والوقوف على حيلة المموهين من الأطباء فى نفسه سهل. وإنما صعب لأنه ليس يوجد من يميز ويمتحن ويقف. وذلك أنى لست أرى أحدا يقصد البتة إلى أن يتعرف الطبيب الفاضل، ولا يتفرغ لذلك، ولا يدرى كيف يمتحنه ويختبره. لكن جميعهم، كما قلت قبل، يعتمدون فى اختبار الطبيب على غيرهم ولا يثقون بأنفسهم ولا يرون أنهم يكملون لذلك. ولهذا قد نجد فى كل مدينة كثيرا من أهلها قد اكتسبوا مالا، ونالوا جاها وعزا، ونجدهم بأسرهم يجرون فى معاشهم مجرى البهائم. وأنا أصوب لهم تركهم التقدم على اختبار الأطباء لمناظرتهم فما ليس عندهم من العلم به، لجهلهم بالطريق فى ذلك. ولست أعذرهم لأنهم قصروا عن اختبار علم الأطباء من قبل علمهم، لأنه قد يمكنهم بأهون السعى اختبار ذلك، لولا أنه قد غلب عليهم الكسل غاية الغلبة حتى صار يمنعهم من أن يحضروا المرضى، وقد يكثرون عندهم. ولو فعلوا ذلك لرأونا مرارا كثيرة فى يوم المرض الأول سنقضى أن هذا الابتداء ابتداء حمى غب، وهذا ابتداء ربع. وكذلك فى الحمى النائبة فى كل يوم، وفى الحمى المركبة من الغب والنائبة فى كل يوم، وسائر أصناف الأمراض. فلما أن قصروا عن هذا أيضا ولم يأخذوا أنفسهم بحضور المرضى ومساءلة الأطباء عن حالاتهم، أعياهم الأمر فى امتحان الأطباء.
ومنهم من يكون إن سأل الأطباء عن شىء من أمر المرضى يريد أن يكون الجواب قد بلغ من قصره أن يكون أقل من المسألة. وإلى هذا بلغ بغضهم الكلام، وصح فيهم ما قال ثوقيديدس. «إن الذى يدفع الكلام والقياس ويزعم أنه ليس يصح به الشىء، فلا يخلو من أن يكون إما عديم عقل، وإما أن يكون يقصد بذلك إلى اجتلاب رئاسة أو حظ من المنفعة.» وما أحد عندى أحق بأن ينسب إلى عدم العقل والفهم ممن ظن أن البحث عن طبائع الأمور يكون بشىء سوى الكلام والقياس.
صفحة ٩٤