[آل عمران: 54] والله يستهزىء بهم على الجواب، والله لا يكون منه المكر ولا الهزء. والمعنى: أن المكر والهزء حاق بهم. وقال آخرون: قوله: { إنما نحن مستهزءون الله يستهزىء بهم } وقوله:
يخدعون الله وهو خادعهم
[النساء: 142] وقوله:
فيسخرون منهم سخر الله منهم ونسوا الله فنسيهم
[التوبة: 79] وما أشبه ذلك، إخبار من الله أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء، ومعاقبهم عقوبة الخداع. فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم مخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ وإن اختلف المعنيان، كما قال جل ثناؤه:
وجزاء سيئة سيئة مثلها
[الشورى: 40] ومعلوم أن الأولى من صاحبها سيئة إذ كانت منه لله تبارك وتعالى معصية، وأن الأخرى عدل لأنها من الله جزاء للعاصي على المعصية. فهما وإن اتفق لفظاهما مختلفا المعنى.
وكذلك قوله:
فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه
[البقرة: 194] فالعدوان الأول ظلم، والثاني جزاء لا ظلم، بل هو عدل لأنه عقوبة للظالم على ظلمه وإن وافق لفظه لفظ الأول. وإلى هذا المعنى وجهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك مما هو خبر عن مكر الله جل وعز بقوم، وما أشبه ذلك. وقال آخرون: إن معنى ذلك أن الله جل وعز أخبر عن المنافقين أنهم إذا خلوا إلى مردتهم قالوا: إنا معكم على دينكم في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وإنما نحن بما نظهر لهم من قولنا لهم صدقنا بمحمد عليه الصلاة والسلام وما جاء به مستهزءون. يعنون: إنا نظهر لهم ما هو عندنا باطل لا حق ولا هدى. قالوا: وذلك هو معنى من معاني الاستهزاء. فأخبر الله أنه يستهزىء بهم فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا خلاف الذي لهم عنده في الآخرة، كما أظهروا للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في الدين ما هم على خلافه في سرائرهم. والصواب في ذلك من القول والتأويل عندنا، أن معنى الاستهزاء في كلام العرب: إظهار المستهزىء للمستهزإ به من القول والفعل ما يرضيه ويوافقه ظاهرا، وهو بذلك من قيله وفعله به مورثه مساءة باطنا ، وكذلك معنى الخداع والسخرية والمكر. وإذ كان ذلك كذلك، وكان الله جل ثناؤه قد جعل لأهل النفاق في الدنيا من الأحكام بما أظهروا بألسنتهم من الإقرار بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله المدخل لهم في عداد من يشمله اسم الإسلام وإن كانوا لغير ذلك مستبطنين من أحكام المسلمين المصدقين إقرارهم بألسنتهم بذلك بضمائر قلوبهم وصحائح عزائمهم وحميد أفعالهم المحققة لهم صحة إيمانهم، مع علم الله عز وجل بكذبهم، واطلاعه على خبث اعتقادهم وشكهم فيما ادعوا بألسنتهم أنهم مصدقون حتى ظنوا في الآخرة إذ حشروا في عداد من كانوا في عدادهم في الدنيا أنهم واردون موردهم وداخلون مدخلهم، والله جل جلاله مع إظهاره ما قد أظهر لهم من الأحكام لملحقهم في عاجل الدنيا وآجل الآخرة إلى حال تمييزه بينهم وبين أوليائه وتفريقه بينهم وبينهم معد لهم من أليم عقابه ونكال عذابه ما أعد منه لأعدى أعدائه وأشر عباده، حتى ميز بينهم وبين أوليائه فألحقهم من طبقات جحيمه بالدرك الأسفل. كان معلوما أنه جل ثناؤه بذلك من فعله بهم، وإن كان جزاء لهم على أفعالهم وعدلا ما فعل من ذلك بهم لاستحقاقهم إياه منه بعصيانهم له كان بهم بما أظهر لهم من الأمور التي أظهرها لهم من إلحاقه أحكامهم في الدنيا بأحكام أوليائه وهم له أعداء، وحشره إياهم في الآخرة مع المؤمنين وهم به من المكذبين إلى أن ميز بينهم وبينهم، مستهزئا وساخرا ولهم خادعا وبهم ماكرا.
صفحة غير معروفة