعا، اعترفت لي أنها أنجبت له بنتين، هما الآن مع أسرته في همدائييت، بنتان جميلتان تدرسان بالمدرسة الابتدائية، الكبرى في الصف السابع، والصغرى في الصف الخامس، طلقها في صيف ساخن جاف مغبر قبل ثلاثة أعوام، لا لسبب واضح سوى أنها قالت له: ابقى زي الرجال، خلي الكسل، واشتغل في الجيش أو التهريب، فأخذ البنتين إلى أبيه الثري بهمدائييت، عندما عاد أقام مع امرأة مطلقة في حي السوق، ولكنه انتظم في زيارتها، مرتين في الأسبوع على الأقل عند منتصف الليل، مدعيا أن له حقا فيها طالما لم تتزوج إلى الآن، ومن حقه أن يعيدها إلى عصمته وقتما شاء، وأن يضاجعها وقتما أراد، طالما لم يعطها قسيمتها بعد، فهو شرعا زوجها، وأكد لها: اليوم الألقى راجل معاك ح أكتله وأكتلك.
لم يقف أحد في صفها، كان عليها أن تقبله كما هو؛ لأنه ليس استثناء، هي الاستثناء والنشاز، هي نفسها، قالت ألم قشي في حنان، وهي تمد لي يدا بها فنجان قهوة يرسل بخارا شهيا في الهواء: إنت زول تاني، ما بتشبه رجال البلد دي، عشان كدا أنا حبيتك، وقلت إنت التستاهل تكون أبو بتي؛ لأنها ح تاخد طبعتك، فهمت ولا ما فهمت؟
ليس هناك ما أفعله في الحلة، كانت الأيام تتمطى مثل كلب كسول، تحت زير ماء ندي، كل ما يجب أن يقوم به رجل قد مضى أوانه، والآن أوان الكسل، مصاحبة النساء، الاستدانة عن طريق رهن الزينة، والبعض يعمل في تنظيف الأرض وصنع الفحم، عنت لي فكرة أن أمتلك أرضا زراعية على تخوم خور مغاريف، وأقوم بخدمتها وتنظيفها بنفسي حتى لا يقضى علي ضجرا، وأنا رجل لم أعتد على أن تقوم النساء برعايتي مقابل المصاحبة، أو إشباع السرير، تبقى لي من التأمين الاجتماعي مبلغ يوفر لي أرضا رخيصة وشاسعة، لم لا أغامر وأترك، الترقد والتجدع في البيوت؟ استشرته في الأمر ولكنه فضل أن يقضي هذا الصيف في المدينة، وربما سافر إلى أديس أبابا، أو القاهرة ؛ حيث إنه يود حضور معرض الكتاب الدولي في شهر فبراير، واقترح علي أن آخذ ألم قشي إلى المدينة؛ لأن الحياة لا تطاق هنا في هذا الفصل، سألني سؤالا مباغتا: ما سألتني عن الصافية؟
قلت له ضاحكا: الناس كلها تعرف تفاصيل التفاصيل.
يعرف أنه قد أصبح من أسطورات هذا المكان، الأسطورات الأكثر إدهاشا، يكفي أن يذكر اسمه حتى تلهج الألسن بحكايته مع الصافية التي يحكيها كل من شاء، كيفما شاء، أينما شاء، لمن يشاء، لكن أقرب الحكايات إلى الواقع والدقة هي الحكاية التي سوف أحكيها أنا العارف به، كما أنني اعتمدت في حكايتي، كما ستلاحظون، على كثير من المصادر وقارنت وثقفت الأقاويل، بل إنني أقمت ما يشبه الندوة في بيت أداليا دانيال يوم مريستها بالسبت، وحضرها الفكي علي وهو رجل مشهور بمعرفة المستور، وفضح النوايا الحسنة منها والسيئة على السواء، بل يستطيع التنبؤ بتاريخ موت الأشخاص وميلاد أطفالهم؛ حيث إن لديه كتبا مثل: الجلجلوتية، وأصول الفقه، شمس المعارف الكبرى، أبو معشر الفلكي الكبير والصغير، واضح البيان في استخدام الجان، وكتاب الطاسين المشهور، وهو أشد الناس بغضا للخرافة وشطط القول؛ لأنه يستخدم العلم: علم الكتاب، كان صديقي معنا أيضا، ولكن لم يعتمد روايته أحد حتى أنا نفسي؛ لأنها كانت الأبعد عن الواقع، بل رأى الجميع فيها الكذب بعينه، والخرافة بقرونها، وقد أقسم مرارا على أنه يقول الحق، وأنه يحكي ما حدث له بالضبط دون زيادة أو نقصان، إلا أن الناس فيما يشبه الندوة في بيت أداليا دانيال يوم مريستها بحضور الفكي علي الزغراد اتفقوا على أن يعتبروا كلامه كلام زول سكران لا أكثر، وقد احتج على جملة الفكي علي، ولكنه لم يغادر الندوة، وأخذ يستمع في صبر إلى حكايته الصحيحة مع الصافية، يقصها المنتدون، يتحدثون بلسانه، يجرون حوارات يفترض أنها وقعت بينه والصافية، بل إنهم يغرقون في تفاصيل ما حدث بدقة، بتأكيد وطمأنينة عظيمين، لم يحاول الاعتراض على شيء؛ لأن لا أحد سوف ينتبه له، كل ما يعتبره حقيقة يعتبره الآخرون تخريفا ، كذبا وتلفيقا، وإتلافا متعمدا لوقائع اعتبرها الناس ملكا لهم، لا يختلف اثنان على أنه طرف في الحادثة، ولكن الحادثة لا تخصه وحده، بل قد لا تخصه إطلاقا، إلى أن انفض الجميع؛ حيث ذهب ثلاثتنا إلى منزل مختار علي، صلينا العشاء في جماعة، تعشينا، ناما، ذهبت أنا إلى قطيتي في بيت أدي، حيث تنتظرني ألم قشي في صحبة ود أمونة.
هدايا ونصائح لود أمونة
افتتح البنك في وقت حسب بدقة؛ ليواكب الموسم الزراعي لهذا العام، وجاء الموظفون ونزلوا في ضيافة شركة الاتصالات إلى أن تكتمل اللمسات الأخيرة لميس خاص بهم، تم بناؤه من المواد الثابتة، وشبه الثابتة؛ ليوائم المناخ وطبيعة المكان، كان يدور حوله صريف من القصب والشوك كغيره من بيوت السكان، ولكن بني الجزء الأسفل من القطاطي بالطوب الأحمر والحجر، الجزء الأعلى من القش النال والقنا، كما تبتنى القطاطي عادة في الحلة، أول من تعرف عليه موظفو البنك كانت ألم قشي، كونها تعمل في ميس شركة الاتصالات، وعندما سألوا عن شخص يعمل معهم كمراسلة، اقترحت عليهم ود أمونة دون تردد، كان الشخص الوحيد الذي بدا لها مفيدا في هذه المهنة، ولربما لمعرفتها التي اكتسبتها من معاشرة أولاد المدن في ميس الشركة، ولمعرفتها لود أمونة؛ حيث إنه طيع، وطائع، وسهل التعامل، ويمكن إرساله لأي غرض مهما صغر، كإشعال سيجارة مثلا، ومهما كبر كخطبة امرأة، فلا يشكو أو يتبرم، دائما ما يرى نظيفا، طلق الوجه، لا يسكر إطلاقا بالنهار مهما كان الندامى، أما عند الليل فليس قبل أن يتأكد من أن لا أحد يحتاج إلى خدماته، شخص مثله نادرا ما يوجد؛ حيث السمة العامة للرجال هنا هي الفظاظة، والرعونة، والرائحة النتنة. ود أمونة، ود أمونة، ما في غيره، ظريف، وسيم، مؤدب، طيع، ومسكين، ويترسل، حدثتهم بأنه يعمل الآن في بيت الأم بأجر زهيد، وشرحت لهم الصفات التي اعتبرها بعضهم نعمة، لم يرفض شكرها.
اشترى بنطلون وقميص وصتني وصيتا جديدين، وذهب للعمل، في الحقيقة الأم هي التي أعطته المال؛ ليبدو بمظهر يليق بمراسلة ، كان يعمل عندها منذ زمن طويل، ومثل أم رءوم دعت له بالتوفيق والنجاح في مهنته المقبلة، وطلبت منه أن يبتعد من خصلة وحيدة سيئة رافقته منذ الصغر: «أوعك من القوالة والسواطة»، وتقصد الأم: نقل الكلام من زول لزول.
أرسلت له أمه أمونة من القضارف؛ حيث تزوجت واستقرت، عندما عرفت بوظيفته الجديدة حذاء جديدا من الجلد الأصلي، دعت له بالخير والبركة، وحذرته من خصلة وحيدة سيئة فيه، رافقته منذ أن أخذ يعمل عند الأم: «أوعك من فش أسرار الناس»، وتقصد أمونة علاقات الناس العاطفية، وعاداتهم التي يريدون أن تبقى سرية.
أهدته أداليا دانيال ساعة سيكو جميلة لها خلفية ذهبية، كانت قد اشترتها من أحد الجنقو قبل موسم مضى، وحذرته من خصلة واحدة سيئة فيه اتصف بها منذ أن عرفته: «أوعك من التعرصة!» وتقصد أداليا دانيال عدم المقدرة على مقاومة الرغبة الجامحة نحو جعل كل فتاة جميلة تنام مع رجل ما، ويكون الفضل له في ذلك وحده، وعندما يتم مثل هذا اللقاء يشعر ود أمونة برضا في نفسه، ولذة لا تشبهها لذة أبدا.
أرسل إليه فكي علي طالبا أن يبارك وظيفته الجديدة، أعطاه حجابا يقيه من الحسد والغيرة وأولاد الحرام وبنات الحرام، وحذره من خصلة واحدة سيئة فيه عرفها عنه الفكي منذ عامين ونيف: «أوعك من النسنسة والدسدسة والخسخسة»، ويقصد الفكي علي فعلة كان هو طرف فيها، والطرف الآخر الشرطة، ولقن فيها الفكي درسا لن ينساه.
طلبته بوشي، أهدته شريط أغنيات حبشية وقارورة عطر، وحذرته من خصلة وحيدة فيه، إذا تركها فإنه سيمتلك القلوب، قالت له: أوعك من الكذب، وتقصد ما شهد به فيما يشبه ندوة بغيضة عقدت ببيت أدي الخريف الماضي، نوقشت فيها حقيقة عذريتها.
أرسلت له العازة هدية من سجنها بالقضارف، وهي عبارة عن شال من الصوف صنعته بيديها، وأوصته بأن هنالك خصلة واحدة فيه عليه الحفاظ عليها، وهي: الوفاء، وتقصد كما هو واضح وجلي، التزامه نحوها بدفع ما عليها من دية حتى يتم إطلاقها من السجن.
وطلبه كثيرون لأجل هدايا ووصايا إلا أنه اعتذر في أدب جم، في أن الوقت سوف لا يسعفه، وعليه الذهاب إلى العمل، مضى وفي ذهنه وصية واحدة همست بها نفسه إليه قائلة: أوعك يا ود أمونة تخلي الفرصة تفوتك، اطلع فوق، فوق، فوق، فوق.
بالتأكيد، حتى تلك اللحظة لم يكن في ذهن ود أمونة ولا في مخيلته، أو في مخيلة أي مخلوق آخر أن ود أمونة سوف يصعد إلى أعلى «فوق، فوق، فوق، فوق»، لدرجة أن يصبح وزيرا اتحاديا بعد عشر سنوات فقط لا غير، وهي قصة مدهشة سيرويها صديقي في كتابه التوثيقي: ثورة الجنقوجورايات.
جاء إلى بيت الأم في الصباح الباكر ستة من الجنقو، في صحبتهم ثلاث جنقوجورايات أخريات ومعهم الصافية، عشرة في تمام حالهم وكمالهم، قابلتهم في الديوان، وهو حيث يستقبل الضيوف في بيت الأم، قالوا إنهم يريدون الذهاب إلى البنك طالما كان هذا البنك للفقراء والمساكين من المزارعين، كما قيل في خطبة جمعة قبل عام مضى، في الحق لم يحضرها أي من الحضور، حتى الفكي الزغراد نفسه كانت عنده حضرة في ذلك اليوم من جن، جاء على عجل من بلاد الفرنجة، كما فسر سر غيابه لاحقا، أكدوا أنهم يريدون سلفية من المال، تمكنهم من شراء مشروع كبير ينظفونه بأنفسهم، ويحرثونه بوابور يشتريه البنك لهم أيضا، مزودا بمحراث من ماركة جيدة تم تحديدها بدقة فائقة: موديل، ماركة، صناعة، ولونا، إذا صادفت السلفية خريفا جيدا كريما معطاء سيعيدون أصل الدين في ذات العام، «وتفضل لينا شوية حربشات نتقاسمها»، قال أبرهيت وفي فمه ابتسامة كبيرة، جعلت شاربه يبدو طويلا وعريضا، ثم أضاف: ونرجع للبنك الأرباح السنة اللي بعدها، وبعد داك يكون البابور، والدسك، والمشروع، ملكنا نحن برانا، ولا كيف يا إخوانا؟
قلت له: كلامك في مكانه، ولكن زي ما عارفين الموضوع دا يحتاج لدراسة جدوى.
سأل جنقوجوراي صغير الحجم أنيقا، يحمل قلما ونوتة في جيب قميصه التترون، كان يجلس ما بين أبرهيت وإحدى الجنقوجورايات: شنو دراسة الجدوى دي؟
ثم تساءلت الصافية: يمكن نشتريها من سوق القضارف، مهما كلف؟
طلبت منهم أن يمهلوني أياما قلائل، وبإمكاني إعدادها لهم: ثلاثة أيام بس، كنت أرى أحلامهم بالنجاح والثراء بأم عيني تتطاير حولنا، تملأ المكان إنشادا، بهجة، وودادا، قبل أن يذهبوا انتحى بي أبرهيت جانبا، واعتذر لما بدر منه من رعونة في موضوع صديقي، وأنه ظنه مرسلا من قبل الأمن، حدثني عن بعض المصاعب التي لا يزال يعاني منها من جهات كثيرة، أمنية ودينية متطرفة، نسبة لدوره المزعوم في ترحيل الفلاشا لإسرائيل عام 1985م، وأنه مستهدف، وقدم لي نيابة عن المجموعة هدية مرتجلة وهي زجاجة كونياك، قالوا فيما قالوا إنها مفيدة لرجل تزوج حديثا من حبشية جميلة كانت تعمل في بيت أدي، احتفلنا أنا وألم قشي احتفالا صباحيا بالهدية، تناقشنا في فكرة الجنقو الخطيرة، سألتني ألم قشي سؤالا مباغتا: بتظن البنك حيسلفهم؟
قلت لها: ما عارف، ولكن نكتب ليهم دراسة الجدوى، بعد داك الله كريم، يمكن، ويمكن، ما في شيء عند الله بعيد.
أما بيني وبين نفسي، فكنت أعرف النتيجة مسبقا، واستطعت أن أتخيل تماما منظر الجنقو وهم يطردون من البنك شر طردة، وأنا معهم أعتذر أو أتوعد، الأمر سيان.
ردت ألم قشي معلنة: الناس ديل وراهم الفكي علي الزغراد ذات نفسه.
وفكي علي كما هو معلوم لا يعمل بالقرآن وحده، ولا بالكجور وحده، ولا بالشجر أو السحر الأسود، ولكنه يعمل بالكتب والقرآن، السحر، التنجيم وعلم الحرف، ولديه خدام، وبإمكانه أن يفعل ما ينوي فعله، قالت: فكي علي يده لاحقة، فكي علي يروب الموية عديل كدا.
أنا أحد أصدقاء فكي علي، تعجبني حياته البسيطة، ثقته العالية في نفسه، وعلمه، وفعل يده، رائحة أثوابه وجسده الخليط من الصمغ والوبر، وشيء من الجلد المدبوغ، تعطيه مسحة غموض، وتؤكد فيما تؤكد تفرده في كل شيء حتى شميم الثوب، لديه فهم للدين، ليس متقدما أو متخلفا، ولكنه غريب وخاصة في مسألة شرب الخمر والتكليف؛ حيث يرى أن الناس عند الله ليسوا مسلمين وغير مسلمين، ولكنهم نساء ورجال وأطفال، فالأطفال والنساء غير مكلفين بالعبادة ؛ لأن لا مكان لهم في موضوع الثواب بالجنة، فالجنة للرجال وحدهم؛ لذا عليهم دفع تكلفة ما سيجدونه في الجنة هنا في الدنيا، أما في الخمر فإنها محرمة على السفهاء والصعاليك فقط؛ لأنهم يتخذونها لهوا، أما الخيرة والصفوة والمتأدبون من الناس بمن فيهم الحكام، والفقهاء، والقضاء، والفكية، فإنها خير جليس لهم، وقال: أفكاري دي كلها كلمني بيها إبليس ذاته، إبليس دا كان واحد من الملائكة، وأكثرهم علما وقربا من الله، الناس ما تستهين بيه.
الكونياك الحبشي ألذ طعما وليست له آثار اليوم التالي للشرب من صداع نصفي مؤلم، حرقان أو غثيان، كل ما يفعله بك أنه يجعلك تتبول كثيرا وتتشهى ممارسة الجنس، سواء كنت امرأة أو رجلا، الأحباش يستوردونه، ويصنعونه أيضا، أما الإريتريون فإنهم يصنعونه بإمكانات محلية لا بأس بها في الغالب، أنا أفضل الحبشي، احتفينا عند منتصف النهار، عند المساء في الحلم جاء إلينا الجنقو على ظهور حمر الوحش، تتبعهم أشجار السمسم وعيدان قصب الذرة، وعلى رءوسهم تبيض السمبريات والعشوشايات، أخذوا دراسة الجدوى، وتركوا لي حميرهم الوحشية في معية خريف مطير طيني وشمس حارقة كالنار.
الجنقو يدخلون البنك
أرجو ملاحظة أنني تجنبت تماما كل التفاصيل التي ذكرها صديقي لي شخصيا عما وقع بينه والصافية؛ ما عدا تلك التي وافقت ما تحدث به الآخرون عنه وعن ود فور، ولكن اعتمادي الأكبر كان على المعلومات التي تدفقت في بيت أداليا دانيال يوم مريستها في سبت مضى، عندما أقامت ما يشبه سيمنارا أكاديميا حول ما اصطلح على تسميته في تلك النواحي بحكاية الصافية، وسيلاحظ تأثري بالوقائع التي اعتبرها الفكي علي حقائق ثابتة؛ أولها وأهمها أن الصافية تمتلك عضوين تناسليين، واحد يخص الرجال والآخر يخص النساء، والذي يخص الرجال مكتمل وكبير الحجم، ويختفي تحت شعر عانة كثيف وشائك، أما الحقيقة الثانية التي لا يتسامح في شأنها فكي علي هي أن الصافية فعلت بالرجلين فعل الذكر بالأنثى، وأن ذلك مؤكد ولديه دليلان لن يذكرا هنا، هنالك أيضا حقيقة يشك الفكي علي قليلا في صحتها ، ولكنه لا ينفيها، ورغم ذلك فقد حلف بجده لأبيه سليمان الزغرات السناري أن يزهق روحه في الحين والآن أن للصافية بنتا وولدا من امرأة بازاوية تسكن الآن في مشروع دوم، واسمها نعمة مشاكل، وهو يعرفها ويعرف أمها وأباها، وقد رأى البنت والولد بعينيه الكائنتين الآن في رأسه ووجهه.
أما فيما يخص تحول الصافية إلى مرفعين أو أسد أو ما شابه ذلك من حيوان فهو جائز، والمسألة عنده تتمحور حول اللبن، والمؤكد عنده أن تيراب البنية يورث عن طريق لبن الأم المرضع ثم قاس على ذلك، إذا نظرنا بدقة إلى حقائق وجوائز وتشككات الفكي علي، ثم قرأناها في إطارها الصحيح الذي هو مجموع قوالات، وإفادات، ومداخلات وما دار همسا فيما يشبه الندوة في يوم مريسة أداليا دانيال ببيتها، وما تطابق من شهادتي الرجلين اللذين خاضا تجربة واقعية وفعلية مع الصافية مع قوالات، وحكايات، وحقائق، وجوائز، وتشككات الناس، والفكي علي، وحذفنا من حكايتيهما كل ما شذ عن ذلك، مع الإهمال التام والمتعمد لمحكيات الصافية عن نفسها؛ لأنها لا يتوقع منها أن تقول سوى الجانب المشرف من الحكاية، أي الجانب الذي يجعلها تبدو كضحية لقوى خارقة خارجة عن إرادتها وضحية لبني الإنسان، وأنها كما يقال اعتمدت على بعض القوالات الدائرة في الحلة واعتبرتها حقيقة؛ ما شوش تفكيرها وخلط عليها الواقع بالمتخيل مما صاغ الأهالي سهوا، وأنها كما قال الفكي علي الزغراد واصفا حالها: «تشابه عليها البقر»، قبل أن أحكي حكاية الصافية بالصورة النهائية التي أعتبرها الحقيقة الكاملة فاجأتني أداليا دانيال باعتراف خطير، حدث قبل أكثر من ثلاث سنوات، يوم كان الناس في عز الخريف والعمال مشغولون بكديب العيش وفحواه، مع بعض التصرف من جانبي.
قالت أداليا: جاء التاجر فلان الفلاني، صاحب أحد المشاريع الكبيرة في تخوم زهانة، ولم يكن اليوم يوم مريستي، يوم أحد، طلبت مني الصافية أن أحضر لهما عرقي وعسلية من الحلة، مشيت لبيت أدي وأحضرت لهما كل شيء، وكانا قد أحضرا لحمة من السوق، إلا أنني اعتذرت لعدم تمكني من طبخها ؛ لأنني ذاهبة إلى الكنيسة وقد سبقني زوجي وولدي وابنتي إلى هناك، تركتهما يشربان ويطبخان في الراكوبة الكبيرة قرب اللالوبة، بعد أداء الصلاة عدت تاركة زوجي؛ حيث إنه يعمل على خدمة بيت ربنا إلى ما بعد المغرب، أما ابنتي والولد الذي يصغرها بسنتين، هي في الرابعة عشرة، فتركتهما مع الشباب الذين في عمرهما؛ حيث إنهم غالبا ما يبتكرون برامج شائقة تبقيهم مع بعضهم البعض إلى أن تغيب الشمس، كان بين بيتنا وبين الجيران باب صغير غالبا ما نتركه مفتوحا، ولأن بيت الجيران هو الأقرب للكنيسة؛ دخلت عبره، ثم إلى الراكوبة مباشرة، حيث وجدت الصافية تعلو جسد الجلابي الأسمر المستلذ المستكين تحتها منكفئا على وجهه، صرخت أداليا في دهشة: سجمي، حينها فقط تنبها، فانتزعت الصافية شيئها من لحم الجلابي الذي بوغت حتى أحدث، وبدا عليهما خليط من القلق، الحزن، العرم، والخوف الشديد، وأخذا في الاعتذار وطلب السترة. وعلى الرغم من أن أداليا، حسب إفادتها، رفضت المنحة المالية الكبيرة التي عرضها عليها الجلابي، إلا أنه أصر وأقسم وحلف بالطلاق وترك لها المال.
قالت أداليا: مشوا بيت الأم، الوقت داك ما كانت الصافية عندها بيت، وأنا من اليوم داك عرفت إنه الصافية دا راجل ومرا في نفس الوقت، وعملت حسابي منها.
ولم تخبر أداليا أحدا بهذه القصة غير الفكي علي الزغراد، وهو بكل سرية وتحفظ حدث بها الجميع، أكدت لي أداليا أن شيئها لم يكن طويلا، ولكنه قصير، وسمين، وأسود، ومحشور وسط الصوف، أما الفكي علي فقد وصفه مستخدما كلمة واحدة فقط: كبير!
بالرغم من أنني لا أميل إلى نشر ادعاء صديقي الذي تبجح أمامي ومختار علي بالقول بأنه أجبر الصافية على حلق شعرها فوجدها امرأة كاملة، بل وعذراء، وأنه أول رجل في حياتها، فإن ذكر تلك الحكاية يفتح أمام الجميع نافذة للفهم والولوج إلى عين الحقيقة، وذلك إذا أضفنا جملته القاطعة: أنا نجمتها «جعلتها ترى نجوم الظهر»، مش هي النجمتني.
ربما أربك مشروع الصافية هذه مشروع دراسة الجدوى؛ لأن هم الناس الآن وقضية ساعتهم هي إدراك حقيقة الصافية، والبنك ملحوق، فما زلنا في شهر يناير، ولكن هناك دائما من يشذ عن القاعدة، وعلى رأس هؤلاء الصافية ذاتها، جاءت في وفد من ثلاثة رجال تسأل عن دراسة الجدوى، قلت لهم: معليش أنا آسف، ما قدرت أكملها، كنت مشغول شوية.
قالت الصافية في جرأة: في موضوع صاحبك؟
قلت مراوغا: في هموم كتيرة، ولكن بكرة الصباح بكون خلصتها.
قالت بصورة حادة وجادة أخافتني، وهي تحملق في أم عيني بمقلتين حمراوين شرستين: أحسن تشوف المواضيع اللي فيها فايدة، وتسيب القوالات، والصواطات، للشراميط، واللوايطة، والمعرصين.
وقالتها بطريقة تعني تماما أنني من هذه الفئات الثلاث، والأخيرة بالأخص.
أبرهيت، الصافية، مختار علي، لام دينق زوج أداليا دانيال، الفكي علي ود الزغراد وأنا، حملنا دراسة الجدوى مكتوبة على ورق فلوسكاب نظيف، استبدلناه أكثر من ثلاث مرات حتى يليق بمكانة البنك الراقية ومضينا، كان البنك مبنى فخما متعاليا ومنتفخا مثل فيل مغرور، على كل كلنا كنا نراه جميلا وغريبا، كان مطليا بالدهان الأخضر الداكن، وهو المبنى الوحيد في تلك النواحي الذي بني من طابقين كاملين، وأخذ الناس يتجادلون في كيفية الصعود للمدير وماهية السلالم أو المصاعد، وكيف أنهم سوف يستخدمونها، وحسم التكهنات ود أمونة الذي عمل مراسلة منذ أيام بالبنك، وانتهز فرصة أنه خال من مرسال ما لدقائق، وأخذ يثرثر مع الجنقو خارج البنك عن البلاط المزايكو، والسلالم الإفرنجية، ومعطر الهواء، والمكيفات التي تعمل بالكهرباء، والماء، وحذرهم بأنهم قد ينزلقون فتنكسر أيديهم أو أرجلهم ولا يستبعد أن يدقوا أعناقهم أيضا، كانوا يبتسمون إليه في حذر، ثم دخل إلى البنك، ثم خرج ليطلب منا دخول الاستقبال، كان كل شيء نظيفا ولامعا ما عدا الجنقو، رغم أنهم كانوا قد عملوا المستطاع كي يأتوا في أبهى ما يمكن، هم الآن الأكثر اتساخا في المكان الذي عمل على نظافته منذ الساعات الأولى من صباح اليوم ود أمونة ومعه امرأتان غريبتان أتى بهما البنك خصيصا للنظافة من مدينة الخرطوم، ولأن غريزة موظف البنك تعمل بنشاط عندما يحوم خطر على المال، انتهرنا الكاشير: هي، في شنو، ديل عايزين شنو يا ود أمونة؟ أنا مش قلت ليك ما تدخل الناس ساي؟ قلت له وقد تقدمت نحوه قليلا: نحن عايزين نقابل مدير البنك.
قال بذات اللهجة الجافة: عايزين منو شنو؟
قلت له: عندنا موضوع معه.
قال في بجاحة: عندكم مواعيد ولا لا؟
قلت: لا.
قال: هل ممكن نعرف الموضوع دا شنو؟
قلت له بصورة قاطعة: لأ، ما عدا مدير البنك.
قال بخبث: المدير عنده اجتماع، انتظروه بره في البراندة، أو تحت الشجرة لما ينتهي من الاجتماع ود أمونة حيجي يناديكم.
ونظر إلينا محملقا في وجوهنا منتظرا رد فعل ما، وعندما خرجنا أحسست به يتنفس الصعداء، ولم نكن قد مضينا بعيدا عن الباب سمعنا صوته ينتهر ود أمونة في قسوة، ولكن انتظارنا لم يدم طويلا في البراندة حتى جاء ود أمونة مرة أخرى، ليقول لنا: موضوعكم لو مكتوب في ورقة؛ المدير قال ح يقرأه ويرد عليكم.
قال له الفكي علي: إذا عايز يقابلنا أهلا وسهلا، وإذا ما عايز يقابلنا برضو أهلا وسهلا، نحن عايزين نأكله؟ نحن عايزنه في شغل، امشي قول له الكلام دا يا ود أمونة.
لوى ود أمونة شفتيه في حركة تعني: أمركم، بالإضافة إلى: وأنا مالي، ولكنا فهمنا منها: إنتو ما قدر المكان دا.
وقرأ الفكي ود الزغراد جهرا تعاويذ، وأدعية، وطواطم، بالإضافة إلى سورة قرآنية قصيرة، ولم تقف شفتاه ولسانه عن التمتمة إلى أن جاء ود أمونة، وفي فمه ابتسامة كبيرة جعلت خديه الأملسين يلمعان، وقال: اتفضلوا، سيادة المدير عايزكم.
ومضى قدامنا يحرك ردفيه، ويديه بصورة بناتية غنجة، ولأننا جميعا اعتدنا على ذلك؛ لم يثر انتباه أي منا، عندما دخلنا وجدنا شرطيين لم نرهما في المرة السابقة، ولا ندري كيف دخلا، وهما معروفان بالنسبة لنا جميعا، نعرف اسميهما واسمي أبويهما، وأميهما، وإخوتهما، وجميع أقربائهما، باختصار: الشرطيان من الحلة، تبادلنا التحايا باقتضاب، وبينما هما مندهشان قليلا صعدنا نحو الأعلى إلى مكتب فسيح تفوح منه رائحة النقود، يتقدمنا ود أمونة مزهوا وهو يدندن بأغنية بنات شائعة، رحب بنا مدير البنك مدعيا السعادة برؤيتنا، معتبرا قدومنا إليه طبيعيا، ولكنا كنا نقرأ ما خلف ذلك بوضوح، كان يريد أن يعرف بسرعة ماذا نريد: اتفضلوا، مرحبا، قدمت إليه المجموعة فردا فردا بتمهل، وقفت بعض الشيء عند الفكي علي، مشهود للفكي علي عمايل خير كثيرة، وألمحت إليه تلميحا أن الفكي علي ود الزغراد بإمكانه أن يضر ضررا بالغا بمن شاء، وقتما شاء، وكيفما شاء، تحدثت عن دور البنك كما يفهمه عامة الناس هنا في الحلة، ثم شرحت له الهدف من الزيارة وأشرت إلى دراسة الجدوى التي أعددتها، ابتسم وهو يسرق النظرات إلى الصافية، وهي في ثوبها الجديد ماركة وصتني وصيتا، ربما كانت رئتاه تمتلئان الآن بعطرها الرخيص ماركة بت السودان، قال وهو يحاول أن يكون حاضرا ومركزا: ادوني دراسة الجدوى أقراها وأعرضها على مدير الاستثمار بعد داك أديكم الرأي، وأنا سعيد بزيارتكم للبنك، وأتمنى أنكم تبقوا عملاء لنا دايمين.
قالها بطريقة تعني بوضوح: «والآن اتفضلوا بره!» قالت له الصافية التي يبدو أنها لم تفهم شيئا مما قال، أو أنها الوحيدة التي فهمت: يعني حتدونا سلفية تراكتور ودسك ولا لا؟
قال مبتسما: الموضوع يحتاج لدراسة، وتحليل مخاطر.
تطوع الفكي الزغراد بشرح ما يرمي إليه مدير البنك للصافية، قائلا: يقصد نمشي، ونجيهم مرة تانية عشان يدونا رأيهم.
أضاف أبرهيت بعد أن أعلن عن نفسه بتنظيف حنجرته متنحنحا مرتين: من الأحسن نمشي، اللي في القسمة نلقاه.
لم يقل المدير شيئا، فقط ابتسم وهو يتسلم مني دراسة الجدوى، يقلبها قليلا بصورة آلية، ثم يضعها على صينية الأوراق، ونحن نخرج همس الفكي علي في أذني: أنا لو عرفت اسم أمه، ح أعمل فيه عمايل، ثم أضاف بصوت أكثر وضوحا: ود الحايل، يتنهد زي الزول اللي ما كويس، مرة يقول اعملوا دراسة جدوى، لمان نعملها يقول امشوا، وتعالوا.
كل مهارات الناس في اصطياد الإشاعات، وصنع الأخبار، وتقصي الحقائق فشلت في الحصول على معلومات عن مدير البنك، حتى ود أمونة لم يستطع معرفة اسم أمه، أو برجه، لولا فكرة أبرهيت ليئسوا: ألم قشي. - أيوا، ألم قشي.
الموظفون الأغراب يتقوقعون في كبسولة واحدة، يتحصنون بأسلوب وطرائق وأفكار وسبل معيشة رتيبة ومكرورة، ولكنها تصبح جيبا مجتمعيا معزولا عن المواطنين والأهالي، فهذا حصن لا بأس به ضد الإشاعات والقوالات، ولكنه أيضا سيظل هشا في مقابل حكمة ومكر وجمال ورقة وإنسانية وألعاب أي فتاة تثق في نفسها، المغربون أضعف البشر، دائما ما يتملكهم حنين إلى البيت والأسرة، والمرأة أو البنت عندهم هي رمز لاستمرار الحياة ودفء المكان، القرويات بالحلة لا يعرفن ذلك، ولكنهن يتصرفن وفقا لذات الرؤية، فإنهن حين يهبن، وحين يأخذن، وحين يدعين، وحين يتواضعن، يفعلن ذلك بشرف وكرامة وقدر من الخصوصية لا يستهان به، إنهن يقدمن أنموذج الأخت، والصديقة، والزوجة، والحبيبة، وليست الداعرة السوقية المستهلكة أو الانتهازية، إنهن بنات بيوت، ومشروعات صغيرة وحالمة لربات بيوت، يجدن فن الحب والعلاقات، أميتهن هي ثروتهن الكبرى التي لا تقيم بثمن، ذات الأمية هي مشعل وعيهن الاجتماعي الكبير، ألم قشي تعرف هؤلاء البنيات حسنا، تمطى الفكي علي، أصبحت الكرة الآن في ملعبه هو بالذات: اسمه بلال حسن التركي، أمه نفيسة بت عبد الله، جمع أولا الأرقام المقابلة لكل حرف من حروف الاسمين الأولين للابن والأم فقط، ثم حدد برج المدير، وباستحضاره للصفات الجسمانية من لون، وطول، ونوع الشعر، استطاع أن يتتبع نقاط ضعفه بين أبواب وأسطر كتاب شمس المعارف الكبرى، ثم زاوج ما بين علم الحرف والفلك والشجر، وما يعرف بالسحر الأسود، ثم غمس قصبته في الدواية وكتب، لم يبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم، ولكنه بدأ كهذا: «براءة من الله ورسوله»، كتبها سبعا وسبعين مرة، لفها حول عرق يسمى عرق الهدهد، ثم أدخلها في قطاع من ساق الخروع المنظف جيدا، وجاوز الجميع بظفر طائر السمبر الذكر، ثم طلب أن يأخذها رجل نجس يقوم بحرقها، وذر رمادها في الهواء يوم الجمعة قبل أذان الفجر، ومن ثم يقوم الرجل النجس برسم خاتم سليمان مرة واحدة على الأرض .
عندما مر أسبوعان على موعد الطمث الشهري لألم قشي، تأكد لها بما لا يدع مجالا للشك أنها حبلت، سررنا لذلك وأخذنا نعد العدة لاستقبال الطفل، ولم يكن همي أنا بالذات نوعه ذكرا، أو أنثى، ولكني أريد مخلوقا صغيرا جميلا يبقى معنا في البيت، ويؤصل لعلاقتي وألم قشي، ولكن هذا لم يمنع من أن نختار اسما مسبقا، فقد اتفقنا على أنه محمد إذا كان ولدا، وأنها القنيش إذا كانت بنتا، ولم نتفق على اسمي التوأم بعد؛ لأنها كانت تود أن تطلق عليهما اسمين أكسوميين معقدين، وكنت أريد أن أطلق عليهما اسمين عربيين، اختلفنا فأحلنا النقاش إلى حين، على كل ألم قشي تفضل المولود بنتا وهي ذات الرغبة التي تزوجنا من أجلها، وهي ذاتها التي تجعل لتواصلنا الجسدي معنى ومتعة كبيرة، وكنت لا أستطيع مقاومة قولها: «عليك الله حملني، عايزة أحمل»، هذه الجملة تشحنني بدفق من الحب والجدية، وتجعلني ضحية بليدة لسلطة البقاء، فأحبها أكثر، لقد اكتشفت أن الجنس عندي مرتبط بالإنجاب، لا شيء آخر، المتعة تجيء مصحوبة بالفكرة، دائما ما يكون في مخيلتي طفل، وأنا على صدر ألم قشي، كان صديقي يعتبر الجنس واجبا إنسانيا، وهو ضروري كي يكون هناك إنسان كامل، وهو في حالة الصافية مسألة نفسية بحتة، بل مسألة إثبات ذات في المقام الأول، كنت أقول له دائما: إذا لم تكن هناك فكرة خلق، تصبح المسألة نوعا من اللذة الميكانيكية.
يقول ساخرا: إذن أنت من أنصار قصة حب وراء كل ممارسة جنس؟ - طفل، طفل أيضا، ما فائدة الحب بلا أطفال في الخاطر؟
قال ضاحكا محاكيا لغة الأفلام المصرية: دا انت رومانسي أوي.
نشأت بيني وألم قشي علاقة حب قوية، عرفت ذلك من القوالات، والإشاعات، وما يشبه الندوات في بيوت الفداديات، وأظن أن ألم قشي هي الأخرى تلمست ذلك، ولقد قيل لي علانية في بيت خدوم يوم الاثنين الماضي: الزولة دي بتحبك، وأنت عارف حب الحبش، تموت وتحيا معاك، مبروك ليك.
ولقد قالوا لها هي أيضا، وحدثتني قائلة: قالوا لي : إنت سويتي للراجل دا شنو؟
بذلك أكون قد وقعت في الحب لأول مرة في حياتي إذا صدق الناس فيما يقولون، أما إذا لم يصدقوا فتظل العلاقة بيني وبينها تحتاج لتعريف، ولو أنها تمتلك آلية استمرارها، لا يهم المسمى أو التعريف ما دامت الطفلة، أو الطفل يلوح بأنامله، من داخل جسدينا ورغبتنا ولمساتنا من عمق قلبينا، في ذاتنا يقهقه، لقد تنبأ لنا الفكي علي بحياة زوجية طويلة وأطفال كثر، والفكي علي رجل صالح من أحفاد رجل من رجال الله اسمه سليمان الزغراد، ظهر لأول مرة ولآخر مرة في كتاب الطبقات لود ضيف الله، أما الفكي علي الزغراد فيعتبر الزغراد الذي ذكر في كتاب ود ضيف الله زغرادا مشوها؛ لأن جده سليمان الطوالي ما كان يعمل بابكو للمراسة، ولكنه كان أحد تلامذة الشيخ محمد الهميم، جاء إليه من دار قمر بأقصى غرب السودان، وكان جده فكي قاطعا، باستطاعته أن يروب الماء، أما إذا زغرت فما من مغلق إلا انفتح، ولا مشبوك إلا انحل، ولا غائب إلا عاد، ولا بعيد إلا قرب، ولا عصية إلا طاعت، ولا كربة إلا فرجت. في هذه البلاد يؤمن الناس بالله ورسله، بملائكته وشياطينه، جنبا إلى جنب مع الفكي الزغراد؛ لذا كانت تنبؤاته حقائق مستقبلية وكشوفات ربانية، وربما هذا ما أعطى لحياتنا قدرا كبيرا من الاستقرار، خاصة من جانب ألم قشي؛ لأن إيمانها بالفكي الزغراد غير مشروط، أما أنا فكنت أفكر في الفكي علي الزغراد كشخص يمتلك مهارات لا تخفى في الإقناع، يعمل في منطقة مكشوفة من وعي مجتمع الحلة، وله القدرة على التأثير في الآخرين، وأرجع ذلك لإمكانات دنيوية مادية بحتة، وهنا تكمن عظمة هذا الرجل النظيف النحيف الذكي الذي تفوح منه دائما رائحة الصمغ العربي، وهو يفهم رأيي فيه ويحترمه، وإن كان يرى في نفسه أنه يمتلك قوة روحية، وأن له خدما من الجن ويحتفي بعلمه ومعرفته بأسرار النبات، وعلم الحرف، والكف، والوجه، وفتح الكتاب، ويقول فوق ذلك كله أو لذلك كله أنه من بيت النبوة ، وأنه من الأشراف، سألته ذات مرة: من هم الأشراف؟
قال لي: هم القرشيون عشيرة النبي.
قلت له: ولكن القبائل العربية اللي هاجرت للسودان كانت من جهينة؟
قال مبتسما: نحن أولاد الحسن والحسين، ولدي فاطمة وعلي رضي الله عنهم.
قلت له: نعم، نعم.
وكان يدور في رأسي استشهاد الشابين أحدهما بيد يزيد بن معاوية، والآخر بيد معاوية ابن أبي سفيان نفسه، في أزمنة غابرة بالجزيرة العربية والشام.
أحوال: ثورة الخراء
نحن الآن في شهر مايو، نهاية مايو، أقمت منذ أكثر من شهر في التاية استعدادا للموسم الزراعي الجديد؛ حيث إنني اشتريت أرضا جديدة مقدارها عشرة أفدنة، وتحتاج إلى تنظيف، تكثر بها أشجار الكتر، وقليل من أشجار اللعوت، وبعض الطلحات، كان معي عاملان يساعدانني في أم بحتي؛ حيث إنه ليست لي خبرة في شأن الأرض، أحدهما مختار علي نفسه، والآخر هو إبراهيم عثمان الذي يلقب بالشايقي، ولكنه في الأصل جعلي، وقام والداه بتشليخه شلوخ الشايقية؛ عملا بنصيحة بعض الأقارب؛ حتى يتجنب الموت؛ لأن كل إخوته الذين سبقوه كانوا يموتون وهم في عمر دون الخامسة، وقد نجحت الحيلة وعاش، وهو الآن على مشارف الخمسين، الاثنان جنقوجورايان نشيطان، عركا الأرض طويلا، يفهمان في النظافة، الزراعة، في الكديب والحصاد، إضافة إلى خبرتهما في الحيل المحلية على مقاومة الآفات بأنواعها، ولا يفوقهما في ذلك سوى الدنباري المتحكم البارع في مصائر الجراد، كلاهما دون أسرة.
كان مختار علي هو الأكبر سنا؛ حيث إنه في أواخر خمسينياته، أما الشايقي فعمره فوق الأربعين بقليل، وهو شاب قوي البنية طويل، له بشرة حمراء وشارب كث، كلا الرجلين أمي لا يفك الحرف، عملنا في الأرض منذ مارس، وكنا نقيم بصورة شبه دائمة في قطية وراكوبة، القطية نخزن فيها طعامنا ومتاعنا، ونأوي إليها إذا برد الجو، الراكوبة للمقيل والونسة، أما مطبخنا فهو الفضاء الرحب، حيث نستخدم بعض الحجارة كموقد، وكل مكان لا يراك فيه الآخرون هو مرحاض، كنا نحصل على الماء عن طريق الحمير من نهر سيتيت عبر مشرع زهانة؛ لأنها الأقرب ، ونحتفظ به في براميل كبيرة من الحديد، وظل مشوار الماء هو ما يربطنا أسبوعيا بالقرية؛ حيث إن الطعام متوفر لدينا: الكجيك والشرموط، أم تكشو، الكمبو، الفرندو الويكة، والملح والشطة، ولدينا كمية من دقيق الفيتاريتا يكفي لشهور كثيرة، وإذا أضفنا إلى ذلك ما تجود به الغابة من لحوم طازجة شهية في شكل فئران، أرانب، طيور، أبوات قدح، حلاليف، أصلات، وغيرها، نجد أنفسنا في جنة صغيرة بها كل ما يشتهي الجنقوجوراي، على كل مسألة الطعام عند الجنقوجوراي سهلة بسيطة؛ لأن الجنقوجوراي يأكل كل ما طار، وكل ما سبح، وكل ما مشي على وجه الأرض ما عدا بني الإنسان، ومنذ أن قررت أن أكون واحدا من هذا المكان أي جنقوجوراي؛ قررت أن أحيا كشخص حقيقي ينتمي إلى كل شيء فيه، فكرا وممارسة، ولو أنني اتخذت أقرب الطرق التي تربطني بالمكان والناس وهي المرأة، ولكن هناك مرارات اجتماعية علي أن أتعود عليها، وأهمها نظام العمل الشاق، استعنت أيضا بالضمان الاجتماعي الذي تحصلت عليه في الشهر السابق، دفعت منه ثمن الأرض، وتركت ما تبقى من مال لألم قشي؛ لتدبر به حالها بعد أن قللت من عملها بميس شركة الاتصالات؛ حيث إنها استخدمت امرأة أخرى معها للمساعدة على أن تقاسمها الراتب الشهري، في الحق كنا نحافظ على طفلنا لا أكثر.
الشايقي ومختار علي لا يكلفاني كثيرا، بالإضافة إلى الطعام اليومي الذي نشترك فيه جميعا يحتاجان للسجائر، والتمباك، والمريسة، والأخيرة يصنعها الشايقي بنفسه من بقية اللقمة والكسرة مضافا إليها بعض الدقيق من مخزون الميس، وهي نوع من المريسة الخفيفة التي تسمى بقنية، وهي أقرب للعسلية، وهما لا يتناولانها في الحلة؛ حيث تسمى بمريسة الفقرا، أنا لا أفضلها كثيرا، يعرفني الناس بحبي لعرقي البلح والمستورد، وذلك عندما يكون لدي فائض مال، أما عندما أكون مفلسا فأنا من التائبين عن الخمر، ولا أشربها بالدين مطلقا، تخلصنا من الأشجار الكبيرة جميعا، وقمنا بصنع عشرين من كمائن الفحم الضخمة، كان عملا متعبا، ولكنه لا يخلو من متعة هي لذة الإنجاز، الإحساس بخلق قيمة من العدم، كنت قد أعلنت مسبقا على أنني سأتقاسم المردود المالي للفحم بالتساوي بيني ومختار علي والشايقي، ما سرع من العمل وجوده، فبعنا ثلاث شحنات من الفحم إلى سماسرة الفحم بالقضارف، وخشم القربة، والشواك، بعناه تسليم مشروع، أرخص سعرا، ولكنه يجنبنا إشكاليات الشحن، والترحيل، والجبايات الكثيرة والرشاوى والرسوم الطارئة التي يبتكرها الشرطيون بمجرد أن يروا عربة الفحم، بدأت وفادة الجنقو للحلة تتكثف حين أخذ هطول المطر في الحبشة يتزايد، وبدأ موسم الزراعة في الشرق عامة، ونتيجة للنقص في المال والرغبة في الزراعة واللحاق بالموسم برزت حكاية البنك مرة أخرى إلى السطح، ويعرف الجنقو جميعهم أن البنك قام بتسليف كبار المزارعين من مدينة القضارف ومحلية الفشقة، وحتى خشم القربة، وكسلا، وقام بمدهم بتراكتورات ودساكي، وأعطاهم نقدا قروضا اسمها السلم، كان الجنقو يتساءلون: لماذا لم يبت البنك في طلبهم؟ لماذا التمييز ضدهم، وهم أعرف الناس بالأرض؛ هم الذين ينظفونها، يزرعونها، ويحصدونها، ويحاربون آفاتها، هم الذين ينتجون العيش والسمسم؟ لماذا لا يثق البنك بهم؟ وأخذ الجنقو يتداولون الأمر في تجمعاتهم، كانوا في هذا الشهر البائس مايو يعانون من الفقر المدقع؛ حيث لا عمل ومن ثم لا نقود، لا مهرجانات لشرب المريسة التي ارتفع سعرها نسبة لارتفاع سعر العيش، لكن كرم الفداديات يسع الجميع، فيمكن الشرب عن طريق الشخط في الحائط، أو عن طريق الأمنيات ورهن الزينة؛ من مسجلات أو نظارات شمسية، أو قمصان أو راديوهات، أو أي أشياء أخرى لها قيمة، أو ليست لها قيمة أيضا؛ لذا لا يزال الجنقو يتجمعون في بيوت الخالات، أدرنا معهم حوارات عميقة وطويلة عن البنك ودوره، وقد تحمس كثير منهم للفكرة؛ أن نذهب إلى البنك مرة أخرى ونطلب منه أن يقدم لنا قرضا محدودا وتراكتورا بدسك، وأن نقدم له ما نستطيع من ضمانات، وتبرع عشرون شخصا يمتلكون بيوتا مسجلة بأسمائهم أن يقدموها للبنك رهنا، وتبرعت أنا بمشروعي الزراعي الصغير، ربما الذين فوجئوا بتجمع الجنقو أمام البنك هم إداريو البنك، ورجال الأمن فقط، ولكن جميع سكان الحلة رجالا ونساء وأطفالا كانوا يعرفون أن الجنقو ذاهبون إلى البنك يوم السبت، وأن لهم طلبا واحدا، «جربونا في مشروع واحد وتراكتور واحد وسلفية لا تتعدى خمسمية ألف جنيه»، قدرنا عددنا بمائة من الجنقو والجنقوجورايات وكثير من الأطفال.
انضم إلينا صغار التجار الذين حرمهم البنك من التمويل؛ فهم أيضا كانوا غاضبين، وقد أفشوا لنا كثيرا من أسرار علاقة البنك بكبار التجار وأصحاب المشاريع الكبيرة، وقالوا لنا بالحرف الواحد: «إن البنك يريدهم أن يبقوا عمالا وشغيلة تحت إمرة المزارعين الكبار حتى يضمن عودة سلفياته التي قدمها لهم»، بالتأكيد لم يحاول مدير البنك الاستعانة بالشرطة ورجال الأمن؛ لأنه لم تكن هنالك مظاهرة ولا تهديد باستخدام العنف، إنما كانت مفاوضة قدتها أنا ومعي الصافية والبقية يسمعون وينظرون ويشاركون بالصمت والتنظيم وعدم إثارة أعمال الشغب، كان لمدير البنك تحفظان: الأول هو أنه لا يستطيع أن يقدم سلفية لجماعة غير رسمية؛ فلا هم اتحاد ولا هم شركة مسجلة، مجرد جماعة؛ حسب تعبيره؛ لا رأس لها ولا قعر، أما التحفظ الآخر فقد كان أيضا واضحا: أنا عايز ضمان، ضمان أرض لها قيمة ومسجلة بأوراقها ومستنداتها، أو ضمانة مالية أو عقار؟ دي سياسة البنك، قلنا له: لدينا عشرون قطعة سكنية بالحلة، ومشروع صغير من عشرة أفدنة، وليس لدينا عقارات في مدن، ولا منقولات ذات قيمة مالية كبيرة، ولا أراض أخرى، وإلا ما كان هذا حالنا؛ فقراء وصغار مزارعين، و... و... وأكد أن البنك يدعم وسوف يدعم الفقراء وصغار المزارعين، ولكن بشروط أمان تضمن له حقه، وأنه لا يستطيع أن يتخطى سياسة البنك، ثم أضاف مراوغا: أنا ح أنقل كل الحوار اللي دار بيننا إلى رئاسة البنك في الخرطوم، ونشوف الرد شنو بإذن الله.
قالت له الصافية التي كانت ترفل في صمت عميق منذ أن دخلت معي إلى مكتب المدير الفاره: يعني ح تدونا السلفية ولا لا؟
قال لها المدير بريق ناشف: حتى الآن لا.
التفتت إلي الصافية قائلة: قوماك نمشي، القاعدين ليها شنو؟
شكرته على حسن ضيافته لنا ؛ حيث إنه أكرمنا بماء بارد، وزجاجتي بيبسي كولا، أتى بهما ود أمونة، وانصرفنا، كان الجنقو ينتظرون في الخارج في جماعات، وعند باب البنك أحاطوا بنا يسألون، ولكن أبرهيت وهو الشخص المسئول عن تنظيمهم، قال لهم، ودون أن يستشيرني: المساء في بيت أدي، الحوش الخلفي، عايزنكم جميعا.
عند طلوع القمر كان بحوش الأم الخلفي؛ حوش الحفلات، ثلاثمائة من المواطنين أطفالا ونساء ورجالا، بادر الحضور الفكي علي بتلاوة من الذكر الحكيم، وتوتر صوته عندما بلغ الآية الكريمة:
ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين .
ثم أعقبه أبونا بيتر راعي الكنيسة في صلاة قصيرة من الإنجيل قرأ فيها: «يا هؤلاء جميعكم القادحين نارا، المتنطقين بشرار، اسلكوا بنور ناركم، وبالشرار الذي أوقدتموه، من يدي صار لكم كل هذا، في الوجع تضطجعون»، وكررها بالعامية كما يلي: «يا أنتم المولعين نار، المتحزمين بالشرار، امشوا بنور النار والشرار، بتاع إنتم، كلو دا من يدي أنا ربكم، والطريق كله أوجاع.»
ثم ما لبث الناس يتداولون في أمر واحد: نعمل شنو؟ إذا قاطعنا الزراعة نحن الذين نموت جوعا أولا، إذا بقينا كعمال سوف لن نكسب شيئا، يأتي الموسم، خلف الموسم، خلف الموسم، ونحن من اليد إلى الفم، والمستفيد هو الجلابي صاحب المشروع، قال أحدهم: نكسر البنك.
ردوا عليه أنهم لا يريدون دخول السجن، ولا المواجهة مع الشرطة التي قد تؤدي إلى فقد البعض، وإصابة البعض بأذى جسيم، وقالت سعاد يوهنس وهي والدة أحد الشرطيين: يعني نقتل أولادنا البوليس أو يقتلونا، الخسران منو؟
وفجأة تحدث صديقي، قائلا: نحاربهم بالخرا.
سكت الجميع؛ لأن الكلمة بدت لهم غريبة، وغير مقصودة تماما، أو أنها ربما كانت كلمة أخرى سمعوها على هذا النحو، قال مؤكدا وبعينيه إصرار غريب: بالخرا، ما بتعرفوا الخرا؟
ضحكوا وظنوا أنه يعبث، أو هي إحدي مغامراته العجيبة، قال لهم: سمعتوا كلكم بالهنود، الهنود ديل طردوا الإنجليز الأقوياء بالخرا بس، والناس الكبار في السن منكم مثل مختار علي، والفكي الزغراد، والسيد أبرهيت، والشايقي، وأدي، وغيرهم وغيرهم عاصروا وهم أطفال المهاتما غاندي، أها دا الزول اللي قاد ثورة الخرا.
قليلا قليلا، تفهم الناس الأمر، قليلا قليلا، قبلوا به، قليلا قليلا، حددوا المائة الأوائل الذين سوف يفعلون، والآن، قليلا قليلا، حددوا الخمسين، قليلا قليلا، حددوا الثلاثين، وتم ترتيب كل شيء، في الصباح الباكر عندما استيقظ الموظفون في الميس، لم يستطع أي منهم الخروج للعمل؛ حيث كان البراز هنالك يقف عند الباب محتجا عفنا قبيحا بائسا لكن بصمود عجيب، وعندما كسروا الصريف كان عليهم أن يصنعوا من قصبه جسرا يعبرون به إلى الشارع، ولما وصلوا إلى مبنى البنك وجدوه غارقا هو الآخر في بركة من الخراء، ولا يمكن لكائن من كان أن يقترب منه، جيش الذباب الأخضر الضخم ذو الطنين الرهيب صار سيد المكان ومالكه الأوحد، ومديره العام، استعانت إدارة البنك بعمال الصحة الذين أكدوا أنه لم يكن ضمن شروط خدمتهم خم الخراء، إنهم عمال نظافة مواد جافة، طلب مدير البنك من الشرطة أن تقبض على الفاعلين، وتجبرهم على إزالة البراز، ولكن النيابة ردت بأنه: «لا توجد عقوبة بغير نص»، فالتبرز في العراء لم يعتبر في يوم ما جريمة يعاقب عليها القانون، ولم يوجد أمر محلي يمنع ذلك، وكيف نعرف الذين تبرزوا؟ من شكل برازهم أم من لونه؟ وكانوا في قرارة أنفسهم يقفون إلى جانب الجنقو؛ لأن البنك كان محسوبا على مجموعة سياسية بعينها ليسوا هم بعضها، ركب مدير البنك ومعه فريق عمل مكون من خمسة أشخاص عربتهم اللاند كروزر دبل كبينة وانطلقوا لا يلوون على شيء إلى القضارف، في اليوم التالي تبرز مائة من الجنقو داخل الميس المهجور، بل داخل الغرف، وعلى السراير، وحاويات الماء النقي المكرور، وضعوا كمية لا بأس بها من البراز في الثلاجة، والأدوات الكهربائية، والأواني، وتركوا مخزونا آخر في أكياس التسوق البلاستيكية وزن كيلو مبعثرة تحت الأسرة، وفي المطبخ، ومعلقة على الأسقف، في اليوم الثالث ذهب الجنقو جميعا للعمل في نظافة مشاريع التجار بأسعار عمالة لم يفكروا فيها كثيرا، كانوا يريدون الخروج من الحلة ، بأية صورة كانت! بعد أسبوع من الحادثة رجع رجال البنك في معية شاحنة من الاحتياطي المركزي مسلحين برشاشات، وقذائف مسيلة للدموع، عصي مطاطية، درق، سياط وعربة مطافئ، حاولوا غسل المكان بخراطيم الماء المندفع بقوة من عربة المطافئ ولكن هيهات، فقد كان الشيء من الكثافة والتماسك بحيث لا يزيده الماء إلا اندياحا إلى أمكنة وساحات أخرى، ثم أقام الاحتياطي المركزي في مخيم صغير مرعب قرب البنك لشهر كامل، أما الميس فقد تم هجرانه بصورة قاطعة ونهائية، ولكن بعض الجيران ظلوا، كلما وجدوا الفرصة سانحة، يرسلون أكياس التسوق مملوءة بالشيء اللزج العفن من فوق الحوائط إلى الميس، رجع الشايقي، ومختار علي إلى التاية، رجع صديقي إلى القضارف، ثم من هنالك إلى الخرطوم، بقيت أنا في الحلة لبعض الوقت لمؤانسة ألم قشي، لم أر ود أمونة، سألت عنه ألم قشي قالت: إنه كان في القضارف، ولكنه عاد اليوم لعمله بالصباح في البنك، وعند المساء سوف يأتي للعمل في بيت أدي، كان لا يضيع وقتا بلا عمل، فسألتها لماذا يرهق نفسه بهذه الطريقة، ولا مسئوليات لديه وليس له من يصرف عليهم، بل حتى صلته بأمه مقطوعة؟
قالت لي: إن ود أمونة يعمل بجد، ويكدح من أجل العازة.
قلت مندهشا: العازه! العازة دي منو؟
فحكت لي ألم قشي ما يحكيه ود أمونة، أو هي الحكاية الشائعة، وود أمونة نادرا ما يتحدث في هذا الموضوع: عندما خرجت العازة من السجن، أخذت معها ود أمونة، وكانت قد وعدته، ووعدت أمه أمونة التي تركتها في السجن وراءها بأنها ستعتني به كما لو كان ولدها، وأنها ستدخله المدرسة، إلا أن العازة بعد خروجها من السجن واجهتها مشاكل كثيرة جدا من أسرتها؛ حيث إن إخوانها ووالدها كانوا يصرون على أن تلتزم بواحد من الاثنين؛ إما أن تتزوج أيا كان وبسرعة، وإما أن تترك العمل الذي أخذت تمارسه بعد خروجها من السجن مباشرة، وهو بيع الشاي والقهوة في سوق القوني، وأن تبقى في المنزل ولا تبرحه؛ لأن أسرتها كبيرة وإخوانها معروفون ؛ لذا تهمهم سمعتها، لكن العازة رفضت كل العروض وواصلت عملها في سوق القوني؛ حيث كسبت مجموعة من الزبائن، وطورت عملها عندما ألحقت بمقهاها مطعما تبيع فيه الأغذية البلدية، وأدخلت ود أمونة مدرسة خاصة في حي كرفس واستأجرت لها بيتا في حي الأسرى؛ كي يكون قريبا من موقع عملها، والحق يقال كانت ملتزمة أخلاقيا، ومحترمة لنفسها، ولعملها، ولم يعرف لها أي نشاط مخالف للقانون، ولم يتشك منها الجيران، مع ذلك فإن إخوانها لم يرضهم كل ذلك، وخططوا لتخويفها وطردها من مدينة القضارف لأي بلدة كانت، وكانت تعلم بمخططهم وتستعد لمقاومته، وفعلا هاجمها اثنان من إخوانها في بيتها عدة مرات، واعتدوا عليها بالضرب، وهاجمها في مكان عملها بعض البلطجية المأجورين، وكانت ترد في شراسة، ولكنهم فكروا أخيرا في استهداف ود أمونة؛ استأجروا بعض الصبية المشردين ومدمني البنزين ليعتدوا عليه بالضرب في طريقه إلى المدرسة، وأينما وجدوه، ولكن بعض الشواذ منهم عندما رأوه فكروا في الاعتداء عليه جنسيا، وقد تخلص ود أمونة منهم بما تعلمه من أمه من مهارات قتالية، ثم أخبر العازة التي قامت بعمل كمين لهم، وضربهم ضربا عنيفا، بل إنها طعنت اثنين منهم بسكين اعتادت أن تحملها معها منذ أن خرجت من السجن، أصيب أحدهم بعجز مستديم، ومات الآخر، ودخلت السجن هذه المرة مدانة بالقتل العمد مع سبق الإصرار، ومع أن أهل المتشردين الذين ظهروا فجأة قبلوا بالدية فإنها تعسرت في دفعها، فظلت منذ ذلك الوقت الوقت مواجهة إما بالدية، أو المؤبد، حتى بعد أن قبلت أسرة القتيل بخمسمائة ألف جنيه فقط
بعد مساومات من رجال ونساء خير كثر، فإن المبلغ يعتبر كبيرا جدا بالنسبة لامرأة وحيدة وبالنسبة لأصدقاء فقراء؛ لم يتمكنوا من جمع سوى القليل، ثم أحبطوا فتكاسلوا، وهكذا بقي ود أمونة وحده يعمل منذ ذلك الحين مع أدي وغيرها؛ كي يتمكن من تسديد الدية حتى تنال العازة حريتها، قال لي قبل شهر تقريبا إنه لم يتبق عليه سوى مائة جنيه فقط؛ لذا ربما كان ذهابه للقضارف بشأن أمر العازة، فهو دائما ما يزورها في السجن، عندما التقيت هذه المرة بود أمونة تغيرت صورته في نظري إلى بطل إنساني عظيم، وفور أن سألته عن صحة العازة، أخذ يحكي لي عنها؛ عن شهامتها، وكرمها، وإنسانيتها، وكيف أنها ظلت تعاني عمرها كله من أقرب الأقربين إليها، وهم أفراد أسرتها، ثم تناقشنا فيما تبقى لها من دية، وسألته ما إذا كان قد ذهب إلى مكتب الزكاة؟ ضحك في ألم وهو يحكي لي رحلة مرة مع البيروقراطية، قال إنهم أولا طالبوه بشهادة فقر من المحلية، ثم بصورة من الحكم، ثم بالتاريخ الشخصي للعازة، وأخيرا قالوا له: إن المال المرصود لمصرف الغارمين لهذه السنة قد تم صرفه، وأن عليه أن يعود إليهم في العام القادم، وفي العام القادم بدأت الرحلة من جديد، وانتهت بأن لم يرصد مال للغارمين في هذه السنة؛ نسبة لحاجة الناس للمال في مصرف آخر وهو مصرف المؤلفة قلوبهم، سوف يحاولون في العام الذي يليه، وقال لي ود أمونة إنه يعلم أن مكتب الزكاة قد قام بدفع الملايين لكبار التجار من مدينة خشم القربة تسديدا لديونهم في البنوك، بعد أن أقسموا أنهم معسرون، والناس تتحدث عن ممتلكات هؤلاء المعسرين من وابورات، وشاحنات، وسيارات نقل ركاب، وعقارات، ومغالق، وتوكيلات تجارية.
حدث ذلك في نفس الأيام التي كان هو يستجدي فيها المكتب لدفع ولو خمس الدية، سألته عن أمه، قال لي إنها خرجت من السجن قبل سنوات طوال، وتزوجت من شرطي سجون، كان يعمل بالقضارف، وتم نقله إلى سجن شالا بالفاشر، وسافرت معه إلى هنالك، ونسبة لأن ود أمونة رفض السفر معها، ولأن زوجها نفسه لم ترق له فكرة اصطحابه معه؛ فقد قامت أمونة أمه بتسليمه إلى أدي، وهي صديقتها، وقد عاشتا ردحا من الزمن معا في أم حجر، بعد أن اعتزلت أدي العمل العسكري بعد التحرير؛ حيث كانت تعمل مقاتلة في الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا، لم يجد ود أمونة صعوبة في التأقلم والعيش مع أدي، فهو قد ولد بالحلة، وقضى جانبا كبيرا من طفولته بها.
وجد ألم قشي ببيت أدي، ولها صلة بصديقته العازة، ومع أنه لا يدري مدى عمق الصلة؛ فإن ألم قشي رحبت به واحتضنته، ولقد سألت ألم قشي فيما بعد عن صلتها بالعازة، فقالت: تجارة. على الرغم من الظروف الصعبة التي أمر بها أنا نفسي، ظرف العطالة والاستعداد للموسم الزراعي الجديد، والتجهيز لمولودي القادم، وبقاء ألم قشي بالبيت عاطلة عن العمل، فإنني تبرعت لود أمونة بنصف المبلغ المتبقي من الدية، اعتذر ود أمونة عن تسلم المبلغ لأسباب يراها موضوعية، وهي: أولا: هذه الأيام هي أيام الزراعة، وأنا أحتاج لكل مليم من أجل أرضي، ولربما أنا لا أعرف مدى حاجتي للمال في هذه الأيام نسبة لعدم خبرتي في الحرث والزرع، والأولوية للأرض، والشيء الآخر: هو أنه لا يمتلك النصف الآخر من المبلغ إلا بانتهاء شهر أكتوبر؛ لأنه دفع مبلغا كبيرا من المال في الأسبوع الماضي، تحصل عليه من «صرفة صندوق»، ولا يمكنه التحرر من هذا الدين إلا مع نهاية شهر يونيو؛ لذا في كل الأحوال ستبقى العازة بالسجن إلى ما بعد أكتوبر، وقد اقترح علي أن أستخدم المال في الزراعة، وبعد ذلك الموسم أعطيه إليه إذا توافر لي مرة أخرى، على كل شكرني ود أمونة شكرا أخجلني، ولم يأخذ مني شيئا، قبل أن أغادر إلى المشروع للعمل جاء لقطيتنا في المساء، وحدثني بما اعتبره أحد الأسرار: اعمل حسابك من السكة وما تشيل معاك قروش كتيرة! ما تثق في زول، الدنيا ما معروفة.
ولم أستطع أن أعرف منه أكثر من ذلك، ووعدني بأنه سيبقى مع ألم قشي في ذات القطية، قد تحتاج إليه فتجده، وذلك إلى أن أعود، وكي يطمئنني أكثر أضاف: ألم قشي دي أختي.
انتظم المطر تقريبا بعد عاصفة منتصف يونيو، كان مطرا غزيرا؛ ولكنه كما قال لي الجنقو العارفون بالمطر: لم يكن خريفا استثنائيا، وقالوا: بداية عادية، ولكنها مبشرة، إذا نجحت العينة الأولى سوف ينجح الخريف كله.
ونصحت بالبداية المبكرة، اشتعلت المشاريع؛ جنقوجورا يحرثون وينثرون السمسم، وينشدون في صبر وألم، يصنعون الحياة الحقة للملايين بعرق مر، ويحرمون أنفسهم من لحظة الحلم، التي لا يعونها هم أنفسهم، لا يفكرون كثيرا ولا عميقا في الأشياء كما أن الثورة الخرائية التي قاموا بها لم تلهمهم أفكارا أخرى، أو مشروعات، أو أي عملية إيجابية لاحقة، عبرت مثل نكتة سخيفة، حكيت أضحكت ثم تلاشت، وانشغلوا بعدها جميعا بخلق القيمة بالعمل، ونسوا كل شيء خلافه، يريد الجنقوجورا المال، والطريق الوحيد للمال هو العمل المتواصل الذي ينتهي غالبا عند شجرة الموت في فريق قرش بالحمرة، أو أي شجرة موت أخرى، إلى أن استيقظنا ذات صباح بخبر غريب عن قطاع الطرق الفالول، أو الشفتة، في خور عناتر المعشوشب الواقع وسط المشاريع الغربية، بين الشقراب والحلة، ظل هذا المكان آمنا حتى في سنوات الحرب الإريترية الإثيوبية، وانفلات الأمن عند الحرب ما بين جيش الحكومة والمعارضة المسلحة، في ثمانينيات وتسعينيات القرن المنصرم؛ لذا كانت دهشة الناس عظيمة عندما عرفوا أن الشفتة لم يكونوا من الفالول الأحباش، أو الإريتريين، ولكنهم سودانيون، بل ومن الجنقو، وعرف البعض بأسمائهم، كانوا يحملون الأسلحة البلدية: فئوسا، وحرابا، وخناجر، وسيوفا أيضا، كانوا لا يقلون عن عشرة من الرجال السود الأقوياء، قاموا بنهب عربة بوكس تعمل في نقل الركاب إلى معسكر الشقراب، أخذوا كل ما لدى الركاب من أشياء قيمة، مثل الساعات، والنقود، وحتى الأحذية الجديدة، وتحصلوا على مسدس كان يخص سائق العربة ويخفيه تحت المقعد مع كرتونة من الخمر المستورد، وفي نفس اليوم هاجموا نقطة التفتيش الواقعة في مفترق الطرق بين الشواك والشقراب، واستولوا على رشاشة كلاشينكوف وبندقية جيم 3، وهربوا في اتجاه غابة زهانة، مستخدمين عربة نقطة التفتيش التي وجدت معطوبة قرب قرية الجيرة.
حدث بهذه الضخامة عندما يدخل الحلة فإنه يخرج منها أحداثا كثيرة بشعة، وهذا ما وقع بالفعل؛ حيث أشيع أن الجنقو تمردوا جميعا، والآن يهاجمون جيش الحكومة في حاميتي زهانة وهمدائييت بأسلحة تحصلوا عليها من إريتريا، وصدقت الإدارة العسكرية والأمنية الرواية الشعبية للحدث، واتصلت بحامية خشم القربة، وحامية القضارف، طالبة العون العاجل لإخماد ثورة الجنقو، ولكن نسبة لخبرة الحكومة الكبيرة في الصراعات المحلية والثورات المسلحة لم ترسل جيشا، ولكنها أرسلت لجنة تقصي الحقائق برئاسة مسئول أمني في رتبة كبيرة، وقامت اللجنة المطوقة بحراسة مشددة على عربة مصفحة بزيارة مواقع العمليات، والتقت الأشخاص الذين هوجموا وحققت مع الجميع، ثم كونت لجنة مدنية حققت مع السكان، ثم كتبت تقريرا أهم ما فيه: «خمسة رجال من عمال المشاريع الموسميين يقومون بأعمال تخريبية لأهداف غير معلومة، ويرجح أنها للحصول على المال، يتسلحون بمسدس وبندقية جيم 3 ورشاشة كلاشينكوف وأسلحة بيضاء أخرى، بعضهم جنود مسرحون من الجيش، لا يميلون للقتل أو سفك الدماء، معروفون لدى كل السكان بالاسم وهم: طه كوكو نمر «عسكري معاش»، عبد الله خير السيد الطيب، برهاني تخلي ولدو، دنق مايوم أجانق «عسكري معاش»، إبراهيم عثمان الشايقي، وهم الآن إما في مكان ما بغابة زهانة، أو أنهم عبروا نهر سيتيت إلى مدينة الحمرة، أو أنهم يتحركون في هذا المجال من وإلى إثيوبيا»، ثم أوصى التقرير بحماية طرق السيارات العامة التي تربط الحلة بالشقراب، وطريق همدائييت والجيرة، الحفيرة زهانة، وأن ينشأ طوق عسكري آمن يتحرك في غابة زهانة للبحث عن المجموعة، ونصح التقرير بصورة واضحة عدم اعتقال المواطنين أو الإضرار بهم، وتجنب الدخول في صراع مسلح مع أي كان ما لم يبادر الخصم بإطلاق النار أو نصب الكماين.
تركوا كتيبة كاملة من الاحتياطي المركزي جيدة التدريب، شباب غبش لهم عضلات مفتولة وأجسام رياضية، ورءوس حليقة بطريقة الكوماندوز، يمشون في الطرقات باختيال أقرب إلى الغنج، لولا قلة النساء في شوارع الحلة، وسوقها لحدث افتتان لا تحمد عقباه، أطلق عليهم السكان اسما سريعا يحمل وجهة نظر حادة تجاههم، سموهم: البوم، كان أجدر بي أن أكون أول العارفين بخروج الشايقي في جماعة الشفتة، لقد ذهب دون أن يلمح إلي بذلك مجرد تلميح، وكنت معه إلى آخر لحظة بالتاية، أذكر أنه كان يحس بالغبن الشديد تجاه البنك، ويعتبر البنك والحكومة نفسها يعملان على زيادة غنى التجار، وأنهم ضد الجنقو ، كلنا نفتكر ذلك ونعتقد في ذلك، ولكن هل هذا يبرر الاعتداء على المواطنين وأخذ أموالهم وممتلكاتهم وتخويفهم؟ وما علاقة ذلك بالغبن تجاه البنك أو الحكومة؟ ومن يدري قد يقود بعض هذه الحوادث إلى إزهاق الأرواح؟ إذا ربما كانت هنالك حلقة مفقودة، تناقشت مع مختار على حولها كثيرا، وأخيرا أحلنا الأمر إلى أن الشايقي ورفاقه أرادوا حياة رخية ومالا سهلا، فالعمل بالمشاريع عمل صعب ومردوده المالي لا يغطي إلا الاحتياجات الصغيرة التافهة ولوقت محدود، وليس هنالك ضمان اجتماعي، أو تأمين صحي، ولا فوائد ما بعد الخدمة ولا معاش، إنه كما يقول مختار علي: عدم في عدم، ولكنهم الآن يخاطرون بحياتهم، المال السهل يقود إلى الموت السهل، وقررنا أن نلتقيهم لنعرف على الأقل حقيقة أمرهم.
أحوال وثورة ألم قشي
أرسل لي ود أمونة مع أحد الجنقو رسالة شفاهية فهمت منها؛ أن ألم قشي مريضة، وعلي أن أحضر بأسرع ما يمكن، فرتبت أمر التاية مع مختار علي، وركبت لواري همدائييت الصباحية إلى الحلة، وجدتها وود أمونة في المنزل، كانا يتناولان القهوة، بدت لي شاحبة بعض الشيء، سوى أنها كعادتها دائما جميلة، ومبتسمة، ولكنني لاحظت أيضا خيبة أمل ما في وجهها، وكأنها ما كانت تتوقع حضوري، ذهب ود أمونة لغرض ما أو ليتركنا منفردين، أخبرتني بأنها ما كانت ترغب في أن تخبرني بأنها مريضة، وأن ود أمونة قد تصرف دون استشارتها، ثم أخذت تتحدث بصورة عدوانية لم أعهدها فيها، ثم فاجأتني قائلة: أنا أجهضت، قبل يومين، عمر خمسة شهور، في الحقيقة صدمت تماما، وهذا هو الشيء الوحيد الذي لم يطرق على بالي إطلاقا، وأحسست بألم بالغ في معدتي، وشعرت بالفشل، بفشل مر وبليد، لم أستطع سوى أن أبحلق في بطنها، وكأنها ليست سوى خدعة حبشية خشنة، وكأنما الطفل ما يزال هنالك، كلما مرت الثواني ولم تتراجع ألم قشي من خدعتها، كان العالم يموت تدريجيا في ناظري، أضافت في حدة: لقد انتهى كل شيء بيناتنا.
تمنيت لو أن ما يجري الآن ليس سوى كابوس لئيم ، ألم قشي التي أمامي هي ليست ألم قشي زوجتي وحبيبتي، قالت لي مرة أخرى، بذات اللغة: كل واحد مننا ح يمشي في سكته.
سألتها ماذا تعني بذلك؟ أخذت تكرر أنها لا ترغب في بعد اليوم، فبدا لي للحظات أنها قد أصيبت بمس من الجنون، قلت لها إنني أحبها، ولن أتركها أبدا، وإنني حبيبها وزوجها الشرعي، وإنها سوف تنجب مني طفلا آخر، وإذا كان يؤلمها الإجهاض فإنه يؤلمني أكثر، احتضنتها لكنها كانت باردة كالجليد، جامدة كصخر، تكرر في آلية مؤلمة: انتهى، انتهى كل شيء.
قلت لنفسي: لأتركنها الآن تتخطى الصدمة يوما أو يومين، وتعود المياه إلى مجاريها كما يقولون، ولكنني كنت قلقا ومترددا وتائها، فلم أستطع أن أصبر على رأي، فبحثت عن ود أمونة ووجدته سريعا كما هي العادة؛ حيث إن ود أمونة يوجد حيث تريد، تناقشنا في شأن ألم قشي، وقال لي إنها على هذه الحال منذ أن أجهضت، وأن الشخص الوحيد الذي يمكنه أن يجعلها تتراجع هي أدي، فعلي بها، وحكينا أنا وود أمونة كل شيء لأدي، تعاطفت أدي معي أو معنا، وكانت قد ساعدتها وهي تعاني آلام الإجهاض من قبل، وهي أيضا تعرف الكثير عن ألم قشي؛ شعابها، وتقلباتها، وطلبت منا أنا وود أمونة أن نذهب نتمشى أينما شئنا وأن نأتي بعد ساعة من الزمان، تريد أن تتحدث مع ألم قشي على انفراد، تغيرت ألم قشى للأحسن قليلا، وتراجعت أيضا قليلا، وقبلت بي كذلك قليلا، بعد أن انفردت بها أدي، ولكن ظلت العلاقة بيننا في توتر متزايد، لم يكن لأحدنا يد في أن يجهض الطفل، كنا نولي حملها الأولوية في التفكير، لم تحملني مسئولية الإجهاض ولم أفعل أنا، لم ألمها، ولكنها كانت تتصرف تجاهي بعداونية غريبة، أنا لا أتحدث عن العض، والرفس، وتعمد تلويث ملابسي بالأوساخ، ولكنها راحت تشين سمعتي بين الناس متهمة إياي باستغلالها، وسرقة ذهبها ومالها، قال لي الفكي علي الزغراد: دا مس من الجنون.
لكن أدي كانت دائما ما تطلب مني أن أصبر، ولم تخف قلقها بأنه ربما قام بعض الحاسدين بكتابتها، والناس هنا قد يفعلون ما هو أسوأ، قلت لنفسي ربما أن ألم قشي تعاني من إحباط حاد أصابها نتيجة للإجهاض، من يدري؟ قررت أن آخذها إلى الخرطوم؛ إلى مستشفى تجاني الماحي بأم درمان، هكذا تشعبت بي طرق التفكير والأحزان، وافتقدت صديقي، فلربما أسعفني بحل دونكيشوطي مجنون، من جانبي فعلت كل ما أستطيع دون فائدة، وكان خط دفاعي الأخير هو أن تحبل ألم قشي مرة أخرى حبلا ناجحا، وأن تنجب أطفالا، فكنت أحبها حقا، وليست لدي الرغبة في أن أتركها تشق دروبا أخرى في هذه البلدة الصعبة، هنا النساء إما أن يعملن كجنقوجورايات، وإما كصانعات خمور بلدية، وإما كعاهرات، أو أن يمارسن أكثر من مهنة في وقت واحد، وكلها لا تجدي مع ألم قشي، قبل أن تتزوج كنت أراها تنفع لذلك كله حتى العهر، ولقد مارست معها ذلك، وكانت تعجبني كبغي تعرف كيف تقدم متعة الشيء للرفيق، وكنت أعرف أنها في وقت ما عملت كصانعة للعرقي، كما عملت كجنقوجوراية في أكثر من موسم، ولكنني الآن أراها بريئة هشة، بل خجولا لا تعرف ماذا تريد أن تفعل، أراها طفلة لا تنفع في عمل شيء، أما مسكينة تتقطع بها سبل الحياة، إذا تركتها يعني ذلك نهايتها تماما، أقمت معها خمسين يوما في البيت بالحلة لا أغادرها، كنا بين بين، تبدو طبيعية أحيانا، تجن في كثير من الأحايين، تتملكها مرات كثيرة رغبة وحشية في أن تحبل، ولكنها ما تلبث أن تفقد هذه الرغبة في مرات أخرى، قضيت شهرا مجنونا متناقضا مؤلما، ولو أنه لا يخلو تماما من الإمتاع، ثم استأذنتها في العودة إلى المشروع، وبقيت هي مع ود أمونة وأدي، ما كاد ينقضي شهر واحد فقط حتى أرسل لي ود أمونة رسالة شفهية مع أحد الجنقو فهمت منها أن ألم قشي حبلى مرة أخرى؛ لأنها لم تحض هذا الشهر، والشيء الآخر إذا لم أحضر بسرعة فإنها سوف تسافر إلى همدائييت لزوجها السابق، فهي ترغب في العودة إليه ، طبعا أول ما خطر في بالي أن ألم قشي قد جنت بالفعل في هذه المرة، والحل الوحيد هو أخذها إلى الخرطوم بأسرع ما يمكن، ورتبت أمري مع مختار علي، بحيث يستعد لخوض معركة بقية الموسم وحده، وتركت له ما يكفيه والرجال من طعام ومال، وركبت باص همدائييت مرة أخرى إلى الحلة، حكي لي ود أمونة الذي قابلني في موقف السيارات بسوق الحلة فور وصولي كل شيء بالتفصيل الممل، وقال لولا أدي وهو لذهبت ألم قشي إلى همدائييت، وأكد لي أنها ليست بمجنونة، بل هي بكامل وعيها، وعلي أن أتعامل مع الموضوع بحكمة، كانت قد استقرت على رأي واحد، هو أنها سوف تذهب إلى همدائييت، وأن علي أن أطلقها؛ لأنها تريد أن تعود إلى والد بنتيها، وقالت إنها أرسلت له بهذا الشأن وقبل الفكرة، وهو الآن في انتظارها، وقالت مؤكدة: إذا رفضت برضو حمشي ليهو في همدائييت. قلت لها: ولكنك حامل!
قالت بكل برود: لمان ألد ح أرسل ليك جناك هنا.
طبعا اقتنع الجميع بأن في الأمر يدا شيطانية، وأن الحاسدين فعلوا فعلهم مع الفكيا، واتهم البعض الفكي على الزغراد نفسه، ولكن علي الزغراد حلف بالنبي، وبالشيخ محمد الهميم، وبالطلاق، وبجده الشيخ سليمان الزغراد أن لا يد له في الأمر، وأكد أن الأمر جنون، وإذا قبلت فإنه سيقوم بعلاجها، ولكنها رفضت مدعية بأنها متعافية، وأن الآخرين هم المجانين، طلبت منها أن تخبرني بالسبب الذي جعلها تتخذ هذا القرار، قالت السبب هو أنها تريد أبا طفلاتها، وتريد أن تعيش مع بناتها، ولا شيء غير ذلك، قلت لها: وأنا؟
قالت: بطريقتك؟ النسوان كتيرات، اختار اللي تعجبك.
تكون سريعا فريق «للجودية» من ناس الحل والربط، رجالا ونساء، لهم كلمتهم في المكان، تحدثوا عن العلائق الزوجية والاجتماعية، وتحدثوا عن الشيطان، وأولاد الحرام، وبنات الحرام والحسد، وأيضا تكلموا عن القسمة التي من صفاتها أن تنتهي، قالت: أنا عايزة أرجع لأبو بناتي. - لكنك متزوجة؟ - عايزاه يطلقني. - أنا مش ح اطلقك، أنت حامل، ألدي أولا.
قالت: أنا حامل لمان ألد ح أرسل ليهو الجنا، لو ما وقع زي أخوه!
وتجادلنا في حوار يبعد أو يقرب من هذا النسق، أقلقتني عبارتها الأخيرة، كنت لا أرى فيها غير شخص مجنون لا يعرف ماذا يريد بالضبط، لا منطق له، ويمكن أن يفعل أي شيء، بإمكاني أن أطلقها إذا كنت قد اقتنعت بأن تلك هي رغبتها الحقيقية، وليست نتاج مرض نفسي أو جنون، ولو أن فريق الجودية اندهش لرأيي الأخير، إلا أنني أرجعت ذلك لعدم مقدرتهم على فهم وجهة نظري، فجأة خطرت لي خاطرة، قلت لهم: أنا حأخليها تمشي همدائييت وتبقى مع بناتها.
بوغت الجودية بوجهة نظري، ولم يستطعوا فهمها.
قالوا: أبو بناتها هناك.
قلت: هو عارف إنها غير مطلقة، والأمر متروك للاثنين هو وهي. - لكنها في عصمتك. - دا موضوع تاني، يحسمه القانون.
واختلف الناس اختلافا كبيرا، فظهر في السطح ما سمي ب «حكاية ألم قشي»، وتدخل في الأمر مدير شركة الاتصالات، والقاضي المقيم، ومدير المحلية، ونفر من رجال الخير والبركة، وأجبروا ألم قشي على عدم الذهاب إلى همدائييت، وألزمت أنا بعدم العيش معها في المنزل، أن أسكن كما كنت عازبا مع مختار علي إلى أن تحل المشكلة، وكان هذا شرطها هي، أنا وافقت، هي أيضا وافقت على مضض، تركتها في المنزل الذي أعطتنا إياه أدي على أمل أن أستفيد من هذه الهدنة في علاجها، وقررت أن أبدأ مشوار العلاج من همدائييت؛ أن أذهب لزوجها وأستشيره في الأمر، وكنت حقيقة آمل في أن يساعد في الحل، صحبت ود أمونة؛ لأنه أبدى رغبة كبيرة في أن يذهب معي، وكنت حقيقة أحتاج إليه، صحيح أنه شخص أصغر مني عمرا، ولكني أعترف بأنه أنضج مني اجتماعيا، وركبنا باص همدائييت، وهو عبارة عن لوري تمت إعادة تصنيعه ليصبح ناقلا للبشر، له مقاعد ضيقة من الحديد الصلب، ونوافذ حديد، مشرعة صيفا، خريفا وشتاء، يحمل الناس في بطنه، وظهره، وعلى يمين وشمال السائق، منطلقا على الأرض السوداء، قافزا فوق الحفر والخيران مثل ثعلب عجوز يهرب من مطارديه ، كان زئيره يسمع من مسافات شاسعة، عبر أشجار السافنا الفقيرة، تتنصت له الأرانب، والفئران، والقردة معا، والجنقوجورا المرابطون في التايات البعيدة المنتشرة في عمق المشاريع الزراعية يكدحون، وما ينفك سائقه ينبه من يريد السفر إلى الجيرة، الحفيرة، همدائييت، أو الحلال الأخرى أن ينتظره في طريقه الوحيد، الذي يتلوى كثعبان عبر غابة زهانة، بين أشجار الطلح والكتر، ويعلو دخانه كثيفا خاصة في هذه الأيام، حيث الأرض لينة، وتنتشر البرك الطينية ويكثر الوحل، كان الجميع يتحدثون عن الخريف، والمطر، والزراعة المبكرة، وغيرها من المواضيع الحيوية، ولا أدري لماذا كنت أنا أفكر في الصافية، ولماذا في الحقيقة كنت دائما ما أعقد مقارنة في وعيي ما بين ألم قشي والصافية، والفرق بين المرأتين ليس كبيرا، ألم قشي تجد نفسها تقوم بأفعال وأقوال لا تعبر عنها في واقع الأمر، قد تكون حالة مرضية، وقد تعني هي ذلك، الصافية وذلك حسب النتائج التي خرج بها ما يشبه المؤتمر في بيت أداليا دانيال الصيف الماضي لها شخصيتان؛ شخصية ظاهرة، وهي الشخصية التي نعايشها يوميا وهي الغالبة، وشخصية أخرى لا تظهر للأعين فيما يبدو إلا إذا أثيرت عاطفيا فقط؛ لأنها حتى في لحظات الغضب لا تبدو عليها أي تحولات شاذة أو غريبة، لكل من المرأتين شخصيتان، إذا صح أن نطلق على الصافية لقب امرأه، إلا إذا أخذنا بإفادة الرجلين وإفادة الصافية نفسها، حدثني ود أمونة، وهو في الحقيقة نادرا ما يصمت، عن شيء لم يخبر به أحدا من قبل، وهو مشكلته مع صديقي، قال إن صديقي انفرد به ذات يوم بعد ما حدث بينه والصافية، وقال له إنه يريد أن يتحدث معه في موضوع، ولكن بصراحة ووضوح، ويريد أن يسأله بعض الأسئلة، وعندما أبدى له الموافقة، بادره سائلا: هل أنت شاذ جنسيا؟
قال ود أمونة، قلت له: لا.
قال لي محتجا: كويس؛ حدد موقفك؛ لأنك غير معروف بالنسبة للناس كلهم: إنت مرا ولا راجل؟
قال: قلت له محاولا إغاظته: أنا لا مرا ولا راجل، بعمل عمل النسوان وبعمل عمل الرجال! يعني أنا مرا وراجل!
ثم قلت له ما كان يقوله لي أحد أصحابي في القضارف: أنا وكسي ما بين ولد وجكسي.
قال محتارا: وضح أكثر، شنو عمل النسوان، وشنو عمل الرجال، شنو وكسي وشنو جكسي؟
قال ود أمونة، قلت له: إنت جاهز لعمل النسوان أم لعمل الرجال؟ عشان أشرح ليك عمليا.
وفجأة صمت ود أمونة عن الحكي؛ لأن الباص توقف فجأة، بصورة دفعت جميع الركاب إلى الأمام، كدنا نطلق السباب على السائق ونشتم أمه وأباه، لولا أننا شاهدنا الرجال الملثمين الذين أحاطوا بالباص في سرعة البرق، وهتف صوت جهوري يعرفه الجميع: انزلوا واحد واحد دون كلام وبالصف، النسوان يقعدو قبلن وبرضو الأطفال، كل راجل ينزل شنطتو معاه.
ونزلنا جميعا، كان هنالك جذع شجرة ضخمة موضوع في طريق الباص على مطب ضيق، رغم أنهم ملثمون فإننا عرفناهم جميعا، ما عدا بضعة أفراد يحملون بنادق رشاشة يقفون بعيدا، ليشكلوا حماية لأصحابهم، لم نتبين من أمرهم شيئا، وكنا نعرف أنه يجب علينا الادعاء بعدم معرفة الناهبين، وأن نطيع، وأن نعطي، وألا نثرثر، وأن نخفض رءوسنا، وأن لا تلتقي أعيننا بأعينهم أبدا، قال رجل منهم، يعرفه الناس باسم طه كوكو: نحنا عايزين من كل راجل نصف القروش اللي معاه، وعايزين من سواق اللوري كل القروش اللي معاه، والقروش بتاعت التاجر آدم إدريس البلالاوي اللي مرسلنها ليه من القضارف، بسرعة، ونفذنا الأوامر في سرعة رهيبة، قال ويبدو أنه هو المتحدث باسم المجموعة: نحنا ما شفتا، نحنا ناس مظلومين وعايزين حقنا، تاني ما ح نشتغل عبيد وال ... ح نقلع حقنا قلع، كلموا التجار الكبار اللي ماصين دمكم مص.
ثم أخذ المال، ثم سحب الجذع، ثم أطلاق سراحنا، كل ذلك في لمح البصر، ثم اختفوا في الغابة بل تلاشوا كأن لم يكونوا، قال لي ود أمونة بعدما ذهب المسلحون: ما قلت ليك، ما تثق في زول ولا تشيل قروش كتيرة معاك، شايف صاحبك الشايقي؟
هنالك ملحوظة مهمة، وهي أن الجنقو كانوا جميعا مسلحين برشاشات كلاشنكوف ، وأن عددهم لا يقل عن العشرين، وأن بعضهم يرتدي ملابس وأحذية عسكرية تخص جيش الحكومة، لكن الأهم أنهم كانوا مطمئنين تماما ويعملون بترو وليست هنالك أي علامة للارتباك أو العجلة، وتأكدت صحة المعلومات التي تداولناها فيما بيننا بالباص، عندما وصلنا همدائييت كان الناس جميعا يتحدثون عن الدورية الحكومية التي اختفت علنا بالأمس وعن تمرد الجنقو الغريب، لم أهتم كثيرا بأمر الجنقو، سألته عن أبناء ألم قشي وزوجها السابق فهو خبير بالأمكنة كلها، بكل يسر وسهولة قادني ود أمونة إلى البيت، كانوا يقيمون مع جدهم، وهو رجل عجوز ثري كثير الكلام، البنت الكبرى جميلة تشبه والدتها، ولو أنها كانت فارعة القوام، الصغيرة أيضا تشبه والدتها، كانتا جميلتين ورقيقتين، استقبلت وود أمونة بحفاوة أكتر عندما علمتا أنني زوج أمهما، وسألوا عنها وعن صحتها، وقالتا إنهما لم ترياها منذ أكثر من عامين، حضر بعد ذلك بقليل زوج ألم قشي السابق ووالد البنتين، تركنا الجد، تناقشنا في شأنها، ولكن ما أدهشني حقا وأدهش ود أمونة أكثر، هو أنها انفصلت عن زوجها السابق بذات الطريقة التي تتبعها الآن معي، تحدث زوجها السابق منفعلا: قالت هي كرهتني، شلت بناتي أديتهم لأمي وأبوي وطلقتها، مشت عرستك أنت، المرا دي ما مفهومة، عندها مشكلة في رأسها.
قال له ود أمونة: إنه يقال ويعتقد بين الناس في الحلة أنه هو الذي هجرها، وأخذ بنياته منها، قال متأثرا: والله لم يحدث هذا إطلاقا، يشهد الناس بزهانة، لقد وسطت لها الدنيا والعالمين، ولكنها رفضتني، تركت لي البنات وهربت، فنصحني الناس حتى لا تكون في عصمتي، وتقوم بفاحشة تحسب علي أن أطلقها، فطلقتها.
قلت له محتارا: ما العمل؟
قال لي بثقة: طلقها، طلقها بأسرع ما يمكن، دا الحل الوحيد.
قلت له صادقا: أنا ما عرفت مرا قبلها ولا بعدها.
قال وكانه لم يسمعني: طلقها يا زول.
قلت له: هل ح ترجعها أنت؟ ح تتزوجها تاني؟
قال بكل صراحة ووضوح: أيوا ح أعرسها؛ هي أم أولادي، وإذا أبتني تاني، وطلبت الطلاق ح أطلقها ليك أنت تاني، ما كنت أظنه يعني أو يعي ما يقول، ولكنه كان يتحدث بجدية مبالغ فيها، كنا أنا وهو وحدنا، ود أمونة كعادته خرج خفيفا عندما أحس أن الموضوع يحتاج أن يناقش بين اثنين، لا أدري إلى أين ذهب ولا متى، قبله كانت البنتان قد خرجتا مع الجد.
قال لي مؤكدا: مرة ليك إنت ومرة لي أنا، كله بسنة الله ورسوله، لو ما عايز كدا شوف مرا غيرها، ثم أضاف فجأة: أنت اللي عاجبك فيها شنو؟ ماسك فيها قوي كدا، النسوان يا أخي زي ضنب الضب: تقطعوا، يقوم غيره، تقطعوا يقوم غيره، عشرين مرة.
قلت له: أنا ما عارف والله.
قال مقاطعا في إلحاح: طلقها يا زول، المرا حتقتلك إذا ما طلقتها، وتفر تدخل الحبشة، تاني شيطان مش ح يعرف مكانها، أنا أعرف الحبشيات ديل، إما قعدوا معاك بإخلاص أو سابوك نهائيا، ما عندهم نص نص. - ولكن ألم قشي مريضة. - أنت المريض، المره دي عايزة عيالها، وعايزة أبو عيالها، أنت ما لك باقي ليها عارض؟ قلت له: هي حامل مني!
قال ببساطة وهدوء مسيخ: عارف كدا، لما تلد وجناك يكبر شوية نديك ليه، أنا لما سابت لي بناتي أديتهم لأمي، أنت ادي جناك برضو لأمك، أو خالتك، أو أي واحدة من قريباتك تربيه ليك، ولما تكرهني ألم قشي عرسها تاني أنت، الموضوع بسيط ما يحتاج لقومة نفس أو زعل.
على الرغم من أن منطقه يبدو كمنطق المجانين، لا يقوم على عمد معقولة، وأنني كالذي في كابوس، إلا أنه أقنعني، وخرجت منه وقد صممت على طلاق ألم قشي على الأقل، قلت لنفسي: ح تكون في أيد أمينة، وتعيش سعيدة مع زوجها وبناتها.
شكرني وطمأنني أنه بمجرد أن تكرهه ألم قشي سيرسلها لي وفي يدها ورقة طلاقها.
قلت لألم قشي كطلب أخير، وهي تمشي نحو الباص: حافظي على الزول اللي في بطنك.
قالت مبتسمة ولأول مرة منذ بداية الأزمة: ح أحافظ عليه.
وتحرك الباص في حراسة الجيش والاحتياطي المركزي، وهو المظهر العام الذي صار يتخذه باص همدائييت والجيرة والحفيرة في الآونه الأخيرة، كانت أجمل ما تكون المرأة، تشع من عينيها سعادة غامرة، ولا يخفى همس الجنون الذي يحيط بها، هالة زرقاء مرعبة، ألم قشي هي المرأة الوحيدة في حياتي، ولقد أحببتها بالفعل، وعندما أقول المرأة الوحيدة أعني أنني اكتشفت فيها، وأنها أول امرأة تحمل بأطفالي، وهذه قيمة إنسانية لا تضاهى؛ أن تجعل نفسها تحبل منك، وهنالك صفة لا أظن أن امرأة أخرى تشترك فيها مع ألم قشي؛ وهي أنها أجادت مخاطبتي باللغة التي أفهمها بالذات، وبالكلمات والموسيقى التي تتوافق معي، ولكني انخدعت في تصوري للمستقبل، وما كنت أظن أن النهاية هي ذات النهاية التي أكابد آلامها الآن، وإلى آخر لحظة، بعد أن تحرك الباص كنت أظن أنها سوف تغير رأيها، ولكن عندما لوحت إلي بكفها مودعة عبر نافذة الباص كان الفراق قد تأكد تماما، شيعني الناس بنظرات إشفاق، وجاملني البعض بكلمات ظنوا أنها سوف تخفف عني، وأكد لي البعض في سذاجة: ح ترجع ليك، ما ح تلقى أحسن منك.
ولكن أرحم عزاء قدم لي كان من قبل الأم وود أمونة؛ حيث إنهما هيآ لي - لولا حالتي النفسية المتردية - ما كنت سوف أطلق عليه ليلة العمر؛ فاجأني بالعجوز في صحبة أم كيكي وبوشي، وهو اسم دلع لبوشاي الشلكاوية المغنية، وهي فتاة في غاية الجمال أمها من الحمران، وهي إحدى القبائل العربية بالمنطقة، وتعرف أدي أنني أحب صحبتها و... في القطية الكبيرة، بعد أن أخذا عنها جميع المنقولات، تم فرشها بالسباتة، ثم فرشت عليها بسط من البلاستيك رخيصة، ولكنها جميلة وناعمة ولها عبق حميم، الأم نفسها هي التي قامت بغسل ظهري في الحمام بالصابون والليف وقامت بدلك بشرتي بعجينة الدلكة العطرة، ثم تركتني للعجوز وبوشي وبنيات ثلاث يغنين لي وسط هالة من دخان الصندل والكبريت، قلت لهم: غنوا لي أغنية: وصتني وصيتا.
سقتني بوشاي الجن الأحمر الحبشي، الذي أفضله، وسقيتها، وشرب العجوز، سقينا البنيات البيبسي والإستيم، ورقصنا جميعا سكارى وغير سكارى على صوت المغني الحبشي تمرات من مسجل الأم، غنينا بالأمهرا والتجرنة والعربي ولغات نيل أزرق قديمة، لا نعرف إن كانت للأنقسنا، الوطاويط أم البرون أم القمز، وغنت بوشاي أغنية للشلك، اشتهرت بها المغنية الحسناء ييانا، عند العاشرة ليلا همست الأم في أذني: ما هي أمنياتك الليلة؟
قلت لها: الليلة دي بس؟ - أيوا الليلة بس، العشاء ليس من الأمنيات؛ لأنه جاهز بعد شوية ح ييجي، وأغنية سبعة يوم عوضية بعيد برضو خارج الأمنيات، وما أظنك تحتاج لوصتني وصيتا.
قلت لها مراوغا: خلي العجوز يتمنى لي، حتى لو أغنية: وصتني وصيتا.
قال العجوز ضاحكا: أتمنى ليك أحلام سعيدة.
قالت الأم: كويس نشوف بوشاي تتمنى ليك شنو.
قالت بوشاي وهي تبحث عن غطاء رأسها: أتمنى ليهو يشرب باقي الجن دا براو.
قالت الأم للصبيات، وهي وبوشي تضحكان: في واحدة عايزة تتمنى ليه حاجه؟
ضحكن وأخذن يغنين: سبعة يوم عوضية بعيد، قلت وكنت صادقا أم سكران لست أدري: أتمنى أن تحكي لي الصافية حكاية من حكايات الجنقو، أو يحكي لي ود أمونة عن السجن، قالت الأم وهي تضحك فيهتز صدرها الكبير: الصافية في مشروع الزبيدي ترش السمسم، وود أمونة هرب، وقال هو تعبان، أنا ح أحكي ليك قصة حياتي، والله ح تلقاها أجمل من قصة حياة الصافية.
تعشينا جميعا، عندما سكرت جدا تركوني وذهبوا، نمت، حلمت بأن الصافية جاءت من مشروع الزبيدي على جمل ضخم أسود اللون، قالت لي: صديقك نجمته! وح أنجمك أنت برضو!
حول محنة أداليا دانيال
في بيت أداليا دانيال عشرة مسجلات بسماعات كبيرة خارجية ملحقة، تحتفظ بها في صندوق كبير من الحديد الصلب، كان يستخدم لحمل الذخيرة في الحرب العالمية الثانية، اشترته من كرن، بالصندوق أيضا عدد كبير من النظارات الشمسية، وأحذية أديدس كبيرة الحجم، وعشرون راديو ناشيونال بثلاث موجات، وأشياء أخرى صغيرة تافهة، ولكن لها قيمة أبقتها في الصندوق، تسمي أداليا دانيال الصندوق: خزنة الأمانات، وهي في الحقيقة ليست أمانات بالمعنى الواضح للكلمة، ولكنها دخلت الصندوق كأمانات ثم تم شربها تدريجيا أو أكلها، وفي القليل النادر جدا قبض بعض قيمتها نقدا، ويحدث هذا عادة في أشهر الصيف ونهاية موسم حصاد العيش؛ حيث يكون الجنقوجوراي قد استهلك آخر ما لديه من مال وبدأ في أكل زينته التي حرص على جمعها في شهور حصاد السمسم وقطع العيش - أي في أكتوبر، ونوفمبر، وأوائل ديسمبر - وهي كما يسميها الجنقوجوراي: الشهور السمينة.
أداليا دانيال مثلها مثل كل صانعات العرقي والمريسة تحترم الأصول، فعندما يقول لها أحد الفدادة: خلي المسجل دا معاك، تبدأ مباشرة في تحديد سعره، ثم على الحائط تشخبط ما شرب الفدادي من عرقي ومريسة، وما أخذه نقدا، إلى آخر كأس، والجنقوجوراي الأصيل ود القبائل لا يسأل عن أمانته مرة أخرى إلا إذا وفر ثمنها، وهو دائما ما يفضل شراء زينة جديدة في الشهور السمينة، ويتبع الموضة السائدة، أما الجنقوجوراي الحريف الذي يجيد اللعب فهو الذي يصاحب صاحبة العرقي، لا يهم فارق السن بين الاثنين، وهو غالبا ما لا يوضع في الاعتبار، لا يهم جمال المرأة أو قبحها؛ فالرجل الناضج الذكي يرى كل النساء جميلات، ومن الحكم السائدة في هذا الشأن أن كل امرأة لديها ما تقدمه للرجل بغض النظر عن سنها، أو جمالها، أو لونها، أو قبيلتها، وأن كل النساء جميلات بالقدر الذي يجعل الرجل يصل ذروة نشوته، ويختصر الفدادة القول في: الفحل مو عواف، ولكن الأهم من ذلك بند في عقد المصاحبة غير المكتوب، هو أن يصاحب الجنقوجوراي الواحد امرأة واحدة فقط، وأن تكتفي الفدادية بجنقوجوراي واحد، وهذا التزام صعب، وغالبا ما يفشل الجنقوجوراي في الوفاء به؛ حيث إن الكسل الذي يصيب الجنقوجوراي في هذه الأيام والتسكع والتلكع، والوجبات الدسمة التي توفرها له صاحبته، غالبا ما تحرك شياطين شهوته، والنساء يصبحن أجمل في ديسمبر، يناير، فبراير، مارس وإبريل؛ لأنهن لا يعملن في هذه الأشهر، في أم بحتي أو قطع قصب السكر في المشروعات المروية، حيث يكتفين بالحياة المنزلية البطيئة، يوفرن خبزهن عن طريق بيع الخمور، بيع العطور البلدية، بيع الشاي والقهوة في الأسواق نهارا أو في أركان المنازل مساء، قليل منهن يمارسن الدعارة، فضلا عن كونها لا تجلب مالا؛ لأن الرجال جميعا لا مال لهم في هذه الأشهر، حيث تسود المقايضة، إذا أضفنا ندرة الرجال أنفسهم في هذه الأشهر؛ حيث يهاجر معظمهم إلى مزارع السكر في جماعات للعمل في الكاتاكو.
وتحتد المنافسة بين النساء الجميلات الكسولات في مواسم راحتهن، وتفرغهن للحب والمصاحبة والزواج، الكثيرات على العدد المحدود من الرجال، الذين قرروا البقاء بالحلة اعتمادا على تسليم زينتهم كأمانات غير مستردة، أو الزواج والمصاحبة كنظام معايشة إلى أن تنقضي الشهور الصعبة ببداية موسم الكديب، والرجل الجنقوجوراي الذي يعتمد على المصاحبة في عيشه يسمى: بالهوان، ثم يأتي موسم الحصاد، وهي الفترة التي غالبا ما يتم فيها فض الشراكة، منها الطلاق. أداليا دانيال متزوجة من رجل قوي الإيمان ينتمي للكنيسة الكاثوليكية، هي أيضا مؤمنة، تصلي لربها، وتعمل مع الأخوات في الكنيسة، ابناها أباب وتوني صغيران ويمارسان الدين إلى الآن كنمط من محاكاة الكبار، والتطلع إلى النضج الحقيقي والسريع، وتعلم أداليا خطورة أن ينمو طفلاها في بيت يرتاده السكارى؛ حيث إنهم يتحدثون بألفاظ لا يقبلونها كثيرا في موقد الأخلاق ولا يكترثون للذوق العام، أو ما يجب وما لا يجب، يتحدثون عن نسائهم فاضحين ما يستره الليل في القطاطي والرواكيب، ولا يتحرجون في نقل تجاربهم في المضاجعة، وخبرة النساء، ويضحكون في متعة قد يظن الطفلان أنها المتعة الحقة التي لا يوفرها سوى هذا النمط من الحياة؛ لذا كانت أداليا دانيال تتعامل معهما بحزم، ولا تتسامح في بقائهما قريبا من مرمى حديث السكارى، أو أن يسلكا سلوكهم، وهذا هو سر الالتزام بالكنيسة، وربط الأطفال بأنشطتها؛ حتى يتسنى لهما قضاء أكبر وقت خارج المنزل خاصة يوم مريستها كل سبت، وإذا عادا مبكرين ترسلهما مباشرة إلى منزل خالها عبد الله ماجوك، الذي يعمل محاسبا في زريبة المحاصيل، يتغديان هناك ويعودان قبل المغرب بقليل، حيث يجدان المنزل قد خلا من الفدادة، ويجدان نصيبهما من المريسة محفوظا، يؤديان صلاتهما، يشربان مريستهما قبل أن يخلدا للنوم، ولكن هذا البرنامج التقي المستمر لا يمضي كما تشاء أداليا دانيال ويشاء زوجها؛ لأن زوجها له رأي آخر في تربية أطفاله تنازل عنه لأداليا، ربما لقوة شخصيتها، ربما محاولة منه لتجنب الخلاف الذي قد يؤثر على حياة الطفلين، ربما تمشيا مع الأخلاق المسيحية كما يفهمها: التسامح المستمر، وإعطاء فرصة أخرى للآخر.
أداليا دانيال تفهم وجهات النظر هذه جميعها، ولكنها تنطلق من مبدأ أن تربية الأطفال من مسئولية الأم، وليس الأب الذي عليه النضال خارج المنزل لتوفير المال، ليس إلا، ولو أنه فشل في ذلك ففشله لا يسقط واجبه المفترض كأب لطفلين، ولا يحمله مسئولية لا تخصه وهي تربية أباب وتوني، ولكن هل حقا كانت أداليا دانيال بهذه الصرامة؟ حسنا، هنا دائما ما يعرف الآخرون عن الأشخاص أكثر مما يعرفونه هم عن أنفسهم، فالنظرة من خارج الشيء هي الأكثر موضوعية وشمولية، وحكمة المكان تقول: إن الآخرين كثر وأنت واحد، أيهما نصدق؟ للآخرين ألف عين، وخمسمائة قلب، وآلاف الأصدقاء، وألف أذن، وخمسمائة فم، وألف رجل، ومثلها يد، وأنت واحد، أيهما نصدق؟ لا بل أيهما أقدر على تقصي الحقيقة واختبار الكذب والتلفيق؟ فيما يشبه الندوة في يوم مريسة خميسة النوباوية تأكد الجميع من صحة الحكاية التالية: في اليوم الذي تزوجت فيه كلتومة بت خميسة النوباوية من عبدارامان الجنقوجوراي، بعد العقد مباشرة، بدأ الحوار حول المتعة، كان طازجا فجا بسيطا كأحر ما يكون، في الحق لم تبدأه ألم قشي ولم تكن الملحوظات التي أبدتها في هذا الشأن هي الأصوب، أو الأكثر إثارة للجدال، ولكن لا أحد يستطيع أن ينفي أنها كانت ذات باع طويل في كل ذلك، ولكن بالأمس في يوم مريسة خميسة النوباوية، وفي ما يشبه الندوة تحدثت النساء عن أول مرة، كما سمينها، تعرف فيها أداليا دانيال أن هنالك أمورا مهمة في حياتها كامرأة لم تصب هي منها شيئا، ورمينها بادعاء براءة لا تليق بامرأة في زواج مستقر منذ عشرين عاما، أنجبت خلاله مرتين، ولكن أداليا دانيال أكدت: الشيء اللي بتتكلموا عنو دا، والله ما حصل لي ولا مرة واحدة.
ثم أمطرنها بوابل من أسئلة رجيمة: - راجلك تمام؟ - «...»؟ - قاعد يصل بسرعة، ينبح زي الكلب؟ - كم دقيقة؟ - قاعد يطول ولا لا؟ - قاعد يلعب معاك شوية ولا طوالي؟
ثم حكين لها تجاربهن مع رجالهن، وأوحين لها بما يعني أن المشكلة كلها في لام دنق، وليست المشكلة هي عدم ختانه فحسب، ولكن في تعجله، وتعامله مع الأمر كواجب، هكذا توصلن إلى نتيجة أراحتهن كثيرا، وأحسسن بالعطف والشفقة على امرأة لم تتمتع بالميزة الأساسية التي تجعلها أعظم من خلق الله؛ أن تكون أنثى، قلن لها بما يعني: أنت ضائعة.
دارت الندوة في الواقع ما بعد هذا الاكتشاف المثير، يوم مريسة خميسة النوباوية، بعد عام كامل، رصد العقل الجنقوجوراوي فيها كل صغيرة وكبيرة عن أداليا دانيال، قررت أداليا أن تصبح كصويحباتها اللائي يستمتعن حقا بحياتهن كنساء، وأن تعرف اللحظة التي تحدثن عنها بأوصاف محفزة ومدهشة: ما بعرف نفسي في الواطا ولا في السما. - تجيني حاجة زي الخدر وما خدر، زي النعاس وما نعاس، زي الحلم وما حلم، حاجة تتمنى تدوم ولكنها تنتهي فجأة. - نوع من الوجع، الوجع اللذيذ. - يا أختي دا شيء ما بيتوصف، إلا تجربيه، دا شيء من ربنا. - بري، بري، يا بنات أمي بري، أنا ما بحب بتكلم في الحاجات دي!
حاولت مع زوجها لام دنق، ولكن دائما ما تنتهي اللعبة بأن يدفق ماءه مصدرا صوتا غليظا، ثم يشكر الله في صلاة سريعة وينام، في الماضي كانت لا تهتم؛ لأنها ما كانت ترجو أكثر من اللذة التي تحدث نتيجة لفعل الإيلاج والنزع المتكررين، بالإضافة إلى حضن زوجها الدافئ الذي عندما تأوي إليه تحس بأنها مركز الكون، ولكنها الآن ترغب في أن تصل إلى نتيجة أبعد رسمتها لها الصديقات، وشهينها فيها، أصبحت أداليا لا تطيق لام دنق، ولو أنهما كانا لا ينامان معا إلا مرة في الأسبوع، وأحس لام دنق وأرجع ذلك إلى تقلبات النساء التي تحدث عنها الرب كثيرا في الكتاب المقدس، وسمع أيضا من بعض المسلمين أن الرب تحدث عنها مرة أخرى في القرآن كذلك، وقال عن النساء كلاما كثيرا، لام دنق رجل قصير سمين له عينان ذكيتان ثاقبتان، لا يتحدث كثيرا، يعمل في كمائن الطوب في فترة الصيف عند شاطئ النهر، وله خبرة كبيرة في ذلك، يعتبر الرجل الثالث في الكنيسة بعد الأب بيتر، والأم مريم كودي، وهي عذراء جميلة وتقية جدودها من جبال النوبة، من الدلنج بالتحديد، ويقال - في ما يشبه الندوات - إنها حازت على مرتبة عليا في مسابقات الجمال في كينيا، قبل أن تهب نفسها للكنيسة كلية، وترسل إلى هذا المكان البعيد، لام دنق اعترف للأب بيتر أن أداليا دانيال زوجته غير طبيعية؛ لأنها طلبت منه أن يختن نفسه. - هي مش عارفة إنه الختان دا عند اليهود والمسلمين؟ ونحن خلقنا على صورة الرب ولا يمكن أن نشوه أنفسنا. - هي تعرف. - ولكن السبب شنو؟ عايزة تبقى مسلمة ولا شنو؟ - لا، هي متمسكة كويس بالدين، ولكن أنا ما عارف الحاصل شنو، الموضوع غريب، كلفت الأم مريم كودي بمعالجة الموضوع مع أداليا دانيال يوم الأحد القادم، فهي صديقتها، وهي أيضا امرأة، ويسهل التفاهم بين المرأتين، فيما يشبه الندوة في يوم مريسة خميسة النوباوية يوم السبت أكد ما يلي: عرف صديقي بما سمي فيما بعد بمحنة أداليا دانيال، وكعادته نصب نفسه مهديا جديدا، وقال لي: أنا ح أكون أول من يخلي أداليا دانيال تحس بأنها امرأة، ح أخليها تصل قمة نشوتها.
قلت له ساخرا: بس ما تبقى عليك حكاية الصافية.
قال جادا: دا براو، دا براو!
كانت أداليا دانيال تفوقه طولا وحجما، فهو نحيل طويل بعض الشيء، قال إنه بعد غزل ومناورات كان لا بد منها استطاع أن ينفرد بها في إحدى قطيات أدي، قال لي مزهوا: اكتشفت في الدقيقة الأولى كذب كلما يشبه الندوات التي يقيمها السكارى والنساء الفارغات، فمبجرد أن قبلتها وصلت أداليا دانيال إلى ذروة النشوة، هرت مثل قطة بكرة وانكمشت ثم تمطت، حملقت في وجهي بصورة مرعبة ومضت، في يوم الأحد لم يكن هنالك شيء تقوله أداليا دانيال للأم مريم كودي، غير أنها تنازلت عن موضوع الختان، وأن الأمر ما كان أكثر من فكرة طائشة، ولكن من هو الغبي الذي يصدق روايته هذه؟
السارقون الرحماء
انتظم العمل في المشاريع، أكثر ما يميز هذا العام هو تدخل البنك كممول للمشروعات الكبيرة، وكمزارع عن طريق موظفيه الذين بسلفيات من البنك زرعوا أراضي واسعة بالسمسم والذرة، ومدير البنك نفسه زرع ألف فدان ذرة في المنطقة الخصبة ما بين خور مغاريف إلى غابة زهانة، وعرفت بمشروع ناس البنك، عمل الجنقو في كل المشاريع بصبر وأناة، ما داموا يدفعون لهم بانتظام، وما داموا في أشد الحاجة للمال.
الحق يقال: إن وجود البنك أنعش ركود الاقتصاد المحلي، وظهرت أنشطة جديدة أوجدها موظفو البنك الذين بسلفيات من البنك، قاموا باستيراد الأبقار الفريزيان الهجين، ومزارع الدواجن البيطرية، هذان النشاطان وحدهما استخدما عمالة لا تقل عن الثلاثين شابا عاطلا عن العمل، وقللا من سعر البيض الذي أصبح أحد المواد الاستهلاكية؛ حيث خلقت له الدعاية والتقليد سوقا رائجة، وأيضا أصبح سعر رطل اللبن نصف جنية فقط، وهو أكثر جودة؛ لأنه الأنظف والأقل ماء، ويتم حفظه في آنية كبيرة تغسل في اليوم مرتين، وابتكر موظفو البنك نظام تسليف عرف بين الأهالي بالكتفلي، وهو أن يقوم موظف البنك الثري بتسليف شخص بواسطة ضمين معروف ووصل أمانة مبلغا من المال يساوي عددا من جوالات الذرة، أو يتم مقابلته بعدد من جوالات الذرة وضربها في اثنين، ويتم استرداده بسعر الذرة في وقت استرداد الدين الذي غالبا ما يتضاعف إلى أكثر من ثلاث مرات خلال شهور رد الدين وهي: مايو، يونيو، ويوليو، وأغسطس، ومن ثم يرد المدين الدين مضروبا في أربعة، وحسنوا أيضا من مستوى المواصلات؛ لأنهم أحضروا إلى المنطقة لأول مرة حافلات الركاب المريحة، ثلاث حافلات تعمل في فترة الصيف، ما بين الشواك وعبودة والحلة، يمتلكها موظفان بالبنك، طبعا فسر الناس ذلك بأنه، إلى أن يثق البنك في المواطنين العاديين، فإنه يقوم بتسليف موظفيه وكبار التجار فقط بدلا من أن يبقى المال بالخزائن دون فائدة، وكثير من الناس قدر موقف البنك هذا، بل وثمنوه، طالما دفع الحياة البائسة الراكدة بالمكان؛ حيث تمكن أي مواطن منتج من بيع سلعته لموظفي البنك، حتى الفحم وحطب الوقود، بل حطب الطلح الذي تتدخن به النساء، خزنه الموظفون بكميات هي الآن ترتفع عشرات الأمتار فوق سطح الأرض: كنا نودي الفحم الخرطوم، بلصات ورشاوى لا أول لها ولا آخر في الطريق، الليلة صديق العوض، أو أحمد البدوي، أو المدير نفسه الذي يعطي مقابلا من المال لكل شيء له قيمة؛ ريحونا من التعب دا كله.
ولكن رغم هذه الفوائد الجمة التي يعدون منها ولا تعد، فإن الناس الذين لا يملأ أعينهم سوى التراب، يعيبون على البنك تدخله في حياتهم الخاصة مباشرة، أو بطرق غير مباشرة، ويحفظون له حوداث كثيرة في سجل قبيح، وقد عقدت ندوات وندوات في نقاشها ومحاولة البحث عن حقائقها، ففي ما يشبه الندوة في منزل أبرهيت، يوم الاحتفال بعيد غامض يطلقون عليه تجاوزا عيد سليمان، أو النبي سليمان، نوقش موضوع المبلغ الذي خصصه صديق العوض موظف البنك لأمول أجانق إذا دخل الإسلام، وكان أمول أجانق نفسه من الحاضرين، ولقد أدلى بشهادة لم تعط من الاعتبار إلا أقله، حيث اعتمد الناس بصور أساسية الرواية التي أدلى بها صديقنا مختار علي، الذي أكد بما لا يدع مجالا للشك أن صديق العوض قد تسلم مبلغا كبيرا من المال من أحد الناس ذوي الذقون الكبيرة، وقال: لولا أن أسامة بن لادن مختبئ هذه الأيام في طورابورا، لقلت دا أسامة بن لادن ذاته، زول طويل سمين قوي أبيض، عنده دقن كبيرة، عنده شعر كتير، عنده مال كتير، عنده حرس، جاء القضارف وقابلوا صديقا هنالك وحلف بربه وبالنبي، أنه رآه وسمعه.
ثم أخبرت الأم عن محاولة يائسة معها للإخبار عن الجنقو الذين يحملون السلاح في غابة زهانة، ومعرفة من معهم ومن ضدهم، أشار ود أمونة عن عرض زواج عرفي من مدير البنك إلى بوشي ، وربما قد تم ذلك الزواج؛ لأن لا أحد اعتمد رواية بوشي التي أنكرت الواقعة جملة وتفصيلا، قائلة بشكل قاطع وحاد: إن شاء الله أديه للكلاب، وما أديه للزول المتكبر الحرامي دا!
قالت أداليا دانيال: أبيت أبيع ليهم مسجلاتي، أدوني سعر رخيص جدا، ولا الخسارة اللي خسرتها فيهم، وأضافت بعد أن ضحكت ضحكا يشبه الهيستيريا، قل إنه نوع من البكاء: هم اللي قالوا لي: خلي راجلك يتطهر، «تقصد يختتن.»
ولكن ما أدلى به أبرهيت المتحفظ دائما، المتشكك فيما حوله الغامض، الذي لا يغلط على أحد، كان المدهش، قال موجها حديثه لي: هم اللي خربوا بيتك، هم اللي ضيعوا ألم قشي، أغروها بالذهب والمال، أنت شخص غير مرغوب فيه هنا، عايزينك تفوت أو تموت، اعمل حسابك؛ لأنك أنت المتهم بتحريض الجنقو، ودفع صديقك الشايقي على الخروج عن القانون.
ولأول مرة تخرج ندوة بلا شيء؛ لأنها خمنت بما يشبه التقرير عن أنشطة البنك ملخصه: ما لم يقل الفكي كلمته، فإنه لا حقيقة يمكن اعتمادها، لكن على هامش الندوة دار حديث سري مفاده أن الفكي علي هو الذي مكنهم من الناس، هو الذي سخر شياطينه، وآياته، ومحايته، وعروقه، وكتبه الصفراء، وجلجلوتيته، وشمس معارفه الكبرى، وتبيانه، وسحره الأخضر والأحمر والأسود لمصلحة موظفي البنك؛ لأنهم يدفعون له أكثر؛ لأن الفكي علي بإمكانه تدميرهم جميعا، وخاصة أن ألم قشي عرفته بأسماء أمهاتهم جميعا، عن طريق مهارات استخدمت فيها مكر النساء، دهاء الرجال وخبث ود أمونة، والجميع يعرف أن الفكي علي ذهب إلى مدينة باسوندا، وقضى أسبوعين كاملين بها، وباسوندا هي المدينة التي توجد فيها خزنة أسرار علم الشجر في الكون كله؛ أو ما يسمى بالسحر الأخضر، وهي المدينة التي قيل في شأنها هنا في الشرق: إذا ناس باسوندا أبوك ناس الترب نادوك.
ود أمونة وحده الذي يلم بأطراف القوالات
ود أمونة المراسلة بالبنك وحده الذي يلم بأطراف القوالات والحقائق، وربما كان أحد صانعي الأحداث الكبرى في الحلة، كان الموظفون يولونه اهتماما بالغا، بل يصل لحد التدليل ، وما ذلك إلا لقوة المعلومة، وسلطة المعرفة النادرة التي يتمتع بها، أو ما يحلو للبعض أن يطلق عليه: المعرفة السريرية.
كانت أمه أمونة في بداية حياتها، عندما قدمت من القضارف، التي جاءتها كما يقولون من أقاصي غرب السودان، تعمل في المشاريع مع الجنقو، كانت تأخذه معها وهو صغير إلى المشاريع، ومثل أطفال صديقاتها تتركه تحت ظل ضيق من القصب والعدار، فارشة له على الأرض ملاءة قديمة عليها بعض البلح، أو قطعة حلوى يشاركه فيها الذباب والنمل، وقد تعلم ود أمونة منها درسه الأول: الصبر من النمل، والخسة من الذباب، في بلد يكبر الأطفال فيه سريعا، إذا لم يموتوا وهم دون الخامسة، أو في بطون أمهاتهم، تربى وسط ثلاث بنات كلهن أصغر منه عمرا، أخوات أمه لحقن بها بعد أشهر قليلات من إقامتها بالحلة، استقر المقام بهن في المملكة العربية السعودية، لقد بهرن بجمالهن، وشبابهن، ونضجهن، قاماتهن، ولونهن، امرأة تعمل بالكرنتينة بجدة، تجيد استثمار الصبيات ولو كن قاصرات، ولكن التاية أقنعت أمونة بأن من مصلحتهن أن يكبرن هنالك، وهي تعرف كيف تصنع منهن ربات جمال، وهن في هذا العمر.
التربية الجيدة في الصغر هي ضمان النجاح في الكبر، وأن يكبرن على عز ورفاهية خير من أن يعشن في هذا الذل يوما واحدا آخر، وسوف تجد لهن العمل المريح الشريف الذي يتناسب مع أعمارهن؛ من ثم حالما غادرن الأسرة، ولم يسمع لهن صوت، ولسوف لن يسمع أصواتهن ود أمونة، إلا بعد سنوات من سفرهن، أي عندما يتم افتتاح شركة الاتصالات رسميا بالحلة، إذا يمكن القول إن ود أمونة لم يعش بصورة متواصلة إلا مع أمه وجها لوجه، أمونة امرأة جميلة من كردفان، وهو المكان الذي دائما ما تطلق عليه هي: أقصي الغرب، ليس من السهل أن نصدق كل ما نسمعه ويحكى عنها وعن أصلها، ولا يمكن القطع عن المهن التي تنقلت إليها ولا الرجال، ولكن عرف عنها أنها مترددة سجون، ويترصدها بعض العسكر الذين يرجون منها وطرا وتصدهم، وهي أيضا امرأة شرسة وشجاعة : ألم نقل إنها جميلة أيضا؟ ومن المؤكد أن ود أمونة لم يرث من أمه شيئا سوى لون بشرتها، هذا إذا لم يكن أبوه هو اليماني، ويقول الناس من المفترض أن ينمو ود أمونة نموا رجوليا بحتا؛ نسبة للظروف القاسية التي عاشها مع أمه في السجن وفي المشاريع، ولكن لله في خلقه شئون، ولكن ووفقا للحكمة القديمة القائلة: النار تلد الرماد، فإن لا أحد يستبعد أن أمونة هي أم ود أمونة! قبل عمله في البنك كمراسلة كان يعمل بمنزل الأم أدي في مهنتين؛ خدمة الأم والنساء العاملات معها في المراسيل السريعة، مثل: جلب الدقيق من الطاحونة، شراء رطل سكر وبن من الدكان، خدمة الزبائن والضيوف، تسخين الماء، وجلب الحطب، وأيضا كان يعمل في هوايته المفضلة هي: عواسة وصنع الكسرة، وهي مهن شريفة إذا قيست بطريقة أو أخرى، ولكنه أيضا كان يعمل في مهنة ليست شائعة، وفي تقدير كثير من الناس ليست شريفة، وهي: نظافة الملاين لكبار الموظفين، والتجار، والنساء الثريات.
كان وسيما نظيفا أنيقا في ملبسه البسيط، له شارب كثيف شديد السواد، وذقن حليقة باتقان تام، تجده في كل البيوت في المناسبات، وفي غير المناسبات، ويعتبر الفرد الوحيد الذي يحق له دخول أي منزل في الحلة وقتما شاء، كان خفيفا كالروح، طيبا مسالما، مغنيا بارعا، خاصة لأغاني البنات، يجيد رسم الحناء للنساء، وترقيص العروس، وذلك منذ أن كان في السادسة عشرة، له ابتسامة لا تفارقه دائما، كان يعرف كل صغيرة وكبيرة عن كل صغير وكبير، ولا يبخل بسر، ولا يحفظ سرا، ولا يخفى عليه سر، بالأمس، الآن، وربما في المستقبل، استلطفه البنكيون فاستخدم لخدمتهم في البنك كمراسلة، بترشيح من ألم قشي، أما الآن فود أمونة شخص مختلف قليلا عنه قبل الوظيفة، وربما لطبيعة العمل الجديد، وأنه يقضي ثماني ساعات يوميا طالع نازل سلالم البنك، حيث أصبحت له اهتمامات أخرى إضافية، مثل التلصص على حسابات العملاء، ومعرفة من يمتلك كم، سحب كم، ورد كم؟ وهي لشخص غير ود أمونة تعتبر مهمة صعبة ، ولكن لشبه الأمي هذا، الذي لم ينل من فصول العلم سوي شهور ضئيلة يسرتها له العازة في أيام حريتها القلائل، من الحيل ما يمكنه دائما من إشباع طموحه للمعرفة التي يحتاج إليها في ونساته الليلية في بيت الأم، أو مع النساء في بيوتهن، أو حتى لتحلية نظافة الملاين لرجل ما؛ حيث إن العمل غير شائق فلا بد من تسويقه بحيل مدهشة: عارف الليلة الجلابي حسين خت كم في البنك؟
ولكن ود أمونة شخص ماكر؛ فإنه يعرف متى تصبح معرفة رصيد العملاء تجارة رائجة، ويعرف من بإمكانه دفع مبلغ كبير في الحصول عليها، كالدائنين، وأقارب الأثرياء، أما المعرفة التي تجعله يشعر بمتعة الونسة، وعظمة وسلطة المعلومة ويهبها مجانا، ويستطيع أن يدفع مقابل أن ينتصت إليه باهتمام، وأن يعلق بإعجاب على كلامه هي: المعلومات السريرية؛ فلان وفلانة، وكم اشترى مريسة، وعسلية للفدادة، وكم علبة سجائر برنجي قسمت للنساء، وكم من المشويات بذلت في سبيل قعدة، وونسة حلوة، يستعرض فيها ود أمونة بمعلوماته السريرية النادرة، التي قد يقع أحد المستمعين يوما ما ضحية لها، قد يكون مكان وزمان الونسة فيما يشبه الندوة، ولكن هكذا يقول الجميع: الونسة علاج الزهج.
ولكن الصفة غير الحميدة حقا هي القطيعة، والنميمة، وهي من صفات ود أمونة، التي لا يحسد عليها، وهي أيضا بمقابل؛ حيث يدفع الرماليون، والوداعيون، والفكيا الكذبة، مبالغ كبيرة في سبيل الحصول على معلومات عن مرضاهم: ماذا يدور في أذهانهم؟ من الذي يشكون أنه سبب مرضهم؟ ما هو تصورهم للعلاج؟ بل ما وجهة نظرهم في المداوي نفسه؟ لا زال ود أمونة رغم انشغاله وفيا لأدي، ويقدم لها خدمة نظافة ملاين شهرية مجانية، كان كان كثيرا يردد أن لأدي أحلى عبق ملاين خاصة ما بين الساقين؛ حيث إنه دائما ما يفرق بين الناس بما تفرزه ملاينهم من روائح ويقول: الزول ريحته منو وفيه، والريحة الحلوة قسمة من الله.
ظهرت مهنة تنظيف الملاين مع ظهور البنك، وشركة الاتصالات، وقدوم موظفي طلمبة المواد البترولية، وإنشاء محلية حديثة ، وتوظيف عدد من خريجي الجامعات القادمين من المدن الكبرى كضباط إداريين، ثم توسيع حامية الحلة، ومدها بضباط حربيين في رتب كبيرة، حدث ذلك في بحر السنوات العشر الأخيرة، كانت مهنة سرية ابتكرها ضابط إداري منعم قدم من أم درمان، قابل ود أمونة مصادفة ذات يوم في منزله يصنع حلوى تنظيف الشعر الزائد لزوجته من السكر، والليمون، والقرنفل، وهي خلطة اشتهر بها ود أمونة في تلك الأنحاء من الشرق، ومنذ النظرة الأولى لمظهر ود أمونة الخارجي، وطريقة كلامه، ولو أن شاربه ينبئ بذكورية بغيضة، إلا أن خبرة الضابط الإداري استطاعت أن تنفذ إلى ما وراء الرموز، وبكل شجاعة طلب من ود أمونة عندما يكمل صنع الحلوى أن ينتظره في الديوان، ثم عند الديوان حكى له عن عبده زهرة، الذي كان يقدم له وللمسئولين الكبار والوزراء وأصحاب الشركات التي هي الآن ملء السمع والبصر، بل لرؤساء سابقين أيضا، خدمة لا تقدر بثمن، وأنه افتقده الآن في البلد الكرور دي، بلد إذا ربطوا فيها الحمار يقطع الحبل ويهرب.
وتفهم ود أمونة سر العلاقة ما بين اسمه وعبده زهرة الذي ربما يكون اسما آخر، ولكن حوره الضابط الإداري الذكي لكي يقرب مسافة الفهم لود أمونة، شك ود أمونة في بادئ الأمر في نوايا ومقاصد الرجل، وظنه يريد خدمة سريرية مريبة، ولكن بحمد الله تم التقاط الفكرة، إلا أن ود أمونة لم يقم بهذا العمل من قبل، فأنى له! - ح أعلمك، دي مهنة تجيب الدهب، وهي برضو مهنة شريفة زي عمل الحلاق وتحتاج لفنيات بسيطة.
ثم أخذ الضابط التنفيذي يصطاد الزبائن لود أمونة؛ حتى يخلق له سوقا تجعل المهنة مستدامة، لها جمهورها وسوقها؛ حتى لا ينصرف عنها ود أمونة.
صيد الحلوف
أصبحت الأعشاب عالية، كأعلى ما يكون، الخريف في هذا العام كان مكتملا، والأمطار غزيرة، توقفت المواصلات من وإلى كل المدن والقرى؛ مما خلق ندرة في موارد الغذاء؛ حيث كنا نعتمد على اللواري السفرية في مدنا بما نحتاج إليه من دقيق يرسله لنا الأصدقاء، أو التجار ، وكي لا نموت من الجوع اتفق الجنقوجورا الذين معي في التاية بأن نقوم بصيد الحلوف، وهو الخنزيز البري، المتوفر في تلك الأنحاء بكثرة، اللذيذ اللحم، ويعتقد الجنقو أن كبده يقوي النظر، على الرغم من صعوبة وخطورة صيده إلا أن كل جنقجوراي يدعي أنه الأكثر مهارة في ذلك، ويحفظ من الحكايات ما يبرر ادعاءه.
كان معي بالتاية خمسة من الجنقو، أنا ومختار علي وعبدارامان البلالاوي، الذي تزوج قبل شهور من كلتومة بت بخيتة النوباوية، وما زلنا ندعوه بالعريس، ورجل كان يعمل بالجيش سنوات طويلة، وهو الآن بالمعاش نسميه حمريطي نسبة للونه الذي يميل للحمرة، وامرأة شابة اسمها حواية بت الملايكة، أنا الجنقوجوراي الوحيد الذي يعترف بأنه لم يحصل لي شرف صيد هذا المخلوق أو أكله؛ لذا لم أكن طرفا في النقاش الحاد الذي دار بين الجنقو بما فيهم بت الملايكة، عما إذا كان الحلوف يدخل ويخرج من حفرته برأسه أولا أم بمؤخرته؟ واحتد النقاش لدرجة أن وصف بعضهم البعض بصفات مثل: هوان، وتعيس، وود البقس، شربنا ما توافر لنا من مريسة أمبلبل، وحملنا فئوسنا وسكاكيننا وتوغلنا في الغابة. الحلوف حيوان ضخم، قد يكبر إلى أن يصبح في حجم عجل البقر مع قوة، وقصر في القوائم، له حوافر قوية صلبة ونابان معكوفان حادان بارزان كأنهما قرنا ثور في زاويتي فمه يستعملهما دائما في الدفاع عن نفسه؛ حيث يمكن بضربة واحدة من أي من النابين أن تقتل الضبع بشق بطنه إلى نصفين؛ لذا تتجنب كل الحيوانات الدخول في معركة مع هذا الحيوان الشرس ذي اللحم اللذيذ الممتنع، عدوه الوحيد هو الجنقوجوراي الذي يبتكر شتى الحيل للإيقاع به، ولكن الجنقو في ذلك اليوم كانوا منشغلين بإثبات أحد الأمرين أكثر مما كانوا منشغلين بالإيقاع بالحلوف في الفخ، الكل يريد أن يبرهن بأنه الأعرف بالحلوف، عداي؛ فقد كنت أريد لحما يكفي لإطعام فريق العمل لأكثر من أسبوع إلى أن تجف الأرض وتستطيع اللواري السير، وظللت أنبههم بين الفينة والأخرى إلى أهمية التركيز على صيد الحيوان ، لكنهم كانوا جميعا قد اتفقوا على أنهم سوف يصطادونه على أي حال، ولكن بعد أن يتأكدوا من كيفية دخوله لحفرته؛ لأن الأمر أصبح موضوع كرامة وتحد، ووجدنا حفرة الحلوف، علق الجنقو العارفون به: إنه خارج حفرته، ولكنه قريب جدا منها، أثره ورائحته يدلان على ذلك، وما علق من صوفه على الشجيرات الشوكية القريبة يدل على أنها الأنثى، مما يعني أن الذكر قد يكون بالداخل، هذا كان متفقا عليه من الجميع، ودون مغالطات، أو تشكك، أو حتى احتمالات، طلبوا مني أن أبقى بعيدا، ويستحسن أن أصعد شجرة لالوب قريبة، أي أن أبقى أبعد ما يكون حتى لا يصيبني الحيوان الشرس الغبي، فإصاباته بالغة في كل الأحوال.
توزع الجنقو الثلاثة بطريقة مدروسة حول الحفرة، وطلبوا من بت الملايكة أن تبحث عن الحيوان متتبعة رائحته وأثره، وعندما تجده ما عليها سوى أن تقف في الاتجاه المعاكس لحفرته، وأن ترميه بحجر من على بعد كاف؛ كي يهرب عائدا مباشرة إلى حفرته، وهنا يتنظره الجنقو، ليتأكدوا من الطريقة التي يدخل بها إلى حفرته، أبرأسه أم بمؤخرته؟ ثم بعد أن يدخل سوف يعالجون مسأله صيده، ولو أن صيد الحلوف لا يتم بتلك الطريقة؛ كما أخبرني مختار علي، وتعلمت فيما بعد أنه يتم بأن يسد مدخل حفرته بحجارة، وأشواك، وأحطاب ضخمة، وعندما يأتي مندفعا لدخولها، فإنه يفاجأ بأن مدخلها مسدود، فيتردد ريثما يعيد ترتيب أموره، أو يحدد وجهة أخرى يهرب إليها، هنا يهاجمه الجنقو ضربا بالفئوس، إلى أن يموت، بينما كنا صامتين، متوترين، مترقبين قدوم الحلوف خطرت فكرة لا يعلم أحد ما هي إلى ذهن عبدارمان البلالاوي، وسوف لا يعلم أحد كنهها فيما بعد، على مرأى من الجميع تحرك من موقعه الكائن خلف شجرة تنضب كبيرة تقع وراء حفرة الحلوف، مشى نحو مدخلها كأنما كان يريد أن يتأكد من شيء، قال البعض: إنه ربما أحس بحركة الحلوف في الداخل؛ لأنه كان أقرب الناس إلى الحفرة، كما أن موقعه كان أعلاها، ولكن الشيء الغريب الذي حدث هو أنه في اللحظة التي قصد فيها عبدارامان البلالاوي مدخل الحفرة خرج الحلوف الذكر مندفعا في جنون، صدمه برأسه القوي الضخم، أو أخذه: سيختلف الجنقو في هذا الأمر كثيرا، وانطلق به نحو الغابة في سرعة مرعبة، ودون تفكير اندفعنا جميعا خلفه في محاولة لإنقاذ عبدارامان المسكين الذي لم يجد الوقت حتى ليصرخ؛ لقد فاجأه الحيوان مفاجأة تامة، وكنا نتوقع أن يسقط من رأسه في كل لحظة إلا أننا ظللنا نجري في أثره إلى ما يقارب الساعة، كان أثر الحلوف على الأرض بينا؛ نسبة لأن الأرض مبتلة والعشب كثير، وأن الحيوان الثقيل يلقي بالعشب تحت قدميه وهو يمضي بعبدارامان، ورغم أننا أرهقنا تماما، فإننا واصلنا جرينا خلفهما في إصرار إلى أن انقضى اليوم كله، وكادت الشمس تغيب، وقد ابتعدنا كثيرا عن التاية باتجاه الغرب إلى أن وجدنا أنفسنا على مشارف جبل عسير، هنالك أوقفنا جنقوجوراي عجوز لا نعرفه، وجدناه مصادفة يتجول في تلك الأنحاء، وعندما عرف مقصدنا نصحنا بأن نعود، وأن ننسى موضوع عبدارامان المسكين، وذلك من أجل سلامتنا نحن؛ لأن الحلوف لا بد قد صعد به إلى الجبل حيث أسياده، وعندما سألت أنا بسذاجة وجهل عن ماهية أسياده، غمزني الجنقو أصحابي العارفون بمصائب الدهر وأسراره، فيما يعني: اسكت! إنهم ناس بسم الله الرحمن الرحيم.
وعرفت فيما بعد أنني كنت الوحيد الذي يجهل أن الجنقوجوراي العجوز، الذي ظهر لنا فجأة، ونصحنا بالعودة، كان هو نفسه من ناس بسم الله الرحمن الرحيم، فلقد جاء متنكرا في تلك الهيئة، في طريقنا إلى التاية كان الجميع يتحدثون عن مصير عبدارامان المحتوم، الذي يشبه مصائر كل أزواج كلتومة بت بخيتة النوباوية، لقد تأسفنا كثيرا لفقده، وترحمنا على روحه، ولكن الغريب في الأمر أن تلك المأساة لم تله الجنقو عن النقاش حول كيف يدخل الحلوف ويخرج من حفرته؛ حيث أقسم مختار علي أن الحلوف قد خرج من حفرته بمؤخرته، قبل أن يعتدل في لمح البصر ليخطف عبدارامان بمقدمة رأسه ويجري به إلى حيث لا يعلمون، ويصر جنقاويان على عكس ذلك، بت الملايكة، وأنا، والحق يقال: لم نر الحلوف أصلا، لا وهو يخرج من حفرته، ولا هو يخطف عبدارامان، ولا غير ذلك، لقد كانت بت الملايكة بعيدة تبحث عن الأنثى بين شجيرات الكتر، وأنا كنت منشغلا بأحزاني الخاصة، سابحا في حلم يقظة عصي على شجرة لالوب عملاقة نصحت بتسلقها، اكتفينا بسلحفاة صغيرة، ورل عجوز، قليل من الجراد، ساري الليل، وقطين بريين شحيمين، اصطادهما الجنقو.
بوشاي
بعد المعارك الطاحنة التي دارت بين الجنقو وكتيبة من الجيش ترتكز بحامية زهانة، انتبهت الحكومة المركزية لخطورة ما أسمته بالشفتة، أو النهب المسلح، وجرى الحديث عن القوى الخارجية التي تريد أن تطيح بالحكومة الوطنية، وإجهاض «المشروع الحضاري للدولة»، تحدثوا عن المعارضة، جبهة الشرق، الأسود الحرة، مؤتمر البجا، حركة العدل والمساواة وغيرهم وغيرهم، ثم حشر اسم إريتريا، وللتحلية، أو الواجب القومي، وتوحيد الجبهة الداخلية؛ ورد اسم دولة إسرائيل كجوز للتميمة لا بد منه، ولكن نسبة لخبرة الحكومة المركزية الكبيرة في مجال الحرب الأهلية؛ حيث إنها ظلت تحارب مواطنيها منذ الاستقلال إلى اليوم، كان أصحاب القرار يعرفون أن تمرد الجنقو ليس خلفه سوى الجنقو أنفسهم، وأن إخماده لا يتم بأسلوب قتل بعوضة بقنبلة نووية، كان الخريف قد أجهز على عيناته الأول جميعها، بل ومضى إلى ما بعد المنتصف، ونمت الأعشاب عالية، في طول أشجار الكتر والطلح، بل أصبحت بعض أعشاب العدار أطول من قطيات التايات، ولأن المطر غزير هذا العام؛ فقد دمر معظم الآفات التي تشكل خطورة على المحصول في مراحله الأولى، مثل الفأر وبعض أنواع الجراد، وهي في تشققات الأرض التي انسدت تماما بفعل السيول، وتصعب الحركة كلما ازداد المطر هطولا وتشربت التربة الطينية الخصبة السوداء بالماء.
الجنقو يعرفون المكان كجوع بطونهم، العسكريون لا يعرفونه، الجنقو يستطيعون دخول الأراضي الإريترية، أو الإثيوبية، إذا تركوا سلاحهم بمكان ما ولو داخل أحراش إحدى الدولتين، ولكن جيش الحكومة لا يستطيع، الجنقو يحاربون؛ لأنهم يحسون بالظلم، والغبن، ويريدون المال، والعسكر لا يعرفون لأجل من يقاتلون، لذا كانت المعارك غير المتكافئة غالبا ما تنتهي بانتصار الجنقوجورا، أو بإيقاع خسائر كبيرة في جيش الحكومة، أما النصر الدعائي الذي تفتعله الحكومة فغالبا ما يضعف الروح المعنوية للمواطنين، ويصيب الأطفال بذاكرة مشحونة بالكوابيس والأسئلة الصعبة عن قيم الحياة والموت، ولكنه لا يخفي حقيقة الهزيمة الشنيعة التي تتكبدها، وهذا اليوم شاهد على ذلك؛ حيث استيقظنا في الصباح الباكر على صوت بروجي وعزف مارش عسكري بغيض، وخرجنا مع جميع السكان إلى الشوارع وهي في الحقيقة ليست سوى أزقة تحددها أشواك الكتر التي تحفظ أحواش القصب والبوص من الأغنام والحمير، ثم - كما لو أن هنالك جهازا سريا يقود أرجلنا - توجهنا إلى الميدان العام قرب الهلال الأحمر السوداني، حيث عرضت جثتا قتيلين معلقتين على صليبين كبيرين من الخشب، الرجلان معروفان لدى جميع السكان، حتى الأطفال؛ الذي يرتدي زي الجيش الحكومي ذو الجثة الكبيرة المنتفخة المزينة بالذباب والرائحة الكريهة هو أبكر هبيلا طليق حلوم الزغاوية، أما الآخر في جلبابه المتسخ ولباسه الكبير، المنتفخ في هذه اللحظة، النحيف في ما مضى، الصامت الحزين الآن، المرح في الماضى، صانع النكات في السابق، هو عبد الله الحردلو، قالوا لنا بالميكرفون، بعد أن كبر آدم لحسات الملقب بأم الشهيد، سبعا: كل يوم ح نجيب اتنين من الجنقو الكلاب، ونعلقهم هنا.
وسميت الساحة في التو بساحة النصر، أطلق جنود سكارى ومسطولون ومنفعلون الرصاص على الجثتين، كانت الروح المعنوية للجميع متردية في مهاو عميقة مرة ومظلمة، عدنا إلى بيوتنا نخمن ما سيكون عليه الحال؟ فيما يشبه الندوة في يوم عسلية أم جابر بالجمعة، توصلنا بسهولة إلى أن الأمر ليس سوى انتقام وتخويف، واتفقنا على أن الرعب قد تملك الموظفين الأثرياء، وربما ذكر رجل أو رجلان أن الفكي علي يفكر في مغادرة الحلة نهائيا، وأنه قد ابتنى له بيتا في الخرطوم بالحاج يوسف، وأنه سيرحل إلى هناك نهائيا، ونقل عنه قوله: «السوق هناك أحسن، ناس الخرطوم تعبوا من الدكاترة والمستشفيات الخاصة، والفكية هناك شغالين زي المكنات، قروش زي التراب، علاقات زي السم، ونحنا قاعدين هنا ، يوميا فلان قتلوه، فلان صلبوه، فلان طردوه للحبشة!»
شيلني صديق العوض أردبين من الذرة كتفلي، وألمح لي بدبلوماسية باردة أنه بالرغم من علامات الاستفهام الكثيرة حولي وحول صديقي الذي هرب إلى الخرطوم، فإنه عملا لله، شيلني الكتفلي حتى أدفع لعمال الحصاد، وحتى لا أخسر مالي الذي أنفقته في الزراعة، ادعيت عدم الفهم، بل وتبالدت وأنا أوقع باسمي على وصل الأمانة بثلاثة أضعاف الذرة التي أخذتها فعليا، ليس لدي خيار آخر، طوال هذه الشهور التي قضيتها دون ألم قشي لم أنسها أبدا، كان مختار علي قد خصص وقته كله من أجلي، ووافق بعد لأي أن نكون شريكين في المشروع الصغير الذي ظللنا نعمل فيه معا منذ بداية الموسم، قبل أن يمضي الشايقي فضل السروجي ليعمل في صفوف ما أسمتهم الحكومة بالشفته تارة، والمتمردين تارة أخرى، وقد جلب لي المشاكل ومراقبة الشرطة، واستدعيت أكثر من خمس مرات للاستجواب بمكاتب الأمن في حي فلاتة، بل حدثني ود أمونة ذات مرة أنني وضعت في القائمة السوداء! علاقتي ببوشي تميزت بأمور ثلاثة؛ أولها أنها كانت معجبة بي كشخص يعرف أشياء كثيرة، بتعبيرها هي: كل شيء. وكانت، كما قالت لي أكثر من مرة، تتمنى أن تكون مثقفة وملمة بأشياء مختلفة في الكون، على الأقل أن تتخرج في الجامعة، ولكنها وهي في الرابعة عشرة تركت المدرسة؛ نسبة لعدم مقدرة أسرتها على دفع الرسوم المدرسية، وبخاصة ملابس المدرسة، فهي ترى في حلمها الذي لم يشأ الله له أن يتحقق.
أما الأمر الآخر فهو حكايتي مع ألم قشي، فقد كان يعجبها في حبي، ووفائي لزوجتي وحبيبتي السابقة، وهذا حسب ما ترى: نادر الحدوث، الرجال في هذا الزمن قلوبهم طايرة؛ لذا هي ترغب بشدة، وإن لم تصرح به، أن تحل محل ألم قشي، أما الأمر الثالث فهو أنني ضعيف جدا أمام النساء السوداوات جدا، والنساء البيضاوات جدا، وبخاصة ذوات القامات العالية، والسيقان الطويلة الممتلئة، إنني أحبهن أكثر إذا كن يجدن الغناء، أو الرقص، أو أي موهبة كانت، ولو طريقة متميزة في الكلام والمشي، بوشي هي أنموذج مثالي لهذه المرأة أكثر من ألم قشي، على أن ما يميز ألم قشي عن كل النساء عندي هو أنها أول من طلبت مني من نساء الدنيا أن أحملها ببنت، ولم أستطع أن أحقق لها أمنيتها التي أصبحت فيما بعد، أمنيتي أنا أيضا، الأهم من ذلك الصدق الذي تتكلم به، عذوبة النطق وسحره، كأن جسدها كله يتكلم، الهواء من حولنا، المرقد، ألم قشي امرأة لا كما النساء؛ حاجة تانية، ولم تعرف بوشي حقيقة أن ألم قشي «حاجة تانية»، وأن محاولتها حل محلها عبث لا طائل من ورائه، وأن البحث عن مكان مجاور ربما كان الأقرب للتحقق، فقد كنت معجبا ببوشي وإن كنت أتعامل معها بحذر شديد خوفا من فكرة الالتزام، وأنا شخص يفي بالتزامه مهما يكلفه ذلك، ولكن في الحقيقة لم أحس إلى الآن على الأقل بحاجة لامرأة تشاركني الفراش، أزمة ألم قشي ما زالت مستفحلة، وما زلت أحبها؛ أحبها حبا شديدا وأحلم بها كل ليلة، وأتذكرها كل ثانية، وأظن بيني وبين نفسي أنني سوف أفشل لا محالة مع بوشاي، بل هذا مؤكد، وكنت لا أصدق ما قاله لي أبرهيت في أن ألم قشي قد تآمرت ضدي مع البنكيين، أو غيرهم، وكنت أكتفي بأن لا تفسير مقنعا لما فعلته معي، وقد قالت لي الأم إن حالتي تسوء كل يوم عن ذي قبل، لكنني في الحقيقة أتعامل مع النساء وفق شروط نفسية معقدة، وربما وراء نفسية، غير أن العلاقة بيني وبينهن تمضي سلسة وطيبة، بل أستطيع أن أقول خالية من العقبات الكبيرة، مثلما كانت ألم قشي تأتيني لتؤانسني عند منتصف الليل كانت بوشاي تأتي أيضا لتغني لي كي أنام، تغني بلغة الشلك والباريا، وتحفظ أغنيتين بالأمهرا، وذلك بالتأكيد يعجبني جدا، عمرها بالتمام سبع وعشرون سنة، وهي في الواقع تكبر هذا العمر بعشرين أو ثلاثين أخرى، فطبيعة الحياة التي عاشتها تجعل حساب اليوم في حدود أربع وعشرين ساعة، مفارقة بائسة، وسيندهش الكثيرون، بل أنا نفسي اندهشت، إذا عرفوا أن بوشي تعيش في أسرة من شخص واحد هو بوشاي ذاتها! حدث هذا منذ أكثر من عامين، كان لها أخوان هما: علي وألالا وأخت صغرى اسمها أبوك، والدها من الشلك، وقد انضم لجيش الحركة الشعبية تحت قيادة القائد عبد العزيز الحلو، واستشهد في معركة على مشارف همشكوريب، أمها توفيت بعد ذلك بزمن قليل، ألالا هاجر إلى أستراليا عن طريق مصر، علي لا أحد يعرف أين هو، آخر مرة رأته فيها قبل عامين، أهل والدتها لا يحبونهم لأسباب عرقية، ولو أن والدهم كان مسلما، أبوك أخذتها التاية للسعودية، وهي ترسل أخبارها بانتظام، وجدت بوشاي نفسها وحدها، فقبلت التحدي وعملت كما تعمل النساء الفقيرات في صناعة الخمور البلدية، ولكنها لم تقم علاقة تذكر مع رجل ما، على الأقل لم يتسن لود أمونة معرفة ذلك، ولم تستطع ندوة ما كشف أي علاقة لبوشي برجل من الجنقو أو غيرهم، غير أن هذا لا ينفي أن لبوشي عشاقا، وأنها تصطفي من تشاء، ولكن خارج بيتها، لأسباب تعلمها، كان الجميع يتعاطفون مع بوشي وكثيرات من صديقاتها يتطوعن للمبيت معها في بيتها، وقد رفضت عرضين للزواج وعرضا للمصاحبة، والآن الناس يتحدثون عن زواج عرفي بينها ومدير البنك تركاوي، ويتحدثون عن الموبايل الذي أهداه لها كأول موبايل في الحي الشرقي، وقدر الأهالي أن علاقتي معها ليست إلا لقضاء وقت من جانبي، ومحاولة فاشلة لزواج من رجل عصامي من جانبها هي.
كان كلانا يجد العزاء في الآخر، ولكنني كما قلت معجب ببوشاي كفتاة عصامية تكد طوال الوقت لتوفير قوت يومها، بل أبعد من ذلك؛ حيث إن بوشاي هي أول من اشترى جهاز استقبال قنوات رقميا في الحي الشرقي كله، لم يكن ذلك اعتمادا على ما ترسله أبوك لها من السعودية؛ حيث إن أبوك في الواقع لا ترسل شيئا؛ إذ ما زالت تناضل لتغطي تكاليف سفرها وإقامتها في السعودية، وهي مدينة بذلك للتاية، وألالا أيضا لا خبر منه في أستراليا، ولا أثر له، ولا تعرف حتى كيف تتصل به ، كانت تبيع المريسة والعسلية، وليس هذا بالعمل السهل؛ لأن التعامل مع السكارى يحتاج لطولة بال وسياسة، فإن السكارى يبدءون هادئين وطيبين، يحكون عن الحلوف ويتغالطون فيما اذا كان يدخل بيته برأسه أم بمؤخرته، ويقصون مغامراتهم مع أبشوك، أو المرفعين الذي يحبون لحمه لقيمته العلاجية الرفيعة، حتى خراؤه فإنهم يستخدمونه في علاج الأزمة، وضيق النفس، ويقيمون ندوات القطيعة والنميمة، هذا في الساعات الأولى إذا لم يكن من بين الندماء رجل مدمن سريع السكر من أول كأس، ويبدأ برنامج الشجار مبكرا، مما يعكر صفو الجلسة وصاحبة البيت، وقد يكون سببا في استقدام الشرطة، أو بوار المريسة، أما إذا لم يكن هذا المدمن موجودا، فإن الساعات التالية تتسم بمحاولة السكارى الاستمتاع بالطرب، يغنون لأنفسهم مستخدمين آنية المريسة الفارغة كأدوات إيقاع، هذا إذا لم تتوفر دلوكة، أو يوجد شتم صغير بالبيت، والبعض وهم قلة يقومون بتسلية أنفسهم بالتغزل في صاحبة البيت، أو بناتها، أو يديرون معهن مجرد أحاديث عامة عن الزواج، والحب، والأسرة، ولكن أخطر ما في هذه الساعات الوسطى أنها تزداد خلالها الرغبة في معاشرة امرأة ما، الأمر الذي قد يؤدي للاصطدام برجل آخر؛ زوج، أخ، أو عشيق، صاحب، أو حتى رجل قانون، ثم يبدأ العراك الفعلي، وقد تستخدم فيه الأسلحة المحلية ببراعة وشراسة، وعدم رحمة أو مسئولية، صاحبة البيت المدربة الذكية العاقلة هي الأمهر في إدارة هؤلاء الناس المنفلتين، وهي تمثل بذلك أمهر الإداريين مطلقا، ما دامت تستطيع أن تعمل في وسط يعتبر حقل ألغام وكوارث كبيرة مثل: طعنة سكين، تليبة في بيت جار، كسر يد بعصا، تدخل الشرطة، مصادرة أدوات العمل، وقد تصل العقوبة لسجن طويل.
تعلمت بوشاي سياسة إدارة السكارى من جامعة السكارى أنفسهم، حتى كانت تعرف طبائع الزبائن كلهم؛ المدمن الذي يبتدر الشجار، والمدمن الذي ينام من أول كأس على البنبر، والمبتدئ الذي عندما يسكر يتبول على ملابسه مثل الطفل، أو يبكي وينوح متحسرا على حياته كلها، الفدادي الشريب المتزن الذي يسكر فيكتفي بالغناء، أو أخذ عكازه والمضي إلى بيته أو فرش عمته على الأرض في مكان جانبي، والذهاب في نوم عميق، تعرفهم بالاسم والصفة، وتديرهم بنمط إدارة شخصي، بوشي في الحق لا تميل للجنقو كرفقاء سرير. - وسخانين ما بيهتموا بنظافة ملابسهم، ولا جلودهم، وريحتهم ترمي الصقر من السما، ديل ناس ساي!
كان يتعين على بوشي فوق ذلك أن تعمل بدبلوماسية أيضا في جبهة أخرى، وهي جبهة البنك، ذلك الغول الذي تدخل في كل تفاصيل الحياة اليومية، قص عليها التركاوي - عبر ود أمونة - كثيرا جدا حكاية امرأته غير الجذابة التي تعشق المال فقط، ولا تهتم به كرجل، وقد تزوجها دون حب يذكر، فقط لأنها بنت عمه: «وأنا دخلي شنو؟» حسنا؛ صنع الخمور البلدية يجرمه القانون، وبإمكان الشرطة والمباحث تخصيص قليل من وقتهما، فليكن الظهر لوقف هذه البلاوي؛ التركاوي يستطيع بإشارة منه أن يمنعهم، كما يستطيع أيضا أن يأتي بهم! فكل مشاريع ضباط الشرطة والمسئولين الكبار هي بتمويل من جيبه شخصيا، أو من البنك، وتركاوي كما وضح لها بنفسه رجل تقي ويخاف الله؛ لذا هو لا يرغبها بالحرام، وأيضا ليس بالفضائح على حساب سمعته؛ لذا عرض عليها الزواج العرفي، وأصل له بنصوص قال إنها شيعية، ولكنها كرهت فيه العجرفة، والادعاء، ورائحة الصنان النفاذة التي زكمت أنفها يوم أن قابلته أول مرة، لن تنساها أبدا. - أنا ما عايزة أتزوج، لا بالعلن، ولا بالعرفي، ولا بالحرام، ولا بالحلال!
ولكن الذي يعرف التركاوي يدرك أن المعركة لن تنتهي هنا، قابلته مرة واحدة فقط، جاءها متنكرا في شكل جنقوجوراي، ثم ما لبث أن أفصح عن نفسه، ولكن اللقاء اليومي بينهما تواصل عبر ود أمونة، كان بارعا في نقل الكلام كما هو، وكأنه جهاز تسجيل إلكتروني أو كتاب؛ وذلك تلبية لطلب التركاوي نفسه، وكان ود أمونة هو الذي رشح بوشاي لمدير البنك، بعد أن شكى له الأخير حاجته لامرأة ينام معها لكن بسرية تامة، وبدون فضائح، وأن تكون نظيفة، وجميلة، وليس حولها رجال من الأقارب، أو عشاق غيورون، قد يسببون له مشكلة، ففكر ود أمونة ودبر وانتهى إلى بوشاي، وتم الاستغناء عنه عندما عملت شركة الموبايل العملاقة، حيث استطاع التركاوي أن يتحدث إلى بوشاي مباشرة، وفي أي وقت أراد وبما أراد، الشيء الذي لا يستطيعه مع ود أمونة؛ لأنه يعرف أن ود أمونة لا ينقل كلامه لبوشاي وحدها، ولكن للحي كله، وكان مجبرا عليه، وعندما عجز التركاوي عن إقناع بوشاي بالزواج العرفي، أو بممارسة الجنس بمقابل، طلب منها طلبا وصفه بالإنساني؛ أن تمارس معه الجنس الشفاهي عن طريق الموبايل، وشرح لها كيف يكون ذلك فرفضت، ولكنه ألح وألح فرضخت فى النهاية، وهذا ما يفسر المشهد الذي لم يجد له ود أمونة تفسيرا، ولا يزال يدهشه إلى اليوم، حينما دخل ذات يوم على بوشاي ووجدها جالسة على بنبرها تطبخ شيئا في الراكوبة؛ وهي توحوح، وتصدر أصوات توجع وألم، وتشهق في غواية لا يمكن أن تصدر إلا من امرأة على فراش رجل، وشاهد ود أمونة الموبايل على فمها، لما رأته ارتبكت ندت عنها صرخة، وأغلقت الموبايل، ثم أخذت تضحك في هستيريا، وعندما سألها عما كانت تفعل، قالت: ما في حاجة، ما في حاجة، إنت سمعت شنو؟
قال لها ود أمونة ضاحكا: ولا حاجة!
الكلام عن الحرب هو كلام الساعة، والكلام عن إعدام طليق حلوم، وعبد الله الحردلو، وصلبهما، ورميهما بالرصاص بعد ذلك طغى على أخبار الخريف، ومكائد البنك التي فسرها الكثيرون بأنها انتقام من ثورة الخراء، التي ما عاد أحد في الواقع يذكرها، لقد كانت دخيلة على هذا المجتمع، وتم إسقاطها تدريجيا من السجل اليومي للقوالات وما يشبه الندوات، وذكر كلمة خراء نفسه يعاني من إشكالية جمالية هنا في مجتمع يحتفي بالطهر والنقاء، بعد مقتل الجنقوجورايين على يد جند الحكومة انحسرت أخبار الحرب قليلا، وقيل إن الجنقو قد انسحبوا إلى تخوم مدينة تسني؛ ليقضوا الخريف هنالك مستفيدين من ثمن الأسلحة التي استولوا عليها من قوات الحكومة، وقاموا ببيعها للزبيدية في جبهة الشرق، وكان ذلك في الحقيقة مصدر دخل كبير جدا لهم، إذا استثنينا العائد من تجارة الخمور ؛ حيث كانوا يهربون الخمور المستوردة من إريتريا وإثيوبيا إلى داخل مدينة خشم القربة، ثم عن «طريق الهوا» عبر البطانة إلى الخرطوم، وعطبرة، وربما شرب سكارى عاشقون الأنشا الإثيوبية اللذيذة، في نواحي دنقلا العرضى، ووادي حلفا وأبي حمد، ونيالا، زارني الشايقي وبعض أصحابه في التاية منتصف ليلة مظلمة مطيرة، عواء ذئابها يطير القلوب شظايا، احتفلنا باللقاء العزيز، وذبحت لهم تيسا من الأغنام التي احتفظت بها في التاية؛ تحسبا لظروف شظف العيش، أو أعطاب الطريق، شربنا الشاي والقهوة، وأخذوا يحدثونني عن مغامراتهم، وقتلاهم، عن انتصاراتهم، وبعض هزائمهم، وعندما تذكرنا يوم باص همدائييت، وكيف تغابوا في المعرفة، ضحكوا وقالوا لي: قروشك ياها دي معانا، هاك ليها.
وأخذت مالي، وسألوني أسئلة كثيرة جاوبتها بصدق، وقالوا لي: نحنا حالفين نؤدب ناس البنك، نوريهم نجوم النهار، لكن ما هسع، لمان ييجي وقته ح تعرف، ونحن ح نكون في إريتريا إلى أن ييجي اليوم داك.
فتذكرت ما قالته لي أداليا دانيال مرة: الجنقو اتعلموا طبيعة الحبش، ما بيخلوا حقهم بالساهل.
ثم حاولوا أن يطيبوا خاطري في شأن ألم قشي، ولكنهم أثاروا غضبي حينما وصفها أحدهم بالشرموطة، فدافعت عنها دفاعا مستميتا، قلت فيها ما لا يقوله الرجل عادة في هذا المجتمع، قلت لهم: إنني أحبها؛ أحبها حبا شديدا، ومهما فعلت فإنني أجد لها العذر، قلت لهم: الشرف والطهر في الروح وليس في الجسد، قلت لهم: ما لم يقبل الرجل برزائل المرأة وهي قليلة، لا يحظى بفضائلها العظيمة وهي كثيرة، قلت لهم: امرأة داعرة أشرف من رجل عابد، قلت لهم.
صديقي الثائر
عاد صديقي إلى الحلة بعد فترة غياب طويل قضاها في الخرطوم، أو ربما في أي مكان آخر راق له، ولكن بدا واضحا أن الحلة قد أصبحت المكان المفضل لديه، وقد قال ذلك لأكثر من شخص: هنا أجمل مكان.
كان يرى ما قام به الجنقو من حمل للسلاح، وقطع للطرق، وحرب للجيش الحكومي لن يستمر طويلا، ولن يقود إلى أي نتيجة ما لم يسنده تنظير سياسي، وتحليل اجتماعي ، وهدف محدد بدقة، يمكن تحقيقه في مثل هذه الظروف، وقرر أن يكون هو حادي ركب التنظير، ولا يتم ذلك إذا لم يواكب الجنقو، ويعيش معهم في غابات الكتر، والخيران المتوحشة، تحت تهديد نيران كتائب الحكومة، في الخوف، الجري، الإقبال، الإدبار، الجوع، الحرمان، الهزيمة والنصر، كان يقول: التنظير بدون معايشة الواقع مثل طباخة الإدام على النار مباشرة دون وسيط يفسد الإدام والنار معا، وأكد أن فشل الحركات الدارفورية هو أنها حركات لا يتبعها أي تنظير ثوري، والسلاح وحده لا يحل قضية، ولا يأتي بحق مستلب، فالبندقية إذا لم يكن بارودها قد صنع من الفكر والحلم معا، فإنها لا تقتل غير صاحبها، وطلب مني أن أدله على المكان الذي يختبئ فيه المسلحون من الجنقو، فنصحته بأنه قد لا يستطيع أن يعيش كما يعيشون، ولو أنه يأكل كل شيء تماما مثل الجنقو، لكنه في النهاية، ود مدينة، وعلاقته بالمكان لا تتعدى السياحة الخشنة، وأن الخطر الكبير الفعلي هو احتمال تعرضه للأسر، والأسر هنا يعني الموت البطيء المؤلم، أو الإصابة، أو ربما القتل، قال كعادته عندما يخشى عليه من الموت: أنا ما ح أموت قريب، عارف كدا، والإنسان بيموت بإرادته، وإذا ما كان مستعدا للموت ما في شيء يقتله!
أعرف أنه لا يحاج، وأن مبرراته حاضرة دائما، لكنني أعرف الصعوبات التي سيواجهها، أقصد التي سوف تهزمه شر هزيمة، وذكرته بعاقبة مغامرته مع الصافية، وكيف انتهت بتوريثه سمعة سيئة، ومغامرته مع أبرهيت ولدو إسحاق، والنهاية المأساوية التي أفضت به إليها؛ حيث شمت علينا طفلة عشرينية مدت لنا لسانا أرقط تفوح منه رائحة الكرملا، كما ذكرته بنقاشه البيزنطي مع الأم مريم كودي راعية الكنيسة؛ حيث كاد يقتلنا المؤمنون لولا أن ستر الله، وبما جرى بينه وبين ود أمونة أيضا من حوار فاشل كسبه الأخير، وبغير ذلك من مغامرات صغيرة فاشلة تافهة، خاضها بعناده هنا وهناك، على أن ذلك كله هين، سوى أن الأمر الآن قد يصل للموت، وهنا تكمن الخطورة الحقيقية! لكنه رد علي قائلا: أولا : هنالك مبدأ أؤمن به، وهو أن الرجل الناجح هو الذي يفشل ليستثمر فشله، أما موضوع الصافية دا موضوع مصنوع من خيال الجنقو والجنقوجورايات لا أكثر، ومستحيل امرأة تغتصب ليها راجل، يا راجل! واتهمني بأنني أصبحت أفكر تماما كما يفكر الجنقو، وتملكتني غريزة التفسير العضوي للظاهرة، وهذا مصطلح قام بنحته الآن؛ لأنني لم أسمع به من قبل، منه أو من غيره، ولا تخفى ظلال فرويد الثقيلة عليه، ثم سألك ضاحكا مستهترا: يعني كيف، مستحيل؟
سألته في مكر بين: حتى لو كان عندها موضوع، وصفه الفكي علي الزغراد بأنه: كبير.
قال محتجا: وين شافو الفكي الزغراد، وكيف؟
ثم راح يفند لي كل ما ذكرته من فشل، محيلا إياه إلى انتصارات، بل فتوحات باهرة، أخذته إلى التاية معي وبقي هنالك خمسة أيام قبل أن يأخذه الشايقي إلى تخوم إريتريا، ظللنا نسمع أخباره من وقت لآخر، تأتينا مشوكة بالكتر والحسكنيت، ملوثة بطين سبتمبر اللزج، وعليها خوف الناقل، وحرص السامع، وهوهوة الريح الجنوبية الرطبة، تأتينا أخباره مرة باللغة التجرنة، ومرة بالأمهرا، وأحيانا بالبني عامر، أو البجاويت، أو العربية المكسرة، عربي الجنقو، بالرندوك، أو بلهجة البدو الرشايدة الزبيدية، كان يبعث إلي برسائل كثيرة مع أقرب زوار، أو أصدقاء مشتركين، وكنت أرد عليه، ولكن بحذر شديد، طلب مني مرة أن أرسل إليه ما أسماه الجدول الزمني اليومي لحركة موظفي البنك، كتقرير بعد مراقبة لصيقة لأسبوع واحد فقط، ثم لأسبوع آخر بعد مرور أسبوعين من الأول، ثم مراجعة الجدول كل ثلاثة أسابيع لحساب معدل الانحراف بصورة دقيقة، وفعلا قمت بالعمل على أكمل وجه مستعينا بود أمونة، ولكن ليس بطريقة مباشرة؛ لأنني مثل الجميع لا أثق في ود أمونة، ولربما أشك في أنه قد يكون عميلا مزدوجا ومستفيدا من معلومات ظللت أستخلصها من بوشاي نفسها؛ حيث إن مدير البنك لا يزال يضاجعها على الهواء بالموبايل، كانت تعرف قليلا عن نظام حياته، ومع ذلك فالفائدة التي كنا نجنيها من علاقتها بالمدير كانت كبيرة؛ لأن بوشاي إذا طلبت منه أن يحضر إلى منزلها في أي وقت فإنه لا محالة قادم متنكرا دون أن يعلم أحد بتحركه، مما يتيح فرصة التصرف فيه كما يشاء الجنقو المقاتلون، في الحقيقة لست أدري ما يريد الجنقو أن يفعلوا بالبنك وأهله على وجه التحديد، لكنني كنت متأكدا من شيء واحد، هو أنهم كانوا ينوون بهم شرا، ربما يمكن وصفه بأنه: مستطير.
فتاة من أسمرا
جربته، ويظن أنها كانت أول من حاول معه، زينب إدريسيت القادمة من القرقف، صبية صغيرة معجبة بنفسها عاشت في أسمرا ما لا يقل عن سبع سنوات، عرفت فيها حياة الحرية، والرفاهية، ونظافة الجسد، والمكان، والروح، هربت من الخدمة الوطنية الإلزامية في بلدها، أقامت بالقرقف أسبوعا كاملا إلى أن أرشدها بعض فاعلي الخير إلى الحلة، ثم اقتيدت إلى بيت الأم، وعند الباب قابلت ود أمونة، ولم تخف إعجابها به حين أعلنت وهي في دهشتها الأولى: هنا برضو في رجال حلوين ونضاف بالشكل دا!
قلن لها: بالتأكيد.
ولم يفصحن أكثر، حيث احتفظن لأنفسهن بإجابات أخرى كثيرة، لكن بعضهن سألن بعضهن في صمت: لماذا بالفعل لم نفكر في ود أمونة كرجل؟ لقد ظل عالقا في أذهانهن كصديق، كأخ، أو كخادم طيع، وربما في بعض الأحيان: كعراب. شرحت لها أدي وضعية ود أمونة في البيت، وأن بإمكانها الاستعانة به في كل شيء، وأن عليها أن تعامله برفق، ولا تثقل عليه. - هنا نحن كلنا نعامله كدا.
تم تصنيفها كفتاة سرير جيدة؛ لذا حددت لها شروط الوظيفة، وأخلاقياتها، وقيمها، كان لها طلبان؛ الأول: ألا تفعل شيئا مع أي كان إلا بعازل جنسي، وعرفته بالاسم «كوندوم»، الثاني: هو أن لها الحق في أن تقبل الزبون، أو ترفضه، ولا يجب أن يجبرها أحد. - حسب مزاجي أقبله، أو أقول لا.
ثم أضافت عبارة جعلت أدي تضعها في مصاف المحترفات، عبارة كشفت كذبتها المركزية، بأنها ما قدمت إلا هروبا من الخدمة الوطنية الإلزامية، حيث قالت وهي تلوي فمها يمنة ويسرة في مزاجية عجيبة: السمعة الطيبة المعروفة بها أدي، خلتني ما أناقش مسألة القروش ؛ نصيبها كم، ونصيبي كم؟ ولأن أدي في حاجة إلى دماء جديدة، وافقت على كل الشروط، وكلف ود أمونة بالذهاب إلى سوق الكترة، وشراء كرتونة كبيرة من العازل الجنسي ال «كوندوم» بالمواصفات التي قدمتها زينب إدريسيت، مرفقة باسم الشركة، وسنة الصنع، زودته بعينة للمقارنة حتى لا يخدعوه بعينة قديمة انتهت صلاحيتها، وبقيت محتفظة في حقيبتها بكمية كبيرة من أجود الأنواع، قالت لها أدي: ود أمونة اعتبريه أخوك.
واعتبرت أدي أنها قلدت زينب تميمة تحمي بها ود أمونة من أي نوايا سريرية قد تفكر فيها، فقد نقل لأدي تعليق زينب، بعد تكييفه محليا، بتفاسيره، وحواشيه الملحقة، لم تعلق زينب بت أسمرا، هزت رأسها إيجابا وابتسمت، فيما بعد قالت زينب لود أمونة: أنت أجمل راجل في الحلة دي كلها.
قال خجلا حيث إنه أول مرة في حياته يسمع تعليقا واضحا عن نفسه وصريحا: معقول؟
قالت وقد صارت أكثر صراحة ووضوحا: كلهم عفنين، ووسخانين، وريحتهم ترمي الصقر من السما، الرجال في أسمرا يشبهون الملايكة، أنت مفروض تعيش في أسمرا، تشتغل بارستا في أي بار، أو فندق هناك، تكسب دهب عديل.
ثم أخبرته عن المكانة الكبيرة التي كانت تشغلها في أسمرا، وكيف أنها كانت نجمة عالية في سماء المدينة، سمعتها تطبق الآفاق، لولا التجنيد الإجباري: آه، آه، أنا ما بحب الحرب، ولا الموت، ولا بحب أشوف الدم، أخبرها عن رجال مختلفين ومثقفين جاءوا من الخرطوم، مدني، القضارف، كسلا، وبورتسودان، الأبيض، يعملون في البنك وشركة الاتصالات، طلمبة البترول، الأمن، الشرطة، سوق المحاصيل وفي المحلية أيضا، هنالك ضباط جيش وبعض الجلابة أصحاب المشاريع الكبيرة وأولادهم أيضا، شرح لها أن الحلة بالنهار ليست الحلة بالليل، وأن معظم من ذكر يأتون للعشاء الفاخر في منزل أدي ليلا، وبعضهم يأتي لتناول وجبة الإفطار، حتى معلمو الثانوية العليا، وأكد لها أنه وأدي سوف يخصصانها للرجال من الطبقات العليا وليس الجنقو، أشارت له بأنها تحس أن بينه وأدي شيئا غريبا، فحلف لها بربه أن ذلك لم يكن، وأن أدي لا تمثل له سوى صاحبة المنزل، فالمهنه تقتضي ألا تخترق حدود الأم، ولما اطمأنت: راودته عن نفسه، حسنا سوف يقضي آخر طلبات أدي ويعود إليها، ولكنها فقط عندما طلعت شمس اليوم التالي، تأكد لها بما لا يدع مجالا للشك أنه لن يعود، نامت!
قسم الشيخ العربي
الأراضي التي زرعها البنك وموظفوه قدرت بثلاثة آلاف فدان، أو أكثر بقليل، في الواقع كانت هذه الأرض بورا؛ تنمو فيها أشجار الكتر، الطلح والسيال، وبعض الأعشاب الموسمية التي تخضر مع موسم المطر؛ مثل البوص، والنال والعدار، وقد حجزت هذه المساحة منذ عصر الاستعمار الإنجليزي كمراع للماشية؛ حيث يحيط بتلك المنطقة وبأعداد كبيرة بدو الحمران واللحويين، الذين يعتمدون في حياتهم على الرعي، وما كانت فدادين البنك لتثير إشكالية ما لولا أنها كانت كل ما تبقى من أراض غنية بالأعشاب للرعاة، حيث إن كبار التجار ظلوا يستولون على أراضي الرعي بشراهة في السنوات العشرين الأخيرة؛ مما دفع الرعاة إلى الهجرة إلى ما حول المدن والتجمعات السكنية، وقد تخلص كثير منهم من حيواناته، واشترى عربة ربع نقل وبيتا، وفتح دكانا أو مطعما، وعمد على حياة المدينة، ولكن الكثيرين منهم استعصموا بماشيتهم، وهؤلاء هم من أثار المشاكل.
دفع الرعاة بوثيقة قديمة منذ عهد الإنجليز تخصص المكان للرعي، ترسمه، تخططه، تحدد معالمه، ممهورة بختم وتوقيع الحاكم الإنجليزي في ذلك الزمان مستر غوردون باشا، يحتفظ بالوثيقة الشيخ عباس اللحوي، وهو أحد الشيوخ الأعراب في جراب من جلد الماعز، محشور في شنطة حديدية كانت تستخدم لتخزين الذخيرة من بقايا حرب الطليان والإنجليز، كانت تفوح منها رائحة وبر الشياه، وعبق عشرات المواسم المطيرة، ووهن الأزمنة التي تنسحب متباطئة كسولة، وعفونة طازجة لخيانات مختلف الحكومات الوطنية، وشتى الحكام الوطنيين، كانت تنتظر في صبر حذر، كفتيلة لغم قديم صدئ، طرح الشيخ العربي الوثيقة على الأرض مباشرة، على الرغم من المحاولات المميتة من قبل أعضاء اللجنة لإقناع الشيخ العربي بوضعها فوق طاولة كبيرة من الصاج، كانت تتوسط جمهرة الخصوم والمصلحين، قرئت على عجل وكأنها محفوظة مدرسية، ثم حلف شيخ العرب بالطلاق على أنه إذا لم يتنازل موظفو البنك عن الأرض بما زرعوه عليها، أنه سيفعل ما لا تحمد عقباه، مؤكدا أنه لا يخشى الحكومة إطلاقا، ما دامت عصابة من البلطجية والسفهاء تقلع حقوق الناس نهارا جهارا، وختم حديثه قائلا: «السواي مو حداث!»
ودون أن يستمع لما قيل بعد ذلك، طوى وثيقته في رفق وأناة وخرج، تبعه في صمت سبعة من أولاده وكبار عشيرته، ووصل إلى مسامعهم بعد يومين أن مدير البنك علق قائلا: ورقته دي خليه يبلها ويشرب مويتها، هو قايل الإنجليز لسع قاعدين؟ ظاهر عليه من ناس أهل الكهف.
أعضاء لجنة المصالحة زعموا بحكم ما لهم من معرفة وثيقة بأمزجة العرب، نابعة من معايشة لصيقة أن بعض المال والاعتذار سوف يبطل ثورة شيخ العرب، ويحولها في الغالب إلى تكبيرة فرح، وبالفعل حدد مبلغ من المال كبير أضيف إليه وعد بهبة إلى شيخ العرب، مقدارها مائة جوال من الذرة بعد الحصاد، وتم إرسال المبلغ والوعد مع وفد الصلح رفيع المستوى، حيث أكرمهم شيخ العرب، مبديا رفضا ضعيفا للمال والوعد، ولكنه سرعان ما عاد وتسلمه جبرا لخاطرهم! فيما بعد فسر أحد أعضاء الوفد أن قبول الشيخ المال بهذه السهولة، يعني أنه أخذه كحق لا كرشوة، وهذا يعني أنه لا يزال على موقفه الأول، لم يصدقه أحد، فالبعض متشائم تسيطر عليهم روح التشكك، وشيخ العرب بنفسه أكد على أن إكرام الزائرين لا يتم بأقل من قبول وساطتهم، وذاك إرث قديم يحرصون على صونه، وإذ قال شيخ العرب فإنه يعني ما يقول، قال العضو المتشكك: ولكنه حلف بالطلاق!
قالوا ساخرين: العربي لو ما حلف بالطلاق في اليوم ثلاث مرات يكون مريضا!
كانت في نفس المتشكك خيوط منطق واهنة أخرى، لكنه فضل الاحتفاظ بها حتى لا يصنف طابورا خامسا، كما أن به رغبة صميمة في أن تستمر علاقته بالبنك مزدهرة وسالمة من عوارض الزمان والمكان، ما لك وموضوع شيخ العرب؟ قالوا: إن البنك عندما صنف أعداء التقدم والمدنية بالحلة، الموسومين بتهمة خلق المشاكل، وإثارة النعرات القبلية، وادعاء المعرفة، أخذت أنا وصديقي مواقع في رأس القائمة، فليس غريبا إذن أن يستجوبني مكتب الأمن في بناياته المرعبة خلف السوق، وكانوا يطالبونني بالإجابة عن سؤال واحد، داروا حوله كثيرا، وقد كانوا بدءوا به أيضا، وخرجت منهم دون أن أشبع شهية السؤال فيهم؛ لأنهم انتهوا به كذلك: لماذا جئت إلى الحلة؟
أنا ذاتي لم أسأل نفسي هذا السؤال، وكان حريا بي أن أفعل، لقد زرنا أنا وصديقي أماكن كثيرة؛ قرى، مدنا، ومفازات، ومنذ أن طردنا للصالح العام قبل خمس سنوات ما استقر بنا الحال في مكان أكثر مما استقر بنا بالحلة؛ حيث تزوجت أول امرأة أحبها، وأعرفها في حياتي، وهي ألم قشي، وللمرة الأولى فلحت الأرض، وصار لي بيت، وأرض خاصتي، وأظن ذلك من بعض حكمة خلقنا؛ إعمار الأرض.
لا أذكر كيف كنت أجاوبهم، ولكنني ذكرت اسم ألم قشي أكثر من عشرين مرة، على الرغم من أنهم لم يطرحوا علي ولو سؤالا عرضيا عنها، قالوا إنهم يعرفون عني وعنها كل شيء، ولكنهم لا حاجة لهم بهذا الذي يعرفون، إنهم يريدون معرفة شيء واحد فقط: لماذا جئت إلى الحلة؟ بيني وبين نفسي أعرف أن هذا السؤال هو المفتاح السحري لدائرة إبليس عند طواسين الحلاج، إذا قبلت به دخلت الدائرة اللعينة التي تحتوي في بطنها على أخرى، كلما انغلقت واحدة انفتحت واحدة، فيستحيل الخروج إلا للدائرة السابقة فقط؛ لذا كنت بغريزة ميتافيزيقية أنزلق على سطح الدائرة، ولا أحفر فيها، حذر الولوج، وهو ما يعرفه الأمنيون بالزوغان من الإجابة، وغالبا ما يعالج هذا المرض الخطير بالضرب في الرأس مباشرة، لكنهم لم يفعلوا؛ ظنا منهم أن الوقت تجاوز هذا الأسلوب فضرره أكثر من نفعه.
جهنم، جهنم عديل
انتصف شهر أكتوبر تماما، وذلك يعني ضمن ما يعني أن المزارعين فرغوا من حصاد السمسم، وأن العيش استوى تماما، جفت أقصابه، وقناديله، واستدعي حاصدوه، وراجت دعاية بأن البنك استورد عددا كبيرا جدا من الحاصدات الآلية الحديثة؛ كي تقوم بحصاد العيش والسمسم، والحاصدة التي تحصد مائة فدان في اليوم لا تحتاج غير ثلاثة من العاملين الفنيين القادمين مع الآلات من المدينة، وعاملا واحدا غير ماهر يقوم بالعتالة.
لقد أحضرت هذه الحاصدات في وقت ينتظره الجنقو طويلا، وهو الشهر الأخير من موسم الحصاد؛ حيث يرتفع سعر العمل إلى أعلى مستوياته، وها هم الجنقو الآن فرادى وجماعات يتفرسون في الآلات الشيطانية، وهي تقوم بالعمل نيابة عنهم، وترميهم في جب العطالة دون رحمة، وتضحك عليهم بتعتعة معدنية حامضة ممقوتة تهتز لها الأرض، كان ملاكها موظفو البنك أيضا، وقد قللت سعر العمالة للربع تقريبا، وكي تطلق طلقة الرحمة على هؤلاء الجنقو المحبطين الآن، نوقشت في ندوة غاب عنها المغني العجوز في منزل أداليا دانيال، موضوع المبيد الكيماوي، الذي لا يترك قشة أو نبتة طفيلية واحدة تنمو، وينوي البنك استيراد هذا الشيء في الموسم الزراعي القادم، بل سيأتون بماكينة تتولى استئصال الأشجار الكبيرة والصغيرة على السواء، في ما لا يزيد على ربع الساعة بدلا من عملية أم بحتي اليدوية، التي تأخذ فيها الشجرة الصغيرة وحدها ما يقارب اليوم بكامله، دون أن يأمن المزارع ألا يظل منها باق في جوف الأرض، ماكينات وآليات لم تطف يوما بكوابيس الجنقو، ولكن ها هم الآن يسمعون بها كما الأحجيات، وقد رأوا منها آلة حصد السمسم العملاقة ذات الأذرع المرعبة، التي تتلوى على الأرض مثل ثعبان جريح، ويسمع صرير سيورها وخوار عادمها على بعد مئات الأمتار، وكان الجنقو يتجمعون بصورة عفوية من التايات القريبة، والكنابي، والحلال المجاورة؛ ليتفرسوا في هذا المخلوق الذي يبتلع السمسم ابتلاعا، ثم يلفظه في لحظات معبأ في جوالات الخيش، ويرمي بأقصابه دائخة على الأرض السوداء الجافة، لقد رأوا حاصدات عيش الذرة من قبل، ولكنها لم تنجح كثيرا في هذه الأنحاء؛ نسبة للخيران الكثيرة، والغابات، وتكلفة صيانتها العالية، ولكنهم يقولون إن هذا المخلوق صنعه الصينيون خصيصا لمواكبة طبيعة الأرض في الشرق، ومواجهة ندرة الوقود، وغلاء العمالة اليدوية، وكلما سمع الجنقو بميزات هذه الحاصدات الجديدة ازدادوا إحباطا، وقد علق أحدهم قائلا : الناس ديل ما لقوا آلة تحمل النسوان كمان، عشان نشوف لينا شغلة تانية في الدنيا دي؟
لقد كان أثر هذه الآلات والدعاية المصاحبة لها عميقا في كل نواحي الحياة، ليس في الحلة وحدها، ولكن في الجيرة والحفيرة، خور مغاريف، الفشقة، الهشابة، زهانة، همدائييت، جبل عسير، في الحمرة نفسها، في تسني وضواحي القضارف، على تخوم سمسم، الجنة بره، اللية، حجر العسل، الحوري، أم سقطة، العرديبات، المقرن، المفازة، الحواتة، دوكة وريفها إلى أعالي نهر الدندر، وأولاد شيقوق، مشروع غنم، عرديبة كرسي، عرديبة تجاني. أصيب الجنقو بخدر في الروح بارد ومر، الحلة تمثل مركزا لهم دون منازع؛ لذا كانت الفجيعة هنا أكبر والتغيير واضحا، مثال لذلك العطب الذي أصاب بيت الأم؛ قل زواره من الجنقو، وصغار المزارعين، وشردت داعراته وعاملاته، كثير منهن هاجرن للمدن المجاورة خاصة خشم القربة، كسلا، القضارف، بل ذهبن حتى إلى الخرطوم، وعمل بعضهن على جانبي الطريق القومي بائعات للقهوة، الشاي، الشيشة، والأطعمة لسائقي الشاحنات السفرية، حتى ود أمونة يقال إنه يتدبر أموره للانتقال إلى الخرطوم نهائيا، ويثرثر الناس بأنه قد استلطف من قبل شخصية مرموقة، وأن الحظ قد يبتسم له ابتسامة كبيرة جدا، حدث هذا في أقل من شهر واحد، ولكنه شهر تقوم عليه شهور السنة الاثنا عشر كلها، وفيه تكتمل زينة الجنقوجوراي، وربما استطاع أن يضع أمنية كبيرة من المال عند صديقاته من صانعات الخمور البلدية، أو أدي، اللائي يمثلن بنوكا شعبية صغيرة، أمينة رحيمة طيبة وغير ربوية، في ذات هذا الشهر، تخزن النساء حاجاتهن من العيش الذي يشترينه من صغار المزارعين رخيصا، وقد يحتفظن بجوال من السمسم؛ للاستفادة من فرق السعر لاحقا، عندما تفتح زريبة المحاصيل لاستقبال إنتاج الموسم الجديد، أو عندما تدخل شركة السمسم كمشتر، أو تحدث كارثة ترفع سعر السمسم، ولكن الأيام تمضي سريعا، البعض يحصد المال الوفير سهلا، ويقف الجنقو، وصغار المزارعين، والنساء يتفرجون، وقد هرب الكثيرون وعلى رأسهم الفكي علي الزغراد، ومدير البنك، بعد أن حاول اغتياله رجال مجهولون، وسافر خلق كثير من الجنقو إلى أقاليم أخرى، على مشارف الحواتة وضواحي القضارف، مؤكدين للجنقو هنالك أن البنك قادم إليهم قادم إليهم، ومن الأحسن أن يبحثوا عن سبل للعيش أخرى، وأن الدعاية التي يسمعون هي الحقيقة عينها، امتلأت الحلة بالعسكر؛ بوليس، وجيش، احتياطي مركزي، ودفاع شعبي، شرطة شعبية، وأمن عام، أمن إيجابي، وأمن اقتصادي، وظهرت حملات تجنيد مذعورة للشباب والشابات أيضا، وحتى العجزة أدخلوا الدفاع الشعبي، وبدا واضحا للجميع أن هنالك علة ما قد لا يدرون كنهها على وجه الدقة، ولكنهم يفهمون من وراءها، على الأقل يستطيعون ترشيحه بكل سهولة: المال، كانت الحلة تمر بلحظة ميلاد جديد قاس، ميلاد يقتل ويحيي، هي نفسها لحظة اكتشاف الذهب في الأرض الجديدة، والماس في بريتوريا، والكيب تاون، والقطن في السودان، إنها لحظة اكتشاف المال السهل، نوع من الحمى غريب، حمى المال.
الصافية تحمل على ظهرها القوقو مشدودا عصاه من حطب العندراب، يتبعها خمسة من الجنقو الذين دائما ما يشكلون معها فريقا واحدا، نزلوا عندنا في التاية، في الصباح عملوا معنا في الحصاد، وسكب القصب في آن واحد، كانوا سعداء وهم ينشدون أغاني الحصاد الجميلة التي كادت تيبس على أفواههم، منذ أسابيع كثيرة توقفوا عن العمل؛ نتيجة لمنافسة الآلات الرخيصة السريعة والأكثر دقة، كانوا يعملون بشهية كبيرة ومتعة لا تحدها حدود، ثم جاء إلينا فريق آخر، بقيادة تور مراح مرسال، وفي رفقته ثلاثة من الجنقو، ثم انضم إلينا فريق وورل أجانق، ثم محمد ود النوايمة، ثم الصادق آدم عباس في صحبته الطيب كبسون وحسن عبيد الجنقوجوراي الملقب بالدب، ثم، ثم، ثم، كأنما دعي الجنقو عن طريق الإذاعة التي يسمعونها طوال الوقت، وملأت الأغنيات سماء المكان الصافية الزرقاء، وأقمنا أجمل الليالي هنا؛ لأن قطعة الأرض التي اشتريتها بقصد الزراعة، وعملت على نظافتها مع الشايقي، ومختار علي، لا تتعدى مساحتها العشرة أفدنة، ففي خمسة أيام فقط تم حصادها، وقطع قصبها وجمعه في كوم واحد كبير، وزربه بالشوك حتى لا تصيبه الحيوانات، أو تعبث به القرود، وافق مختار علي أن نترك للشايقي نصيبه؛ لأنه غير موجود الآن، وأن نقسم الباقي مع الجنقو بالتساوي، وهو ما رفضه الجنقو تماما، ولكنهم وافقوا على أن تخصص خمسة جوالات عيش من الفيتريتة للمريسة، وأن تسلم لبيت الأم، نقلنا العيش بلوري الخط إلى الحلة، وكان أول عيش يتم جلبه، وشاء القدر كذلك أن يكون آخر عيش يصل الحلة في هذا الموسم الحافل.
بعيدا عن رأيي أنا الخاص في ما حدث؛ أخير هو أم شر، أريد أن أؤكد شيئا أساسيا، أنني كنت بعيدا عن مجريات الأحداث، أولا لانشغالي بحصاد الأرض التي زرعتها مع الشايقي، ومختار علي، ثانيا لانشغالي بأخبار ألم قشي، في الحقيقة أخذ هذا الشيء الأخير الجزء الأكبر من تفكيري، ولم يترك لي وقتا لأعرف تفاصيل الجنقو المسلحين، ولا من انضم إليهم من رعاة حانقين منذ أن زارني الشايقي قبل شهر مضى، ورد لي المبلغ الذي أخذه مني في حادث باص همدائييت؛ أقصد أنني ما كنت متفرغا، بصورة أو بأخرى، لما يشبه الندوات الكثيرة التي أقامها الجنقو في التايات والكنابي المجاورة، وربما حتى تلك التي عقدت مؤخرا في الحلة، وكان لبعد ود أمونة عني، وانشغاله بالبنكيين وقد كثرت زياراته إلى الخرطوم وزاد انشغالي بالمفازات أثر في افتقاري لما يملأ فراغاتي المعلوماتية، وينبه غفلتي، ولكنني لم أستطع أن أسامح نفسي على أن أفاجأ مثلي مثل الهوام والبهائم بالحدث العظيم، ففيما يشبه الندوة الفجائية، أو في الحقيقة الندوات التي تفوق المائة الطارئة التي انعقدت في شوارع الحلة، وفي بيوتها فجأة، كالنبت الشيطاني في لحظة واحدة، كان الكلام يدور عن النار! حسنا دعنا نلتقط بعض الأوصاف التي يطلقها الناس، يصفونها لأنفسهم؛ لأنه ليس هنالك شخص ينتظر أن يسمع شيئا من آخر، وصفا أو تفسيرا: جهنم، جهنم عديل.
قالت امرأة عجوز تحاول جهدها أن تسمعني صوتها: يا ولدي دي شيء ما حدثت إلا لقوم سمود.
قالت الأم مريم كودي للأطفال المرعوبين، الذين استجاروا بالكنيسة يصلون: الرب يسوع يكون في عونهم.
ورسموا خلفها شارة الثالوث المقدس، دعوا لأصحاب المشاريع الصغيرة بالعوض الجزيل : آمين.
وقع الحدث العظيم عند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، حينها استيقظ الناس على ضوء حريق هائل في عمق المشاريع، وكان اللهب الجبار يتشابى إلى عنان السماء الصافية الزرقاء، كتنين أسطوري يحاول أن يلعق الأنجم بلسانه الناري، اندلعت في البداية بضعة حرائق هنا وهناك، ثم الأرض كلها اشتعلت نارا، قل أذرع مجنونة تلعب في الفضاء لعبا، كان عرسا من الجحيم لا يمكن وصفه، وتبع ذلك موسيقى تصويرية بائسة من صراخ الأطفال الذين صحوا مذعورين، وولولة النساء المرعوبات، وهترشة السكارى، ثم علا عزيف زخات الرصاص من أعماق غابة زهانة، وتحركت كتيبة من الاحتياطي المركزي والشرطة، تتخبط دون هدى حول الحلة، حيث لا يمكن الخروج لمكان آخر، فالنار هناك دائما والحلة هي المكان الوحيد الآمن، كانوا يصنعون تشكيلات عسكرية عبثية لا معنى لها في الغالب، ومع شروق الشمس؛ فضت النار احتفالها مخلفة أرضا سوداء كحناء على أطراف عروس هائلة دافئة وأسطورية، تهب جسدا بآلاف الأفدنة، قربانا للريح.
نشيد الجسد
لا يعرف الناس شيئا حقيقيا عن الأم؛ لافتراضهم الخاطئ بأنهم يعرفون عنها كل شيء؛ بالتالي لم تحك عنها حوادث، أو أشياء مدهشة، ولم أسمع أحدا يتحدث من قبل عن حياة أدي؛ ماضيها، أسرتها، بلدها، ولا حتى اسمها الحقيقي، فلقد كانت مثلها مثل كل الأشياء المعتادة كالماء، والسماء، والليل، والنهار، قال لي ود أمونة، وكنا في ذلك الحين نحكي عن ذكريات سجن القضارف؛ أنا كابن سجان، وهو كسجين صغير في صحبة أمه، حينما انحرف بنا الحديث إلى سيرة أدي: لو ماتت أدي فجأة، لا قدر الله؛ منو الحيرثا؟
وما كان ود أمونة يرجو إجابة مني، بل كان يكمل رأيا أدلى به في بداية حديثنا عن أدي، كانت مقاتلة في الحركة الشعبية لتحرير إريتريا، منذ أن كان عمرها لا يتجاوز السبعة عشر عاما، ود أمونة وغيره من الناس يعتبرون ذلك من المسلمات والبديهيات، ويؤمنون بأنها كانت محاربة شرسة وشجاعة وجميلة، وأنها قائدة ميدانية بارعة، وأنها هزمت كثيرا وانتصرت كثيرا؛ شأنها شأن كل الأبطال، ورأت موت الرفاق والأصدقاء، وجرحت وأسرت وهربت من الأسر، وأنها كانت قبل الثورة صديقة لمنقستو هيلا مريام، عندما كان فالولا في تخوم الحدود السودانية الإريترية الحبشية، ويظن أن أحد والديها إريتري، والآخر إثيوبي، أو كلاهما إثيوبي، أو إريتريي، كل هذه المعلومات الواضحة التناقض هي المعرفة الجيدة والوحيدة المسموح الإيمان بها وتصديقها هنا في الحلة، لم تسمح لي فترات جلوسي معها ومقابلاتي القصيرة لها بالتأكد من صحة هذه المعلومات؛ حيث كانت الأم دائما مشغولة بشأن يخص البيت، أو أحد الزبائن، أو البنيات، وود أمونة، الوقت دائما للعمل، قال لي وهو يمسح وجهه الوسيم بكفه: أنت ما بتعرفني كويس، مش؟
اندهشت في بادئ الأمر، كنا في بيت أدي صبيحة هروب حبيبتي ألم قشي مني إلى زوجها وطفلتيها، ولقد فرغ ود أمونة نفسه لتسليتي، شربنا معا بعض كئوس العسلية المنعشة، قلت له بعد تردد قصير: والله، لحد ما.
قال ضاحكا محاصرا إياي: من القولات والندوات في بيت المرايس وبس، مش كدا؟
قلت له معترفا بتقصيري في خجل: تقدر تقول كدا؛ لأننا ما لقينا وقت نقعد فيه مع بعض زي القعدة دي، حتى الأم ذاتها، أنا معرفتي بيها طشاش طشاش، وفي حاجات قلتها لينا أنا وألم قشي عن السجن، والطباخ، وأمك، والعازة، وشوية حاجات تانية ما أظني متذكرها.
قال بتأثر: أنا ما لاقي زول أتكلم معاهو عن نفسي، عني أنا بالذات، أنا عندي حاجات كثيرة زاماني في صدري، عايز زول صاحب أحكيها ليه؛ عشان يوريني الصح شنو، والخطأ شنو، قلت له، وقد أحسست أنني في ورطة؛ لأنني في الحق لا أعرف الصحيح من الخطأ في السلوك الإنساني، وهو يريدني الآن حكما: أنا بحب أسمعك، ولكن أنا ما بقدر أقول ليك دا صح، ودا خطأ، ولا في زول في الدنيا بيعرف الصح من الخطأ، لكن على كل حال أنا عايزك تحكي لي كصديق، وكأخ ما أكتر.
حرك الهواء على جمر الشيشة بهبابة صغيرة من السعف، فبدا الجمر محمرا، بعد أن تطاير الرماد في كل الاتجاهات، وكأن ذلك يعني الكثير لود أمونة؛ لأنه قال لي مباشرة بعد ذلك: حياتي زي الجمرة دي، أنا ما ارتحت لحظة.
ثم هتف فجأة، وهو يحملق في وجهي: أنا بت ولا ولد؟
ولأنه ما كان يريد مني إجابة بعينها، واصل حديثة بهدوء شديد، شرح لي كيف أنه اكتشف نفسه، وهو في نحو الثامنة عشرة، كانوا مجموعة من الشبان يسبحون في نهر باسلام، وهو أحد ميادين اللعب التي يواظبون عليها ويؤدون بعض الألعاب المعروفة، مثل التمساح والغطاس، ولعبة العود، وغيرها، وكانوا يتلامسون في كل هذه الألعاب بأجسادهم، وهو شيء عادي ولا غرابة فيه، ولكنه ذات يوم أحس برعشة قوية كادت تغرقه عندما التصق جسده بجسد ولد آخر، بينما هما يلعبان لعبة التمساح والغطاس، كان دائما ما يعجب برشاقته ومهاراته في صيد الطيور، والأرانب البرية، التي تكثر في الضفة الشرقية من النهر، الضفة المتوحشة غير المأهولة بالسكان، ولكن ما حدث في ذلك اليوم كان شيئا غريبا جدا، قال لي: قلت في نفسي، ربما أكون لمست البردة.
وهي سمكة تفرز شحنة كهربائية عالية للدفاع عن النفس، ونادرا ما توجد في تلك المياه، كان هذا هو التفسير الوحيد المتاح لود أمونة في ذلك الوقت، ومر هذا الحدث مرورا سريعا لم يتوقف ود أمونة عنده كثيرا، ولكن ما حدث له مع الرجل الغريب الذي جاء لبيت الأم ذات درت «صيف» يعتبر نقطة التحول الفعلية في حياته، كان رجلا ناعما رقيقا، يبدو في أوآخر خمسينياته، رشيقا، وسيما، ويتحدث بلطف وهدوء كبيرين، كانت النساء يتكلمن معه في كل شيء دون حرج، بل وكأنه واحدة منهن، عندما رآه ذلك الرجل ناداه، أمسك بيديه، وجذبه قريبا من وجهه، كان له عطر مميز أصبح عطر ود أمونة الأساسي منذ ذلك اليوم، قربه أكثر إلى أن أحس بأنفاسه في وجهه، قبله قبلتين في خديه، ومرر أنامل يده اليمنى على شفتيه متحسسا رقتهما، ثم همس في أذنه برقة، وهو يمسح بيده الأخرى على شعره: اهتم بنفسك، أنت أمير.
وسمعها ود أمونة: أنت أميرة.
كان يرتجف في نشوة مسحورة، وهو يستنشق كلمات الرجل وقبلاته بكل ذرة من جسده، والحق أنني سمعت هذه القصة من قبل برواية قريبة من ذلك، ويبدو أن ود أمونة بحكايتها لي يريد أن ينفي القصة الأخرى، التي بلا شك يكون قد سمع بها مرارا وتكرارا، هذا إذا لم تكن هي الحكاية الحقيقية، وما قصه لي كان ليس سوى محاولة لتضليلي، يقال بصراحة وبوضوح إن الرجل عندما رأى ود أمونة نهض كالملسوع، احتضنه في رقة بالغة، قبله كما يقبل الرجال النساء في شفتيه وقيل - ويكفينا الله شر القولات - إنه قبله في وضع آخر حساس، وذلك أمام النساء من بينهن ألم قشي ذاتها، والحمد لله وحده أن أدي ليست بالبيت في ذلك الوقت، إلا لكان لها شأن آخر معه، وقيل إنه وسوس له بكلام كثير لم يسمعه أحد غير ود أمونة، وكل الذين خمنوه لم يذهبوا بعيدا عن أنه كلام غواية، وقلة أدب، لكن سوف يلاحظ في مذكرات ود أمونة - قد وصفها البعض بأنها غير لائقة - التي نشرت بعد سنوات كثيرة من تركه للوزارة، والعمل العام، وتفرغه للحياة كما يقول، إن ذلك الرجل سلمه مفاتيح المستقبل في إشارة كريمة من سيادته عن تلك الحادثة.
وسافر الرجل الغريب في اليوم التالي، ولم يره منذ ذلك الحين، إلا أنه أصبح يهتم بجسده، ومظهره الخارجي، بمشيته، حركة يديه وردفيه بصورة مدهشة، وكان يرى في النساء النموذج الأسمى للاهتمام بالجسد، بل قال لي بصورة واضحة إنه يتمنى أن يكون امرأة، وأنه يكره تلك المذاكير التي تتدلى بين ساقيه، ويتشهى نهدين بارزين، وخصرا رهيفا، ووجها أنثويا جميلا، وقال فيما معناه إنه يرغب بشدة في أن يرى دم الحيض يسيل من تحته، وقد لاحظت أمه أمونة فيه تلك الميول الأنثوية منذ فترة مبكرة، ولكنها دائما ما تقول له: خليك راجل يا ود أمونة، خلي حركات البنات للبنات.
وكان يغتاظ من تعليقها؛ لأنه في ذلك الحين ما كان يحس بأنه يتشبه بالبنات، إنما يتصرف بسجيته، وقد يتشاجر معها كثيرا في هذا الشأن، قال لي فجأة، وهو يدفع بكلتا يديه في الهواء: أنا جواي بت! «في أعماقي بنت.»
عندما نطق تلك الجملة أحسست به وكأنه قد تخلص من حمل ثقيل، كان يقبع على ظهره، ثم تحدث كيف أنه يحس الآن بتأنيب الضمير لما فعله بطباخ السجن، وأنه لو يعود الزمن القهقرى لما تردد لحظة واحدة في أن يمكن الرجل من نفسه، قال في حزن: المسألة ما كانت تستاهل العنف دا كله.
قلت له عندما هدأ قليلا كلاما لا أدري مدى صحته: كل راجل جواه بت، وكل بت جواها ولد.
قال وفي فمه ابتسامة قلقة: لا، أنا جواي بت حيقية، بت مجنونة، وعايزة تطلع بأي شكل كان.
كنت أحس بصدق كل كلمة ينطق بها ود أمونة، وهو يكبر في نظري بصورة أسطورية، أجد نفسي صغيرا جدا أمامه؛ لأنني لا أستطيع أن أقدم له أي مساعدة، ولو نصيحة هزيلة، وبالرغم من أن ود أمونة بدا قويا ومتماسكا، فإنه كان يريدني أن أجاوب على سؤاله المركزي: ما هو الخطأ فيه؟ ثم سألني ما إذا كان صحيحا ما يقال إن في أمريكا بإمكانه أن يتخلص من مذاكيره بدون آلام، وقد يتزوج ويعيش ويعمل؟ أجبته أن ذلك صحيح، سألني: المشي لأمريكا سهل؟
أجبته، لقد كان هذا أكثر الأسئلة سهولة لدي: عن طريق اللوتري.
قال لي ببراءة: اللوتري دا شنو؟
فشرحت له فكرة اللوتري، ثم سألني أكثر من عشرين سؤالا آخر، وعندما أحس بأنه قد أرهقني بالأسئلة قال لي معتذرا: أنا حشرتك في مشاكلي الخاصة، وجننتك بالأسئلة البايخة، وأنت براك عندك مشاكل قدر الجبال.
بالتأكيد كان يقصد مشكلة ألم قشي، فأكدت له سعادتي، التي لا توصف بقلبه الذي فتحه لي على مصراعيه، وطلبت منه أن يحكي لي المزيد، كنت أريد أن أعرف هل حدث له أن التقى رجلا لقاء حميميا، ولكنني لا أمتلك شجاعة صديقي في طرح الأسئلة، وتحمل نتائج الإجابات، ولم يحدثني بذلك من تلقاء نفسه، ولكنني كنت متأكدا من أنه فعل، وكأنما قد قرأ ما يدور بذهني، قام بتغيير مجرى الحديث، قال: أنت عارف إنه الأم أدي أكثر إنسانة سعيدة في الدنيا، بالرغم من أنه ما عندها عيال، ولا عندها أسرة، حياتها ما اتزوجت ولا ولدت.
قلت له: السعادة الحقيقة هي لمان يكون الزول عندو هدف في الحياة، في ناس هدفهم الأسرة والعيال، في ناس هدفهم المتعة اللي يلقوها من الناس من حولهم؛ من احترام، وحب، وصداقة، وفي ناس هدفهم البحث عن كل شيء، كل شخص يعرف كيف يكون سعيدا.
قال ود أمونة متحدثا عن نفسه: أنا بحس بالسعادة لمان أخدم الناس، وأخليهم مبسوطين.
تحدثنا كثيرا وجميلا، حدثته عن أسرتي، وأسرة صديقي، عن القضارف والسجن، بعين ابن سجان، حدثته عن تجاربي في الحياة القليلة الفقيرة، مقارنة بحياته العميقة الصاخبة، وأسر لي بنيته في السفر إلى الخرطوم والعمل هناك، وأن رجلا بالبنك وعده بأن يعرفه بشخصية مهمة جدا، كبيرة جدا، غنية جدا، واصلة جدا، وشبقة جدا، وأنه إذا توافق معها ستنفتح أمامه بوابات العالم كلها، وأكد لود أمونة قائلا: أنت تساوي وزنك دهب، لكن في البلد دي لا تسوى بعرة.
لم أعلق تعليقا مفيدا على ذلك، ولكن كنت أحس بأن هنالك شيئا من المبالغة، ولو أنني لم أستبعد ذلك تماما، وبعد أعوام كثيرة عندما أرسل لي صديقي رسالة إلكترونية ملحقا بها كتابه الوثائقي، الموسوم بثورة الجنقوجورايات، لم أستغرب أن يصل ود أمونة إلى ما وصل إليه من معرفة، ودرجة وظيفية رفيعة، ومنصب سياسي لا يحلم به ود أمونة، ولو أنه أعطي طاقة خيال العالم كله. عندما أراد ود أمونة أن يغادرني إلى بعض مشغولياته، قال لي جملة لم أفهمها جيدا إلى الآن: صديقك مدهش!
قلت له بسرعة: تقصد شنو؟
قال وهو يقف عند الباب، وينظر إلي في وجهي مباشرة، وعلى فمه ابتسامة غنجة: أقصد مدهش وبس.
قلت له: أنت في الباص يوم ماشيين همدائييت، تذكر يوم أخدوا قروشنا ناس الشايقي، قلت لي حاجة عنه، ولكن ما تميتها.
قال ضاحكا: وأنت ما سألتني تاني، ما فيش بببح !
وخرج يتبعه عطره الجميل، في مشية تنم عن كبرياء وثقة في النفس لا تحدهما حدود، جريت خلفه، أمسكت به، لأول مرة أحس بنعومة يده، كانت في رقة يد الطفل، أخذ يضحك، قال لي أنه سيحكي لي ذلك في الوقت المناسب، ولكني ألححت عليه إلحاحا شديدا، وهو ليس من طبيعتي، ولكني شحنت بالرغبة في أن أعرف ماذا جرى ما بين ود أمونة وصديقي المناضل صاحب النظريات، ولو أنني طوال فترة صداقتنا التي امتدت للعمر كله، أي منذ الطفولة المبكرة إلى اليوم لم ألاحظ أي ميول مثلية لديه، نحن ليس لدينا موقف أخلاقي ضد ذلك، ولكننا نصنف نفسينا من النوع الميال للجنس الآخر، أو كما يحلو لصديقي قولها باللغة الإنجليزية
heterosexual ، لكني لا أستبعد أن يكون ود أمونة قد ساقه إلى تلك النهاية، أو أنه أراد أن يتأكد بنفسه من أن ود أمونة مثلي، وأظن أن صديقي في سبيل أن يبرهن فكرة ما أو خاطرة ما قد ينزلق إلى هوة أعظم، وحدث ذلك مرارا وتكرارا، ولكنني أريد أن أعرف ماذا حدث بالضبط، وقد لاحظ ود أمونة تلك الرغبة في، وكانت نقطة ضعف بينة وواضحة، وأعرف أن ود أمونة قد يستغلها استغلالا رهيبا، قال لي بغنج: عايز تعرف؟
قلت له، محاكيا طريقته في الكلام، وأنا أكتم غيظي: نعم، والآن؟
عاد وجلس قربي على السرير الكبير خلف رجله، وأشعل سيجارة برنجي، وعندما بدأ يحكي لي عرفت من تعبير وجهه أنه يؤلف القصة الآن، وكنت أشم عبق تخلقها طازجة في لسانه، لقد كان قبل قليل صادقا معي، كان وجهه غير ما هو عليه الآن، طلبت منه فجأة أن يتوقف، وأن يحضر لي زجاجة كونياك، ابتسم ونهض، انصرف في هدوء.
خاتم النبي سليمان
بالتأكيد ما كان لرجل عاقل مثلي أن يبقى بالحلة دقيقة واحدة أخرى، فبينما ينعس الناس الساهرون بالأمس مع مهرجان النار الذي أتى على كل مزارع الذرة، هربنا أنا وصديقي مختار والصافية، وكثير من الجنقو الآخرين، نحو الحمرة بإثيوبيا، كنا قافلة صغيرة مرعوبة وخائفة، تقودنا الأم التي كانت لا تحمل شيئا سوى صرة صغيرة ثقيلة، بها كل ثروتها في شكل ذهب، ولكنها كانت تبدو مرهقة، نسبة لسمنتها، وبعد عهدها بالجري والهرولة، مضى أكثر من ثلاثين عاما منذ أن ودعت ميدان المعركة، واعتادت على نمط عمل مريح، ورغم الخوف الذي يتملكنا جميعا لم نتركها خلفنا، بل نحيط بها ونساعدها على حمل ثروتها، فلها علي وعلى كل واحد منا فضائل كثيرة، عبرنا النهر سباحة؛ فالجميع يجيد السباحة بما فيهم الأم؛ حيث إنها تسبح في خفة ومهارة قد يفتقدها كثير منا، هرولنا على أرض صخرية قاسية، ولكنها رحيمة وطيبة، تنكمش في عطف تحت أرجلنا لتقرب لنا المسافة إلى الحدود الإثيوبية التي هي مقصدنا، وخط الأمان الأول، كثير من الجنقو يحملون هواتفا نقالة، وقد اتصلوا بأصدقائهم وأقاربهم، وعرفوا أن الجيش يتعقبنا، ولكن على أرجلهم، فآلاتهم القتالية وعرباتهم لا يمكن أن تعبر النهر.
وقالوا لنا هنالك احتمال أن يستعينوا بطائرات مقاتلة من القضارف أو كسلا؛ لذا تحتم علينا أن نسابق الريح فعليا نحو الحدود الإثيوبية، وفعلنا، وفي اللحظة التي دخلنا فيها خور الحمرة سمعنا ضجيج الطائرة الأبابيل خلفنا، كنا نظن أن الطائرة لا يمكنها أن تطلق علينا قنابلها ونحن في الأراضي الإثيوبية، إلا أن الأم وجهتنا للاحتماء بالأشجار والكهوف التي تكثر بالخور، كانت تحلق الطائرة فوق هامات الأشجار، ويثير هواؤها عاصفة غبارية كثيفة تحجب عنا الرؤية وتشتت أفكارنا، ترمي كثيرا من الرجال الجوعى صرعى، ترعبنا وتحاصرنا حصارا محكما، وكما لو كانت تريد الاحتفاظ بنا في الخور لحين وصول الجنود، وحين تتركنا للحظات ربما للمناورة، كانت الأم تعيد ترتيبنا، وقد نبهتنا مرة بأن نهرب نحو عمق الحدود في ذات الخور، ولكن متفرقين؛ لذا عندما عادت الطائرة مرة أخرى لم تجدنا هنالك، ولكنها لم تتوغل معنا في داخل الحدود الإثيوبية، فتركتنا وعادت، وبعدما تأكد لنا أن الطائرة لن تعود تجمعنا مرة أخرى عن طريق المناداة والصياح بصوت عال، كنا خمسة وعشرين جنقاويا؛ حيث إنني قمت بعدهم بعدما عبرنا النهر مباشرة، الآن أربعة وعشرون ، ولم يكن صعبا أن يتبين الناس أن الشخص المفقود هي أدي، وتفرقنا في الغابة والخور بحثا عنها، ناديناها بأقوى ما تستطيع حناجرنا أن تصدر من أصوات، تتبعنا المسالك التي مررنا بها، عدنا للموقع الذي حاصرتنا فيه الطائرة، ثم إلى المكان الذي شوهدت فيه آخر مرة، لم نجد لها أثرا، وظن بعض الجنقو أنها تتبعت طرقا تعرفها إلى عمق إثيوبيا، فالمكان ليس غريبا عليها؛ حيث إنها كانت فالولا قبل ثلاثين سنة، تتصيد السابلة على مشارف الحمرة وتسني، وقال البعض إنها ربما خشيت أن يستولي الجنود الإثيوبيون على مالها، وأدلى كل بدلوه، ولكن ظلت الحقيقة غائبة إلى أكثر من أسبوعين، إلى أن أخبرنا ضباط الرعاية في معسكر اللاجئين، أنهم وجدوا جثتها متعفنة على بعد خمسة أميال شرق خور الحمرة تحت شجرة سيال، ويرجح أنها قتلت، ولم يجدوا معها أي شيء من المال، أو العتاد.
قابلنا الإثيوبيون الرسميون والشعبيون بعد نصف ساعة من دخولنا الأراضي الإثيوبية، على مشارف الحمرة عسكر وفريق طبي، موظفون أمميون، ومنظمة الهجرة الدولية، قاموا بالتحقيق معنا، والتأكد من أنه ليس معنا أي أسلحة خطرة أو نارية، غير بعض الفئوس والأسلحة البيضاء الشخصية، ثم فحصنا طبيا، وقمنا بطلب اللجوء السياسي، وهو المصطلح الذي لم يسمع به كثير من الجنقو من قبل، تم حصرنا، وقام المسئولون بتحديد موقع لإقامتنا، وأعطينا أرقاما بدلا من أسمائنا وقدمت لنا منظمة وطنية مجهولة بعض الطعام والماء؛ بتنا ليلتنا تلك في خيام ضيقة، ثم أخذت الأمم المتحدة في صنع مبان أكثر راحة ملحقة بمراحيض، وحمامات، وعيادة صغيرة، كنا مرهقين وجائعين ومتعبين ومتسخين ومفلسين، أنا بالذات لا أمتلك ولا قرشا واحدا، فقد كان أملي في العيش الذي حصدته، وتركته في بيت أدي، التي تركته بدورها في الحلة، واختفت الآن في مجاهل إثيوبيا، وكل الجنقو مفلسين مثلي؛ لأنهم ما عملوا في هذا الموسم عملا حصلوا منه على مال، ولولا الطعام والشراب والسكن الذي يقدمه لنا المحسنون الأمميون لمتنا، ثم ما لبث أن انضمت إلينا أسر أخرى وجنقو آخرون وفدوا من همدائييت، والقرقف، وزهانة. بعد ثلاثة أشهر بالتمام، أي في بداية شهر يناير، أرسلت لي ألم قشي ما يفيد بأنها قد تنجب طفلا في الأسبوع القادم، وعلي أن أحضر السماية في همدائييت إذا كنت أضمن سلامتي، كنت في الخيمة وحدي عندما جاءني من عرفت فيما بعد أن اسمه إسحاق المسلاتي، غالبا ما أكون وحدي في الآونة الأخيرة، فصديقي مختار علي بعد أسبوع واحد فقط قضاه معنا في المعسكر ضجر، رغب في الخروج من المعسكر الذي لم يعد يطيقه، ويود الذهاب إلى فريق قرش؛ لديه أصحاب هنالك، طلب مني أن أصطحبه، وقال لي إنه يمكننا العمل في الحصاد مع المزارعين الأحباش كعمال يومية، أي كجنقو، وهو يعرف الطريق إلى مواقع العمل تلك؛ ولكن البقاء في المعسكر مثل الشحاذين تحت رحمة الخواجات هذا لا يروق له ولا يقبله، وحينما رفضت فكرته وحاولت إثناءه عن الذهاب إلى أن نتبين مجريات الأمور، ونتفهم الواقع، هرب إلى فريق قرش مع الصافية، وجنقوجورايين آخرين.
قال لي الجنقوجوراي الغريب الذي عرف نفسه بسرعة: إن ألم قشي بصحة طيبة، وإنها سعيدة جدا في بيت والد زوجها، وإنهم يحبونها جدا، ويحبون أطفالها، ووضع حقيبة قديمة تبدو عليها بعض التشققات، سوداء اللون متوسطة الحجم مصنوعة من السمسونايت، قرب رجله وهو يجلس على الكرسي الوحيد بالخيمة، بقدر سعادتي بأنها ستنجب قريبا طفلا يخصني كان حزني كبيرا، وإحباطي أعظم بمعرفة أنها سعيدة، وأن أسرة زوجها تحبها، ألا يعني ذلك أن فرصة طلاقها أصبحت هزيلة، بل تكاد تكون معدومة؟ قال لي الجنقوجوراي عندما قرأ حزني في وجهي، قال لي بهدوء أن بفريق قرش نساء كثر، وأنهن جميلات، وحلوات، ورشيقات، ووصفهن بأنهن مثل السكر، وهو الشيء الأكثر حلاوة في هذه الأنحاء من الدنيا، وطلب مني أن أذهب، وأبحث عن واحدة منهم لأتزوجها، وأنه سوف يساعدني ويسهل لي الأمر بما لديه من معارف وأقارب هنالك، وعدد لي جنسياتهن قائلا: بلالاويات، وفلاتيات، تلسيات عديل، ظبرناويات، بازاوايات، وجعليات، ودينكاويات، وتكرونيات. سيلاحظ أن ذكر قبيلة المرأة مهم جدا بالنسبة لهذا الرجل المسخوط، ويضيف لها قيمة جمالية خاصة من عنده بطريقة نطقها وتعبير وجهه، الذي تظهر منه ملامح طفيفة على ضوء المصباح، ولكنها قاتلة وتقول كل شيء، العارفون يستطيعون أن يميزوا الفرق بين المرأة والأخرى وفقا لقبيلتها، لكل طعمها المعروف، وهو بلا شك من العارفين، أضاف بأستاذية ودراية عميقة بشئون البشر، وخاصة النساء: وطبعا الحبشيات دي بلدهم، البلد كلها نساوين دي أجمل من دي، ودي تقول لدي أنت شنو، قلت له بصوت يخرج من بطني مباشرة: ما زي «ليسوا مثل» ألم قشي.
قال بتحد: في أجمل منها كتير.
قلت محاولا تنبيهه إلى جوهر القضية: ما مسألة جمال.
قال بسرعة: مسألة شنو؟ في نسوان في الدنيا عرفن الموضوع دا أكتر من نسوان تانيات «أخريات؟» في نسوان مخلوقات من طين ووحدات من نار؟ أنا عايز أفهم؟
قلت له محاولا أن أجعله يفهم: المسألة ما مسألة موضوع.
قال ساخرا: يعني حب؟ ما في مرة تانية تحبها؟ معليش عايز أفهم.
قلت له محاولا أن أجعله يفهم: في، في كتير، ولكن.
قال لي محاصرا مقاطعا بطريقة غريبة مدهشة، وغير مفهومة: آها، شنو اللي في ألم قشي، وما في مرا تانية «أخرى» غيرها؟
قلت له محاولا بإحساس العاجز عن الشرح: ما عارف، حقيقة ما عارف.
قال لي بيقين راسخ، وأعصاب باردة: أنا عارف.
قلت له بسرعة: قول لي ليه، أنا ما عارف.
قال لي وهو ينظر للبعيد، وكأنه يتحدث مع الفراغ الشاسع حولنا: ألم قشي دي جنية، امرأة من الجن.
قلت مستعجبا، ومستغربا، ومندهشا: جنية؟
قال وهو يضع يده على كتفي في حركة غريبة: أيوا، جنية راسو عديل «حقيقية» جات «أتت» من البحر «النهر» دا، البلد كلها جنون ساكنين مع الناس، وما في زول عارفهم.
كان طويلا أسمر له بشرة لامعة ووجه حليق نظيف. - وأنت كيف عرفتها؟
قال بنفس قصير، وهو يبتلع ريقا جافا: عرفتها.
ولأنني لم أر هذا الجنقوجوراي من قبل، أتاني إحساس غريب، بأنه فرد من الجن، وجدتني أنظر إلى هيئته ، رجليه وأصابعه، متحريا العلامات التي يقال إنها تفرق ما بين الجن والبشر، وهي الأقدام، الجن دائما ما تكون أقدامهم أقدام حمير، والقلة كلاب، للرجل قدما بشر، وهيئة إنسان سوي، ولا غرابة فيه إطلاقا، غير أنه نظيف بعض الشيء، وفصيح، وله ثقة متزايدة بنفسه.
قال لي إنه أول شخص تعرف على ألم قشي في الشرق كله، ويظن أن ذلك كان شرفا كبيرا بالنسبة له، وأشار بصورة أو بأخرى فيما يعني أنه متميز، قابلها أثناء ما كان يعمل في مشروع عثمان عيسى هارون، بالقرب من كبري الهشابة، بينما جاءت هاربة من سجن بالحمرة، هكذا قالت له، كانت فقيرة وخائفة من أن يدركها الشرطيون الإثيوبيون ويعيدونها للسجن، قام بإخفائها في قطيته أسبوعا كاملا، قدم لها أجمل الطعام، والشراب، بل إنه اشترى لها بعض الملابس الجديدة لتتخلص من تلك - على حسب تعبيره - المقملة، وقال إنه كاد أن يصدق حكاية السجن والشرطيين الإثيوبيين والقمل، لولا أنه ذات صباح باكر راودته نفسه بمواقعتها، وقام بخلع ملابسها ليفاجأ بخاتم الجان مضروبا في ظهرها: في آخر الضهر «الظهر»، وجنب الصلب «الأرداف»، في شكل ختم النبي سليمان.
ورسمه لي في الأرض، سألني: شفت الختم دا ولا ما شفته؟
كان يشير للرسم الذي يبدو مثل نجمة النبي داوود بمثلثاتها الغريبة، وقد رأيته كثيرا منذ صباي الأول يرسمه الفكيان، والفقهاء الشعبيون على أوراق بيضاء، ويعطونها للنساء؛ لكي يستخدمنها كبخور لطرد الأرواح الشريرة، وجلب الحظ الجيد لهن ولأطفالهن.
قلت له باستسلام: في شيء، لكن هو ختم، ولا وشم، ولا شامة خلقة، والله ما فكرت فيه، ولكنه قريب من الشيء اللي رسمته أنت على الأرض.
كان في الواقع أن ما يوجد بظهر ألم قشي ورأيته أنا بأم عيني هو نفس الشكل الذي رسمه الجنقوجوراي إسحاق المسلاتي، وفي نفس الموقع الذي وصفه، كان واضحا، بل بارزا بينا لا يخفى، ولكنني كنت أضع مساحة لنفسي من أجل المراوغة.
أضاف مقررا بأن ذلك هو خاتم الجن، وأنه عندما سألها عن حقيقته هربت منه، واختفت عن ناظريه ، ولم يرها منذ ذلك اليوم إلا في الحلة معي.
وقالت لي وهي تبكي: استرني يا إسحاق ود درينق، استرني، لكن أنا حبيت أقول لك عملا لوجه الله وحده!
قلت له: ومن وين عرفت أنت ختم الجن؟
قال لي إنه قضى معظم سنوات حياته على شاطئ نهر سيتيت، بين هشابة، الجيرة، الحفيرة، همدائييت، الحمرة، زهانة والشواك، إلى خشم القربة، وأن بهذه المنطقة أكبر مملكة للجن في العالم، هم خدام سيدنا سليمان، الذين تفرقت بهم السبل بعد موته، وخشم القربة بالذات ذكرت سبع مرات في كتاب جلجلوتية الأسرار، يسكن بأم أسود المكان المعروف خلف ضريح الشيخ أبشرا، شرق السلخانة القديمة، مالك ملوك الجان نفسه المعروف بالأنور، وشاهده الكثير من سكان خشم القربة، ولكن دون أن يدروا حقيقة ما يشاهدون؛ حيث إنه يظهر مرة واحدة في العام، وذلك في ذكرى اليوم الذي أعادت السمكة فيه خاتم النبي سليمان الذي سرقه الجن من زوجته، عند ذلك اليوم يفيض النهر وتخرج الأسماك، وهي حفيدات وأحفاد السمكة الجدة التي ابتلعت الخاتم، وأعادته للنبي سليمان، ليلتقطهما الناس بالأيدي يشوونهما على الجمر، أو يسلقونهما بالماء، وهو عقاب يلحقه بهما مالك ملوك الجان سنويا في يوم مشهود يسميه المحجوبون «يوم دق السمك»، والأجدى بهم أن يدعوه يوم «السمكة»؛ لأنه لولا أن أعادت السمكة الجدة الخاتم للنبي سليمان لما استعاد سطوته، وجبروته على الجن، وأذلهم، ولما انتقم منها في أحفادها، لكن لجهل البشر بعلم الأسرار وضعف بصرهم وبصيرتهم، فلا أحد ينتبه له، قد يظهر في صورة تمساح، أو طائر غريب، أو سمكة، لا يستطيع أحد صيدها، أو كما يشاء من هوام الأرض.
أجمل كما لو أنه أراد أن يختتم كلامه قائلا فيما يشبه نظرية، أو قولا منزلا: عن أن الشخص الذي ضاجع امرأة من الجن، لا يذوق بعدها طعما لأي امرأة أخرى، وأكد لي بصورة قاطعة أنه منذ أن عاشر ألم قشي قبل خمسة عشر عاما وإلى الآن لم يلمس أي امرأة كانت، وسألني بصورة مباغتة: هل هبشت أنت مرا بعد ألم قشي؟
وقبل أن أجيبه أضاف بصورة درامية في الحقيقة أقرب للكوميديا السوداء: أنا مش ح أخليها، ح ترجع لي، ح ترجع لي، وأنا، ما ح أموت قبل اليوم داك أبدا.
قلت له ساخرا: يعني أنت في الصف معاي؟
قال بجدية، مما جعلني أشك في سلامة قواه العقلية: مش أنا وأنت فقط، يفوتوا الألف ألف ألف من الرجال، في الدنيا كلها منتظرين.
ولم أقل له كلمة أخرى، بل تمنيت لو ذهب الآن وغرب عن وجهي للأبد، ما كنت أرغب في أن أراه مرة أخرى، تمنيت لو كنت في حلم، ولكن للأسف كنت أعايش واقعا فعليا يمكن لمسه، سماعه، رؤيته، والتحدث إليه، بقي معي إلى ما بعد منتصف اليوم، يتحدث عن ممالك الجان، وأوطانهم، وأسمائهم، وحلاوة نسائهم، وأنهم يوجدون في كل مكان في كل أشكال الأشياء، ويمكن أن تكون نصف الأشجار التي حولنا الآن من الجان، ويمكنهم التحور في شكل حشرات، طيور، حيوانات أو بشر، وفيهم المسلم، والمسيحي، واليهودي، والكافر، وفيهم الذكي والبليد، المستقيم والشقي، وأكد لي مرة أخرى أن الجن الذي يسكن الشرق كله من خدم النبي سليمان، الذين تفرقت بهم السبل بعد موت الملكة بلقيس حبيبة النبي سليمان، لسوء حظي أنني سألته عن حقيبة السمسونايت القديمة التي تقبع قرب رجله، وكان هدفي شريفا هو تحويل موضوع الحوار لأي شيء آخر غير الجن، وألم قشي، جلس على الأرض القرفصاء، تناول الحقيبة بهدوء لا يخلو من التوتر وادعاء القدسية، قرب منها مصباح الزيت الصغير، أدار أرقامها الصدئة القديمة فانفتحت، كان بها كتاب كبير أصفر الورق، يكاد يملأ الحقيبة كلها، ما تبقى من فراغ به أعشاب جافة لم أرها من قبل، أو أنها لم تكن واضحة بما يكفي لكي أتبين فصيلتها، فقد ظل ضوء المصباح خافتا، قال لي وهو يفتح الصفحة الأولى من الكتاب: تعال اقرأ.
طلبت منه أن يقوم هو بالقراءة، إنني أفضل ذلك. - لا، عشان تتأكد لا أكثر. - أتأكد من شنو؟ - من الكتاب.
قلت له وأنا أقرب من الكتاب ، ولكنني في الحقيقة كنت بعيدا عنه بما يكفي، فأنا لا أريد أن أورط نفسي بما أسميه أعمال السحر، والشعوذة الفارغة، التي قد تنطلي على بعض الجهلاء، وكأنه سمع ما تهمس نفسي له به، قال لي: دا كتاب عادي، ألفه الإمام جلال الدين الأنبار، ينفعنا الله ببركته كما نفعنا بعلمه، ونقلته أنا بخط يدي، وجدته عند شيخ، ورفض يسلفني له، فنقلته.
أكدت له لو أن مؤلفه الإمام علي بن أبي طالب نفسه، أو جدي عبد الكريم إدريس آدم، عليهما رحمة الله، أنا أفضل أن يقرأ هو ما يريد قراءته، ولكي لا أكون حادا في اللفظ، تعللت له بضعف الإضاءة، وضعف نظر عيني، تبسمل وقرأ لي صفحتين لا أذكرهما، ولكنهما توضحان أن من يكذب ما ورد بهذا الكتاب يرمي بنفسه في تهلكة كبيرة ويخسر خيرا وفيرا، ومن يؤمن به ستحدث له أشياء كثيرة جيدة ذكر منها الكثير، على ما أظن أن جملة، أو جملتين، تتحدثان عن قسم غليظ، واسم الله الأعظم.
قال: من يمتلك اسم الله الأعظم يمتلك ربع الكون، وأن سر اسم الله الأعظم في هذا الكتاب الذي بين يديه الآن، ولم أحاول أن أستفسر أكثر؛ لأنه سوف يجرجرني لمجاهل أكثر غموضا، وقد يبقى معي الأسبوع كله، تبرع بنفسه أن قرأ لي عنوان الكتاب كاملا: جلجلوتية الأسرار، ويليه كتاب أحرف النار، للإمام الفقيه جلال الدين الأنبار.
قال لي إنه يستطيع أن يحدثني عن مستقبلي، وحظي في الدنيا والآخرة إذا أردت، وقال إن مختار علي عرف أن نهايته هي شجرة الموت من بين صفحات هذا الكتاب، وسألني سؤالا مباغتا: وين دهب «ذهب» الأم؟
قلت له ببراءة: سرقه لصوص وقتلوها.
قال مبتسما فيما يعني أن ذلك قمة الجهل، وهو نفسه كاد يقع في ذات الفهم، عندما سمع أن الأم وجدت مقتولة وبدون كنزها من الذهب الذي لا تقل قيمته عن مائة مليون بر إثيوبي، الحقيقة الوحيدة في هذه القصة أن الأم وجدت ميتة، ولكن من قتلها وأين كنزها؟ هذا ما يعرفه هو وحده في الحمرة، هو والله في الكون كله، هو عن نفسه سوف لا يفشي السر مطلقا، قد يفعل الله في يوم ما، فلله في خلقه شئون.
ما كنت أحتاج لفض سر موت الأم، أحتاج للنوم أكثر، أحتاج لراحة البال، وأن يذهب عني هذا الرجل الشرير، وألا ينسى بأن يأخذ كتابه معه، ولكنه سألني أيضا فجأة: عايز «أتريد أن» تعرف نفسك تموت متين؟
في الحقيقة أحسست ببعض الارتباك، فسألته ما إذا كان يعرف هو نفسه متى يموت، فأجابني بالنفي، وذلك لا لشيء إلا لأنه لا يرغب في ذلك، ولا يريد أن يزعج نفسه بمثل هذه الأمور، ولكنه يعرف أن ذلك الشيء يمثل أهمية كبيرة لبعض الناس، وخاصة أهل المدن الذين يخططون لمستقبلهم بصورة طيبة، وقد افتكر أنني واحد ممن يهمه ذلك.
قلت له عكس ما كنت أرغب فيه: ما عايز «لا أريد.»
صمت طويلا، أغلق كتاب، أدخله بدقة وقدسية في الحقيبة السمسونايت العجوز، نهض واقفا، نفض التراب عن جلبابه النظيف، ودعني، وقبل أن يختفي تماما أي ما زلت أراه عبر ضوء المصباح الشحيح صاح في بصوت غليظ أجرش، وكأنه قادم من قبر منسي، قائلا: ستموت في عمر 75 سنة، وشهرين، وثلاثة أيام، في المساء، في بلد غريبة، وبعيدة.
ثم سمعت ضحكته تجلجل في ظلام المخيم، وهو يختفي تدريجيا مخلفا وراءه غابة من الأسئلة، والأحزان، وظلاما دامسا، بعد دقائق معدودات جاءني جنقوجوراي شاب اسمه أبو النجا سعيد، وهو من سكان مدينة خشم القربة، دخل كعادة الناس هنا دون أي استئذان، كأنما يدخل خيمته الخاصة، بادرني قائلا: الزول دا كلمك عن الشياطين، مش كدا؟
قلت له مستغربا: كيف عرفت!
قال لي: الزول دا مصاحب جنية، والناس كلها عارفاه، ساكن جنب البحر في الحفيرة، مش قال ليك اسمه المسلاتي؟
قلت دون إحساس بما أقول: نعم.
قال لي وهو ينظر إلى أم عيني مندهشا: أنت ما لك؟ خايف ولا شنو؟ قال ليك شنو الزول دا أصلو؟ الزول دا أكتر زول كداب في البلد دي، اوعك تكون صدقته ؟ قال ليك شنو؟
قلت محاولا أن أكون طبيعيا: لا شيء، لا شيء.
في الصباح الباكر نويت أن أذهب إلى همدائييت مهما كلفني ذلك، فهي لا تبعد كثيرا عن الحمرة، مسافة عشرين دقيقة بالمواصلات المحلية، وما يقارب الساعة بالأقدام، ولكن المشكلة الكبرى، هي كيف يمكنني التسلل من المعسكر والعودة إليه مرة أخرى دون أن يعرف ذلك ضباط الرعاية الاجتماعية؟ وأنا الآن شيخ المعسكر، وزعيمه، والناطق باسم اللاجئين، وغيابي ساعة واحدة سيبدو ظاهرا للجميع، والمشكلة الأكبر هي المخاطرة بحياتي إذا تم القبض علي في همدائييت، سوف يتم إعدامي في ثوان، تماما كما أعدم عشرات الجنقو الذين تأتينا أخبارهم يوميا، كانت المعارك بين الجنقو والحكومة ما زالت مستعرة، والناس يتحدثون عن انضمام شباب اللحويين والحمران إلى مسلحي الجنقو، قدروا عددهم بالمئات وأنهم الآن يتدربون على السلاح في تخوم تسني بإريتريا، وكي يبدو الموضوع في غاية الخطورة أضيفت إسرائيل إلى الحكاية، ويقسم البعض على أنهم رأوا الصهاينة رأي العين وهم يقومون بالتدريب، بينما نفي البعض الآخر أن اللحويين أو غيرهم من الأعراب قد انضموا لجيش الجنقوجورا، ولكن الخبر المؤكد أن الحكومة بالخرطوم عن طريق وساطة إقليمية تتفاوض مع المسلحين، ويتحدث الناس عن اتفاقية سلام أخرى تخص الشرق.
أنا لست منشغلا بالحروب، كنت منشغلا بخزعبلات رجل اسمه إسحاق المسلاتي، عبارة عجيبة تفوه بها، أبت أن تغادر صحوي، ولا منامي، قال لي: أنت واقع في سحر جنية.
تتملكني رغبة عارمة في أن أرى طفلي ولو للحظات قلائل، رغبة لا يضاحيها سوى إلحاح مسألة ألم قشي بأكثر مما كانت عليه من قبل أن ألتقي بهذا المسلاتي المخبول، أنا لا أريد أن آخذ منها الطفل على الأقل في الوقت الراهن إلى أن يكبر قليلا ويتم فطامه، ولكنني أريد أن أراه لا أكثر، صارحت تسفاي ضابط الرعاية الاجتماعية بموضوع طفلي، فحذرني وحكى لي حقيقة ما يدور الآن في المنطقة الحدودية ما بين قبائل العرب والجنقو الذين بدءوا يطالبون بحق الشرق في السلطة والثروة ومن الجهة الأخرى الحكومة، وأنني إذا نجوت من طرف قد لا أنجو من الآخر، واقترح علي أنه من الأفضل أن تحضر لي ألم قشي الطفل لكي أراه في الحمرة في منطقة الجمارك أي عند البار، وهي النقطة المتاخمة للنهر الذي يفصل ما بين الدولتين، وهذه البقعة لا تبعد عن المنزل الذي تقيم فيه ألم قشي مع بناتها وأبيهم أكثر عشر دقائق مشيا بالأرجل، وقال لي أيضا إن ذلك سيكون آمنا، وبرعاية الجمعية الدولية للصليب الأحمر، وإنه سوف يبلغهم عندما يحين الوقت، وهم الذين سيقومون بإحضار ألم قشي وطفلها إلى هنالك؛ لذا لا داعي للمخاطرة بحياتي، ما علي إلا أن أحكم عقلي وأصبر، فقبلت بما اقترحه، بالفعل صبرت حتى جاءني ضابط الرعاية ذات صباح، وطلب مني أن أصبح مستعدا؛ لأنني في الغد سوف أرى ابني الذي أكمل شهريه الأولين، وهو بصحة جيدة، ويمكنني رؤية أمه أيضا. كانوا يعلمون أن ألم قشي قد انفصلت عني بإرادتها، ويعرف تسفاي الحكاية كلها، لقد قصها عليه كل الذين هربوا معي من الحلة، كل بطريقته وأسلوبه الخاص. كنت وحيدا كعادتي في تلك الأيام أحس بحزن عميق، بل بضياع تام، وربما أصبحت سريع الغضب لحد ما، وقد تشاجرت مع امرأة من الجنقو سرقت تمباكا من أحدهم، جاءوا بها إلي للفصل في الأمر، وكانت لئيمة وغاضبة، وحملتني كل ما حل بها من تشرد وضياع، كل ما قالته يغضب، ورغم أن سرعة الغضب ليست من طبعي، كما أن موقعي كشيخ للمعسكر يتطلب مني الحكمة والروية وليس الغضب والتسرع، إلا أنني بادلتها ذات الألفاظ البذيئة التي عبرت بها عن غضبها، وكرهها لي، تألمت كثيرا بعد ذلك، أتت فجأة الصافية التي ارتبط مصيرها نهائيا بجيش الجنقوجورا، وأصبحت لها أهداف أكبر من العمل، والأكل والشرب، أسرت لي بأنها تريد أن تقرأ في الجامعة، وتتخرج محامية، وهذا ليس ببعيد عند الله، فود أمونة قد وجد أخيرا من يرعاه، ويهتم به في العاصمة، وقد يصدق ما قاله لهم صديقي عن النصر القريب، وأنهم سوف يحصلون على وضع متميز في الخرطوم بعد الاتفاقية، ثم حدثتني عن مختار علي الذي أصبح مريضا جدا وصحته تتدهور يوميا، وأنه ذهب إلى شجرة الموت بكامل اختياره، وقدر ما حاولت هي وأصحابه، وحتى الشايقي الذي يأتي أحيانا إلى فريق قرش، لم يستطيعوا إقناعه بالعدول عن رأيه، وقد تركته الآن هنالك، وجاءت إلى هنا مستعينة بي لإنقاذه، قد حملها وصية لي؛ وهي أن أعود مباشرة إلى القضارف حيث أسرتي، وألا أبقى ثانية واحدة هنا في الشرق؛ لأن مصيري سيصبح كمصيره، ومصير كل الجنقو؛ شجرة الموت، وهو لا يرجو لي هذا المصير التعيس.
العلاقة التي تربطني بمختار علي، أقل ما يمكن أن توصف به أنها علاقة أب بابنه، لقد رعاني أنا وصديقي في أيامنا الأولى بالحلة، وكان نعم المرشد والدليل، وهو الذي فك لنا طلاسم الحلة بحكاياته الجميلة، وأظن وأؤمن الآن بأن أقل خدمة يمكن أن أقدمها لمختار علي في محنته هذه أن أذهب إليه في فريق قرش عند شجرة موته، وأثنيه عن الاستسلام للموت.
لم أفكر طويلا، رحبت الصافية ترحيبا كبيرا بالفكرة، علقت على أنها «عين العقل»، وذهبت معي لإدارة المعسكر، استخرجت تصريحا لزيارة المدينة، وهو تصريح تستمر فعاليته ليوم واحد فقط، وينتهي عند السادسة مساء، وهذا زمن كاف، إذا قبل مختار علي سآتي به إلى المعسكر ويتم تسجيله كلاجئ، وسوف يحصل على المأكل، والمشرب، والمسكن مجانا، ولو أنه في حد الكفاف، ولكن ذلك خير من لا شيء، بل أستطيع أن أستضيفه في خيمتي وأرعاه.
فجأة اقتربت مني كثيرا، قالت لي إن صديقي هو القائد الفعلي لجيش الجنقو والعرب، وليس الشايقي، وهو الذي بعثها إلي، وأنه يطلب مني أن آتي وأقابله في فريق قرش لأمر تظن أنه ضروري، وهو أن أنضم إليهم، تمالكت نفسي وأنا أطلب منها عندما تقابله تبلغه بأنني ابن آدم مدني، وسأظل كذلك، أخاف من البندقية، ويرعبني اسم الحرب، ولا أستطيع قتل الإنسان مهما اختلفت معه أو أساء إلي، ووضحت لها وجهة نظري في حل القضايا عن طريق قتل الجنود المغلوبين على أمرهم، أعرف أنها لم تفهمني بصورة جيدة، أو أنها فهمت أنني جبان، أو شيئا قريبا من ذلك؛ لأنها قالت لي معلقة على خطبتي المفعلة العصماء: الموت بيد الله.
ولكن من محاسن فهمها أنها عرفت أنني سوف أقوم بزيارة مختار علي فحسب، ولا أرغب في رؤية أحد غيره في فريق قرش. - ولا صديقك؟ - نعم، ولا صديقي.
كانت الصافية تتكلم بصورة مستمرة، هي ليست عادتها، ولكن يبدو أنها في ظرف العطالة، وعدم العمل امتهنت الكلام، كان عليها دائما أن تقوم بعمل شيء ما، ما كانت تحب الحرب، هي الآن مجبرة على التعايش معها، كانت تسرد له تفاصيل ما يجري بين الجنقو والحكومة، على الرغم من أننا كنا وحيدين في الطريق إلا أنها كانت تهمس لي أحيانا بما تظن أنه أسرار لا يجب أن يسمعها الآخرون، المسافة ما بين المعسكر وفريق قرش ليست بالبعيدة، وخاصة أننا سوف نستقل حافلة النقل الجماعي من السوق، كان سوق الحمرة كما هو منذ أن رأيته أول مرة قبل سنوات كثيرة، أشبه بسكن عشوائي منه لسوق، تنتشر فيه المطاعم الفقيرة جدا، والحانات الصغيرة التي تقدم الخمور الرخيصة والبيرة «البدلي» ومشروب الأوزو المسكر المحبب لدى الجنقو الفقراء، كما أن الزائر العاشق بإمكانه أن يقضي وطرا عجلا بمبلغ أربعة جنيهات إثيوبية «أراد بر»، الفتيات الجميلات في ملابسهن الخليعة الملتصقة على أجسادهن، ورءوسهن المشيطة بالشعر الذهبي المستعار، يجلسن عند أبواب كهوفهن يدعون المارة للولوج، لم يتغير في الحمرة سوى تكاثر عدد أفراد الجيش الإثيوبي، الذين جلبوا لضبط الأنشطة العسكرية على الحدود مع السودان، وحماية اللاجئين، كانت الصافية تمضي أمامي بسرعة أكثر كلما مررنا بمثلهن.
إلا أنها توقفت فجأة أمام حانة صغيرة، دعتني لاحتساء بعض البيرة البدلي، وإذا أحب كأس كأسين من الأوزو قبل أن نواصل سيرنا، ونبهتني إلى أنها سوف تشتري معها شيئا قليلا لمختار علي، وتعني البيرة الداشن، ولأنني لا أمتلك نقودا وقلت لها ذلك بصراحة؛ قالت إنها سوف تقوم بالصرف علي، وأن لديها ما يكفي من المال، وأضافت أن صديقي أرسل إلي معها بعض النقود، ولكنها لن تسلمني إياها إلا عندما أعود إلى المخيم حتى لا أضيعها في الكلام الفارغ، والصعلكة مع النساوين. - عايز أشتري حاجة لمختار علي.
قالت وهي تحتسي جرعة كبيرة من البيرة: مختار علي لا يحتاج لشيء، عايز يشوفك وبس.
النادلات الجميلات يستعرضن أجسادهن الشهية أمامي ببذاءة واضحة، ودعوة صريحة للمجاسدة، وقد تجرأت إحداهن بالجلوس على رجلي فصرفتها بأدب، وقلت لها بالأمهرا إنني لا أفيد فيما ترجوه النساء من الرجال، واستخدمت هذه الجملة الطويلة؛ لأن القصيرة قد تبدو غير محترمة، بل وعدوانية، وهي لم تقم بما تجرم عليه؛ إنهن يؤدين عملهن اليومي لا أكثر، نظرت إلي باستغراب بما يعني أنها فهمت واختفت، من ثم توقف الاستعراض الجسماني البديع، لقد كنت أستمتع بمنظرهن ويعجبني أن أرى أجسادهن الجميلة تتشهاني، ولو بمقابل طالما لم أتبع أيا منهن إلى الغرفة الداخلية في الممر الضيق الذي يفصل بين غرف الشرب والسكن، كانت الصافية ترقبني بزاوية عينها وحمدت الله على شيئين؛ بأنني لا أمتلك مالا بالتالي لا أمتلك قرارا، فالصافية هي التي تشاء في أمري ما تريد، وقد لا تكون من ضمن مشيئتها النساء، والشيء الآخر أنني منذ زمن ليس بالقليل أصبت بما يشبه البيات الشتوي لدى بعض الحشرات، أي لم أعد أرغب في النساء، وعندما تأتينني «بنيات إبليس» في الحلم يكن في صورة ألم قشي، وهؤلاء النسوة ليس من بينهن ألم قشي حبيبتي، ولم أمارس الجنس فعلا مع غيرها، هي المرأة الوحيدة في حياتي، وستظل كذلك للأبد.
قالت لي وقد احتسينا ثمالة كأسينا: نمشوا «نذهب.»
صفقت، فحضرت النادلة سريعا وقفت قربي، سألتها الصافية بالأمهرا: سنتي نو؟
فكرت النادلة قليلا وهي تحملق في المنضدة، ثم ردت بصوت رقيق: حمس بر.
فأعطتها الصافية الجنيهات الحبشية الخمس، رمقتني النادلة الجميلة بنظرة أخرى، وهي تأخذ الزجاجات الفارغات والكأسين وتمضي: ها هي امرأة تدفع له الحساب، ألا يؤكد ذلك ما قاله لي سابقا بأنه مخصي، مسكين!
ومضينا نطلب شجرة الموت، لم أتعرف على مختار علي من الوهلة الأولى ، فقد بدا لي أكبر من عمره بعشرات السنوات، وصار نحيفا، وقد برزت عظام وجهه، وربما أصبح أكثر قصرا مما تركته قبل شهور كثيرة، لاحظت ذلك عندما نهض مختار علي من مرقده ليحتضنني بمحبة صادقة، كان نظيفا ويفوح من جوانبه عبق البخور، قال لي: كنت أعرف أنك ح تزورني قبل ما أموت.
أكدت له أنني جئت لآخذه معي، وسآخذه معي، ولن أتركه ورائي في ظل هذه الشجرة إطلاقا، كانت شجرة الموت العملاقة تسمع كل ذلك، وهي تدلي أفرعها الكبيرة التي تمتد أكثر من عشرة أمتار في الفراغ، مثل أذرع مخلوق أسطوري عملاق، ظليلة وكثيفة الخضرة طوال العام، لا يعرف من هو الشخص الذي زرعها، وهذا ليس غريبا؛ لأن أشجار النيم عادة تزرع بواسطة الطيور التي تبتلع الثمار الناضجة، وتطير بها مئات الأميال في هجراتها الطويلة وتزرقها حيثما حطت رحالها، يقدر عمرها بأكثر من مائة عام؛ حيث إن كل الأحياء بمدينة الحمرة رأوها بهذه الشاكلة وهم أطفال، لعبوا تحتها وهم صبيان، عايشوها وهم شيوخ، تغرد عليها أطيار الكروان والببغاوات الكبيرة الحجم في أواسط الفصل المطير، وتسكنها أطيار الرهو البيضاء في هجرتها الصيفية، يرقد تحتها الآن سبعة أشخاص، خمسة من الجنقو والاثنان من الإثيوبيين، يحكي عنها الناس حكايات مرعبة، ويقال إنها تخبر الشخص الذي يلجأ إليها بيوم موته، تهمس له به في أذنه عند الصباح الباكر، صوتها أشبه بصوت امرأة عجوز، ويقال إنها تحتفظ بروح الميت معلقة في أحد فروعها إلى يوم القيامة، كما من الشائع هنا الحديث عن بكائها ودموعها، كلما مات أحدهم في ظلها، أو على حسب التعبير المحلي هنا: «عندما يسلمها الأمانة»، ولكن أغرب قصة حكيت عنها هي؛ أن أحد الجنقو جاء لينهي مشوار حياته بها، بعد أن انغلقت قدامه وخلفه سبل الحياة، وبلغ به الفقر والمرض والجوع مبلغا عظيما، ولكنه في يوم ما من أيام إقامته تذكر أن لديه بعض جوالات السمسم مع أحد التجار بسوق همدائييت، وأنه إذا اتصل به، أو ذهب إليه، وأخذها قد تعيشه لما يقارب العام وتوفر له مصروف العلاج؛ لذا قرر أن يغادر شجرة الموت إلى همدائييت، حمل القوقو خاصته، ودع أصحابه، وعندما مشى نحو الخارج، وقبل أن يغادر ظل الشجرة هبط عليه أحد فروعها، اقترب من أذنه، وهمس له بصوت امرأة عجوز: ماشي وين؟ شايل الأمانة معك؟
ولكنه دفع الفرع بعيدا عنه، وأراد أن يهرب، غير أن الفرع أمسك به، وسحبه للظل، وأصيب الجنقوجوراي المسكين بالشلل أثر الرعب والخوف، ولم يستطع أن يغادر الشجرة مرة أخرى إلى أن سلمها الأمانة، هي روحه الغالية، في صبيحة اليوم التالي.
قال لي مختار علي أنه لا يستطيع مغادرة هذا المكان إلا لقبره، وأضاف: الشجرة كلمتني، كلمتني، بكرة الصباح إن شاء الله ح أسلم الأمانة.
كان يتحدث بثبات بالغ، وبإيمان عميق، لولا أن الصافية حذرتني من البكاء عند الشجرة لبكيت؛ لأن من يبكي تحتها يموت تحتها أيضا، وأنا لا أريد أن أموت هنا، على الأقل الآن.
أعطيته سيجارة برنجي، ابتسم لي، ساعدته في العودة لفراشه الخشن، كان قربه القوقو، تلك الحقيبة الوفية التي لازمته لأكثر من عشرين عاما: أعرف أنها ستقتلني في يوم ما، ستودعني إلى باب القبر، وتبقى هنالك تضحك علي.
نبهتني الصافية بأن الساعة شارفت على الخامسة، وعليها أن تعيدني لمعسكر اللاجئين، وتعود مرة أخرى، ووعدتها بأن أحضر غدا لتشييع جثمان مختار علي، سلمتني المال الذي أرسله صديقي لي، وكنت قد تسلمت منها الطعام المعلب، والملابس بالمعسكر، عندما جاءتني في صبيحة هذا اليوم، وقبل أن تصطحبني إلى شجرة الموت، كنت بالفعل في حاجة بالغة لذلك المال، على الرغم من أن تسفاي ضابط الرعاية الاجتماعية كان قد فاجأني بهدية، ومعها بعض المال من أجل طفلي وزوجتي سابقا ألم قشي من حر ماله؛ لعلمه بأنني أعدم القرش الواحد، وسأكون محرجا أمام طفلي وأنا أراه لأول مرة، أتركه دون أن أقدم إليه شيئا، كان يعرف أن ذلك محزن جدا، صباح اليوم التالي استيقظت مبكرا، غسلت نفسي جيدا، لبست الملابس الجديدة التي أرسلها لي صديقي، وأخذت المال، والطعام المعلب ، وهدية تسفاي، آملا أن أقدمها لأم طفلي، ومضينا في لاندروفر 110 نحو الحدود السودانية، في الطريق كانت تطوف برأسي أفكار شتى، لم أكن أفكر في ألم قشي وولدي وحدهما، وهو الأوجب وما يظن الأمميون أنه ينبغي أن يحدث، ولكني كنت أفكر في أمور مختلفة وأناس شتى وعلى رأسهم ود أمونة، وكنت قد عرفت من بعض الجنقو الذين انضموا أخيرا لمعسكر اللاجئيين بالحمرة أن العازة أطلقت من السجن، بعد قضاء زهاء الخمسة أعوام به، وذلك عندما عرف ود أمونة السبيل إلى مسئول كبير في الخرطوم، قدم له ود أمونة خدمة خاصة جدا، ولكن أكثر الأخبار إدهاشا عن ود أمونة، وصلتني فيما بعد، أي بعد عشر سنوات من هذه الأحداث، وأنا في المهجر بالولايات المتحدة الأمريكية، هي أنه أصبح وزيرا اتحاديا باسم كمال الدين اليماني، كيف حدث ذلك؟ تلك قصة سوف يحكيها لكم أي فرد من الحلة، فيما يشبه الندوات يوم مريسة أي سيدة جميلة كانت، أو تجدونها في كتاب صديقي الذي أشرت إليه سابقا الموسوم «بثورة الجنقوجورايات»، أو في مذكرات ود أمونة الخاصة التي صدرت ببيروت بعنوان «حياتي»، تطرق سيادته فيها لأشياء كثيرة تخص حياته، لقد كان صريحا جدا في بعضها، ولكنه أيضا كان شديد الغموض في البعض الآخر، أي في البعض الخاص جدا، الذي لا يهمنا بقدر ما يهمه هو شخصيا، واستعرض في هذه المذكرات القيمة كفاحه من أجل البقاء، بل من أجل أن يصبح إنسانا يشار إليه بالبنان، وذكر فيه في عدة مواقع اسم العازة، وألم قشي، وأشار للأم باسمها الحقيقي وهو «استيفانيس»، وهذا اسم لا يعني شيئا لمحبي الأم؛ لأنهم ببساطة لا يعرفونه، ولقد عبت عليه ذلك؛ لأن الأم قدمت له الكثير، وكان دائما ما تفخر به، وهو في ذلك الوقت لا يسوى شيئا ذا بال، ولم يرق لي أيضا ادعاؤه بأنه كان أحد قادة ثورة الخراء العظيمة ضد موظفي البنك، بل صنع لنفسه دورا مميزا بها، وأستطيع أن أقول إنه سطا على إنجازات صديقي كلها في هذه الثورة ، في الوقت الذي وصفنا فيه أنا وصديقي بالمتعنظين، ولا أدري ماذا كان يقصد بها بالضبط، ومرة أخرى وصفنا بالحالمين، وذلك عندما تحدث عن ثورة الجنقوجوراي، وحملهم للسلاح، ولكنه لم ينس أن يذكرني بأنني كنت أحد الذين ساعدوه في أن يفهم نفسه، وقال إنه لا يخجل من تاريخه الحزين؛ لأنه لم يصنعه بيده، صنعته الظروف التي حوله، وهو قام بأحسن ما يمكن عمله لشخص في حالته وفي ظروفه التي وصفها بالخاصة جدا، أما التاريخ الذي يجب أن يحاسب عليه هو التاريخ الذي بناه بنفسه، وهو تاريخ النجاح، خروجه من دوائر «الفقر والوحل»، نعم، لقد استخدم هاتين الكلمتين.
أما أجمل وأصدق ما بهذه المذكرات هو الجزء الخاص بالسجن، ولقد استفدت منه كثيرا جدا في الجزء الأول من هذه الرواية الموسوم «بالسجين، السجن والسجان»، ولو أنني لم أعتمده كاملا، ولكنه كان لي بمثابة العظمة التي بنيت حولها اللحم، وللأمانة العلمية، وحفاظا على الحق الأدبي أنني بنيت شخصيتي السجان الطباخ، والعازة، وفقا للصورة التي رسمها لهما سيادته في مذكراته، ومعظم النقد الذي قدم لهذه المذكرات من الأخلاقيين، ودعاة السترة كان فيما يتعلق بشأن السجن، وقد كتب أحدهم بأنه كان على السيد الوزير أن يسرد تاريخ مدينة القضارف العريق، ويتحدث عن البطل النور عنقرة، ذلك الوجه المشرق للمدينة، بدلا من الخوض في قاذورات السجن، وأوحاله، وأدان تلك الإشارات الجنسية التي تبدو واضحة في مذكراته، عندما تحدث سيادته عن طفل صديق له بالسجن، كان يعتدي عليه الطباخ جسديا، أو شيء قريب من ذلك.
أما الشيء الذي فشلت المذكرات في أن تبرزه بصورة جيدة، وبدا مشوها وناقصا ومرتبكا، فهي شخصية الطفل صديق ما أصبح فيما بعد سيادة الوزير بالسجن، وهما طفلان، الطفل الذي صور ضحية لكل شخص وكل زمان ومكان، الذي نعتقد بل نؤمن إيمانا قاطعا أنه ما يعرف في روايتنا بود أمونة، على كل؛ هذه المذكرات متوافرة في خارج السودان بكثرة، وقد تحصلون عليها بمجهود قليل.
طاف بذهني أيضا: الفكي علي، أبرهيت، أدي، بوشي الجميلة ، عالم لا أول له ولا آخر، إلى أن توقفت العربة اللاندروفر عند البار الذي يقع على الضفة الشرقية من نهر سيتيت، مواجها الضفة الغربية التي تقع في السودان، كنت أعرف هذا البار، فقد قدمت إليه مرات كثيرة، ولي فيه ذكريات حلوة ومرة أيضا، حيتني البارستات اللائي قد تعرفن علي، حيتني «القنيش» صاحبة البار، فيا طالما سكرنا معا وتشاجرنا، كم سبحنا معا في النهر، سكارى وعراة كما ولدتنا أمهاتنا، كانت ابتسامتها التي استقبلتني بها تحكي كل ذلك، وكنت أبحث عن ابني، وألم قشي، في كل من ألتقيه، إلى أن قادني تسفاي وموظف اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى غرفة خلفية صغيرة، وجدتها مليئة تماما بألم قشي، وطفلي الذي سميته مباشرة محمد وهو اسم أبي، كانت ألم قشي في أبهى حالاتها، أرق، أحلى، أشهى، أنضر، وأروع ما تكون المرأة، يفوح منها عبق عطر جستس الذي كنا نفضله دائما، ومقلتاها النجلاوان مكحولتان بدقة تعرف بها، طلبت منها طلبا لا أرجو له إجابة، ولكن لمجرد أن أشعرها بأنني ما أزال أحبها؛ لأنني حقيقة أحبها حبا لم ينقصه صدها، هجرها، وجنونها، مثقال ذرة؛ أن تأتي لتعيش معي في المعسكر بالحمرة، نربي طفلنا معا إلى أن نجد لنا مخرجا، قالت لي بالتجرنة وهي تبتسم، وتعبث برأس الطفل، في خجل: أني نقمؤ مفي.
إلى الآن لا أصدق ما سمعت، أبدا لم أكن أتوقع أنها جاءت لتبقى معي، كم هو مدهش حقا عالم النساء، بل كم هو محير ومجنون! ولا أستطيع أن أعبر عن إحساسي بتلك اللحظة حتى بعد خمسة عشر عاما، حينما بدأت في كتابة روايتي الأولى الموسومة بعنوان: الجنقو مسامير الأرض، وكنت وألم قشي وأبناؤنا الثلاثة بالمهجر، في ولاية فلوردا الأمريكية.
في طريق عودتنا للمعسكر بعربة اللاندروفر، كنت أحمل طفلي الجميل محمدا، وبجانبي تجلس ألم قشي، تنظر إلي بين الفينة والأخرى وتبتسم، كنت أسعد رجل في العالم، وبينما أنا أتفحص طفلي، وأبحث في ملامحه عن تفاصيل أسرتنا، إذا بي أرى أسفل ظهره شامة صغيرة زرقاء، تبدو في ضوء الصباح الساطع كما ذلك الرسم الذي خطه لي على الأرض المسلاتي المريب: خاتم النبي سليمان.
خشم القربة
ديسمبر 2004 إلى 12 يناير 2009
صفحة غير معروفة