وأنا أعجب من الرواقيين كيف طنوا أن جميع الناس فى طبيعتهم متهيئون لقبول الفضيلة، إلا أن آراءهم تميل عنها من قبل الذين يعاشرونهم ويحاورونهم. وأدع جميع الأشياء الأخر التى تنقص كلامهم هذا وتبطله، وأسألهم عن هذه الواحدة فى الناس الأشرار الأولين الذين لم يتقدمهم إنسان آخر شرير، من أين وممن اكتسبوا الميل الى الشر؟ فإنه ليس لهم فى ذلك جواب، كما أنهم إذا رأوا أيضا صبيان صغار أشرار جدا لم يمكنهم أن يقولوا من الذى علمهم الشر، ولا سيما إذا نشأ صبيان كثير منشأ واحدا بعينه مع آباء بأعيانهم أو معلمين أو مؤدين بأعيانهم وكانوا متضادى الطبائع. فإنى لا أحسب أنه يكون شىء أكثر مضادة من صبيين، أحدهما ودود سمح والآخر حسود، أو أحدهما رحيم والآخر مسرور بالشر الذى ينال الناس، أو أحدهما جبان عن كل شىء والآخر جرىء على كل شىء، أو أحدهما جاهل جدا والآخر عاقل جدا، أو أحدهما محب للصدق والآخر محب للكذب. وقد نجد الصبيان وإن كانوا نشؤوا مع آباء بأعيانهم أو معلمين أو مؤدبين قد يخالف بعضهم بعضا بهذه الأضداد التى ذكرناها. وليس أحد من الفلاسفة اليوم يتفطن فى مثل هذه الامور، وينبغى فيما أحسب ألا نقول فلاسفة بل نقول مدعين للفلسفة، وذلك لأنهم لو كانوا يتفلسفون على الحقيقة لكان الذى يحفظونه ويجعلون فطنتهم فيه هذا أن يجعلوا أوائل براهينهم من الأشياء الظاهرة للحس. وإن الفلاسفة القدماء خاصة من بين الناس كانوا يستعملون ذلك، وسماهم الناس فى ذلك الزمان حكماء من غير أن يضعوا كتبا ولا علما منطقيا ولا علما طبيعيا ولكنهم ابتدءوا بعلم الفضائل الخليقة من الأشياء الظاهرة للحس، وكانوا يظهرون ذلك بالفعل لا بالكلام. وهؤلاء الفلاسفة لما رأوا الصبيان قد يسوءون فى الابتداء، وإن أدبوا أدبا فاضلا من غير أن يروا شيئا يكون لهم فى ذلك مثالا وقدورة فى الشرارة، قال بعضهم: إن الناس كلهم أشرار بالطبع، وبعضهم قال: إن كلهم إلا القليل أشرار. وذلك لأنه بالحق إنما يوجد صبى غير مذموم فى الندرة، ومن أجل ذلك أولئك 〈الذين〉 لم يروا مثل هذا بنوا على جنيع الناس أنهم أشرار بالطبع. وأولئك الذين رأوا واحد واثنين فى الندرة لم يقولوا: إن الناس كلهم أشرار، ولكن أكثرهم. فإن ترك الإنسان عنه الأهواء التى تدعو إليها للجاجة وحب الغلبة وأحب أن ينظر فى الأمور برأى لا تغلب عليه الأهواء الرديئة مثل الفلاسفة القدماء، فإنه يجد الصبيان المتهيئين للفضائل قليلين جدا، فيذهب عنه بذلك الظن بأنا كلنا ممكن فينا قبول الفضائل، وأن آراءنا إنما تميل إلى الشر من الآباء أو من المعلمين أو المؤدبين، لأن الصبيان لا يلقون قوما آخر غير هؤلاء.
صفحة ٤١