ولاح للسيد عبد الرحمن أن ينتهز فرصة وجوده في القلعة فيذهب لمقابلة الباشا في مقره هناك، ويقص عليه حكايته، فإن لم يجد فائدة منه ذهب إلى السيد المحروقي كما قرر من قبل. ثم تردد في تنفيذ هذه لفكرة؛ لأنه لا يعرف اللغة التركية، والباشا لا يتكلم إلا بها ولا يعرف العربية. لكنه تذكر أن الباشا لا بد أن يكون لديه مترجم خاص أو أكثر، فزايله تردده ومشى في طرقات القلعة حتى وصل إلى قصر الباشا فهاله عظم بابه، وكثرة الحجاب الأتراك الواقفين به وعلى كل منهم سراويل قصيرة، وقد تقلد بندقية.
ودنا من أحد أولئك الحجاب واستأذنه في الدخول، فسأله الحاجب: «ما حاجتك؟» قال: «لي قضية مهمة أريد أن أعرضها على أفندينا الباشا.»
فقال الحاجب: «انتظر قليلا حتى نعرض أمرك على جناب الكتخدا نائب الباشا.»
ثم دخل الحاجب وغاب دقائق عاد بعدها وقال له: «قد أذن جناب الكتخدا بدخولك عليه فتعال نفتشك أولا لئلا يكون معك شيء من السلاح.» وبعد أن فتشه وتحقق أنه لا يحمل سلاحا، قاده إلى الداخل حيث مضى به إلى غرفة الكتخدا، وأزاح له الستارة الموضوعة على بابها فدخل وقلبه يخفق هيبة، فوجد الكتخدا جالسا في صدر القاعة بالملابس التركية، فحياه باحترام. وأشار إليه الكتخدا أن يجلس على مقعد بالقرب منه وكلم الحاجب بالتركية آمرا إياه بدعوة الترجمان إليه. فجلس السيد عبد الرحمن مطرقا ويداه على ركبتيه. وبعد هنيهة جاء الترجمان وسأله بالعربية عما يريد، فأخذ يقص عليه حكايته من أولها إلى آخرها ، وهذا يترجمها فقرة فقرة للكتخدا، فيهز رأسه مبديا دهشته وأسفه.
والتفت الكتخدا أخيرا إلى السيد عبد الرحمن وفي نظراته ما يدل على الرثاء له والرأفة به، ثم قال له بوساطة الترجمان: «قد فهمت قضيتك وأدركت أنك على حق فيما شكوته من الظلم. وسأذهب بنفسي لرفع هذا الظلم عنك ورد ولدك إليك.»
فلم يتمالك السيد عبد الرحمن عن الوقوف ودموع الاستبشار بقرب الفرج تطفر من عينيه، ثم هم بتقبيل يد الكتخدا، فمنعه من ذلك، وأشار إليه أن يجلس كما كان. فعاد إلى مقعده ولسانه ما زال يلهج بالشكر والدعاء.
وأخذ الكتخدا يتبسط في الحديث بوساطة الترجمان مع السيد عبد الرحمن، إلى أن استطلع رأيه فيما يقال من اعتزام علي بك الاستقلال بحكم مصر وإخراجها من يد الدولة العلية، فأجاب بقوله: «قد سمعت يا سيدي شيئا عن ذلك. وأكبر الظن أن الغرض الأول لعلي بك من إرسال الحملة إلى الحجاز ليس مساعدة شريف مكة ضد منافسه فقط، بل غرضه إخراج تلك البلاد من يد دولة الخلافة أيضا. ولهذا أكثر من الجنود في تلك الحملة حتى لم يبق أحد من الشبان المقيمين بمصر إلا ألحقه بها، لا فرق بين المصريين منهم والمغاربة والشوام والأتراك والأروام. وقد شاءت المقادير أن يكون ولدي الوحيد بين أولئك المجندين، مع أنه من المتخرجين في الأزهر ومدرسة السلطان حسن، ولم يكتف بما حصله من علوم الدين واللغة وغيرهما فالتحق بمدرسة البيمارستان المنصوري ليدرس الطب على يد أحد الأطباء المغاربة فيه.»
فقال الكتخدا: «إن هؤلاء المماليك قد أمعنوا في طغيانهم وتمردهم على مولانا السلطان، ولا شك في أن جلالته لا يقر هذه الأعمال، لما عرف عنه من الميل إلى العدل والحلم والبر برعاياه. ولا بد من وضع حد لهذه المظالم. فطب نفسا وقر عينا، وثق أن حاجتك مقضية، ولا يلبث ولدك أن يعود إليك سالما بإذن الله.»
فوقف السيد عبد الرحمن، وحاول مرة أخرى تقبيل يد الكتخدا ولكن هذا منعه أيضا، ثم ودعه مطيبا خاطره مكررا وعده بالسعي العاجل بنفسه في سبيل رد ولده إليه. فخرج من عنده وقد أنساه ذلك كل ما عاناه من نصب وعذاب. •••
ما كاد السيد عبد الرحمن يهم بالخروج من القلعة، حتى بصر بموكب قادم إلى قصر الباشا، يتقدمه شيخ ذو لحية طويلة راكبا على حمار، وعلى رأسه عمامة غريبة الشكل. فسأل بعض الجنود عمن يكون هذا الشيخ، فقال له أحدهم: «ألا تعرفه؟ إنه أبو طبق، لعنه الله ولعن من أرسلوه!»
صفحة غير معروفة