إذ كان معنى الاستهزاء والسخرية والمكر والخديعة ما وصفنا قبل، دون أن يكون ذلك معناه في حال فيها المستهزىء بصاحبه له ظالم أو عليه فيها غير عادل، بل ذلك معناه في كل أحواله إذا وجدت الصفات التي قدمنا ذكرها في معنى الاستهزاء وما أشبهه من نظائره. وبنحو ما قلنا فيه روي الخبر عن ابن عباس. حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمار، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: { الله يستهزئ بهم } قال: يسخر بهم للنقمة منهم. وأما الذين زعموا أن قول الله تعالى ذكره: { الله يستهزئ بهم } إنما هو على وجه الجواب، وأنه لم يكن من الله استهزاء ولا مكر ولا خديعة فنافون على الله عز وجل ما قد أثبته الله عز وجل لنفسه وأوجبه لها. وسواء قال قائل: لم يكن من الله جل ذكره استهزاء ولا مكر ولا خديعة ولا سخرية بمن أخبر أنه يستهزىء ويسخر ويمكر به، أو قال: لم يخسف الله بمن أخبر أنه خسف به من الأمم، ولم يغرق من أخبر أنه أغرقه منهم. ويقال لقائل ذلك: إن الله جل ثناؤه أخبرنا أنه مكر بقوم مضوا قبلنا لم نرهم، وأخبر عن آخرين أنه خسف بهم، وعن آخرين أنه أغرقهم، فصدقنا الله تعالى ذكره فيما أخبرنا به من ذلك، ولم نفرق بين شيء منه، فما برهانك على تفريقك ما فرقت بينه بزعمك أنه قد أغرق وخسف بمن أخبر أنه أغرق وخسف به، ولم يمكر به أخبر أنه قد مكر به؟ ثم نعكس القول عليه في ذلك فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله. فإن لجأ إلى أن يقول إن الاستهزاء عبث ولعب، وذلك عن الله عز وجل منفي. قيل له: إن كان الأمر عندك على ما وصفت من معنى الاستهزاء، أفلست تقول: { الله يستهزئ بهم } وسخر الله منهم مكر الله بهم، وإن لم يكن من الله عندك هزء ولا سخرية؟ فإن قال: «لا» كذب بالقرآن وخرج عن ملة الإسلام، وإن قال: «بلى»، قيل له: أفتقول من الوجه الذي قلت: { الله يستهزئ بهم } وسخر الله منهم يلعب الله بهم ويعبث، ولا لعب من الله ولا عبث؟ فإن قال: «نعم»، وصف الله بما قد أجمع المسلمون على نفيه عنه وعلى تخطئة واصفه به، وأضاف إليه ما قد قامت الحجة من العقول على ضلال مضيفه إليه. وإن قال: لا أقول يلعب الله به ولا يعبث، وقد أقول يستهزىء بهم ويسخر منهم قيل: فقد فرقت بين معنى اللعب، والعبث، والهزء، والسخرية ، والمكر، والخديعة. ومن الوجه الذي جاز قيل هذا ولم يجز قيل هذا افترق معنياهما، فعلم أن لكل واحد منهما معنى غير معنى الآخر.
وللكلام في هذا النوع موضع غير هذا كرهنا إطالة الكتاب باستقصائه، وفيما ذكرنا كفاية لمن وفق لفهمه. القول في تأويل قوله تعالى: { ويمدهم }. قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله { ويمدهم } فقال بعضهم بما: حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: { يمدهم }: يملي لهم. وقال آخرون بما: حدثني به المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن ابن جريج، قراءة عن مجاهد: { يمدهم } قال: يزيدهم. وكان بعض نحويي البصرة يتأول ذلك أنه بمعنى: يمد لهم، ويزعم أن ذلك نظير قول العرب: الغلام يلعب الكعاب، يراد به يلعب بالكعاب. قال: وذلك أنهم قد يقولون قد مددت له وأمددت له في غير هذا المعنى، وهو قول الله:
وأمددناهم
[الطور: 22] وهذا من أمددناهم، قال: ويقال قد مد البحر فهو ماد، وأمد الجرح فهو ممد. وحكي عن يونس الجرمي أنه كان يقول: ما كان من الشر فهو «مددت»، وما كان من الخير فهو «أمددت». ثم قال: وهو كما فسرت لك إذا أردت أنك تركته فهو مددت له، وإذا أردت أنك أعطيته قلت: أمددت. وأما بعض نحويي الكوفة فإنه كان يقول: كل زيادة حدثت في الشيء من نفسه فهو «مددت» بغير ألف، كما تقول: مد النهر، ومده نهر آخر غيره: إذا اتصل به فصار منه. وكل زيادة أحدثت في الشيء من غيره فهو بألف، كقولك: «أمد الجرح»، لأن المدة من غير الجرح، وأمددت الجيش بمدد. وأولى هذه الأقوال بالصواب في قوله: { ويمدهم } أن يكون بمعنى يزيدهم، على وجه الإملاء والترك لهم في عتوهم وتمردهم، كما وصف ربنا أنه فعل بنظرائهم في قوله:
ونقلب أفئدتهم وأبصرهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون
[الأنعام: 110] يعني نذرهم ونتركهم فيه ونملي لهم ليزدادوا إثما إلى إثمهم. ولا وجه لقول من قال ذلك بمعنى «يمد لهم» لأنه لا تدافع بين العرب وأهل المعرفة بلغتها أن يستجيزوا قول القائل: مد النهر نهر آخر، بمعنى: اتصل به فصار زائدا ماء المتصل به بماء المتصل من غير تأول منهم، ذلك أن معناه مد النهر نهر آخر، فكذلك ذلك في قول الله: { ويمدهم في طغيانهم يعمهون }. القول في تأويل قوله تعالى: { في طغيانهم }. قال أبو جعفر: والطغيان الفعلان، من قولك: طغى فلان يطغى طغيانا إذا تجاوز في الأمر حده فبغى. ومنه قوله الله:
كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى
[العلق: 6-7] أي يتجاوز حده. ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
ودعا الله دعوة لات هنا
بعد طغيانه فظل مشيرا
صفحة غير معروفة