(وقد) قرأت بخط سيدي وأستاذي ووالدي رحمه الله عن الإمام سيف الأئمة السايلي رحمه الله أنه قال اشتهر واستفاض أن أبا حنيفة رحمه الله تلمذ عند أربعة آلاف من شيوخ أئمة التابعين وتفقه عند أربعة آلاف فلم يفت بلسانه ولا بقلمه حتى أمروه فجلس في مجلس في جامع الكوفة فاجتمع معه ألف من أصحابه أجلهم وأفضلهم أربعون قد بلغوا حد الاجتهاد فقربهم وأدناهم وقال لهم أنتم أجلة أصحابي ومسار قلبي وجلاء أحزاني وإني ألجمت هذا الفقه وأسرجته لكم فأعينوني فإن الناس قد جعلوني جسرا على النار فإن المتهنا لغيري والعبء على ظهري* وكان رحمه الله إذا وقعت واقعة شاورهم وناظرهم وحاورهم وسألهم فيسمع ما عندهم من الأخبار والآثار ويقول ما عنده ويناظرهم شهرا أو أكثر حتى يستقر أحد الأقوال فيثبته أبو يوسف رحمه الله حتى أثبت الأصول على هذا المنهاج شورى لا أنه تفرد بذلك كغير من الأئمة (والدليل) على ذلك ما أخبرني به المشايخ الثلاثة شرف الدين الحسن ابن إبراهيم بدمشق وشرف الدين أبو محمد عبد العزيز بن محمد بن عبد المحسن الأنصاري بحماه وعز الدين عبد الرزاق رزق الله بالموصل إجازة قالوا أخبرنا أبو اليمن زيد بن الحسن بن زيد الكندي الأول سماعا والآخران إجازة قال أخبرني أبو منصور عبد الرحمن بن محمد القزاز قال أخبرنا الحافظ أبو بكر أحمد ابن علي بن ثابت الخطيب أخبرنا الخلال أخبرنا الجريري أن علي بن محمد النخعي حدثهم حدثنا نجيح بن إبراهيم حدثنا ابن كرامة قال كنا عند وكيع بن الجراح يوما فقال رجل أخطأ أبو حنيفة فقال وكيع كيف يقدر أبو حنيفة أن يخطئ ومعه مثل أبي يوسف وزفر ومحمد في قياسهم واجتهادهم ومثل يحيى ابن زكريا بن أبي زائدة وحفص بن غياث وحبان ومندل ابنا علي في حفظهم للحديث ومعرفتهم به والقاسم بن معن يعني ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في معرفته باللغة والعربية وداود بن نصير الطائي وفضيل ابن عياض في زهدهما وورعهما من كان أصحابه هؤلاء وجلساؤه لم يكن ليخطئ لأنه إن أخطأ ردوه إلى الحق* ثم قال وكيع رحمه الله والذي يقول مثل هذا كالأنعام بل هم أضل* فمن زعم أن الحق فيمن خالف أبا حنيفة ووضع المذهب وحده أقول له ما قال الفرزدق لجرير*
شعر
أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع
وأما النوع الثامن من مناقبه وفضائله التي لم يشاركه فيها من
بعده أنه أول من دون علم الشريعة ورتبه أبوابا ثم تابعه مالك بن أنس رضي الله عنه في ترتيب الموطأ لم يسبق أبا حنيفة أحد لأن الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين بإحسان لم يضعوا في علم الشريعة أبوابا مبوبة ولا كتبا مرتبة وإنما كانوا يعتمدون على قوة حفظهم فلما رأى أبو حنيفة العلم منتشرا فخاف عليه الخلف السوء أن يضيعوه على ما قال عليه الصلاة والسلام إن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه وإنما يقبضه بموت العلماء فبقي رؤسا جهالا فيفتون بغير علم فيضلون ويضلون* فلذلك دونه أبو حنيفة فجعله أبوابا مبوبة وكتبا مرتبة فبدأ بالطهارة ثم بالصلاة ثم بالصوم ثم سائر العبادات ثم بالمعاملات ثم ختم الكتاب بالمواريث وإنما بدأ بالطهارة والصلاة لأنها أهم العبادات وأعمها وإنما ختمها بالمواريث لأنها آخر أحوال الناس*
صفحة ٣٤