وقد قيل لجميل كل سبب يوجب عليه، لو ملك اختياره، أن يسلو بثينة ويقلع عن هواها، فكان جوابه لكل سبب من هذه الأسباب أنه لا يستطيع! ولم يكن جوابه أنه يجهل تلك الأسباب أو أنه يعرفها ولا يراها موجبة عنده للتفكير في السلو والفراق.
قال له أبوه: «يا بني! حتى متى أنت عمه في ضلالك، لا تأنف من أن تتعلق بذات بعل يخلو بها وينكحها وأنت عنها بمعزل، ثم تقوم من تحته إليك فتغرك بخداعها وتريك الصفاء والمودة وهي مضمرة لبعلها ما تضمره الحرة لمن ملكها، فيكون قولها لك تعليلا وغرورا، فإذا انصرفت عنها عادت إلى بعلها على حالتها المبذولة ... إن هذا لذل وضيم! ما أعرف أخيب سهما ولا أضيع عمرا منك، فأنشدك الله إلا ما كففت وتأملت أمرك؛ فإنك تعلم أن ما قلته حق، ولو كان إليها سبيل لبذلت ما أملكه فيها، ولكن هذا أمر قد فات واستبد به من قدر له، وفي النساء عوض.»
وهذا كلام مقنع لا ينكره منكر، ويعلم جميل أنه حق كما قال أبوه.
فإذا علم المرء هذا ولم يعمل به فليس لذلك إلا علة واحدة وهي شلل الإرادة، وأنه في حال كحال المريض الذي لا يملك الشفاء، بل ربما كان شرا من هذا المريض في استسلامه لدائه؛ لأن المريض قد يريد الشفاء ويتوسل إليه بوسائله التي في يديه، ولكن العاشق الذي برح به العشق، كما برح بجميل مشلول الإرادة حتى عن التوسل بما يستطيع أن يحاوله من وسائل الشفاء.
وهكذا كان جواب جميل لنصيحة أبيه، فقال له: «إن الرأي ما رأيت والقول كما قلت» ثم قال: «ولكن هل رأيت قبلي أحدا قدر أن يدفع قلبه هواه؟ أو ملك أن يسلي نفسه؟ أو استطاع أن يدفع ما قضي عليه؟ والله لو قدرت أن أمحو ذكرها من قلبي أو أزيل شخصها من عيني لفعلت، ولكن لا سبيل إلى ذلك، وإنما هو بلاء بليت به لحين قد أتيح لي، وأنا أمتنع من طروق هذا الحي والإلمام بهم ولو مت كمدا، وهذا جهدي ومبلغ ما أقدر عليه.»
وقال له ابن عمه روق مقالة الند للند الذي يفهمه ويستثير نخوته بالمناظرة في الفتوة والمقاربة في السن:
إنك لعاجز ضعيف في استكانتك لهذه المرأة وتركك الاستبدال بها مع كثرة النساء ووجود من هو أجمل منها، وإنك منها بين فجور أرفعك عنه، أو ذل لا أحبه لك، أو كمد يؤدي إلى التلف، أو مخاطرة بنفسك لقومها إن تعرضت لها بعد إعذارهم إليك، وإن صرفت نفسك عنها وغلبت هواك فيها وتجرعت مرارة الحزم حتى تألفها، وتصبر نفسك عليها طائعة أو كارهة ألفت ذلك وسلوت.
وهذا كلام كله حزم وسداد، ولكن متى كان الهوى في اشتداده إلا مخالفة للحزم والسداد؟
فما نصح أب فتاه بأحكم ولا أصوب من النصيحة التي سمعها جميل من أبيه.
وما استثار ند ندا بأبلغ ولا أهيج للنخوة من هذا الكلام الذي قاله له ابن عمه.
صفحة غير معروفة