تمهيد
عصر جميل
مكانته في الصناعة الشعرية
مزاجان
بعض أخباره
تمهيد
عصر جميل
مكانته في الصناعة الشعرية
مزاجان
بعض أخباره
صفحة غير معروفة
جميل بثينة
جميل بثينة
تأليف
عباس محمود العقاد
تمهيد
كتبت هذه الرسالة عن جميل بن معمر الذي شهر بثينة بحبه حتى اشتهر بها، فسمي جميل بثينة، وكان في زمانه إمام العشاق العذريين غير مدافع، وأستاذ المدرسة الغزلية التي تجري على طريقته في النسيب والتشبيب، وهي مدرسة الشعراء المحبين الموكلين بمحبوبة واحدة، ينظمون الشعر فيها ولا ينظمونه في غيرها، وقلما يطرقون بابا من النظم غير باب النسيب.
وقد اعتمدنا في أخباره على مصادر كثيرة، لم نر بينها ما هو أولى بالرجوع إليه، والاعتماد عليه من كتاب «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني؛ لأنه أقرب إلى التمحيص والتثبت فيما يرويه، فضلا عما تعودناه منه في أمثال هذه السير من الجمع والاستيفاء.
والذي يبدو لنا من مجمل أخباره التي راجعناها أنه «شخص طبيعي»، تصدر منه الأقوال والأعمال التي يعقل أن تصدر عن كل موصوف بمثل صفاته، وإن وقع فيها الخلط والاضطراب، كما يقع في أخبار جميع الأحياء الذين نراهم رأي العين.
فهو سند صالح لمعظم أقواله وأعماله، كما أن أقواله وأعماله مادة صالحة «لتكوين» شخص على مثاله، والترجمة لحياة كحياته.
فإذا قرأنا شعره وحوادث غرامه فهمناه، وإذا فهمناه سهل علينا أن نعود إلى ما قاله وما قيل فيه، فنعرف منه الزيف والصحيح، ولو على سبيل الترجيح.
صفحة غير معروفة
وفحوى ذلك كله أن ما قاله وما قيل فيه لا ينجلي بعد الغربلة والمضاهاة عن شخص مستحيل، ولا عن أجزاء مفرقة لجملة شخوص كأنها الأشلاء التي لا تكمل لها صورة، وقد تتعدد فيها الجوارح والأعضاء فوق ما يراد للبنية الواحدة.
ونعتقد أن شعراء العشق جميعا في عصر جميل يصدق عليهم من هذه السمات ما يصدق عليه، مع اختلاف يسير في الوضوح والتحقيق.
فهم جميعا ثمرة عهد لا بد أن يثمرهم. وإنما وجه الغرابة أن تتهيأ أسباب ظهورهم ولا يظهروا، وليس وجه الغرابة أنهم ظهروا في تلك البيئة وفي ذلك الزمان.
وقد تهيأت تلك الأسباب كل التهيؤ، كما لخصناها في بعض فصول هذا الكتاب، فهم إذن شخوص طبيعيون، تحيط بهم أحوالهم الطبيعية، ومن هذه الأحوال الطبيعية أن يتعرضوا للخلط والتناقض أو للروايات المتشابهات عن هذا وذاك.
فمن الطبيعي أن تختلط أخبار بعضهم ببعض؛ لأنهم جميعا عشاق، وجميعا من أهل الحجاز وما حوله، وجميعا من أبناء عصر واحد، ينظمون بلغة عصر واحد، وينسجون على طريقة واحدة، فإذا تشابهت أقوالهم وأخبارهم حتى جاز الاختلاط بينها، فلا غرابة في ذلك؛ بل لعل الغريب ألا يقع الاختلاط مع هذا التشابه الكثير.
ومن الطبيعي أن تحتمل أخبارهم المبالغة إلى أقصاها؛ لأن المبالغة مقرونة بشهرة كل «بطل» في باب من الأبواب، فلا يشتهر أحد بالشجاعة أو بالكرم أو بالمجون، إلا أضاف إليه الناس كل ما يتصل بهذه الشهرة، وتنافسوا في التزيد عليها والتهويل فيها، وما من بطل خرافي أضيف إليه من المبالغات فوق ما أضيف لعلي بن أبي طالب حتى حارب الجن، ولحاتم الطائي حتى جاوز السفه، ولأبي نواس حتى استنفد موبقات الناس وأفرغ جعبة الظرفاء أصحاب الملح والنوادر، وكلهم مع هذا شخوص طبيعيون، لا تمنعنا المبالغة أن نردهم إلى قرار.
ومن الطبيعي أن تتناقض أخبار أولئك الشعراء والعشاق؛ لأنهم شخوص حقيقيون، يتعدد الرواة عنهم والمتحدثون بأخبارهم، وليسوا من اختراع مخترع واحد، يصوغهم كلهم في قالب واحد، ويعرضهم كلهم في مخيلة واحدة؛ فهم شخوص طبيعيون.
ولن يكونوا طبيعيين حتى يتعرضوا لمثل ما تعرضوا له من التناقض والتشابه والمبالغة والإحالة.
وأقربهم إلى الطبيعة - فيما نرى - جميل صاحبنا في هذا الكتاب؛ فهو لا يتفق له وجود - حيث وجد - إلا على الصورة التي تجملها لنا قصائده وأنباء رواته، وعلاقته بمعشوقته بثينة مستقيمة على النهج الذي ينبغي أن تستقيم عليه، وإخلاصه لها أو إخلاصها له هو الإخلاص الذي ينطوي عليه كل عاشقين مثلهما، لا هو في السماء، ولا هو في الخيال، ولا هو فوق طاقة الناس، ولكنه الإنسان حيث كان، واحد في كل مكان وزمان.
وقد عنانا في هذا الكتاب أن نوفق بين البواعث النفسية والعوامل الطبيعية في سيرة هذين العاشقين، وأن نفهم الأدب على مصباح من علم النفس ومن حقائق الطبيعة، فلا نرجع به إلى لفظ تلوكه الأفواه، بل نرجع به إلى وشائج طبع تمتزج بالأبدان والأذهان.
صفحة غير معروفة
عصر جميل
عاش جميل في القرن الأول للهجرة.
وهو قرن حافل بأحداث السياسة، تحولت فيه الدولة الإسلامية من نظام إلى نظام، ومن قطر إلى قطر، ومن سيرة إلى سيرة، فخرجت من الخلافة إلى الملك الموروث، ومن الحجاز إلى الشام، ومن بساطة الحياة الدينية إلى بذخ المعيشة الحضرية، التي جمعت بين بقايا حضارة الفرس وبقايا حضارة الروم.
وليس بنا في هذه العجالة أن نسجل حوادث العصر كله، أو نتعقبها من بدايتها إلى نهايتها تعقب تفصيل أو تعقب إجمال، فكل أولئك لا يعنينا فيما نحن فيه إلا من طرف واحد؛ وهو الطرف الذي يتصل بحياة شاعرنا جميل، ومن شابهه من الشعراء في بيئته وزمانه.
وأوجز ما يقال في تلك البيئة: إنها البيئة التي تخرج أمثال جميل من شعراء البادية المحيطين بالحضارة الحجازية، والمتصلين بحواضر الإسلام في مصر والشام.
فالعصر الذي عاش فيه جميل بالحجاز كان عصر استئناف للحياة الحجازية قبل ظهور الدعوة الإسلامية، ولكن على نحو جديد.
وكان المعول الأكبر في الحجاز على حياة المدن التي يقصدها الناس للتجارة وقضاء المناسك السنوية، وقد طال عهد تلك المدن بالتجارة واستقبال القصاد، فاجتمع فيها الثراء بأيدي السراة وأصحاب القوافل والأموال الغادية الرائحة بين رحلة الصيف ورحلة الشتاء، واجتمع مع الثراء ما يتبعه أبدا من الترف واللهو والإباحة وإيثار الدعة والرخاء.
ثم ظهرت الدعوة الإسلامية، فشغلت الناس عن ذلك كله بالجهاد بين المسلمين والمشركين، ثم علت كلمة الدين في عهد النبي - عليه السلام - وفي عهد خلفائه الراشدين، فعز على أصحاب اللهو والترف أن يتمادوا فيما كانوا فيه، فاهتدى منهم من اهتدى، واستتر منهم من بقي على ضلاله، ووجد أكثرهم منصرفا له عن معيشته الأولى في هذه المعيشة الدينية الجديدة، وفي شواغل السياسة والحرب التي كانت تزدحم بها عواصم الدولة الإسلامية، وهي يومئذ عواصم الحجاز.
ثم ارتفعت رقابة الخلفاء الراشدين عن تلك العواصم، وتيسر للمترفين ما كان متعسرا قبل ذلك من ضروب اللهو والمتعة، مع اختلاف محسوس تقضي به رعاية الدين.
وانتقلت الدولة من عواصم الحجاز إلى عواصم الشام، فتفرغ أولئك المترفون لحياة الفراغ التي لا رقابة عليها، وربما تجاوز الأمر قلة الرقابة إلى التشجيع على حياة المجون والبطالة؛ لأن أصحاب الدولة الجديدة كانوا يخشون من أبناء الرؤساء في الحجاز أن ينصرفوا عن حياة الفراغ إلى حياة الجد والطموح، فليس في جدهم وطموحهم أمان للدولة الجديدة، وإنما الأمان لها - كل الأمان - أن يلعبوا ويرتعوا، ويجتمعوا على اللغو والفضول وإيثار الدعة والرخاء.
صفحة غير معروفة
فاستأنفت الحواضر الحجازية تاريخا قديما طويلا في اللهو والمجون، وعادة «الظرف» المأثور في عرف أولي النعمة أن يصبحوا، ويمسوا بين المنادمة والمسامرة، وأحبها وأشيعها حديث الغزل ووشايات الغرام.
هذه الحياة عدوى لا يسلم منها من عاش فيها، ولو كان مطبوعا على الجد والطموح؛ لأنها كالجو الذي يتنفس فيه كل متنفس يشاء أو لا يشاء، وغاية ما فيها من فروق أن البنية السليمة تقوى على أنفاس ذلك الجو من حيث تضعف عنه البنية السقيمة، أما الهواء الذي يتنفسونه جميعا فلا اختلاف فيه.
فمن أشجع الرجال الذين نشئوا في تلك البيئة، ولا ريب كان مصعب بن الزبير سليل الشجعان ووريثهم في شمائل النبل والشمم والمضاء.
وكان له من الجد ما يشغله عن معيشة أهل البيئة التي نشأ فيها، وينجيه من أوهاق المتعة التي يتمرد عليها من طبع على غراره، لو كانت هناك منجاة.
كان مع أخيه عبد الله صاحبي ملك ينافس ملك بني أمية، وتولى البصرة والكوفة والعراق فضبط أمورها واستبقاها زمنا على الولاء له ولأهل بيته، ونهض عبد الملك بن مروان لقتاله بنفسه، فأنفذ إليه الجيوش وراء الجيوش، فكان يبرز لها ويضربها ويفرق شملها، ثم أوفد إليه أخاه محمد بن مروان يعرض عليه الأمان وولاية العراقين ما دام حيا وصلة من المال تبلغ ألفي درهم، فأبى مصعب إلا أن يقاتل حتى يغلب أو يموت دون التسليم، وخذله أصحابه طمعا في هدايا بني أمية، فما زال في البقية الباقية من أنصاره يقاتل ويغامر حتى مات.
قيل: إن عبد الملك بن مروان جلس بعدها بين أصحابه يسألهم: من أشجع الناس؟ وهم يروغون في الجواب، فقال لهم: بل أشجع الناس مصعب بن الزبير، عرضت عليه الأمان والمال وولاية العراقين وعنده عائشة بنت طلحة أجمل النساء فأباها وآثر الموت على التسليم.
وتلك شهادة عدو لا ينفعه أن يكتمها؛ لأنها أشهر من أن يحجبها الكتمان.
فالحق الذي يعرفه أعداء ذلك الرجل وأصدقاؤه أنه شجاع وأنه نبيل، وأنه لا يقرن بالجد والطموح لذة من لذات الدنيا.
ومع هذا حسبنا أن نذكر له حكايتين اثنتين؛ لنذكر كيف شاع الغزل وأحاديث الغزل ومواقف الغزل في البيئة التي نشأ فيها، وأحاطت به آدابها ودواعيها، فكل حديث عن الغزل والتهالك عليه مصدق إذا قوبل بهاتين الحكايتين من هذا الرجل، الذي قل نظراؤه في الجد والطموح.
إحداهما تتصل بشاعرنا جميل، وتدور على بيتين قالهما في صاحبته بثينة، وهما:
صفحة غير معروفة
ما أنس لا أنس منها نظرة سلفت
بالحجر يوم جلتها أم منظور
ولا انسلابتها خرسا جبائرها
إلي من ساقط الأرواق مستور
قيل: إن مصعبا سمع البيتين فود لو يعرف كيف جلتها. فأنبئوه أن أم منظور - التي أشار إليها الشاعر - لا تزال بقيد الحياة ... فكتب في حملها إليه مكرمة. وحملت إليه، ووصفت له تلك الجلوة فقالت: «ألبستها قلادة بلح ومخنقة بلح واسطتها تفاحة، وضفرت شعرها وجعلت في فرقها شيئا من الخلوق - أي الطيب - ومر بنا جميل راكبا ناقته، فجعل ينظر إليها بمؤخر عينه ويلتفت إليها حتى غاب عنها».
فقال لها مصعب: فإني أقسم عليك ألا جلوت عائشة بنت طلحة مثل ما جلوت بثينة، ففعلت، ثم ركب مصعب ناقته وأقبل عليهما، وجعل ينظر إلى عائشة بمؤخر عينه، ويسير حتى غاب عنها ثم رجع.
أما الحكاية الأخرى فتدور على بيتين لتلميذ جميل - ونعني به كثير بن عبد الرحمن - وهما:
وما زلت من ليلى لدن طر شاربي
إلى اليوم أخفي حبها وأداجن
وأحمل في ليلى لقوم ضغينة
صفحة غير معروفة
وتحمل في ليلى علي الضغائن
وخلاصتها أن مصعبا أبصر الشعبي - الراوية المحدث المشهور - وهو في المسجد فأمره أن يتبعه، وتقدمه وهو لاحق به، حتى دخل منزلا، ثم دخل إلى حجلة في المنزل ووقف الشعبي ينتظر، فإذا جارية قد خرجت تقول له: إن الأمير يأمرك أن تجلس. فجلس على وسادة وارتفع سجف الحجلة عن مصعب بن الزبير، ثم ارتفع السجف الآخر عن عائشة بنت طلحة.
قال الشعبي: فلم أر زوجا كان قط أجمل منهما، ثم سألني مصعب: هل تعرف هذه؟
قلت: نعم!
قال: ومن هي؟
قلت: سيدة نساء المسلمين عائشة بنت طلحة.
قال: لا، ولكن هذه ليلى التي يقول فيها الشاعر:
وما زلت من ليلى لدن طر شاربي ...
وأنشد البيتين ثم قال: إذا شئت فقم!
فلما كان العشي دخل الشعبي المسجد، فإذا الأمير جالس على سريره فيه، فاستدناه وسأله: هل رأيت مثل ذلك الإنسان قط؟
صفحة غير معروفة
فقال الشعبي: لا والله.
قال الأمير: أفتدري لم أدخلناك؟ ... لتحدث بما رأيت.
ثم التفت إلى عبد الله بن أبي فروة، فأمره أن يعطيه عشرة آلاف درهم وثلاثين ثوبا.
قال الشعبي: فما انصرف أحد بمثل ما انصرفت به: بعشرة آلاف درهم، وبمثل كارة القصار ثيابا، وبنظرة من عائشة بنت طلحة!
وكلام العالم المحدث هنا يتمم كلام الأمير المكافح المقدام، كلاهما شاهد على شأن الغزل في ذلك الجيل، حتى ليحسب العالم النظرة من الحسناء جائزة تقرن بعشرة آلاف درهم، وحتى ليحكي الأمير مواقف الشعراء العشاق، ويود أن يتحدث الناس بغرامه، كما يتحدثون بغرام أولئك الشعراء.
ومتى اشتغل مصعب بالغزل هذا الاشتغال، فقل ما شئت فيمن هو أفرغ للمنادمة والسمر وأحاديث الحسان والعشاق، إنهم خلقاء ألا يفرغوا لحظة من هذه الأحاديث، وألا يزالوا بحاجة إلى الشعراء المنشدين يرددونها نظما وغناء، وهي عندهم أحب ما يستحب فيه الترديد.
ذلك شأن الحواضر الحجازية، وليست البادية من حولها بأقل غزلا أو نظما في الغزل من الحواضر على اختلافها، وإن تباينت الأساليب والآداب.
فلا يفوتنا أن البادية أفرغ للغزل وأرحب به مجالا من الحاضرة، على غير ما يتبادر إلى الذهن من الخطرة الأولى؛ لأن البدوي والبدوية يستعيضان بالغزل عن عشرات من الملاهي الحضرية، التي تدور عليه وتحوم حوله في المدينة الكبيرة.
وإن شئنا أن نعرف حاجة البدو إليه، فلنذكر أنواع الفنون التي يستغرقها الحضريون في صدد العلاقات بين الرجل والمرأة ولا يتاح نظيرها لأبناء البادية.
فالمسارح، والأندية، ودور الصور المتحركة، والقصص المطبوعة، والمراقص، والمنازه التي يشترك فيها الرجال والنساء، والأغاني، والقصائد، وفروع كثيرة من التصوير والنحت والنقش والزينة - كلها معارض لتمثيل الغزل بأنواعه في الحاضرة، ولا يقابلها في البادية إلا غزل الشاعر بالحسناء، وما ينسج حوله من الأحاديث والدسائس والوشايات.
صفحة غير معروفة
فالغزل وحده عند البدوي عوض عن هذه الأنواع المنوعة من أحاديث الرجل والمرأة في المدينة العامرة، وهذا مع كثرة الشواغل في المدن وقلة الشواغل في البوادي، إلا ما كان من رعي أو سقي يقربان بين الرجل والمرأة ويلجئانهما إلى الغزل ولا يشغلانهما عنه، فضلا عن معيشة الفطرة بين الأحياء التي لا تنقطع فيها صلات الذكور والإناث، وليس الإنسان بدعا بينها في هذه الغريزة الفطرية، فالبادية مهد الغزل قبل الحاضرة.
وأيسر للمرء أن يتصور مدينة بغير شعر غزلي من أن يتصور بادية لا تنظم هذا الشعر في كل حين.
إلا أن البادية تتقيد ببعض القيود التي تستدعيها معيشة البدو ولا تستدعيها معيشة الحضريين؛ لأن «المنعة» ضرورة من ضرورات الحياة بين أهل البادية، ولا مناص لهم من الاشتهار بمناعة الحوزة بين الأعداء والنظراء، وإلا طمع فيهم كل طامع واستباحهم كل مستبيح، وأول حوزة يحميها الرجل هي المرأة، فمن شرف «البدوي» أن تكون فتاته منيعة الحمى يتقاصر عنها لسان المتغزل، كما يتقاصر عنها سيف المغير، وهذا هو القيد الذي يختلف به أهل البادية من أهل المدينة.
ولكنه قيد «سيئ الحظ» كجميع القيود التي تحيط بالغرائز، وتحبس من ناحية ما يطلقه الطبع من ناحية أخرى.
فمنذ القدم والقيود التي تفرضها العادات تتوالى على الرجال والنساء بما يطاق وما لا يطاق، ومنذ القدم والعرف مضطر إلى كثير من الإغضاء والتعامي عن تلك القيود، فهي موجودة ومفتاحها موجود، ولا يزال القيد منها مقرونا بمفتاح.
فإذا حجرت العادات من ناحية جاءت الفنون فتسمحت من ناحية أخرى. وقد يغض الرجل المتدين بصره إذا مرت به حسناء يخشى فتنتها، ولكنه يسمع بيتا في الغزل، وهو غاض عينيه، فلا يغلق دونه أذنيه.
وقوانين البادية كجميع القوانين عرضة للتشديد والتخفيف وللرعاية والإهمال، وللمحاباة والاحتيال.
فقد يطول عهد الرخاء بالقبيلة فتهدأ فيها سورة القتال وتضعف المغالاة بالمناعة وما يتبعها من الغيرة والسطوة، وقد يطول بها عهد الفاقة، فيترخص أبناؤها وبناتها في الأمور التي كانوا يتشددون فيها، ويستكينون للسبة التي كانوا يتذمرون منها، وقد تجاور قبيلة قبيلة أقوى منها فتنزل على حكمها وتصبر على نزوات أهلها، وقد تجاور الحاضرة فتجري على سنة الحضريين في الرفق والدماثة، وتنزل شيئا فشيئا عن الجفوة والخشونة، وكل أولئك كان يحدث في القبائل الحجازية على عهد جميل.
كان منها من استغنى عن القتال بعد أن تكلفت الدولة القائمة بصيانة الحقوق ومنع العدوان وجزاء المعتدين.
وكان منها من طال فيهم الغنى كآل جميل، ومنها من قل غناهم وجاوروا من هم أقوى منهم كآل بثينة، وكانوا جميعا يختلفون إلى الحواضر، ويتشبهون بظرفائها، وينكرون الخشونة على البادية وأهلها.
صفحة غير معروفة
فاتسع ميدان الغزل حاضرا وباديا، وظهر شعراء النسيب بنوعيه، تغنيا بامرأة واحدة كما يغلب على شعراء البادية، أو تغنيا بالحسان جميعا كما يغلب على شعراء الحاضرة، وتهيأ العصر لطائفة من شعراء المدرستين على رأسهم عمر بن أبي ربيعة يتغنى بحسان مكة وكل حسناء تقبل عليها، وجميل بن معمر يتغنى بصاحبته بثينة ويعيش ويقضي نحبه على هواها. •••
وما فتئت البادية العربية منذ القدم ميدانا فسيحا للقوالين والرواة؛ لأنهم سلاح من أسلحتها ومصلحة من مصالحها وثقافة أدبية تعدل عندها ثقافة الفنون والآداب والتواريخ في أمم الحضارة.
ولها معهم عرف ذو وجهين يجري على الرياء والمداراة، ولا سيما في الغزل والفخر الحماسي. وهما قوام الشعر البدوي أو قوام كل شعر على الفطرة عنيت بحفظه الجماعات الأولى.
فهي تحرم الغزل ببناتها ولكنها تحفظ للأعقاب منظومات شعرائها، ولو كان عرفها في هذا الباب ذا وجه واحد لما بقيت لنا قصيدة من قصائد العشاق ولا خبر من أخبارهم، ولا قصة من قصص الشعراء الواصفين والحسان الموصوفات.
ولكنهم كما رأيناهم قد عنوا بكل كلمة قالها شاعر في حسناء وبكل مساجلة بين عاشقين كأنها من وثائق التاريخ التي لا تنسى، وما ذاك لأنهم يحبون الرياء أو يقصرون في كراهة المحظورات، فإنهم في الواقع يبلغون من كراهتها أقصى ما في وسعهم أن يبلغوه، ولكنهم يفعلون ذلك؛ لأن بواعث الحب في الفطرة الإنسانية أقوى من أن يكبحها العرف أو يقضي فيها بقضاء واحد، فلا بد من التجوز والإغضاء، أو لا بد هنا من عرف ذي وجهين.
أما الفخر الحماسي فموضع الرياء فيه مع شعرائهم أنهم يزدرون الشاعر ويفخرون بكلامه، فربما ارتفعت قبيلة بكلام شاعر، وهو بينهم في مكان غير رفيع، وربما كان تحريمهم زواج الفتاة بمن ينظم فيها الغزل ضربا من ازدراء الشعراء، كما كان ضربا من حماية العرض ومنع الذمار. إلا أنهم في الفخر كانوا أصرح منهم في الغزل والنسيب؛ فربما اجتمعت القبائل علانية لسماع شاعرين يتراجزان ويتناجزان، ويذكران الأعراق والأوطان، ولم تأذن بإعلان الغزل على هذا النحو ولا بتناقله بينهم إلا من وراء أذن السامع وعين المشيح.
وقد كان لجميل حظه الوافي من الحالين في الغزل والفخر على السواء، فسارت الركبان بأحاديث هواه و«تجمعت الأعاريب أرسالا» لسماع أراجيزه في الفخر بذويه، وخرج من حلبة الفن بنصيبين متناقضين: فأما شخصه فقد جنى عليه شعره، وحال غزله بينه وبين صاحبته على ما كان له بين قومه من مكانة وثراء، وأما شعره فقد ظفر بكل عناية في وسع قبيلة بادية، ولا سيما الغزل الذي منعوه وأوشكوا من أجله أن يقتلوه.
ومهما يكن من عرف العصر والقبيلة فقد كان عرفا يسمح بغزله ويستدعيه ويستبقيه، أو كان عرفا صالحا لتشجيع العاشقين، وإن لم يكن صالحا بينهما لوئام الزوجين.
وتاريخ الآداب لا يجمع عقود الزواج ولا دعوات الزفاف، ولكنه يجمع الشعر الذي قاله العاشق ولو جنى عليه؛ وهكذا صنع بشعر جميل.
من هما؟
صفحة غير معروفة
جميل بن عبد الله بن معمر من بني عذرة من قضاعة التي تسكن بالحجاز على طريق مصر والشام، وأمه من «جذام»، وهي تسكن في الجانب الشمالي من هذه الطريق.
ويلتقي نسبه ونسب صاحبته بثينة عند جدهما حن بن ربيعة، ثم يختلفان على ما بينهما من تقارب النسب في قوة العشيرة وصلاح الحال.
فكان قومه أعز من قومها، وكان أبوه «ذا مال وفضل وقدر في أهله» يلقب بصباح ويحسب له في بطون قضاعة كلها حساب كبير.
ومن هيبته بين هذه البطون أن السلطان أهدر دم جميل إن وجده أهل بثينة في دورهم، فوجدوه عندهم مرات ولم يجترئوا على قتله، بل جعلوا يعذرون إليه وإلى أبيه مرة بعد مرة مخافة حرب لا قبل لهم بها بين العشيرتين، إلى أن أغلظ له أبوه القول من تتابع الشكوى إليه، فكف عنها ما استطاع، ثم رجع إلى سيرته معها بعد حين.
ولعله استغنى بجاه أبيه وماله عن قصد الولاة والأمراء بالمديح طلبا للجوائز والهبات، حتى كان بعضهم يستدعيه إلى مدحه، فيعدل عن ذاك إلى الفخر بقومه في حضرته، كما حدث بينه وبين الوليد بن عبد الملك حين سافر معه، ثم رجز مكين العذري بالوليد قائلا:
يا بكر هل تعلم من علاكا
خليفة الله على ذراكا
فطمع الوليد أن يمدحه جميل، ودعاه أن ينزل فيرجز، فنزل فقال مفتخرا:
أنا جميل في السنام من معد
في الذروة العلياء والركن الأشد
صفحة غير معروفة
والبيت من سعد بن زيد والعدد
ما يبتغي الأعداء مني ولقد
أضري بالشتم لساني ومرد
أقود من شئت وصعب لم أقد
فغضب الوليد وقال له: اركب لا حملك الله!
ومن جملة سيرته يظهر أنه كان كما قال صعبا لا يقاد، أو كان على شيء من العناد والخيلاء، فكان يستعظم أن يجترئ عليه أحد بمناداته باسمه في الطريق، وحدث بعضهم أنه كان في رهط من علية القوم عند شعب «سلع» بالمدينة ... «إذ طلع علينا رجل طويل بين المنكبين، طوال، يقود راحلة عليها بزة حسنة ... فصاح به عبد الرحمن بن أزهر: هيا جميل! هيا جميل! ... فالتفت مستكبرا يسأل: من هذا؟ فلما عرف عبد الرحمن قال: قد علمت أنه لا يجترئ علي إلا مثلك! ثم جلس فأنشدهم حتى بدا له أن يقوم «فاقتاد راحلته موليا».
والبزة الحسنة - على ما يظهر من جملة سيرته أيضا - كانت من لوازمه التي اشتهر بها ولا سيما في المحافل، حتى لقد كان يحسب متنكرا إذا مشى في البادية بزي الرعاة، وقال بعض أصحابه: «قدمت من عند عبد الملك بن مروان وقد أجازني وكساني بردا كان أفضل جائزتي، فنزلت وادي القرى فوافقت الجمعة بها، فاستخرجت بردي الذي من عند عبد الملك وقلت أصلي مع الناس. فلقيني جميل - وكان صديقا لي - فسلم بعضنا على بعض وتساءلنا ثم افترقنا. فلما أمسيت إذا هو قد أتاني في رحلي فقال: البرد الذي رأيته عليك تعيرنيه حتى أتجمل به، فإن بيني وبين جواس الشاعر مراجزة ... قلت: لا، بل هو لك كسوة، وكسوته إياه ... فلما أصبحنا جعل الأعاريب يأتون أرسالا حتى اجتمع منهم بشر كثير، وحضرت وأصحابي، فإذا بجميل قد جاء وعليه حلتان ما رأيت مثلهما على أحد قط، وإذا بردي الذي كسوته إياه قد جعله جلا لجمله ...»
فالرجل الذي يتخذ خلعة من الخليفة يزهى بها صاحبها جلا لجمله، ويلبس خيرا منها، رجل ولا شك مفرط الخيلاء معني بحسن البزة وأناقة الكساء، وقد ترجع هذه الخيلاء إلى النشأة العزيزة في بيوت الرئاسة بالبادية، فليس أقرب إلى الخيلاء من أبناء هؤلاء الرؤساء، ولا سيما الذين رزقوا منهم جمال السمت وروعة المظهر كما رزق جميل.
إلا أنها على هذا خليقة مطبوعة فيه لها مرجع غير التدليل والنشأة في بيوت الرئاسة، كما يؤخذ من بعض أوصافه، فقد ذكر صاحب له من أهل تيماء أنه كان معه يحدثه ويستمع له «إذ ثار وتربد وجهه ووثب نافرا مقشعر الشعر متغير اللون » حتى أنكره.
فهذه الخليقة الجامحة التي لا يملكها صاحبها هي على التحقيق مرجع من مراجع تلك الخيلاء التي اشتهر بها جميل، وقد توافق الطبع والنشأة والمظهر على إملاء لصاحبنا في خيلائه، فغير عجيب مع هذا كله أن يتحامق ويحمق، فلا يستتر حمقه حيث يريد وحيث لا يريد.
صفحة غير معروفة
وكيف يخفى حمق جميل وهو القائل:
لا لا أبوح بحب بثنة إنها
أخذت علي مواثقا وعهودا
أيقول هذا البيت رجل رشيد كائنا ما كان قصده وذاهبا ما ذهب في معناه؟!
إنه كان مضرب المثل بحق على حماقة «كاتم السر» الذي يقسم ألا يبوح به، وهو في قسمه على الكتمان قد باح! •••
فجملة المفهوم من أوصافه وأخباره أنه كان فتى من الفتيان الذين تكتب لهم - أو تكتب عليهم - حياة الغرام.
فكان وسيما قسيما طويل القامة عريض المنكبين مدللا في نشأته منظورا إليه في بزته وعزة قومه، على ضعف في الخلق والعقل، يقعد به عن عظائم الأمور، ولا يكبح جماحه أن بدأت به غواية الهوى، فتمادت به إلى منتهاها، وكذلك رشحته النشأة والخلقة والخليقة ليكون جميل بثينة، وجاء العصر والجوار فزكيا هذا الترشيح وأوسعا له من مداه، فهو في دوره الذي تمثل لنا به في عالم الشعر غير غريب. •••
أما صاحبته بثينة فقد وصفها جميل بعين المحب ووصفها غيره كما يراها كل من رآها، فخلص لنا من جملة هذه الصفات أنها كانت «أدماء طوالة»، كما قال عمر بن أبي ربيعة، وأنها تفرع النساء طولا، كما قال الرجل الذي حمل إليها نعي جميل.
ومن كلام عمر وجميل معا يبدو لنا أنها كانت على سنة البدويات في التأبي والدلال الذي يشوبه الجفاء؛ فلما تصدى لها عمر بن أبي ربيعة، خرجت له في مباذلها لا تحفله وقالت له: «والله يا عمر لا أكون من نسائك اللاتي يزعمن أن قد قتلهن الوجد بك!»
وقال جميل:
صفحة غير معروفة
ولست على بذل الصفاء هويتها
ولكن سبتني بالدلال وبالبخل
فهي معشوقة بدوية صالحة «لدورها» المشهور مع جميل، وقد زادنا جميل معرفة بتفصيلات ملامحها فقال : «إنها لطيفة طي الكشح ذات شوى خدل»، وكرر هذا الوصف مرات فقال:
إلى رجح الأكفال هيف خصورها
عذاب الثنايا ريقهن طهور
ووصف ثغرها مرة أخرى فقال:
مفلجة الأنياب لو أن ريقها
يداوى به الموتى لقاموا من القبر
وعمم الوصف فذكر جيدها وعينها في بيت يقول فيه:
وأحسن خلق الله جيدا ومقلة
صفحة غير معروفة
تشبه في النسوان بالشادن الطفل
وفي بيت آخر يقول فيه:
لها مقلتا ريم وجيد جداية
وكشح كطي السابرية أهيف
فإذا أعطينا «الوصف التقليدي» حقه من هذه الأبيات بقي لنا منها أن بثينة كانت حسناء بدوية، لم يثقلها ترف الحاضرة، ولم يعرقها شظف العيش، فهي رشيقة معتدلة الخلق سامقة القوام مستحبة الملامح لمن يراها، مفتونا بها أو غير مفتون.
ومن بعض أحاديث كثير عن إشارات جميل لبثينة وفطنتها إلى معناها وردها عليها لساعتها، يبدو لنا أنها كانت من الذكاء على نصيب يسعف الفتاة في مواقف الغرام، وهو نصيب غير نادر بين جميع الفتيات.
إلا أنها «شن وافق طبقه» في علاقتها بجميل، فكانت لا تخلو من حماقة وخفة يلاحظها من يحادثها، وقيل: إنها دخلت على عبد الملك بن مروان «فرأى امرأة خلفاء - أي حمقاء - مولية، فقال لها: ما الذي رأى فيك جميل؟ قالت: الذي رأى فيك الناس حين استخلفوك».
ومثل هذه الحماقة لا تظهر في الكهولة إلا كان لها أساس أصيل من بداية العمر، وبخاصة في عهد الغواية والشباب. •••
وقد كان جميل يحاول أن يقتدي في وصفها بابن أبي ربيعة في وصفه لنسائه المترفات المنعمات، فيقول عنها وعن أترابها:
إذا حميت شمس النهار اتقينها
صفحة غير معروفة
بأكسية الديباج والخز ذي الخمل
ولكنها محاكاة لا تلبث أن تنكشف وينكشف باطلها كما ينكشف كل زيف وتلفيق، فبثينة هذه من بنات «بني الأحب» الذين قال فيهم جميل حين غضب:
إن «أحب» سفلة أشرار
حثالة عودهم خوار
أذل قوم حين يدعى الجار
والذين قال فيهم حين توعدوه مشيرا إلى عجزهم عن قتله؛ لأنهم لا يقدرون على الحرب ولا على الدية:
إذا ما رأوني طالعا من ثنية
يقولون من هذا وقد عرفوني
يقولون لي أهلا وسهلا ومرحبا
ولو ظفروا بي خاليا قتلوني
صفحة غير معروفة
وكيف ولا توفي دماؤهم دمي
ولا مالهم ذو ندهة فيدوني
وليست هي غضبة هجاء يقال فيها بالحق وبالباطل؛ لأنهم بالواقع لم يجترئوا على حماية عرضهم من جميل حتى بعد أن أهدر السلطان دمه لهم إن رأوه في بيوتهم، وكان قصارى ما يصنعه زوجها أن يشكوه ويشكوها إلى أبيها وأخيها، وقصارى ما يصنعه هذان أن يتعرضا لها، فيشد عليهم جميل بالسيف فيهربا أو يشكواه إلى أبيه ويعذرا إليه، وقد أربيا على حد الأعذار.
وكأنما كانت وسامة جميل مزية من مزايا كثيرة حببت إليها هواه، ولم تكن هي المزية الأولى والأخيرة. كان ماله على ما يبدو من كلامه بعض هذه المزايا؛ إذ لا محل لقوله إن لم يكن هذا كذاك:
ولو أرسلت يوما بثينة تبتغي
يميني وقد عزت علي يميني
لأعطيتها ما جاء يبغي رسولها
وقلت لها بعد اليمين سليني
سليني مالي يا بثين فإنما
يبين عند المال كل ضنين
صفحة غير معروفة
ولقد كان يرحل ويعود فيتهمها بصلة جديدة ثم لا تبالي هي أن تلمح إلى هذه الصلة في بعض مناجاتها إياه.
وقد تزوجت برجل أعور ضعيف المنة لا يروقها ولا تهابه ولا تشعر بحماه، فلولا أن «بني الأحب» كانوا في ذلك الحين كما وصفهم لما كان زواجها بذلك الرجل خير زواج ترتضيه، بعد أن حيل بينها وبين الزواج بجميل.
ونحن نعلم أنها تزوجت ولا نعلم أن جميلا قد تزوج إلى أن مات، وقد تكون أوفى النساء له ثم تتزوج؛ لأن أمرها إلى غيرها، وهو لا يتزوج؛ لأن أمره بين يديه، ولكنها لم تكن من الوفاء بحيث يقدح الزواج وحده في ذلك الوفاء، ولعلها إحدى الكثيرات اللاتي يصدق فيهن وصف كثير تلميذ جميل:
ألا إنما ليلى عصا خيزرانة
إذا غمزوها بالأكف تلين
عشق جميل وبثينة
كل ما قرأناه عن جميل، أو قرأناه من كلام جميل، يدل على طبيعة العلاقة التي كانت بينهما، وهي العلاقة التي تكون بين الرجل والمرأة، وتتعطل فيها الإرادة بعض التعطيل أو كل التعطيل، أو هي العلاقة التي نسميها العشق والغرام.
ومن الواجب أن نذكر هنا أن العلاقات الإنسانية كلها تستتبع شيئا من تقييد الإرادة قل أو كثر؛ فالصديق لا يفارق صديقه بمحض اختياره، والشريك لا يفارق شريكه ولا مندوحة عن فراقه، وكذلك الزميل أو الزوج أو صاحب الطريق، ولكن التفرقة هنا ضرورية بين تعطيل وتعطيل وبين تقييد وتقييد، فالذي يتعاطى دواء ينفعه أو ينتظر منه النفع يصعب عليه أن يتركه ويكف عن تعاطيه، والذي تعود التدخين يصعب عليه كذلك أن يتركه ويكف عن تعاطيه، ولكن الفرق بين تقييد الإرادة في الحالتين واضح كل الوضوح.
ففي الحالة الأولى يفكر الإنسان في العواقب وفي المنافع، فلا يقدم على الامتناع.
وفي الحالة الثانية يفكر الإنسان أو لا يفكر فالنتيجة سواء، بل هو قد يفكر ويؤمن بالضرر، ويمتلئ يقينا بفائدة الامتناع، ثم لا يمتنع ولا يفلح أحيانا لو حاول الامتناع.
صفحة غير معروفة
وهذا هو الفرق بين القيود التي يفرضها «الهوى» والقيود التي يفرضها الرأي أو المصلحة.
فالتدخين «هوى» من البداية إلى النهاية، وعندما يبدأ الإنسان في تعود التدخين يكون قد بدأ في الهوى أو أراد الهوى إن صح هذا التعبير، وليس كذلك من يتناول الدواء أو يتناول الطعام، أو يتناول حتى اللون المحبوب لديه من ألوان الطعام.
وتعطيل الإرادة أصيل في الهوى كله ولا سيما الهوى الذي نسميه بالعشق أو نسميه بالغرام؛ لأن المرء يرتبط فيه بإرادة شخص آخر، فهو مقيد بهذا الارتباط الذي لا تتفق فيه الإرادتان في جميع الأحيان.
ثم يتقيد الشخصان معا بإرادة النوع كله أو بالإرادة القاهرة التي تتمثل في الغريزة النوعية، وتتغلب كثيرا على إرادة العاشقين، وإن اتفقا على حالة من الحالات.
ثم يتقيدان بالعرف الذي يفرضه المجتمع وتفرضه الآداب والأخلاق فوق ما تفرضه الطبيعة من طريق الغريزة النوعية.
ثم يتقيدان بظروف المعيشة وأحوال الدنيا التي تتاح على وفاق الهوى أو لا تتاح.
فإذا تميز العشق بين سائر العلاقات الإنسانية بخاصة من الخواص الظاهرة، فأكبر ما يتميز به هذا التقييد الشديد لإرادة العاشق من جملة نواحيه.
وقد يبلغ به هذا التقييد لإرادته أن يحول بينه وبين فهم إرادته فلا يعلم ماذا يريد فضلا عن أن يعلمه ويعجز عنه، فإذا به قد انقسم على نفسه كما ينقسم المعسكر الواحد إلى ضدين متحاربين، ولا غنيمة لأحد منهما في الانتصار؛ إذ هو انتصار لا يخلو في الحالتين من خسار.
وينتهي به الأمر إلى البقاء على حاله عجزا عن تغييره لا سرورا به ولا رغبة فيه، فهو لا يتعلق بمعشوقه؛ لأنه راض عن هذه العلاقة، يلتذها ويتشهاها ويتذوق النعمة والهناءة فيها، ولكنه يتعلق به؛ لأنه عاجز عن فراقه، مقيد بضروب من العادات والوساوس لا حيلة له فيها ولا قدرة له عليها.
ومثله في ذلك مثل المدمن الذي يتعاطى السموم ولا يجهل بلواها، ولكنه يقلع عنها فلا يقر له قرار، فيمضي فيها وهو كاره لها يبحث ما استطاع عن سبيل النجاة.
صفحة غير معروفة
وقد قيل لجميل كل سبب يوجب عليه، لو ملك اختياره، أن يسلو بثينة ويقلع عن هواها، فكان جوابه لكل سبب من هذه الأسباب أنه لا يستطيع! ولم يكن جوابه أنه يجهل تلك الأسباب أو أنه يعرفها ولا يراها موجبة عنده للتفكير في السلو والفراق.
قال له أبوه: «يا بني! حتى متى أنت عمه في ضلالك، لا تأنف من أن تتعلق بذات بعل يخلو بها وينكحها وأنت عنها بمعزل، ثم تقوم من تحته إليك فتغرك بخداعها وتريك الصفاء والمودة وهي مضمرة لبعلها ما تضمره الحرة لمن ملكها، فيكون قولها لك تعليلا وغرورا، فإذا انصرفت عنها عادت إلى بعلها على حالتها المبذولة ... إن هذا لذل وضيم! ما أعرف أخيب سهما ولا أضيع عمرا منك، فأنشدك الله إلا ما كففت وتأملت أمرك؛ فإنك تعلم أن ما قلته حق، ولو كان إليها سبيل لبذلت ما أملكه فيها، ولكن هذا أمر قد فات واستبد به من قدر له، وفي النساء عوض.»
وهذا كلام مقنع لا ينكره منكر، ويعلم جميل أنه حق كما قال أبوه.
فإذا علم المرء هذا ولم يعمل به فليس لذلك إلا علة واحدة وهي شلل الإرادة، وأنه في حال كحال المريض الذي لا يملك الشفاء، بل ربما كان شرا من هذا المريض في استسلامه لدائه؛ لأن المريض قد يريد الشفاء ويتوسل إليه بوسائله التي في يديه، ولكن العاشق الذي برح به العشق، كما برح بجميل مشلول الإرادة حتى عن التوسل بما يستطيع أن يحاوله من وسائل الشفاء.
وهكذا كان جواب جميل لنصيحة أبيه، فقال له: «إن الرأي ما رأيت والقول كما قلت» ثم قال: «ولكن هل رأيت قبلي أحدا قدر أن يدفع قلبه هواه؟ أو ملك أن يسلي نفسه؟ أو استطاع أن يدفع ما قضي عليه؟ والله لو قدرت أن أمحو ذكرها من قلبي أو أزيل شخصها من عيني لفعلت، ولكن لا سبيل إلى ذلك، وإنما هو بلاء بليت به لحين قد أتيح لي، وأنا أمتنع من طروق هذا الحي والإلمام بهم ولو مت كمدا، وهذا جهدي ومبلغ ما أقدر عليه.»
وقال له ابن عمه روق مقالة الند للند الذي يفهمه ويستثير نخوته بالمناظرة في الفتوة والمقاربة في السن:
إنك لعاجز ضعيف في استكانتك لهذه المرأة وتركك الاستبدال بها مع كثرة النساء ووجود من هو أجمل منها، وإنك منها بين فجور أرفعك عنه، أو ذل لا أحبه لك، أو كمد يؤدي إلى التلف، أو مخاطرة بنفسك لقومها إن تعرضت لها بعد إعذارهم إليك، وإن صرفت نفسك عنها وغلبت هواك فيها وتجرعت مرارة الحزم حتى تألفها، وتصبر نفسك عليها طائعة أو كارهة ألفت ذلك وسلوت.
وهذا كلام كله حزم وسداد، ولكن متى كان الهوى في اشتداده إلا مخالفة للحزم والسداد؟
فما نصح أب فتاه بأحكم ولا أصوب من النصيحة التي سمعها جميل من أبيه.
وما استثار ند ندا بأبلغ ولا أهيج للنخوة من هذا الكلام الذي قاله له ابن عمه.
صفحة غير معروفة