يقتضي الوافر من سيب (1) قسمه، والهامر (2) من مدرار ديمه، والصلاة على رسوله محمد المصطفى، رافع أعلام الإيمان، وناهج سبيل الجنان، وعلى آله حماة حقائق الدين، وولاة مشارع اليقين، صلاة تملأ أقطار السماوات والأرضين، وتبلغ أسماع الخلائق أجمعين.
وبعد: فإن كتاب (قواعد الأحكام في مسائل الحلال والحرام) لشيخنا الأعظم، شيخ الإسلام، مفتي فرق الأنام، بحر العلوم، محيي دارس الرسوم، حبر الأمة، مميت البدعة، ناصر السنة، جمال الملة والحق والدين، أبي منصور الحسن بن الشيخ الفقيه السعيد، الأجل المقدس، سديد الملة والدين، يوسف بن المطهر الحلي، سقى الله تعالى ضريحه مياه الرضوان، ورفع قدره في فراديس (3) الجنان.
كتاب لم يسمح الدهر بمثاله، ولم ينسج ناسج على منواله، قد احتوى من الفروع الفقهية، على ما لا يوجد في مصنف، ولم يتكفل ببيانه مؤلف، ولم يتفق له شرح يبرز حقائقه من مكنونها ويظهر دقائقه من مصونها.
صفحة ٦٦
وإني كنت على قديم الزمان أومل أن أصنع له شرحا يتكفل ببيان مشكلاته، وإبراز مخدراته، على ما أنا فيه من قصر الباع عن هذا المرام، والقصور المانع عن الوصول إلى هذا المقام، إلى أن مضى على ذلك مدة طويلة، كتبت في خلالها أشياء متفرقة على أبواب الكتاب، حسن وقعها عند أولي الألباب.
ثم شرعت في وضع شرح طويل، يشتمل من المقاصد على كل دقيق وجليل، وبعد الشروع رأيت عند مذاكرة جمع من العلماء، أن أعلق على مسائل الكتاب ما يكون عونا على حل عباراته، وبيان مشكلاته، وإظهار نكاته، متعرضا فيه إلى الخلاف الواقع بين العلماء، والإشارة إلى الدلائل المتداولة على ألسنة الفقهاء، وما عسى أن يسنح لهذا الخاطر الفاتر، وينساق إليه النظر القاصر، مشيرا إلى ما هو الحق بأوجز عبارة، مكتفيا بأقصر إشارة.
ولما كان هذا الكتاب مما من الله علي بإنشائه في حرم سيدي ومولاي أمير المؤمنين، وسيد الوصيين صلوات الله عليه تترى، بعد أخيه صفوة الله من النبيين وآلهما المعصومين، واقعا في أيام الدولة العالية السامية، القاهرة الباهرة، الشريفة المنيفة، العلية العلوية، الشاهية الصفوية الموسوية، أيدها الله تعالى بالنصر والتأييد، وقرن أيامها بالخلود والتأبيد، ولا زالت جباه الملوك والسلاطين معفرة على أعتابها، ورؤوس العتاة والمتمردين من الجبابرة ملقاة على أبوابها، ولا زال الدهر ساعدا على ما يطلب في أيامها الزاهرة، من إقامة عمود الدين، والقدر موافقا لما يرام في أزمنتها الباهرة، من إعلاء معالم اليقين بمحمد وآله الأطهار المعصومين.
أحببت أن أجعله تحفة، أؤدي بها بعض حقوقها عندي، ووسيلة لاستحصال الدعاء لها على مرور الأعصر، وذلك غاية جهدي.
وأرجو أن تهب عليه نسمات القبول، ويفوز من وفور المرحمة، وعميم المعاطفة، بغاية المأمول [وسميته بجامع المقاصد في شرح القواعد] (1) وإلى الله أرغب في تيسير المراد، ونيل السداد، وهو حسبي ونعم الوكيل.
صفحة ٦٧
(كتاب الطهارة) قوله رحمه الله: (فالوضوء يجب
للواجب من الصلاة والطواف ومس كتابة القرآن).
وجوب الصلاة والطواف ثابت بأصل الشرع، غير متوقف على إحداث المكلف سببا يقتضيه. وأما مس كتابة القرآن - بناء على تحريم مسها للمحدث - فلا يجب غالبا، إلا بسبب من قبل المكلف، كنذر وما يجري مجراه، ولا شبهة في انعقاد نذره لو نذر، لأن المس عبادة كما صرح به جمع من المفسرين، وكذا حمل المصحف، والنظر إلى الكتابة فمن ثم قالوا: إن القراءة في المصحف أفضل.
وربما وجب المس لإصلاح في المصحف لا يمكن بدونه، أو لجمع ما تناثر من ورقه كذلك ونحوه.
صفحة ٦٨
قوله: (ويستحب للصلاة والطواف المندوبين).
لا شبهة في استحبابه لهما، لامتناع وجوب شئ لغاية مندوبة، لكنه شرط في الصلاة، إذ لا صلاة إلا بوضوء (1)، بخلاف الطواف المندوب لصحته من المحدث على الأصح، وسيأتي في الحج إن شاء الله تعالى فهو مكمل له. وكان عليه أن يذكر مس كتابة القرآن المستحب، فإن الوضوء مستحب له، وإن كان مع ذلك شرطا له إذ (لا يسمه إلا المطهرون) (2).
ولا منافاة بين كون الشئ مستحبا لا يستقر في الذمة تحتم فعله، وكونه لا بد منه في شئ مندوب، بمعنى أنه لا يباح بدونه، وربما أطلق بعضهم على هذا القسم اسم الواجب، ولا يريد به إلا المجاز، وعلاقة التجوز أنه لا بد منه في ذلك الشئ، فأشبه الواجب الذي لا بد منه.
قوله: (ولدخول المساجد...).
إنما استحب الوضوء لدخول المساجد لورود النص عليه (3)، ولاستحباب صلاه التحية وهي تقتضيه، واستحبابه لزيارة القبور مقيد في الخبر بقبور المؤمنين (4).
صفحة ٦٩
واستحباب الوضوء للكون على طهارة، معناه استحباب فعله للبقاء على حكمه، وهذا معنى صحيح لا فساد فيه، وما يوجد في الحواشي المنسوبة إلى شيخنا الشهيد من أن ذلك في قوة: يستحب الوضوء للكون على وضوء. وهو ظاهر الفساد، فأنكر قراءة الكون بالجر، وكذا بالرفع، عطفا على المستتر في: يستحب للصلاة والطواف. لأنه يصير حينئذ في قوة يستحب الوضوء، ويستحب الكون على طهارة، وهو تكرار لا حاصل له.
واختار قراءته بالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر، وما ذكره تكلف، والتكرار الذي ادعاه غير لازم، لأن المعنى على ذلك التقدير: يستحب الوضوء لهذه الأشياء، ويستحب الكون على طهارة، وهذا معنى صحيح لا تكرار فيه.
ويرد على ما اختاره ارتكاب التقدير، وهو خلاف الأصل، وعدم الخروج عن المعنى الذي فر منه في العطف، مع عطف الإسمية على الفعلية.
ويستحب الوضوء تجديدا، وإن لم يصل بالأول، وفاقا لما في التذكرة (1)، وإن توقف شيخنا في الذكرى (2) لعموم قوله عليه السلام: (الوضوء على الوضوء كفارة من غير استغفار).
وينبغي أن يقرأ قوله: (والتجديد) بالرفع عطفا على المرفوع في قوله:
(ويستحب)، إذ لو قرئ بالجر لكان المعنى: يستحب الوضوء للتجديد، ولا ريب أن التجديد هو فعل الوضوء ثانيا بعد وضوء مبيح، فيكون فعل الوضوء مستحبا لفعل الوضوء ثانيا، وهو مستهجن.
ويستحب الوضوء في مواضع أخر غير ما ذكر [تصل] (4) إلى ستة وثلاثين موضعا.
صفحة ٧٠
وهنا فائدتان ينبغي التنبيه لهما:
(أ): هل يعتبر في الوضوء لواحد من الأمور المذكورة نية الرفع، أو الاستباحة لمشروط بالطهارة لتتحقق غايته، أم تكفي نية الغاية؟
ينبغي أن يقال بابتناء ذلك على أن نيته بالطهارة - مكملة له وليست من شرطه - هل هي كافية في رفع الحدث، أم لا؟.
فإن قلنا بالأول كفت الغاية، وإلا فلا بد من أحد الأمرين، وبدونهما لا يقع الوضوء صحيحا، كما يظهر من كلامهم في نية الوضوء (1)، بناء على اشتراط نية الرفع أو الاستباحة.
ويحتمل الاكتفاء بنية الغاية، تمسكا بعموم قوله عليه السلام: (إنما لكل امرئ ما نوى) (2) ويظهر من كلام المصنف في الوضوء للتكفين، فإنه استحبه لذلك، وتردد في الدخول به في الصلاة، وهذا في غير الوضوء لنوم الجنب، وجماع المحتلم والتجديد ونحوها، كمريد غسل الميت وهو جنب، لامتناع الرفع في هذه المواضع.
(ب): الوضوء المجدد لا تتصور فيه الإباحة، لأن وضعه على أن يكون بعد وضوء مبيح، لكن لو فعل كذلك، وظهر في الأول خلل، هل يكون رافعا أم لا؟ قولان للأصحاب (3)، ولا شبهة في كونه رافعا بناء على الاكتفاء بالقربة، وكذا على اعتبار نية الوجه معها، إنما الخلاف بناء على اعتبار أحد الأمرين.
ومنشؤه، من ظاهر قوله عليه السلام: (إنما لكل امرئ ما نوى) (4) ومن أن شرعيته لتدارك ما عساه فات في الوضوء الأول.
ويظهر من الدروس الميل إليه، حيث قال: وفي المجدد قول قوي
صفحة ٧١
بالرفع (1)، ولعل الأقرب العدم، للشك في سبب الشرعية الذي ادعاه الخصم، ولو سلم فلا يتعين لذلك رفع الحدث، لجواز أن يكون لتدارك المستحبات.
قوله: (والغسل يجب لما يجب له الوضوء، ولدخول المساجد ولقراءة العزائم إن وجبا).
قيد وجوب الغسل لهما بكونهما واجبين بنذر وشبهه، لامتناع استقرار وجوب الغسل لهما في الذمة مع عدم وجوبهما، لكن يجب أن يستثنى من دخول المساجد الاجتياز في غير المسجدين، إذ ليس بمحرم على الجنب، وشبهه للنص (2).
ويجب أن يقيد الغسل في قوله: (والغسل يجب...) بما عدا غسل المس، فإن حدث المس لا تحرم معه قراءة العزائم، كما صرح به شيخنا في البيان، ولا دخول المساجد مطلقا، وفاقا لابن إدريس (3) للأصل، ولنقله الإجماع، ومنعه المصنف في التذكرة (4) وهو ضعيف، ولا يخفى أن المراد بالعزائم: سور السجدات الواجبة.
قوله: (ولصوم الجنب مع تضيق الليل إلا لفعله، ولصوم المستحاضة مع غمس القطنة).
يجب أن يقيد صوم كل منهما بكونه واجبا، على حد ما سبق في نظائره، إذ لو كان غير واجب لكان الغسل شرطا ولا يكون واجبا، وهذا بناء على ما استقر عليه مذهب الأصحاب، من اشتراط صحة صوم الجنب بتقديم الغسل على الفجر.
والاستثناء من محذوف، أي: مع تضيق الليل لكل شئ إلا لفعله، وكأنه إنما ترك التقييد هنا اكتفاء بما ذكره في نظائره.
صفحة ٧٢
ولا يرد عليه أنه يرى وجوب الغسل للجنابة لنفسه، فتعليق وجوبه بالصوم ينافي مذهبه، لأن وجوبه لنفسه لا ينافي وجوبه لأمر آخر، لكونه شرطا فيه، لأن علل الشرع معرفات للأحكام، فلا محذور في تعددها.
ولا يخفى أن تضيق وجوب الغسل وضده دائر مع تضيق الغاية وعدمه، لا مع وجوبه لنفسه، فيظهر به اختلاف منشأ الوجوب.
وأما صوم المستحاضة مع غمس الدم القطنة سواء سال مع ذلك أم لا فاشتراطه بالغسل إجماعي، وإن اختلف الأصحاب في كمية الغسل بالنسبة إلى الحالتين.
وينبغي التنبه لشئ وهو: أن الغمس لو صادف الليل هل يجب تقديم الغسل على الفجر، بحيث يقارن طلوعه علما أو ظنا، أم يجوز تأخيره إلى وقت صلاته؟ فيه وجهان، يلتفتان إلى أن الغسل شرط للصوم، والشرط مقدم، وأن شرطيته للصوم في الاستحاضة دائرة مع شرطيته للصلاة وجودا وعدما، وكذا سعته وضيقه، ومن ثم يبطل الصوم بالإخلال بالغسل الواجب بها نهارا، بخلاف الجنابة الطارئة بعد الفجر.
ولو تجدد الغمس بعد صلاة الفجر فلا غسل، لعدم وجوبه للصلاة، إلا أن تسيل، فيجب لوجوبه للظهرين حينئذ.
فإن اعتبرنا في قلة الدم وكثرته الموجبة للغسل متعددا تارة ومتحدا أخرى أوقات الصلاة، كما يلوح من الأخبار (1)، فلا بد من بقاء الكثرة إلى وقت الظهرين، وبدونها ينتفي الوجوب، لعدم الخطاب بالطهارة قبل الوقت.
وإن لم نعتبر في ذلك وقت الصلاة، روعي في وجوب الغسل وقت الصلاة لها، وللصوم وجود الغمس وقتا ما، نظرا إلى أن الدم حدث، والحدث مانع سواء طرأ في الوقت أم قبله.
وفي الأول قوة، لأن حدث الاستحاضة إنما يعتبر فيه ما سبق إذا انقطع للبرء،
صفحة ٧٣
ولهذا لو تجددت القلة بعد السيلان في خلال الغسل، واستمر ذلك إلى وقت صلاة أخرى لم يجب الغسل.
ومن هذا يعلم أن إطلاق المصنف وجوب الغسل للصوم مع غمس القطنة لا يستقيم على إطلاقه.
وإنما غير المصنف الأسلوب في العبارة - حيث غير وجوب الغسل بوجوب الأمور السابقة، وأطلق فلم يقيد بجنب ولا بغيره - لعدم التفاوت المقتضي لخفاء الحكم بترك التفصيل، بخلاف الصوم لشدة الاختلاف بين الجنب والمستحاضة في وجوب الغسل له، فمن ثم أطلق في الأول، وفصل ها هنا.
وكان عليه أن يذكر حكم الحائض والنفساء، فإنه إذا انقطع دمها قبل الفجر بمقدار الغسل، وجب تقديمه عليه للصوم الواجب كالجنب، وقد صرح المصنف بهذا الحكم في أكثر كتبه (1)، وفي بعض الأخبار ما يدل عليه (2).
قوله: (وكل ما قرب من الزوال كان أفضل).
هذا يقتضي أفضليته آخر الأداء، والتقديم، وأول القضاء، وما قرب من الأفضل فيليه في الفضل.
قوله: (وأول ليلة من رمضان...).
ليلة نصف رمضان مولد الحسن والجواد عليهما السلام، وليلة سبع عشرة ليلة التقاء الجمعين ببدر، وليلة تسع عشرة يكتب وفد الحاج، وليلة إحدى وعشرين
صفحة ٧٤
أصيب فيها أوصياء الأنبياء، وفيها رفع عيسى بن مريم وقبض موسى عليهما السلام، وليلة ثلاث وعشرين ترجى فيها ليلة القدر، ويستحب فيها غسلان، أول الليل وآخره، ويستحب الغسل لجميع فرادى رمضان.
قوله: (ويوم المبعث...).
يوم المبعث: هو السابع والعشرون من رجب، ويوم الغدير: الثامن عشر من ذي الحجة، ويوم المباهلة: الرابع والعشرون منه على الأشهر، ويوم عرفة: هو اليوم التاسع منه.
وأما نيروز الفرس فهو أول سنة الفرس، وفسر بحلول الشمس [ببرج] (1) الحمل، وبعاشر آيار، وبأول يوم من شهر فروردين القديم الفارسي.
قوله: (وتارك الكسوف عمدا مع استيعاب الاحتراق).
لا فرق بين كسوف الشمس والقمر في ذلك، لدلالة الأخبار عليه (2).
قوله: (والمولود).
أي: يستحب له الغسل، ووقته حين ولادته، وقيل بوجوب الغسل (3).
صفحة ٧٥
قوله: (وللسعي إلى رؤية المصلوب بعد ثلاثة).
المراد بعد ثلاثة أيام من صلبه، وقيل بوجوبه حينئذ (1)، والمستند ضعيف.
ولا فرق بين من صلب بحق أو ظلما، وبين من صلب على الهيئة المعتبرة شرعا وغيره، عملا بظاهر اللفظ، والتقييد بخلاف ذلك لا يعتد به.
قوله: (والتوبة عن فسق أو كفر).
لا فرق في الفسق بين كونه عن صغيرة أو كبيرة، وعن المفيد رحمه الله التقييد بالكبائر (2)، والخبر يدفعه (3).
قوله: (وصلاة الحاجة والاستخارة).
ليس المراد أي صلاة اقترحها المكلف لأحد الأمرين، بل المراد بذلك ما نقله الأصحاب عن الأئمة عليهم السلام (4)، وله مظان فليطلب منها.
قوله: (ولا تداخل وإن انضم إليها واجب).
الصواب في تداخل قراءتها بفتح الخاء، وضم اللام مع تخفيف الدال على حذف تاء المضارعة، وما أفتى به المصنف من عدم تداخلها عند الاجتماع، أي: عدم الاكتفاء بغسل واحد لأسباب متعددة - سواء عينها في النية أم لا، وسواء كان معها غسل واجب أم لا - هو القول المنصور، لعدم الدليل الدال على التداخل.
وليست كالأغسال الواجبة، لأن المطلوب بها وهو الرفع أو الاستباحة أمر واحد، بخلاف المندوبة، ومع انضمام الواجب فعدم التداخل أظهر، لاختلاف الوجه
صفحة ٧٦
بالوجوب والندب، وهما متضادان.
وقيل: بالتداخل مطلقا، وقيل: مع انضمام الواجب (1)، استنادا إلى بعض الأخبار التي لا تدل على ذلك صريحا (2)، مع معارضتها بأقوى منها.
ولم يذكر الأصحاب في الوضوء إذا اجتمع له أسباب، هل يكفي عنها وضوء واحد أم لا بد من التعدد؟ لكن يلوح من كلامهم، أن الوضوء الرافع للحدث كاف في مثل التلاوة، ودخول المساجد، والكون على طهارة، وزيارة المقابر، والسعي في حاجة، وحيث يمتنع الرفع، كما في نوم الجنب، وجماع المحتلم وأمثالهما، مما شرع الوضوء فيه مع وجود المانع الرفع فينبغي التعدد.
قوله: (ويقدم ما للفعل).
ما يستحب للمكان من قبيل ما للفعل، لأنه يستحب لدخوله، ويرد عليه: أن بعض ما يستحب للفعل من الغسل إنما يستحب بعد الفعل، وهو غسل تارك الكسوف بالقيدين، وغسل السعي إلى رؤية المصلوب، وغسل التوبة عن فسق أو كفر، وغسل قتل الوزغ.
واعتذر شيخنا الشهيد عن ذلك، بأن اللام في قوله: (للفعل) لام الغاية، أي: يقدم ما غايته الفعل ، وهذه المذكورات أسباب لاستحباب الغسل، لا غايات (3).
وهو دفع بمحض العناية، فإن اللام للتعليل مطلقا، وإرادة الغاية منه تحتاج إلى قرينة، ومع صحة إرادة ذلك فأي شئ في العبارة يدل على تعيين ما غايته الفعل، وتمييزه عن غيره.
قوله: (والتيمم يجب للصلاة والطواف الواجبين...).
صفحة ٧٧
الحصر لوجوب التيمم فيما ذكره، المستفاد من السياق، ومن قوله: (والمندوب ما عداه) ينافيه الاعتراف بوقوع التيمم بدلا من كل من الطهارتين، وأنه يستباح به ما يستباح بهما، وهكذا صنع في كتبه (1)، وليس بجيد.
وقد عدل شيخنا الشهيد في كتبه إلى أن التيمم يجب لما تجب له الطهارتان، وينفرد بخروج الجنب وشبهه من المسجدين (2)، وهو الصواب، لأنه إن كان بدلا من الوضوء فغاية الوضوء غاية له، وإن كان بدلا من الغسل فكذلك، حتى في صوم الجنب، وشبهه على الأصح، تمسكا باستصحاب المنع من الصوم إلى أن يتحقق المزيل.
وبعد التيمم يتحقق الإذن فيه اتفاقا فيتعين، وتجب استدامته إلى طلوع الفجر، إلا أن يعرض ما لا يمكن دفعه من نوم فلا حرج.
قوله: (ولخروج المجنب من المسجدين).
ظاهر العبارة، أن المراد به: من أجنب في أحد المسجدين، وهو قريب من مورد الخبر (3)، فإن مورده المحتلم في أحدهما، والحاق من عرض له الجنابة فيه بسبب آخر - كما هو ظاهر العبارة - ومن أجنب خارجا، ودخل إلى أحد المسجدين عامدا، أو ناسيا، أو جاهلا، لعدم تعقل الفرق بين من ذكر وبين المحتلم، رجوع إلى ظن لا يفيده النص.
إذ عرفت ذلك، فاعلم: أن مورد الخبر التيمم للخروج، فلو أمكن الغسل فهل يقدم؟
يحتمل ذلك، لعدم شرعية التيمم مع التمكن من مبدله، وخصوصا مع مساواة زمانه لزمان التيمم، أو قصوره عنه، والأصح العدم وقوفا مع ظاهر النص، ولعدم العلم بإرادة حقيقة الطهارة، ولأن الخروج واجب، ولو جاز الغسل لم يجب.
والظاهر: أن هذا التيمم لا يبيح وإن صادف فقد الماء، وإلا لم يجب
صفحة ٧٨
الخروج عقيبه بغير فصل متحريا أقرب الطرق، والتالي باطل، فعلى هذا لا ينوي فيه البدلية.
ولم يذكر المصنف وجوب التيمم على الحائض، والأصح إلحاقها بالجنب في ذلك، لرواية أبي حمزة الثمالي عن الباقر عليه السلام (1). والظاهر: مساواة النفساء لها، لأنها حائض في المعنى، دون المستحاضة الكثيرة الدم لعدم النص.
قوله: (والمندوب ما عداه).
قد ذكر استحباب التيمم في مواضع مخصوصة كالتيمم للنوم، ولصلاة الجنازة ولو مع وجود الماء، ولا كلام في استحبابه في تلك المواضع، لكن هل يستحب في كل موضع يستحب فيه الوضوء والغسل؟ لا إشكال في استحبابه إذا كان المبدل رافعا أو مبيحا، إنما الإشكال فيما سوى ذلك.
والحق أن ما ورد النص به، أو ذكره من يوثق به من الأصحاب، كالتيمم بدلا من وضوء الحائض للذكر يصار إليه، وما عداه فعلى المنع، إلا أن يثبت بدليل.
قوله: (وقد تجب الثلاثة باليمين والنذر والعهد).
لما كان الأكثر وجوب الطهارات بأصل الشرع، صدر ب (قد) الدالة على التقليل إذا دخلت على المضارع غالبا في الوجوب، بأحد الأسباب الصادرة من المكلف.
ولا ريب أنه يراعى في صحة تعلق الثلاثة بالثلاثة شرعيتها، فلا ينعقد اليمين وأخواه على الوضوء إلا إذا كان مشروعا.
وإطلاق بعضهم انعقاد اليمين عليه وأخويه (2) فاسد، إذ لا ينعقد اليمين على الوضوء مع غسل الجنابة، نعم شرعية الوضوء غالبة، والقول في الغسل كذلك، فلا ينعقد اليمين على مجرد الغسل الذي لم تثبت شرعيته، كغسل في غير وقته.
صفحة ٧٩
قوله: (الفصل الثاني: في أسبابها، يجب الوضوء بخروج البول، والغائط، والريح من المعتاد، وغيره مع اعتياده).
إعلم أن السبب في عرف الأصوليين هو الوصف الوجودي الظاهر المنضبط، الذي دل الدليل الشرعي على أنه معرف لحكم شرعي، وهو أحد متعلقات خطاب الوضع.
وقول المصنف: (في أسبابها).
أراد بها: الأمور التي يترتب عليها فعل الطهارة في الجملة، أعم من أن تكون واجبة أو مندوبة، إذ لا تجب إلا بوجوب شئ من الغايات السابقة، إلا غسل الجنابة عند المصنف وجماعة (1).
وربما هذه موجبات، نظرا إلى ترتب الوجوب عليها مع وجوب الغاية، وتسمى نواقض أيضا، باعتبار طروء شئ منها على الطهارة غالبا، وإنما قيد به لأن دائم الحدث لا ينقض حدثه الدائم إلا على بعض الوجوه، والأول أعم مطلقا، وبين الأخيرين عموم من وجه.
وقوله: (من المعتاد).
أراد بالمعتاد هاهنا: الذي اعتيد خلق مثله مصرفا للفضلة المعلومة، وهو المخرج الطبيعي، وأراد بالاعتياد في قوله: (مع اعتياده) تكرر خروج الفضلة مرة بعد أخرى، لأنه حينئذ يصير مخرجا عرفا، فيتناول إطلاقات النصوص الواردة بالنقض بالخارج من السبيلين، ما يخرج منه (2).
صفحة ٨١
وإطلاق الشيخ النقض بالخارج مما تحت المعدة دون غيره (1) ضعيف، واعتبر بعضهم في صيرورته معتادا خروج الخارج منه مرتين متواليتين عادة، فيثبت النقض في الثالثة.
وفي صيرورته بذلك مخرجا عرفا نظر، ولو اعتبر فيه صدق الاسم عليه عرفا، من غير تعيين عدد لكان وجها، لأن الحقيقة الشرعية إذا تعذرت، أو لم توجد صير إلى العرفية.
وليس هذا كعادة الحيض، للإجماع على عدم اشتراط ما زاد على المرتين فيه، مع أنه مبني على التغليب، فلو خرج أحد الثلاثة من غير الطبيعي قبل اعتياده فلا نقض، ومنه كل من قبلي المشكل، وهذا إنما هو إذا لم ينسد الطبيعي، فإذا انسد نقض الخارج من غيره، بأول مرة، كما ذكره المصنف في المنتهى، وحكى فيه الإجماع (2).
وينبغي أن يعلم أن الجار في قوله: (من المعتاد)، متعلق بخروج المعتبر في كل من الثلاثة، فلا نقض بخروج الريح من ذكر الرجل، ولا من قبل المرأة، إلا مع الاعتياد - على الأصح - في قبل المرأة.
وينبغي أن يراد بالخروج: المتعارف، وهو خروج الخارج بنفسه منفصلا عن حد الباطن، فلو خرجت المقعدة ملوثة ثم عادت فلا نقض على الأصح.
قوله: (والنوم المبطل للحاستين مطلقا).
أراد بالحاستين: السمع والبصر، وإنما خصهما لأنهما أعم الحواس الخمس إدراكا، فإن بطلان الإدراك بهما غالبا يستلزم بطلان الإدراك بغيرهما، دون العكس، وفي النصوص ما يصلح وجها لهذا التخصيص (3).
صفحة ٨٢
وتعبيره ب (المبطل)، أولى من تعبير غيره بالغالب (1)، لأنه أصرح في نفي النقض عن السنة، وهي مبادئ النوم.
وأراد بقوله (مطلقا): تعميم النقض في جميع الحالات، سواء كان النائم قاعدا، أو منفرجا، أو قائما، أو راكعا، لأن قوله عليه السلام : (فمن نام فليتوضأ) (2) للعموم، وتخصيص ابن بابويه الحكم بالمنفرج (3) ضعيف.
ولو شك هل خفي عليه الصوت أم لا؟ وأن ما خطر له منام، أم حديث النفس؟ بنى على استصحاب الطهارة، ولو كان فاقد الحاسة قدر وجودها، وعمل بما يغلب على ظنه.
قوله: (والاستحاضة القليلة).
أورد على العبارة شيخنا الشهيد قسمي المتوسطة في غير الصبح، فإنهما يوجبان الوضوء خاصة (4)، فكان عليه أن يذكرهما، ليكون كلامه حاصرا لأسباب الوضوء، كما صنع شيخنا في كتبه.
ويمكن دفع الإيراد، بأن المتوسطة من أسباب الغسل، لأنها سبب له بالنسبة إلى الصبح، أو يقال: إذا انقطع دمها للبرء في وقت الظهرين، أو العشاءين وجب الغسل إذا كان في وقت الصبح يوجبه، فالمتوسطة من أسباب الغسل، وإن تخلف الحكم لعارض.
وكل هذا لا يشفي، لأن غايته أن يكون من أسباب الوضوء وحده تارة، ومن أسباب الغسل أخرى، فلا بد من ضم كل إلى بابه، ليكون المذكور حاصرا لأسباب كل منهما.
صفحة ٨٣
قوله: (والمستصحب للنواقض كالدود المتلطخ ناقض، أما غيره فلا).
في هذه العبارة مناقشة ما، لأن المستصحب للنواقض ليس النقض مستندا إليه، بل إلى ما صاحبه، وكأنه ارتكب في ذلك ضربا من التجوز لعدم اللبس، والضمير في قوله: (أما غيره) يعود إلى المستصحب لأنه المحدث عنه، أو إلى الدود لقربه.
قوله: (ولا يجب بغيرها كالمذي).
أراد بذلك الرد على من يقول بانتقاض الوضوء بغير هذه الأسباب، من أصحابنا (1) ومن العامة (2).
وما ورد في أخبارنا من وجوب الوضوء بغير ما ذكر، مما لا يقول به الأصحاب، إما لضعف الحديث، أو لشذوذه (3).
والمذي بالذال المعجمة: ماء رقيق أصفر، يخرج عقيب شهوة الجماع والملاعبة غالبا.
والمذهب أنه ليس بناقض، وأنه طاهر، وقول ابن الجنيد بنقضه عقيب الشهوة ضعيف (4)، كما ضعف قول أبي حنيفة بالنقض بالقئ إذا ملأ الفم (5).
قوله: (والاستحاضة مع غمس القطنة).
لم يورد عليه شيخنا هاهنا وجوب التقييد في المتوسطة بوقت الصبح، مع أنه وارد
صفحة ٨٤
عليه، لما عرفت من أنها في غير الصبح من أسباب الوضوء خاصة، وليس له أن يقول:
أراد أنها من أسباب الغسل في الجملة، لأن الظاهر أن المراد في جميع الأسباب، أنها أسباب متى حصلت.
واعلم أن قوله: (ويجب الغسل بالجنابة والحيض) يحتاج إلى فضل تكلف، لأن الحيض هو الدم، والمراد بإيجاب الغسل به إيجابه بخروجه، إذ لا معنى للإيجاب به نفسه، لما عرفت من أن السبب هو الوصف.
والجنابة: هي الحالة التي تحصل بالإنزال أو بالجماع، فهي غنية عن تقدير شئ، ولو قدرت معها الخروج الذي لا بد من تقديره مع الحيض فسد المعنى، فحينئذ يجب أن تكون العبارة هكذا، يجب الغسل بالجنابة، وبخروج الحيض، وأخويه، إلى آخره.
قوله: (ومس الميت من الناس بعد برده قبل الغسل، أو ذات عظم منه وإن أبينت من حي).
قيد الميت بكونه من الناس، لأن ميتة غير الآدمي لا يجب بمسها غسل، وقيد المس بكونه بعد برد الميت بالموت، إذ لو مسه حارا لم يجب الغسل، لأن الحرارة من توابع الحياة وللنص (1).
وقيده أيضا بكونه قبل الغسل، كما دلت الأخبار عليه، في نحو خبر عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام: (إذا مسه وقبله وقد برد، فعليه الغسل، ولا بأس أن يمسه بعد الغسل ويقبله) (2).
والمراد بالغسل: الغسل المعهود، وهو المعتبر في حال الاختيار، لأنه المتبادر إلى الفهم، ولأنه المطلوب شرعا، وسقوط الطلب عن بعضه لتعذره لا يقتضي عدم اعتباره في مسمى الغسل، ومن ثم لو غسل للضرورة بغير خليط، أو يمم عن بعض الغسلات، وأمكن الغسل المعتبر
صفحة ٨٥
قبل الدفن، كان المتجه وجوب الإعادة، ولأن استصحاب ما كان قبل غسل الضرورة إلى أن يحصل الناقل يقتضي ذلك.
فعلى هذا يندرج فيه : من لم يغسل أصلا بعد البرد، ومن غسل فاسدا، ومنه:
تغسيل الكفار عند فقد المسلم إن قلنا به، ومن سبق موته قتله وقد اغتسل، أو قتل بغير السبب الذي اغتسل له، ومن فقد في غسله أحد الخليطين، والميمم ولو عن بعض الغسلات، والكافر وإن فعل به صورة الغسل.
ويخرج عنه من لم يبرد بالموت، ومن غسل صحيحا، وإن تقدم الغسل إذا قتل بالسبب الذي اغتسل له، والشهيد، والمعصوم.
وفي عضو كمل الغسل بالنسبة إليه قولان، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.
وحكم القطعة ذات العظم حكم الميت في ذلك، سواء أبينت من حي أو ميت، وفي العظم المجرد قول بالمساواة لا بأس به.
فعلى هذا كل من يجب تغسيله يجب بمسه الغسل، ومن لا فلا.
وفي قوله: (أو ذات عظم منه، وإن أبينت من حي) مناقشة، لأن الضمير المجرور يعود إلى الميت، فعطف المبانة من حي ب (أن) الوصلية حينئذ لا يستقيم.
قوله: (وغسل الأموات).
هو مبتدأ محذوف الخبر، أي: واجب، وإنما غير الأسلوب في العبارة لأن غسل الأموات ليس على نهج الأغسال السابقة، ولا يخفى أن المراد الميت المسلم ومن بحكمه.
قوله: (ويكفي غسل الجنابة عن غيره منها لو جامعه دون العكس).
الضمير في قوله: (منها) يرجع إلى الأغسال، والمستتر في قوله: (لو جامعه) يرجع إلى غسل الجنابة، والآخر يعود إلى الغير. ومعناه: أنه إذا اجتمع على المكلف غسلان فصاعدا من هذه الأغسال - أحدهما غسل الجنابة - فإذا اغتسل غسل الجنابة كفى عن ذلك الغير وارتفع الحدث، دون العكس، فلو اغتسل عن ذلك الغير ولم يتوضأ، فقد جزم المصنف بأنه لا يكفي عن الجنابة، ويبقى على الحدث، وقيل: بأنه
صفحة ٨٦