قلت له: نعم، نعم.
وكان يدور في رأسي استشهاد الشابين أحدهما بيد يزيد بن معاوية، والآخر بيد معاوية ابن أبي سفيان نفسه، في أزمنة غابرة بالجزيرة العربية والشام.
أحوال: ثورة الخراء
نحن الآن في شهر مايو، نهاية مايو، أقمت منذ أكثر من شهر في التاية استعدادا للموسم الزراعي الجديد؛ حيث إنني اشتريت أرضا جديدة مقدارها عشرة أفدنة، وتحتاج إلى تنظيف، تكثر بها أشجار الكتر، وقليل من أشجار اللعوت، وبعض الطلحات، كان معي عاملان يساعدانني في أم بحتي؛ حيث إنه ليست لي خبرة في شأن الأرض، أحدهما مختار علي نفسه، والآخر هو إبراهيم عثمان الذي يلقب بالشايقي، ولكنه في الأصل جعلي، وقام والداه بتشليخه شلوخ الشايقية؛ عملا بنصيحة بعض الأقارب؛ حتى يتجنب الموت؛ لأن كل إخوته الذين سبقوه كانوا يموتون وهم في عمر دون الخامسة، وقد نجحت الحيلة وعاش، وهو الآن على مشارف الخمسين، الاثنان جنقوجورايان نشيطان، عركا الأرض طويلا، يفهمان في النظافة، الزراعة، في الكديب والحصاد، إضافة إلى خبرتهما في الحيل المحلية على مقاومة الآفات بأنواعها، ولا يفوقهما في ذلك سوى الدنباري المتحكم البارع في مصائر الجراد، كلاهما دون أسرة.
كان مختار علي هو الأكبر سنا؛ حيث إنه في أواخر خمسينياته، أما الشايقي فعمره فوق الأربعين بقليل، وهو شاب قوي البنية طويل، له بشرة حمراء وشارب كث، كلا الرجلين أمي لا يفك الحرف، عملنا في الأرض منذ مارس، وكنا نقيم بصورة شبه دائمة في قطية وراكوبة، القطية نخزن فيها طعامنا ومتاعنا، ونأوي إليها إذا برد الجو، الراكوبة للمقيل والونسة، أما مطبخنا فهو الفضاء الرحب، حيث نستخدم بعض الحجارة كموقد، وكل مكان لا يراك فيه الآخرون هو مرحاض، كنا نحصل على الماء عن طريق الحمير من نهر سيتيت عبر مشرع زهانة؛ لأنها الأقرب ، ونحتفظ به في براميل كبيرة من الحديد، وظل مشوار الماء هو ما يربطنا أسبوعيا بالقرية؛ حيث إن الطعام متوفر لدينا: الكجيك والشرموط، أم تكشو، الكمبو، الفرندو الويكة، والملح والشطة، ولدينا كمية من دقيق الفيتاريتا يكفي لشهور كثيرة، وإذا أضفنا إلى ذلك ما تجود به الغابة من لحوم طازجة شهية في شكل فئران، أرانب، طيور، أبوات قدح، حلاليف، أصلات، وغيرها، نجد أنفسنا في جنة صغيرة بها كل ما يشتهي الجنقوجوراي، على كل مسألة الطعام عند الجنقوجوراي سهلة بسيطة؛ لأن الجنقوجوراي يأكل كل ما طار، وكل ما سبح، وكل ما مشي على وجه الأرض ما عدا بني الإنسان، ومنذ أن قررت أن أكون واحدا من هذا المكان أي جنقوجوراي؛ قررت أن أحيا كشخص حقيقي ينتمي إلى كل شيء فيه، فكرا وممارسة، ولو أنني اتخذت أقرب الطرق التي تربطني بالمكان والناس وهي المرأة، ولكن هناك مرارات اجتماعية علي أن أتعود عليها، وأهمها نظام العمل الشاق، استعنت أيضا بالضمان الاجتماعي الذي تحصلت عليه في الشهر السابق، دفعت منه ثمن الأرض، وتركت ما تبقى من مال لألم قشي؛ لتدبر به حالها بعد أن قللت من عملها بميس شركة الاتصالات؛ حيث إنها استخدمت امرأة أخرى معها للمساعدة على أن تقاسمها الراتب الشهري، في الحق كنا نحافظ على طفلنا لا أكثر.
الشايقي ومختار علي لا يكلفاني كثيرا، بالإضافة إلى الطعام اليومي الذي نشترك فيه جميعا يحتاجان للسجائر، والتمباك، والمريسة، والأخيرة يصنعها الشايقي بنفسه من بقية اللقمة والكسرة مضافا إليها بعض الدقيق من مخزون الميس، وهي نوع من المريسة الخفيفة التي تسمى بقنية، وهي أقرب للعسلية، وهما لا يتناولانها في الحلة؛ حيث تسمى بمريسة الفقرا، أنا لا أفضلها كثيرا، يعرفني الناس بحبي لعرقي البلح والمستورد، وذلك عندما يكون لدي فائض مال، أما عندما أكون مفلسا فأنا من التائبين عن الخمر، ولا أشربها بالدين مطلقا، تخلصنا من الأشجار الكبيرة جميعا، وقمنا بصنع عشرين من كمائن الفحم الضخمة، كان عملا متعبا، ولكنه لا يخلو من متعة هي لذة الإنجاز، الإحساس بخلق قيمة من العدم، كنت قد أعلنت مسبقا على أنني سأتقاسم المردود المالي للفحم بالتساوي بيني ومختار علي والشايقي، ما سرع من العمل وجوده، فبعنا ثلاث شحنات من الفحم إلى سماسرة الفحم بالقضارف، وخشم القربة، والشواك، بعناه تسليم مشروع، أرخص سعرا، ولكنه يجنبنا إشكاليات الشحن، والترحيل، والجبايات الكثيرة والرشاوى والرسوم الطارئة التي يبتكرها الشرطيون بمجرد أن يروا عربة الفحم، بدأت وفادة الجنقو للحلة تتكثف حين أخذ هطول المطر في الحبشة يتزايد، وبدأ موسم الزراعة في الشرق عامة، ونتيجة للنقص في المال والرغبة في الزراعة واللحاق بالموسم برزت حكاية البنك مرة أخرى إلى السطح، ويعرف الجنقو جميعهم أن البنك قام بتسليف كبار المزارعين من مدينة القضارف ومحلية الفشقة، وحتى خشم القربة، وكسلا، وقام بمدهم بتراكتورات ودساكي، وأعطاهم نقدا قروضا اسمها السلم، كان الجنقو يتساءلون: لماذا لم يبت البنك في طلبهم؟ لماذا التمييز ضدهم، وهم أعرف الناس بالأرض؛ هم الذين ينظفونها، يزرعونها، ويحصدونها، ويحاربون آفاتها، هم الذين ينتجون العيش والسمسم؟ لماذا لا يثق البنك بهم؟ وأخذ الجنقو يتداولون الأمر في تجمعاتهم، كانوا في هذا الشهر البائس مايو يعانون من الفقر المدقع؛ حيث لا عمل ومن ثم لا نقود، لا مهرجانات لشرب المريسة التي ارتفع سعرها نسبة لارتفاع سعر العيش، لكن كرم الفداديات يسع الجميع، فيمكن الشرب عن طريق الشخط في الحائط، أو عن طريق الأمنيات ورهن الزينة؛ من مسجلات أو نظارات شمسية، أو قمصان أو راديوهات، أو أي أشياء أخرى لها قيمة، أو ليست لها قيمة أيضا؛ لذا لا يزال الجنقو يتجمعون في بيوت الخالات، أدرنا معهم حوارات عميقة وطويلة عن البنك ودوره، وقد تحمس كثير منهم للفكرة؛ أن نذهب إلى البنك مرة أخرى ونطلب منه أن يقدم لنا قرضا محدودا وتراكتورا بدسك، وأن نقدم له ما نستطيع من ضمانات، وتبرع عشرون شخصا يمتلكون بيوتا مسجلة بأسمائهم أن يقدموها للبنك رهنا، وتبرعت أنا بمشروعي الزراعي الصغير، ربما الذين فوجئوا بتجمع الجنقو أمام البنك هم إداريو البنك، ورجال الأمن فقط، ولكن جميع سكان الحلة رجالا ونساء وأطفالا كانوا يعرفون أن الجنقو ذاهبون إلى البنك يوم السبت، وأن لهم طلبا واحدا، «جربونا في مشروع واحد وتراكتور واحد وسلفية لا تتعدى خمسمية ألف جنيه»، قدرنا عددنا بمائة من الجنقو والجنقوجورايات وكثير من الأطفال.
انضم إلينا صغار التجار الذين حرمهم البنك من التمويل؛ فهم أيضا كانوا غاضبين، وقد أفشوا لنا كثيرا من أسرار علاقة البنك بكبار التجار وأصحاب المشاريع الكبيرة، وقالوا لنا بالحرف الواحد: «إن البنك يريدهم أن يبقوا عمالا وشغيلة تحت إمرة المزارعين الكبار حتى يضمن عودة سلفياته التي قدمها لهم»، بالتأكيد لم يحاول مدير البنك الاستعانة بالشرطة ورجال الأمن؛ لأنه لم تكن هنالك مظاهرة ولا تهديد باستخدام العنف، إنما كانت مفاوضة قدتها أنا ومعي الصافية والبقية يسمعون وينظرون ويشاركون بالصمت والتنظيم وعدم إثارة أعمال الشغب، كان لمدير البنك تحفظان: الأول هو أنه لا يستطيع أن يقدم سلفية لجماعة غير رسمية؛ فلا هم اتحاد ولا هم شركة مسجلة، مجرد جماعة؛ حسب تعبيره؛ لا رأس لها ولا قعر، أما التحفظ الآخر فقد كان أيضا واضحا: أنا عايز ضمان، ضمان أرض لها قيمة ومسجلة بأوراقها ومستنداتها، أو ضمانة مالية أو عقار؟ دي سياسة البنك، قلنا له: لدينا عشرون قطعة سكنية بالحلة، ومشروع صغير من عشرة أفدنة، وليس لدينا عقارات في مدن، ولا منقولات ذات قيمة مالية كبيرة، ولا أراض أخرى، وإلا ما كان هذا حالنا؛ فقراء وصغار مزارعين، و... و... وأكد أن البنك يدعم وسوف يدعم الفقراء وصغار المزارعين، ولكن بشروط أمان تضمن له حقه، وأنه لا يستطيع أن يتخطى سياسة البنك، ثم أضاف مراوغا: أنا ح أنقل كل الحوار اللي دار بيننا إلى رئاسة البنك في الخرطوم، ونشوف الرد شنو بإذن الله.
قالت له الصافية التي كانت ترفل في صمت عميق منذ أن دخلت معي إلى مكتب المدير الفاره: يعني ح تدونا السلفية ولا لا؟
قال لها المدير بريق ناشف: حتى الآن لا.
التفتت إلي الصافية قائلة: قوماك نمشي، القاعدين ليها شنو؟
صفحة غير معروفة