أبطال الرواية
1 - في وكالة الصابون
2 - في قلعة القاهرة
3 - السيد المحروقي
4 - في مجلس علي بك الكبير
5 - الحرب بين روسيا وتركيا
6 - الست نفيسة المملوكية
7 - الشيخ المجذوب
8 - رسول من عكا
9 - في الإسكندرية
10 - في جبل لبنان
11 - حصار بيروت
12 - فتح بيروت
13 - فتح دمشق
14 - أثر الحبيب
15 - خروج علي بك من مصر
16 - اجتماع الشمل
أبطال الرواية
1 - في وكالة الصابون
2 - في قلعة القاهرة
3 - السيد المحروقي
4 - في مجلس علي بك الكبير
5 - الحرب بين روسيا وتركيا
6 - الست نفيسة المملوكية
7 - الشيخ المجذوب
8 - رسول من عكا
9 - في الإسكندرية
10 - في جبل لبنان
11 - حصار بيروت
12 - فتح بيروت
13 - فتح دمشق
14 - أثر الحبيب
15 - خروج علي بك من مصر
16 - اجتماع الشمل
استبداد المماليك
استبداد المماليك
تأليف
جرجي زيدان
أبطال الرواية
علي بك الكبير:
شيخ البلد في مصر.
عثمان باشا:
والي مصر التركي.
محمد بك أبو الذهب:
خليفة علي بك وصهره.
الأمير يوسف شهاب:
حاكم لبنان.
الشيخ ضاهر الزيداني:
حاكم عكا.
الأمير أورلوف:
قائد الأسطول الروسي.
السيدة نفيسة المملوكية:
زوجة علي بك.
السيد المحروقي:
من السادة الأشراف بمصر.
السيد عبد الرحمن:
تاجر مصري كبير.
حسن:
ابن السيد عبد الرحمن.
سالمة:
زوجة السيد عبد الرحمن.
علي:
خادم الأسرة.
عماد الدين:
رسول الشيخ ضاهر.
الفصل الأول
في وكالة الصابون
استولى على مصر بعد الخلفاء الفاطميين كثير من السلاطين، ظلت تحكم باسمهم إلى أن آل أمرها إلى المماليك، فاستبدوا في أحكامهم، وضج أهلها بالشكوى منهم. واستمر الحال على هذا المنوال حتى غزاها الخليفة التركي السلطان سليم، في عهد سلطانها الغوري، فتم له فتحها ودخلها بعد قتله في وقعة مرج دابق، حيث شنق خليفته طومان باي، فصارت مصر منذ ذلك الحين تابعة لتركيا.
ونظرا إلى بعدها من دار الخلافة، رأى السلطان سليم أن يجعل في إدارتها انقساما يأمن معه خروجها من طاعته، فجعل حكومتها مؤلفة من ثلاث سلطات:
أولا:
سلطة الباشا: وهو الوالي الذي يرسله من الآستانة، ومقره في قلعة القاهرة، ويختص بتلقي أوامر السلطنة وتبليغها ومراقبة تنفيذها.
ثانيا:
سلطة البكوات: وهم بقية الحكام المماليك، وقد عهد إليهم في إدارة المديريات وحفظ الأمن والنظام في البلاد، كما هو شأن المديرين الآن.
ثالثا:
سلطة الوجاقات: وهي القوة العسكرية. وكانت مؤلفة من الإنكشارية، والمتفرقة، والدلاتية (جند المغاربة)، وغيرهم. وعليها جباية الضرائب والإعانات والغرامات وما إليها من الأموال التي تؤخذ لخزانة الدولة، كما أن عليها الدفاع عن البلاد عند الحاجة إلى ذلك.
على أن البكوات المماليك لم يقنعوا بالسلطة الكبيرة التي منحت لهم، فما لبثوا قليلا حتى عادوا إلى الاستبداد.
وكان من بينهم «شيخ البلد» المنوط به حكم القاهرة والسهر على استتباب الأمن والنظام فيها كما هو شأن محافظها الآن. غير أنه لم يكن يقنع بما دون السلطة المطلقة، ولم يكن للباشا التركي بجانبه من السلطة إلا مظاهر جوفاء، لا أثر لها على الإطلاق.
فلما كانت سنة 1763، وآلت مشيخة البلد إلى علي بك الكبير، كان أكثر المماليك شهامة وأعظمهم همة وأشدهم بطشا. ولكنه طمع في الاستقلال بمصر، وحدثته نفسه بافتتاح البلاد المجاورة لها أيضا.
ولم تكن القاهرة في تلك الأيام على ما هي عليه الآن من اتساع العمران وكثرة السكان. فالأحياء المعمورة فيها حينذاك لم تكن تزيد على أحياء: الحمزاوي والغورية والجمالية والنحاسين وما جاورها. أما الفجالة وشبرا والعباسية والإسماعيلية والجزيرة وغيرها من الأحياء الحديثة فلم تكن قد أنشئت بعد.
وكان للمدينة سور منيع به أبواب عدة ضخمة تغلق عقب غروب الشمس كل يوم، فلا يستطيع أحد بعد ذلك أن يدخل المدينة أو يخرج منها إلا بإذن خاص، وما زالت بعض هذه الأبواب وآثار السور باقية حتى اليوم.
أما أغنى هذه الأحياء كلها وأكثرها سكانا وروادا، فكانت هي الأحياء الواقعة في منطقة الجمالية وما جاورها من الغورية وخان الخليلي؛ حيث تقوم مختلف المتاجر وقصور الأغنياء.
وهناك في الجمالية كانت توجد وكالة الصابون، وهي يومئذ مجتمع كبار التجار وأصحاب الثروة، فلا تخلو ساحتها الرحيبة من مئات منهم طول النهار، بين بائعين ومشترين ومتفرجين.
وكان من بين تجار تلك الوكالة، في العهد الذي جرت فيه وقائع روايتنا هذه، تاجر يقال له «السيد عبد الرحمن». اشتهر رغم ضخامة ثروته واتساع تجارته بالتواضع الجم والاستقامة والبر بالفقراء، مع رجاحة العقل والاتزان. وقد تعود أن يقضي نهاره في الوكالة يشرف على حركة البيع والشراء في متجره الكبير، فإذا جاء المساء عاد إلى منزله في شارع الكعكيين في الغورية، حيث زوجته وولده الوحيد منها، وبعض السراري الشركسيات والحبشيات.
ولولا ما كان يقاسيه هو وغيره من استبداد المماليك وجورهم، وكثرة الضرائب التي يطلبونها من وقت لآخر لكان له من ثروته الضخمة وتجارته الرابحة وحياته المنزلية الهادئة ما يجعله أسعد السعداء، ولاسيما أن ولده الوحيد السالف الذكر، واسمه حسن، كان قد أتم تعليمه في الجامع الأزهر، ثم التحق بالبيمارستان المنصوري القائم في شارع النحاسين أمام الطريق المؤدي إلى بيت القاضي؛ حيث أبدى تفوقا في دراسة الطب على يد أستاذ مغربي فيه، واشتهر بين زملائه وعارفيه بالاستقامة والذكاء والاتزان كأبيه. فلم يكن يغشى مكانا غير البيت والمدرسة، ولا يمل المطالعة للاستزادة من المعارف والعلوم. •••
أمضى السيد عبد الرحمن نهاره حتى العصر مشرفا على العمل في متجره بوكالة الصابون كعادته. وكان ذلك في يوم من أيام سنة 1770. فلما سمع أذان العصر، أشار إلى خادمه فجاء بسجادة فرشها على دكة في ركن من المتجر ليصلي عليها العصر بعد أن توضأ لهذا الغرض.
ولم يكد السيد عبد الرحمن يبلغ الدكة وهو يتمتم ببعض الأدعية ويحمد الله على ما أولاه إياه من النعم والخيرات، حتى لحق به أحد الكتبة في المتجر، وأنبأه بأن بعض موظفي الحكومة جاءوا يطلبون مقابلته. فاستعاذ بالله من ذلك، لعلمه بأن هؤلاء الموظفين لا يأتون إلا لطلب ضريبة أو إعانة أو توقيع عقوبة مالية بغير ذنب ولا جريرة.
وحدثته نفسه بأن يرجئ مقابلتهم حتى يصلي، لكنه خشي أن يهيج ذلك غضبهم وانتقامهم، فرفع طرفه إلى السماء وتنهد، ثم عاد أدراجه إلى مجلسه المعتاد في المتجر ليستقبلهم هناك ويرى ما وراء هذه الزيارة.
وكان هؤلاء الموظفون ثلاثة: أحدهم الجابي، وهو في زي المماليك المؤلف من السراويل الفضفاضة الطويلة المشدودة فوق الكعبين، والعمامة فوق القاووق، وحول وسطه منطقة عريضة علق بها خنجر من الأمام، وعلى منكبيه جبة تدلى على جانبها الأيمن سيف معقوف، وقد تغضن وجهه وشاب شعر رأسه. والثاني جندي يحمل في يده دفترا كبير الحجم كتبت فيه أسماء التجار وغيرهم من الملاك والعمال، وبيانات عن الضرائب المطلوبة من كل منهم. أما الثالث فهو الكاتب، وعلى رأسه عمامة كبيرة، وفي منطقته دواة مستطيلة من النحاس.
فلما دخل عليهم السيد عبد الرحمن، بالغ في تحيتهم والترحيب بهم. وأسرع في مشيته للقائهم متكلفا البشاشة والابتسام، ثم أمر لهم بالقهوة والغليون - أداة تدخين التبغ في ذلك العهد - ثم جلس بين أيديهم يكرر التحية والملاطفة اجتذابا لرضاهم عنه. وقلبه يخفق بين جوانحه مخافة أن يكون مجيئهم لأمر من ورائه خسارة له.
وضاعف من خشيته وريبته أن الجابي، لم يزده ذلك كله إلا غلظة وغطرسة، وبقي صامتا يرمقه شزرا في ازدراء ملحوظ، وقد جلس جلسة الكبرياء واضعا إحدى ساقيه فوق الأخرى. فلما جاء الخادم بالقهوة وبدأ بتقديمها له متأدبا. أشاح عنه بوجهه، والتفت إلى السيد عبد الرحمن. وقال له غاضبا: «إننا لم نأت لنشرب قهوتك، ولا حاجة لنا بها. وإنما جئنا نطلب حقوق الدولة!»
فأجفل السيد عبد الرحمن، وتحقق وقوع ما كان يحذره، لكنه كظم ما به متجلدا وقال متظاهرا بالبشاشة: «أهلا وسهلا ومرحبا بالسادة الأجلاء، مروا بما شئتم، فما نحن إلا عبيد مولانا علي بك ورهن أمره في كل وقت!»
فقال الجابي: «مطلوب منك أن تدفع ألف نصف، مساعدة للحملة الذاهبة لنجدة شريف مكة بعد أيام.»
فاستكثر عبد الرحمن هذا القدر المطلوب من ماله، رغم دفعه ضرائب باهظة منذ عهد قريب، لكنه لم يجرؤ على إظهار ذلك، واكتفى بأن قال: «هل هذا المال مطلوب دفعه فورا؟»
فنهض الجابي مغضبا حانقا وصاح به قائلا: «ما شاء الله! ومتى تظن أن تدفعه إذن؟ أتريد أن يكون ذلك بعد عودة الحملة أو هلاكها؟ أم لعلك استكثرت أن تدفع ألف نصف من الآلاف المؤلفة التي تحصل عليها عفوا بلا تعب من أموال الناس وأنت جالس على وسادتك في أمان واطمئنان، بينما نحن نتجشم الأخطار والأسفار لحماية بلادكم والدفاع عنها؟ كلا يا سيدي ثم كلا. يجب أن تدفع ألفين اثنين لا ألفا فقط. فهل فهمت؟!»
فندم عبد الرحمن على تعجله بإلقاء ذلك السؤال، ووقف وقد امتقع لونه وارتجفت أطرافه، وخشي أن يضاعف الجابي قيمة الضريبة المطلوبة مرة ثانية، فمد يديه نحوه إشارة التوسل والخضوع وقال: «العفو يا سيدي الجاويش، إني ليسرني أن أقوم بالواجب علي وزيادة، وإنما أردت بالاستفهام أن أعرف هل هناك فرصة لتأجيل الدفع أم لا، فالحالة التجارية كما تعلمون ليست في هذه الأيام على ما يرام، وسبق أن تفضل جناب الخازندار بمثل هذا التأجيل مراعاة لظروف مماثلة.»
فازداد غضب الجابي، وانتهر السيد عبد الرحمن بشدة، وقال: «أتشكو الفقر وأنت قد ابتلعت أموال الناس، وعشت من الأرباح الطائلة في رغد ونعيم، بينما نحن في شقاء دائم وتعب لا يطاق، ونلقي بأنفسنا إلى الهلاك دفاعا عنكم وعملا على راحتكم وطمأنينتكم؟ أم نسيت أن تظلمك للخازندار يعني أننا ظلمناك ولم نعدل في تقدير المال المطلوب منك؟!»
فأخذ السيد عبد الرحمن يستعطف الجابي ويحاول استرضاءه واتقاء غضبه بكل وسيلة. ثم نادى كاتب المتجر وأمره بأن يعد ألفي نصف ويحضرها فورا، فحنى الكاتب رأسه سمعا وطاعة ومضى لتنفيذ ما أمر به. ثم عاد بالمبلغ المطلوب بعد قليل فسلمه للسيد عبد الرحمن، وقدمه هذا للجابي فتناوله منه متظاهرا بعدم المبالاة، وسأله: «كم نصفا دفعت؟»
قال: «دفعت الألفين اللذين طلبتموهما.»
فقذف الجابي بالكيس الذي به النقود إلى الأرض، ثم نهض مغاضبا، وصاح بالسيد عبد الرحمن محتدا يقول: «لقد أبطرتكم النعمة. أإلى هذا الحد بلغ جهلكم وغروركم وقلة إنسانيتكم؟ أم حسبت أننا عبيد لك أو خدم عندك؟»
فارتعدت فرائصه، وازداد امتقاع وجهه، وابتلع ريقه بصعوبة لجفاف حلقه، ثم دنا من الجابي وقال في خشوع: «العفو يا سيدي ... لقد أطعت أمركم. ولي الشرف بهذه الطاعة الواجبة. فماذا أغضبكم؟»
فقال الجابي: «هل عميت عن حق الطريق؟»
ففطن التاجر إلى أنه لم يدفع للجابي بعض المال لنفسه فوق الضريبة كما هي العادة. وكان الخوف قد أنساه ذلك، فبادر بالاعتذار والاستغفار، مؤكدا أنه لا يمكن أن يغفل أداء مثل هذا الواجب المقدس، وإنما وقع ذلك سهوا منه ومن كاتبه. فقال الجابي: «حقا إنكم جهلة متأخرون، لا تحترمون موظفي حكومتكم وتتجاهلون حقوقهم. وكان يجب أن تدفع حق الطريق قبل دفع الإعانة نفسها.»
فأخذ السيد عبد الرحمن يتضرع إليهم أن يغفروا له ذلك الخطأ غير المقصود، مبديا استعداده لدفع ما يأمر به الجابي، فقال هذا: «لا تطل الكلام، ادفع مائة نصف.»
قال: «سمعا وطاعة.» ثم انطلق إلى خزانته وجاء بالمال المطلوب في إحدى يديه، وفي الأخرى مثله لكل من الكاتب والجندي حامل الدفتر، ثم سلم كلا منهم نصيبه من حق الطريق، وتنهد دلالة على الارتياح، ووقف بين أيديهم متأدبا، وفي نفسه أنه أرضاهم جميعا وتخلص من شرهم، ولا يلبثون قليلا حتى ينصرفوا فيعود إلى أداء صلاة العصر قبل أن يفوت وقتها.
وشد ما كان عجبه وجزعه حين رأى الجابي يشير إلى الكاتب الذي معه، ويأمره بمراجعة الدفتر لعل هناك ضرائب أخرى لم تسدد بعد. فنظر الكاتب في الدفتر قليلا ثم التفت إلى الجابي وقال: «إن له أرضا في الشرقية يدفع عنها كيسين كل سنة عشورا. والمطلوب أن يدفع الآن عشور ثلاث سنوات سلفا؛ لأن الديوان محتاج إلى نفقات كثيرة.»
فوجم السيد عبد الرحمن ثم تمالك نفسه وقال للجابي: «عفوا يا سيدي. إن هذه الأرض لم تعد ملكا لي؛ إذ إنني بعتها منذ سنة.»
وظن أن الجابي سيقتنع بهذه الحجة ويعفيه من العشور المطلوبة. ولكن هذا بدلا من الاقتناع وضع يده على مقبض سيفه ورد عليه بقوله: «أتريد اختلاس أموال الديوان بالكذب والبهتان؟ أم تريد أن نكذب دفتر الحكومة ونصدق دعواك ... لا بد من دفع العشور المطلوبة الآن وإلا كنت الجاني على نفسك.»
فتلعثم التاجر ولم يستطع جوابا؛ لعلمه أن ليس أسهل على الجابي من قتله ونهب كل ما في متجره. ثم نادى كاتب المتجر وسأله أمامهم: «هات ستة أكياس.» فقال الكاتب: «ليس في الخزانة الآن إلا كيسان اثنان، فهل آتي بهما؟»
وعبثا حاول السيد عبد الرحمن أن يستعطف الجابي ليمهله إلى اليوم التالي ريثما يدبر بقية المال المطلوب، فاستأذنه في الخروج لاقتراضه من أحد التجار، فلما أذن له خرج يطوف بمتاجر زملائه في الوكالة، حتى وفق إلى من أقرضه الأكياس الأربعة الباقية، فعاد بها إلى متجره يتنازعه عامل الأسف على ما تجشم من خسائر مالية فادحة، وعامل الشكر لله على أن نجاه من القتل بيد الجابي المتكبر الجبار.
وما بلغ المتجر حتى وجد كاتبه جالسا يبكي وينتحب بالباب، والدم يسيل من جرح في رأسه. فسأله: «ما هذا، وأين الجابي ومن معه؟»
قال: «لم تكد تخرج حتى نادوني وأخذوا الكيسين طالبين أن أحضر لهم الأكياس الباقية في الحال؛ لأنهم لا يستطيعون الانتظار أكثر مما انتظروا. فلما كررت لهم الاعتذار بخلو خزانة المتجر، اعتدوا علي بالضرب ونهبوا ما استطاعوا نهبه من السلع المعروضة في المتجر، ثم انصرفوا حانقين متوعدين!»
فاستعاذ السيد عبد الرحمن بالله من ذلك الظلم المبين، وراح يندب سوء حظ مصر ونكبة أهلها بحكم المماليك المستبدين، وجلس في المتجر مطرقا مفكرا، ثم رفع رأسه بعد قليل، ومسح دمعة انحدرت من عينه على خده، وعزى نفسه قائلا: «الحمد لله على أن الخسارة لم تتعد الأموال، ولو أنهم قتلوني ما طالبهم بدمي أحد.»
ثم نهض ومشى إلى الدكة التي فرشت عليها السجادة للصلاة، فصلى في خشوع وإيمان، ودعا الله أن يقيه شر أولئك اللصوص الطغاة غلاظ القلوب والأكباد. •••
جلس السيد عبد الرحمن في متجره بعد أن أدى صلاة العصر، يفكر في الظلم الذي حاق به من الجابي وصاحبيه. وفيما هو في ذلك، دخل عليه رجلان في زي كتبة الديوان وفي يد كل منهما دفتر، فوقع الرعب في قلبه وعاد إليه اضطرابه أشد مما كان. على أنه جاهد نفسه حتى لا يظهر عليه شيء من ذلك، وخف إلى استقبالهما والترحيب بهما ودعاهما إلى الجلوس بجانبه. ثم أمر لهما بالقهوة والغليون، وأخذ يلاطفهما معربا عن اغتباطه بتشريفهما إياه بالزيارة.
ومع أنهما كانا أقل خشونة من الجابي وصاحبيه، وكان هو على يقين من أنه دفع أكثر من قيمة الضرائب التي يحصلانها باسم عوائد الوالي والأغا (رئيس الشرطة)، والمحتسب (ملاحظ المكاييل والموازين والأسعار). بقي خائفا يترقب شرا من وراء زيارتهما؛ لعلمه في الوقت نفسه بأنهما وأمثالهما ليس لهم رواتب من الحكومة، بل هم يفرضون لأنفسهم ضرائب شهرية على التجار وأصحاب الحرف، يقدرونها حسبما يتراءى لهم، وربما أخذوها مرتين أو ثلاثا في الشهر، بغير رحمة ولا شفقة.
ولم يطل به الانتظار حتى وقع ما كان يحذره، فنظر أحد الكاتبين في الدفتر الذي يحمله والتفت إليه قائلا: «مطلوب منذ الآن مائة نصف من عوائد الحسبة، ومثلها من عوائد الوالي والأغا.»
فقال: «إنني أذكر أني دفعت هاتين الضريبتين منذ بضعة أيام فقط.»
وهنا صاح الكاتب الآخر في وجهه قائلا: «كيف تقول مثل هذا الكلام وأنت تاجر كبير تربح الكثير؟ وهل جئنا إذن لنختلس أموالك؟ ... ها هو الدفتر أمامك، وقد سجل فيه ما دفعت وما يجب أن تدفعه. وهو مال الحكومة كما تعلم، ولا سبيل إلى التهرب من دفعه!»
فاستعاذ السيد عبد الرحمن بالله من شر ذلك اليوم، وقال: «العفو سيدي. إني لم أقصد شيئا من ذلك، وإنما ذكرت ما اعتقدت أنه الحقيقة، ولعلي واهم. وجنابك أصدق على كل حال. فمعذرة.»
ثم نهض وقدم لهما المال المطلوب، وفوقه «حق الطريق» لكل منهما، وقال: «أرجو قبول معذرتي مع خالص احترامي وشكري على أن شرفتموني بهذه الزيارة الكريمة.»
فضحك الكاتب الأول متطرفا وقال له: «أنت رجل لطيف يا سيد عبد الرحمن.» ثم نظر إلى قطعة من الحرير الثمين كانت بين السلع المعروضة في المتجر وقال: «بكم تبيع هذه القطعة؟ ... إنها تصلح قباء (قفطانا) لي.»
فقال: «هي لك يا سيدي وقد وصل ثمنها.» ثم أمر بعض عمال المتجر بإحضار قطعة مماثلة، وقدم القطعتين للكاتبين متأدبا وهو يقول: «إنه لشرف عظيم أن تحوز بضاعتي إعجاب رجال الحكومة.» فأخذا القطعتين وانصرفا مشيعين بكل احترام.
وكانت الشمس قد أوشكت أن تغرب، فعجل السيد عبد الرحمن بإنجاز ما لديه من أعمال ضرورية مثل كتابة الخطابات للعملاء ومراجعة حساب البيع والشراء في ذلك اليوم. كما أعاد ترتيب السلع في المتجر. ثم هم بإغلاق المتجر والعودة إلى منزله قبل أن يسود الظلام، ويتعرض لأخطار الطريق؛ إذ كانت الطرقات والأسواق في ذلك الحين لا تضيئها سوى بعض المصابيح الضعيفة الخافتة الضوء، معلقة على أبواب الحارات وبعض المنازل.
وفيما هو يغلق المتجر، جاءه بواب الوكالة مهرولا يقول: «لقد عاد الجابي يا سيدي!»
فأجفل واستعاذ بالله من شر هذه العودة، وأخذ يلعن سوء الحظ الذي جعله يحترف التجارة وأطمع فيه أولئك الحكام الذين لا يرحمون.
وبعد قليل وصل الجابي، فإذا به يترنح من فرط سكره، وقد أمسك خنجره بيده. ومن خلفه رفيقاه في مثل حاله. فهم السيد عبد الرحمن بالفرار من وجوههم، لكنه خشي أن يدركوه ويقتلوه، فآثر البقاء وترامى على يد الجابي يهم بتقبيلها متذللا متضرعا، فدفعه هذا بقوة وانتهره قائلا: «أهكذا تهرب من دفع مال الميري يا خائن؟» وأخذ يكيل له أفحش ألفاظ الشتم والسباب، ويهدده بالخنجر الذي في يده.
فجثا السيد عبد الرحمن بين يديه، وهم بتقبيل قدميه وقال: «إني عبدكم يا سيدي، وهذا هو حانوتي بين أيديكم فخذوا منه كل ما تريدون، فأنا رهن إشارتكم.»
فقال الجابي وهو ما زال يترنح: «حسنا، إذن هيا ادفع المطلوب منك، وإياك أن تعود إلى مثل ذلك التهرب.»
فسارع إلى إحضار الأكياس الأربعة التي اقترضها، ودفعها له ومعها «حق الطريق» لكل منهم. وهو يدعو لهم بطول العز والبقاء.
فقهقه الجابي الثمل مغتبطا وقال: «حسنا. حسنا. يلوح لي أنك رجل عاقل حسن التصرف.» ثم أغمد الخنجر وأعاده إلى موضعه في منطقته، وهم بالانصراف.
وفيما كان التاجر يشيعه بكلمات الشكر والدعاء، دنا منه الجندي حامل الدفتر، وهمس في أذنه قائلا: «إن الديوان أمر بتجنيد ولدك وأخذه إلى الحرب في الحجاز مع الحملة الذاهبة إلى هناك بعد أيام؛ وذلك لأن جنود المماليك لا يكفون لهذا الغرض، ولا بد من إمدادهم بجنود آخرين من سكان البلاد المصريين والأتراك والمغاربة والشوام.»
فبغت السيد عبد الرحمن، وكاد قلبه يقف لهول هذا النبأ المرعب، وشعر بأن كل ما لحقه من الظلم والإهانة والخسائر المالية الجسام لا يعد شيئا يستحق الذكر بجانب أخذ ولده الوحيد إلى الحرب.
وأدرك الجندي ذلك منه، فاقترب منه وهمس إليه مرة أخرى قائلا: «اطمئن يا سيدي. واشكر الله على أن هيأ لك ولولدك مخرجا من هذا المأزق، فإن جناب الجابي - جزاه الله خيرا - قد رثي لحالكما، وأعمل نفوذه وحيلته لإعفاء ولدك من ذلك التجنيد. وأظن أنه استحق بذلك أن تشكره وتكافئه على معروفه هذا ببعض المال!»
فتنهد التاجر، وذهب عنه الروع، وشعر بأنه مدين بسعادته لمعروف ذلك الجابي المستبد السكران، فهم بيديه يقبلهما والدموع تطفر من عينيه. ثم نادى خادمه وأرسله إلى التاجر الذي اقترض منه الأكياس الأربعة في العصر، ليقترض له مثلها على أن يردها كلها في الغد. ثم جلس مع الجابي وصاحبيه في انتظار عودة الخادم، ولسانه يلهج بشكرهم والثناء على أريحيتهم ومروءتهم.
وانتهز ثلاثتهم هذه الفرصة، فأخذوا في انتقاء ما خف حمله وغلا ثمنه من السلع الموجودة في المتجر وأخذها لأنفسهم وهو لا يستطيع أن يمنعهم، بل كان يعرب لهم عن اغتباطه بذلك. فلما عاد خادمه بالأكياس الأربعة المقترضة، تناولها منه، وأعطى الجابي كيسين، وكلا من الجندي وكاتب الجابي كيسا. فأخذوها وانصرفوا بها وبما انتقوه من السلع.
وما كادوا يخرجون من الوكالة حتى سارع السيد عبد الرحمن إلى إغلاق المتجر، وغادرها هو الآخر عائدا إلى منزله، وقد سدل الليل نقابه. وفي يده مصباح من الورق يستعين به على تبين الطريق. •••
كان من عادة السيد عبد الرحمن أن يمر في طريق عودته إلى المنزل كل مساء بالبيمارستان المنصوري الذي يدرس فيه ابنه حسن، فيصطحبه من هناك إلى المنزل.
ولما وصل إلى البيمارستان، وجد أبوابه مغلقة، فأدرك أنه تأخر عن الموعد الذي تعود المرور به فيه لاصطحاب ابنه. وتذكر ما وقع له في متجره ذلك اليوم من الإهانات والخسائر. ولكنه حمد الله على أن نجى ولده الوحيد من خطر التجنيد. وواصل سيره حتى وصل إلى شارع النحاسين، فسمع وقع أقدام خلفه من بعيد، فأوجس في نفسه خيفة، وانزوى في منعطف هناك، حتى مر القادمون، وتبين من كلامهم أنهم جماعة من الجند، بينهم الجابي وصاحباه. فبالغ في الانزواء حتى بعدوا، وأمن شرهم، ثم عاد بمصباحه إلى الشارع، وواصل سيره، وهو لا يكاد يرى ما أمامه لضعف الضوء، وشدة قلقه واضطرابه.
ولما بلغ شارع الكعكيين، واقترب من الحارة التي بها منزله، لاحظ أن باب الحارة مفتوح على غير العادة؛ إذ كانت أبواب الحارات تغلق كلها عقب الغروب. فاشتدت وساوسه وأسرع في مشيته ليقف على سبب إبقاء الباب مفتوحا، وأخذ يدعو الله بقلبه ألا يكون السبب ما يسوء.
وقبل أن يبلغ الباب، سمع شخيرا عميقا بالقرب منه، ولمح على ضوء مصباحه الخافت جسم إنسان ممددا على الأرض، فدنا منه وقرب المصباح من وجهه فتبين أنه البواب، وأنه جريح يسيل الدم من رأسه ووجهه، وبجانبه الخشبة الغليظة التي توضع خلف باب الحارة من الداخل ويدخل بعضها في الحائط لتكون بمثابة المزلاج. وكانوا يطلقون عليها اسم «الدقر». وقد لوثت بالدم السائل من جرح المسكين.
وأخذ السيد عبد الرحمن ينادي البواب باسمه، فلم يستطع هذا جوابا، واستمر في شخيره وهو يئن أنينا خافتا متقطعا. فأدرك أنه في غيبوبة الموت، واشتد خفقان قلبه وارتعدت فرائصه لهول ذلك المنظر المروع. وحدثته نفسه بأن يبلغ الأمر إلى رجال الشرطة في مقرهم الخاص بالمنطقة. ثم خشي ما قد يجره عليه هذا من الظلم والإهانة. كما رأى أن بقاءه بجانب البواب الصريع قد يوقعه في تهمة قتله وهو بريء منها. فغادر المكان مسرعا ودخل الحارة ملتمسا الطريق إلى منزله فيها. وما كاد يخطو بضع خطوات حتى سمع وقع أقدام كثيرة خلفه، فالتفت فإذا برجلين كأنهما ماردان، يرتديان ملابس قصيرة وفي يد كل منهما عصا غليظة طويلة، وصاح به أحدهما قائلا : «قف مكانك يا مجرم، أتظن أن التخلص من جريمة القتل سهل إلى هذا الحد؟!»
فوقف السيد عبد الرحمن، وقد امتلأ قلبه رعبا، ولم تعد ساقاه المتخاذلتان المرتعدتان تقويان على حمله، ولاسيما بعد أن رأى أحد الرجلين رفع عصاه وهم بأن يهوي بها على رأسه. على أنه تحامل على نفسه متجلدا، وقال للرجلين في صوت متهدج: «لست والله مجرما، ولا أنا ممن يستطيعون قتل هرة.»
وكان جوابهما أن انقض عليه أحدهما وقبض على عنقه بيد من حديد حتى كاد يزهق روحه خنقا، بينما أطفأ الآخر المصباح، وراح يجرد التاجر من كل ما يحمله من نقود وثياب وأوراق وحلي وغيرها. ثم ألقياه بقوة على الأرض وتركاه ذاهلا يئن من فرط الألم ولاذا بالفرار، بعد أن هدداه بالقضاء على حياته إن هو فتح فمه بكلمة واحدة!
ولم يسعه إلا الامتثال، فبقي صامتا ساكنا حتى ابتعدا، ثم نهض ومشى إلى منزله بما بقي عليه من الملابس الداخلية، وهو عاري الرأس حافي القدمين. فلما اقترب من المنزل سمع فيه صراخا وعويلا فازداد اضطرابه. وطرق الباب طرقا شديدا، فأطل بعض الخدم من نافذة تشرف على الباب ولم يستطيعوا معرفته لتغير هيئته وملابسه ولضعف ضوء المصباح المعلق بالباب، وحسبوه لصا أو محتالا فانهالوا عليه بالشتائم والحجارة. لكنه صاح بهم مهددا متوعدا، وأخذ يدعوهم بأسمائهم حتى عرفوه ففتحوا له الباب واستقبلوه معتذرين باكين. ورأى الجواري محلولات الشعر يلطمن وجوههن نادبات معولات. وعلم منهن أن زوجته وحدها في غرفتها، وأنها تكاد تكون غائبة الوعي كأنما أصيبت بالذهول أو الجنون؛ وذلك لأن عساكر المماليك جاءوا إلى المنزل منذ قليل وهم سكارى، وقبضوا على ولدهما حسن وساقوه إلى الديوان تمهيدا لتجنيده وإرساله إلى الحرب!
الفصل الثاني
في قلعة القاهرة
أدرك السيد عبد الرحمن أن الجابي هو الذي اقتحم منزله وأخذ ولده، رغم الأكياس والسلع التي أخذها منه في المتجر هو ومن معه، فطفرت الدموع من عينيه حنقا وحزنا. ومضى إلى زوجته في غرفتها فوجدها قد حلت شعرها وشقت ثيابها وتورم خداها واحمرت عيناها من شدة اللطم والبكاء. وما وقع نظرها عليه حتى صاحت قائلة: «لقد أخذوه ... أخذوا حسنا إلى الحرب والقتل.» واستأنفت اللطم والعويل.
ولم يستطع مغالبة تأثره الشديد بهذا المنظر، فأخذ هو الآخر يلطم وجهه وأطلق لدموعه العنان. وشاركهما في ذلك كل من في المنزل من الخدم والجواري.
وأخيرا، اقتربت منه زوجته وهي على تلك الحال وقالت له: «ألا تخرج للبحث عن حسن والوقوف على ما تم في أمره، عسى أن توفق إلى إنقاذه بأي ثمن؟»
فقال: «لو قبلوا أن أفتديه بكل ما أملك، وفوقه حياتي نفسها ما أحجمت عن افتدائه. وقد بذلت للجابي كل ما طلب وزيادة، على أمل أنه أعفاه من التجنيد رحمة بنا. لكنه - لعنه الله - أبى إلا أن يفجعنا في مالنا وولدنا.»
فقالت: «سينتقم الله منه ومن كل ظالم عما قريب. لكن كيف نصبر على فراق وحيدنا وفلذة كبدنا، ونتركهم يأخذونه من الدار إلى النار؟»
فتنهد السيد عبد الرحمن، وصر بأسنانه غيظا من ذلك الظلم، ثم قال لزوجته: «وماذا أصنع وأنا لا أستطيع الخروج من المنزل الآن؟»
فأبدت دهشتها وقالت: «وما الذي يمنعك من الخروج؟»
قال: «يمنعني أن على باب الحارة قتيلا مضرجا بدمائه، وقد كادوا أن يقبضوا علي ويتهموني بقتله، لولا أن كتب الله لي النجاة من أيديهم بعد أن اعتدوا علي بالضرب وسلبوني ثيابي وكل ما كان معي.»
فبغتت كما بغت جميع الحاضرين، وأدركوا سبب مجيئه إلى المنزل عاري الرأس حافيا ليس عليه إلا الملابس الداخلية. ثم سألته زوجته: «ألم تعرف من ذلك القتيل؟»
قال: «عرفته. هو بواب الحارة المسكين!»
فقالت: «تبا لهم من ظلمة أشرار! ذهب المسكين ضحية الإخلاص والوفاء والدفاع عن الحق، فقد سمعته يستمهلهم حتى تحضر، وهم يهمون بأخذ حسن.» وعادت إلى البكاء قائلة: «ترى أين أنت الآن يا ولدي؟ وهل يقدر لنا أن نراك بعد الآن؟»
فلم يتمالك السيد عبد الرحمن عن البكاء معها، وأخذ يندب حظه وولده قائلا: «آه يا حسن! كيف نتركك تذهب إلى الموت وليس لنا في الحياة سواك؟»
فقالت له زوجته: «ألا نشكو أمرنا ونتظلم عسى أن ترق لنا قلوبهم أو يطلقوا سراح ولدنا بأية وسيلة؟»
فهز رأسه أسفا وحزنا وهو يتنهد، ثم قال: «ولمن نشتكي يا سالمة؟ هل نشتكي إلى المماليك وهم أنفسهم الذين ظلمونا ... ليس أمامنا إلا الله وحده نشكو إليه بثنا وحزننا، وهو القادر على أن يكشف عنا هذا البلاء الذي غطى كل ما سبقه من ويلات ونكبات.»
فقالت سالمة: «أليس من وسيلة إلى مقابلة الباشا واستعطافه، لكي يوصي علي بك برد ولدنا إلينا لأنه لا يستطيع الحرب؟»
فقال: «إن الباشا نفسه يشكو مثلنا ظلم المماليك، عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا ... لا. ليس لنا إلا أن نشكو إلى الله.»
ثم رفع يديه ورأسه إلى السماء وأخذ يتضرع إلى الله قائلا: «يا رافع السموات وباسط الأرض، يا عالما بكل شيء، وقادرا على كل شيء، نسألك بحق ذلنا وانكسارنا، أن تلطف بنا فيما جرت به المقادير، وتنتقم لنا من الظلمة الغاشمين بجاه خاتم الأنبياء والمرسلين.» •••
لبث السيد عبد الرحمن وسالمة زوجته يبكيان ولدهما حسنا، ويشاركهما في البكاء كل من في منزلهما من الخدم والجواري حتى مضى الليل كله في ذلك دون نوم ولا طعام.
على أن السيد عبد الرحمن ما كاد يسمع أذان الفجر، حتى نهض وتوضأ وأدى ما عليه لله من فرائض للصلاة. وكان قد فاتته صلاة المغرب والعشاء بسبب ما تراكم عليه من الأحداث والأحزان.
ولما فرغ من الصلاة والدعاء إلى الله أن يكتب السلامة لولده العزيز الوحيد، جالت بخاطره فكرة رأى في تحقيقها ما قد يحقق رجاءه. فنهض ومضى إلى زوجته في غرفتها حيث كانت تواصل البكاء وقد خارت قواها واحمرت عيناها، وقال لها: «قد رأيت أن أمضي إلى السيد المحروقي في داره لأخاطبه في أمرنا، وهو من السادة الأشراف المقربين إلى علي بك، وما أظن أنه يرفض التوسط لنا عنده ليأمر بإطلاق سراح ولدنا.»
فقالت: «حسنا تفعل، وما أظن أن علي بك يرد مثل هذا الطلب لصديقه الشريف الكبير . فهيا عجل بتنفيذ هذه الفكرة، وعلى الله التوفيق.»
ثم رفعت يديها إلى السماء والدموع في عينيها ورفعت صوتها المتهدج قائلة: «يا رب، أنت أعلم بحالنا فارحمنا يا أرحم الراحمين.»
وبعد قليل، كان السيد عبد الرحمن قد استعد للخروج، فارتدى جبة وقباء (قفطانا) ووضع على رأسه العمامة، واحتذى نعلا جديدة بدل التي سلبه اللصوص إياها مع بقية ملابسه ودراهمه بالأمس. ثم هم بالنزول من دار الحريم في الطابق العلوي من المنزل، داعيا الله بقلبه ولسانه أن يوفق في مهمته.
وفيما هو كذلك إذا به يسمع ضجة كبيرة أمام المنزل، ثم طرقات عنيفة على الباب، فتسارعت دقات قلبه ووقف شعر رأسه وجحظت عيناه دهشة ورعبا، ثم خطر بباله أن الطارق ربما كان ولده أو رسوله أو بشيرا بقدومه، فعاودته همته وشهامته، وخف إلى نافذة قريبة فأطل منها على باب المنزل. وشد ما كانت خيبة آماله؛ إذ رأى جماعة من العساكر والإنكشاريين وبينهم رجال موثقون بالقيود والأغلال، فعاوده رعبه وفزعه وتخاذلت ساقاه فلم يعد يستطيع الوقوف فضلا عن المشي، فارتمى على مقعد بجانب النافذة حيث اعتمد رأسه بيديه وغرق في لجة من الوساوس والهموم.
وكان من في المنزل قد رأوا ما رآه فأخذهم ما أخذه من الخوف وتوقع الشر واجتمعوا حوله خافقة قلوبهم معقودة ألسنتهم، حتى سالمة زوجته إذ تحول صراخها إلى أنين خافت مكبوت.
ومضت لحظة رهيبة علت بعدها ضجة المزدحمين بباب المنزل، واشتدت الطرقات عليه، وصحب ذلك صوت معالجة فتح الباب بالعنف، فرفع السيد عبد الرحمن رأسه وأشار إلى بعض الخدم الملتفين حوله أن ينزلوا لفتح الباب وإدخال العساكر القادمين قاعة الاستقبال (المنظرة) في الطابق الأرضي لتقديم القهوة لهم وسؤالهم عما يريدون. ففعلوا ما أشار به.
وبعد قليل صعد إليه أحد أولئك الخدم وقد ازداد وجهه صفرة، وأنبأه بلسان متلعثم أن القادمين هم رجال الشرطة المنوط بهم حفظ الأمن والنظام بالمنطقة، وأنهم قبضوا على كثير من سكان الحارة وغيرهم للتحقيق معهم في أمر مصرع بواب الحارة، ويريدون أن يخرج معهم لسماع أقواله أمام الوالي (رئيس الشرطة) في القلعة.
ولا تسل عن فزع السيد عبد الرحمن بعد أن سمع هذا الكلام، على أنه خشي أن يكون في تأخره عن النزول إليهم والخروج معهم إلى القلعة ما لا تحمد عقباه، فتحامل على نفسه وودع أهل منزله ثم تزود بقدر كبير من الدراهم لعله يحتاج إليها في الطريق. وهبط من دار الحريم إلى المنظرة فحيا العساكر في أدب واحترام وقدم لهم نفسه، فسرعان ما أوثقوه ثم خرجوا به مع المقبوض عليهم الآخرين آخذين طريقهم إلى القلعة. •••
وصل السيد عبد الرحمن إلى القلعة وقد أنهكه التعب والحزن وما قاساه من إهانات العساكر في الطريق. وهناك أوقفوه مع بقية المتهمين أمام رئيس الشرطة، فأخذ يهددهم بالقتل ويسمعهم أفحش السباب، وكلما تراموا على قدميه مؤكدين براءتهم مما اتهموا به، لج في طغيانه وأصم أذنيه عن سماع توسلاتهم.
وأخيرا، أمر العساكر بأن يزجوا بهم في السجن ريثما ينظر في أمرهم، فهم هؤلاء بتنفيذ الأمر، وهمس جاويش منهم قائلا للمتهمين الموثقين: «إن جناب الوالي (رئيس الشرطة) لا يبالي تظلمكم، ولا تهمه دعواتكم له بطول العمر والسلامة، ولكن إذا دفع كل منكم نصف كيس مساهمة في دية القتيل، فقد يقبل إعادة النظر في أمركم ويعفو عنكم!»
فاستبشر السيد عبد الرحمن وقال في نفسه: «هذا طلب هين يسير.» ثم دفع للجاويش نصف كيس للوالي ونصف كيس له. واقتدى به من استطاع الدفع من المتهمين، فأخذ الجاويش ما دفعوه من المال وعاد إلى الوالي فتحدث معه هنيهة، ثم جاءهم يقول: «قد عفا جناب الوالي عنكم.» فصاحوا جميعا شاكرين داعين.
وحسب المتهمون - وفي مقدمتهم السيد عبد الرحمن - أن المسألة انتهت عند هذا الحد. ولكن العساكر ما لبثوا أن ساقوهم في قيودهم وأغلالهم إلى مقر الأغا (محافظ المدينة) في القلعة بحجة إتمام التحقيق!
وكان هذا الأغا إنكشاريا طويل القامة هائل الحجم، على رأسه عمامة بيضاء هرمية الشكل، وعلى كتفيه العريضتين فرو سمور، وهو كث اللحية عريضها، تدل نظراته الشزراء على أنه فظ غليظ القلب . فلما دخلوا عليه أمر بجلدهم قبل أن يسمع أي شيء عن أمرهم. فأخذوا يتضرعون إليه ويستعطفونه مترامين على قدميه يحاولون تقبيلهما، فركلهم وقال لهم محتدا: «إما أن تذكروا من القاتل وإما كنتم القاتلين وحق عليكم أشد العقاب!»
وبعد اللتيا والتي، كتب الله لهم الخلاص من شر الأغا. بعد أن جمعوا من بينهم ما تيسر من المال ودفعوه له ولمعاونيه، فأمر بحل وثاقهم وإطلاق سراحهم، فخرجوا من عنده وهم لا يكادون يصدقون أنهم نجوا.
ولاح للسيد عبد الرحمن أن ينتهز فرصة وجوده في القلعة فيذهب لمقابلة الباشا في مقره هناك، ويقص عليه حكايته، فإن لم يجد فائدة منه ذهب إلى السيد المحروقي كما قرر من قبل. ثم تردد في تنفيذ هذه لفكرة؛ لأنه لا يعرف اللغة التركية، والباشا لا يتكلم إلا بها ولا يعرف العربية. لكنه تذكر أن الباشا لا بد أن يكون لديه مترجم خاص أو أكثر، فزايله تردده ومشى في طرقات القلعة حتى وصل إلى قصر الباشا فهاله عظم بابه، وكثرة الحجاب الأتراك الواقفين به وعلى كل منهم سراويل قصيرة، وقد تقلد بندقية.
ودنا من أحد أولئك الحجاب واستأذنه في الدخول، فسأله الحاجب: «ما حاجتك؟» قال: «لي قضية مهمة أريد أن أعرضها على أفندينا الباشا.»
فقال الحاجب: «انتظر قليلا حتى نعرض أمرك على جناب الكتخدا نائب الباشا.»
ثم دخل الحاجب وغاب دقائق عاد بعدها وقال له: «قد أذن جناب الكتخدا بدخولك عليه فتعال نفتشك أولا لئلا يكون معك شيء من السلاح.» وبعد أن فتشه وتحقق أنه لا يحمل سلاحا، قاده إلى الداخل حيث مضى به إلى غرفة الكتخدا، وأزاح له الستارة الموضوعة على بابها فدخل وقلبه يخفق هيبة، فوجد الكتخدا جالسا في صدر القاعة بالملابس التركية، فحياه باحترام. وأشار إليه الكتخدا أن يجلس على مقعد بالقرب منه وكلم الحاجب بالتركية آمرا إياه بدعوة الترجمان إليه. فجلس السيد عبد الرحمن مطرقا ويداه على ركبتيه. وبعد هنيهة جاء الترجمان وسأله بالعربية عما يريد، فأخذ يقص عليه حكايته من أولها إلى آخرها ، وهذا يترجمها فقرة فقرة للكتخدا، فيهز رأسه مبديا دهشته وأسفه.
والتفت الكتخدا أخيرا إلى السيد عبد الرحمن وفي نظراته ما يدل على الرثاء له والرأفة به، ثم قال له بوساطة الترجمان: «قد فهمت قضيتك وأدركت أنك على حق فيما شكوته من الظلم. وسأذهب بنفسي لرفع هذا الظلم عنك ورد ولدك إليك.»
فلم يتمالك السيد عبد الرحمن عن الوقوف ودموع الاستبشار بقرب الفرج تطفر من عينيه، ثم هم بتقبيل يد الكتخدا، فمنعه من ذلك، وأشار إليه أن يجلس كما كان. فعاد إلى مقعده ولسانه ما زال يلهج بالشكر والدعاء.
وأخذ الكتخدا يتبسط في الحديث بوساطة الترجمان مع السيد عبد الرحمن، إلى أن استطلع رأيه فيما يقال من اعتزام علي بك الاستقلال بحكم مصر وإخراجها من يد الدولة العلية، فأجاب بقوله: «قد سمعت يا سيدي شيئا عن ذلك. وأكبر الظن أن الغرض الأول لعلي بك من إرسال الحملة إلى الحجاز ليس مساعدة شريف مكة ضد منافسه فقط، بل غرضه إخراج تلك البلاد من يد دولة الخلافة أيضا. ولهذا أكثر من الجنود في تلك الحملة حتى لم يبق أحد من الشبان المقيمين بمصر إلا ألحقه بها، لا فرق بين المصريين منهم والمغاربة والشوام والأتراك والأروام. وقد شاءت المقادير أن يكون ولدي الوحيد بين أولئك المجندين، مع أنه من المتخرجين في الأزهر ومدرسة السلطان حسن، ولم يكتف بما حصله من علوم الدين واللغة وغيرهما فالتحق بمدرسة البيمارستان المنصوري ليدرس الطب على يد أحد الأطباء المغاربة فيه.»
فقال الكتخدا: «إن هؤلاء المماليك قد أمعنوا في طغيانهم وتمردهم على مولانا السلطان، ولا شك في أن جلالته لا يقر هذه الأعمال، لما عرف عنه من الميل إلى العدل والحلم والبر برعاياه. ولا بد من وضع حد لهذه المظالم. فطب نفسا وقر عينا، وثق أن حاجتك مقضية، ولا يلبث ولدك أن يعود إليك سالما بإذن الله.»
فوقف السيد عبد الرحمن، وحاول مرة أخرى تقبيل يد الكتخدا ولكن هذا منعه أيضا، ثم ودعه مطيبا خاطره مكررا وعده بالسعي العاجل بنفسه في سبيل رد ولده إليه. فخرج من عنده وقد أنساه ذلك كل ما عاناه من نصب وعذاب. •••
ما كاد السيد عبد الرحمن يهم بالخروج من القلعة، حتى بصر بموكب قادم إلى قصر الباشا، يتقدمه شيخ ذو لحية طويلة راكبا على حمار، وعلى رأسه عمامة غريبة الشكل. فسأل بعض الجنود عمن يكون هذا الشيخ، فقال له أحدهم: «ألا تعرفه؟ إنه أبو طبق، لعنه الله ولعن من أرسلوه!»
فتذكر ما كان يسمعه عن الأوضه باشي الذي تعود المماليك أن يرسلوه إلى الباشا الذي يقررون عزله، لتبليغه هذا القرار. وكان العامة يسمونه أبا طبق، نظرا إلى أن عمامته متخذة من لبادة سوداء تنتهي عند حافتها بدائرة واسعة مصنوعة من نسيج من الأسلاك الرفيعة، تجعلها أشبه بالقبعات الإفرنجية الواسعة الحوافي. ولم يكن يذهب لأداء مهمته هذه إلا راكبا على حمار، ومن خلفه بعض أمراء المماليك.
فقلق السيد عبد الرحمن، وأوجس في نفسه خيفة من أن يكون الرجل قادما لإعلان الباشا بعزله، فتحبط مساعيه لإطلاق سراح ولده. وبقي واقفا حتى مر عليه الموكب فاختلط به، وعاد معه إلى قصر الباشا ليرى ما يكون.
فلما وصل الأوضه باشي أو أبو طبق إلى باب القصر، ترجل عن حماره، وهم بالدخول فتنحى كل من كانوا خلفه في الموكب، ولم يدخل معه إلا بعض أمراء المماليك. فدخل السيد عبد الرحمن في أثرهم، ولم يمنعه الحراس لأنهم رأوه في القصر منذ قليل.
ووقف الأوضه باشي أمام قاعة كبيرة أدرك السيد عبد الرحمن من ضخامة بابها وفخامة الستارة المرفوعة عليه أنها غرفة الباشا، فأصلح الأوضه باشي وضع عمامته الغريبة وجلبابه الفضفاض المزرر من الأمام، ثم دخل دون استئذان وخلفه أتباعه، فدخل معهم وأدار عينيه في القاعة فإذا الباشا قد جلس مطرقا في صدرها على سجادة ثمينة وعلى رأسه عمامة فوق القاووق، وعلى جبته فرو سمور، وبيده مذبة من ليف النخل. فلما شعر بدخولهم رفع وجهه وبدت الدهشة في نظراته وبقي ساكنا. بينما اقترب منه الأوضه باشي، ثم هم بيديه فقبلهما ، ثم تأخر قليلا وثنى طرف السجادة التي يجلس الباشا عليها، ورفع صوته وهو ينظر إليه قائلا: «انزل يا باشا.»
ثم مد يده فأخرج من ثوبه كتابا أخذ يقرؤه، فإذا هو قرار أصدره المماليك بعزل الباشا، وبأن يكون قصره بما فيه وكل حراسه تحت إمرتهم منذ ذلك الحين!
ولم ينبس الباشا ببنت شفة، ولكن وجهه بدا شديد الصفرة كوجوه الأموات، وكادت المذبة تسقط من يده؛ لما اعتراه على أثر سماعه نبأ عزله من الرعدة والارتجاف.
وانصرف الأوضه باشي على أثر ذلك مزهرا بأداء مهمته، فركب حماره وانطلق بموكبه عائدا من حيث أتى. ولم يتمالك السيد عبد الرحمن عن البكاء أسفا على حبوط مساعيه بسبب ذلك العزل المفاجئ، ثم تجلد وغادر القلعة آخذا طريقه إلى دار السيد المحروقي عسى القدر الذي كتب له الفشل هنا، يكتب له التوفيق هناك ...
الفصل الثالث
السيد المحروقي
وصل السيد عبد الرحمن إلى دار السيد المحروقي وهو يدعو الله أن يأتيه بالفرج على يديه، فوجد باب الدار مغلقا، والسكون يخيم عليها على غير العادة. وكان يعهدها حافلة بالقصاد. فتشاءم، وبحث عن البواب فيما جاور الدار فلم يجد له أثرا، فعاد إلى الباب وطرقه هائبا، فسمع صوتا من الداخل يسأل: «من الطارق؟» فتشجع ورد على صاحب الصوت وهو لا يراه ذاكرا اسمه وأنه جاء لمقابلة السيد في شأن خاص.
وسكت مرهفا أذنيه ليسمع الجواب، فلم يسمع شيئا. ولما مل الانتظار هم بإعادة طرق الباب، لكنه سمع وقع أقدام قادمة من الداخل، ثم فتح الباب وأطل منه أحد الخدم داعيا إياه إلى الدخول، فلما دخل أغلق الخادم الباب كما كان، ثم تقدمه إلى حجرة الجلوس، وكان بابها مفتوحا على مصراعيه. فلمح السيد المحروقي جالسا على وسادة في صدر الغرفة وفي يده كتاب يقرأ فيه، والدخان يتصاعد من غليونه، فأسرع السيد عبد الرحمن في مشيته حتى بلغ باب الغرفة فخلع نعليه وتركهما مع عصاه خارج الباب، ثم دخل محييا في أدب واحترام وقبل يد السيد، فهم هذا بالوقوف لاستقباله مرحبا به، فأمسكه السيد عبد الرحمن ليحول دون ذلك وهو يقول: «أستغفر الله ... أستغفر الله.»
وأشار إليه السيد المحروقي بالجلوس على وسادة بجانبه، وأمر له بالقهوة والغليون، مكررا عبارات الترحيب به، وكان قد عرفه من قبل، وكثيرا ما التقيا في الأزهر وغيره من المساجد الجامعة، ثم بدأ الحديث معتذرا من إغلاق باب الدار قائلا: «إن الأحوال الحاضرة اضطرتنا إلى إغلاق الباب، فالجنود كما تعلم يتأهبون للسفر إلى الحرب في الحجاز، ومن عادتهم أن يجوسوا خلال الديار للنهب والسلب والتحرش بالسابلة كلما هموا بالخروج للقتال. ولسوف يزدادون عتوا وفسادا في هذه المرة؛ لأن الديوان قرر اليوم عزل الباشا، فمتى علموا بذلك أمعنوا في تمردهم واعتداءاتهم على السابلة والمتاجر والبيوت.»
فقال: «قد شهدت بعيني عزل الباشا منذ قليل، وقد جئتكم من القلعة عقب انصراف أبي طبق منها.» وروى له حكايته من أولها إلى آخرها إلى أن قال: «ولم يبق لي بعد الله ملجأ سواكم، وإني لأرجو أن ينفعنا الله ببركتكم فأنتم سلالة الشرف والمجد، وقاصدكم لا يخيب بعون الله.»
ولم يتمالك السيد عبد الرحمن عواطفه التي هاجها تذكر ولده الوحيد، وما هو فيه من خطر، فأخذت دموعه تجري على خديه ولم يعد يستطيع الكلام. فتأثر السيد المحروقي، ووضع كتاب الحديث الذي كان يطالع فيه جانبا، ثم التفت إليه وقال: «صبرا يا أخي، فالعقبى للصابرين، ولا تحسبن الله غافلا عن ظلم هؤلاء القوم واستبدادهم، وكأني به - جل شأنه - قد سلطهم علينا لنثوب إليه ونعلم ألا ملجأ إلا إليه.»
ثم تنهد وهز رأسه أسفا وواصل حديثه فقال: «ومن عجب أنهم يدعون الإسلام، والإسلام بريء منهم ومن أعمالهم التي لم يأت مثلها الفراعنة والمجوس. وقد طالما نصحنا لهم ورجونا إصلاحهم فما ازدادوا إلا طغيانا وفسادا. وبلغ من قحتهم وكفرانهم بأنعم الله أن صرحوا بالخروج من طاعة مولانا السلطان، منتهزين لذلك فرصة اشتغاله بمحاربة روسيا. وقد رأيت اليوم كيف عزلوا الباشا، ليخلو لهم الجو، وليفسدوا في الأرض ما شاء لهم الظلم. وصحيح أن الباشوات الأتراك قصرت أيديهم في الزمن الأخير، وصارت الكلمة العليا في البلاد لهؤلاء المماليك، على أننا مع ذلك لم نكن نحرم من مساعدة على يد الباشا.»
فقال السيد عبد الرحمن: «هل ترى أنهم يستطيعون تحقيق مطامعهم وإخراج مصر من حوزة الخلافة؟ وهل لا يخشون قوة الدولة وشدة بطشها؟»
قال: «إنهم لجهلهم أحوال الدنيا يظنون أنها في متناول أيديهم، وأنهم سينالون مرامهم من أيسر سبيل. ومما جرأ علي بك على هذا فيما علمت أن كاتبه (المعلم رزق) زعم له أن علم التنجيم دله على نجاح مساعيه في سبيل الاستقلال بمصر. ومنذ ذلك الحين وعلي بك لا يعمل عملا إلا بمشورة ذلك الكاتب القبطي، ويسارع إلى قبول كل وساطة له في شأنهم.»
فهز السيد عبد الرحمن رأسه أسفا وقال: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! أبعد أن كان خلفاء المسلمين وولاتهم لا يعتمدون في مشوراتهم إلا على العلماء والفقهاء يأتي علي بك في آخر الزمان فيقلب الأوضاع ويتخذ النصارى أولياء ومستشارين من دون المؤمنين؟!»
فقال السيد المحروقي: «وهناك شاب نصراني آخر من أهل البندقية. اسمه «روزتي» قربه علي بك إليه وجعله من خاصة مستشاريه، ولاسيما بعد أن نجح روزتي هذا في عقد معاهدة بين أهل بلده وبين علي بك تقضي بأن يكونوا حلفاء وأنصارا له يمدونه بالعساكر وغيرهم عند الحاجة.»
قال: «سمعت أن معاهدة التحالف التي عقدها علي بك كانت مع المسكوف.»
فقال: «هذه معاهدة أخرى، عقدت بين علي بك وبين الكونت ألكسيس أورلوف أميرال الأسطول الروسي في البحر الأبيض المتوسط، وقد تمت بوساطة رجل أرمني من مستشاري علي بك اسمه يعقوب. وقد كان هذا وذاك مما أغرى علي بك بالمضي في خطة الخروج على الخلافة ومحاولة توسيع نطاق سلطانه والاستقلال بمصر. وها أنت ترى أنه بذلك قد خرب البلاد، وسلب أهلها أملاكهم وأرزاقهم.»
فعاد السيد عبد الرحمن إلى تذكر مصائبه وأفدحها أخذ ولده الوحيد إلى حرب لا غاية لها إلا مناوأة دولة الخلافة وتمكين السلطة للمماليك الظلمة المفسدين، فتنهد وكفكف دمعة انحدرت على خده وقال: «ألا يرى السيد أن هناك أملا في إطلاق سراح ولدي المظلوم. إنه وحيد أبويه كما تعلم، ولم يجاوز العشرين بعد، ولا معرفة له بالحرب والقتال، فهو قد أمضى طول عمره حتى الآن في الدرس والتحصيل ونسخ الكتب القيمة النادرة من المكتبات. وأعتقد أنه إن مضى إلى الحرب فهو هالك لا محالة. كما أني وأمه لن ننتفع بحياتنا بعده؛ إذ هو كل آمالنا في الحياة.» قال ذلك وعاد إلى البكاء.
فأخذ السيد المحروقي يخفف عنه وقال له: «إن علي بك كما تعلم رجل غضوب، اشتهر بأنه أشد بطشا من أسلافه جميعا، وكنا نحسب في أول عهده أنه أقرب إلى العدل والرفق بالرعية، مما كان يصرح به حينذاك، لكنه ما لبث قليلا حتى عاد إلى ما طبع عليه هو وأسلافه من الجور والإرهاب وأكل أموال الناس بغير الحق، وقتلهم بالجملة دون أي ذنب اقترفوه. حتى صارت رؤيته وحدها كافية لإدخال الرعب والفزع إلى قلوبهم. ولعلك سمعت بالمساكين الذين ماتوا في مجلسه منذ حين، حين رأوه لأول مرة فأرعبتهم هيئته التي تظهره أقرب إلى الأسد منه إلى الإنسان!»
قال: «نعم سمعت بذلك، غير أني أعلم كما يعلم غيري أنه يجل منزلتك ويحترم كلمتك. وأرجو أن تزول شدتي بفضل وساطتك في قضيتي عنده إن شاء الله.»
فقال السيد المحروقي وهو يمشط لحيته بيده: «حقق الله رجاءك، وسأسارع إلى مقابلته الآن لأخاطبه في هذا الشأن، وعسى الله أن يرقق قلبه فيكرم شيبتي هذه ولا يردني خائبا.» •••
صفق السيد المحروقي بيده، فجاء أحد خدم الدار ووقف متأدبا، فقال له: «سأخرج بعد ساعة في مهمة إلى القلعة، فأبلغ السائس ليسرج البغلة.» فحنى الخادم رأسه سمعا وطاعة وانصرف لتنفيذ ذلك الأمر.
وبينما السيد عبد الرحمن يهم بالنهوض مستأذنا في الانصراف وهو يكرر الشكر للسيد المحروقي على كرم وفادته ومبادرته بإجابة ملتمسه، جاء إلى القاعة خادم آخر وقال: «إن سراج علي بك (سائس جواده) بالباب.» فقال السيد: «دعه يدخل.» ثم التفت إلى السيد عبد الرحمن ونظر إليه كأنه يستبقيه حتى يعلم فيم أرسل علي بك يدعوه إليه. فبقي جالسا حتى عاد الخادم ومعه السراج، ثم وقف هذا متأدبا بباب القاعة وقال: «إن مولانا علي بك يدعو سيادتكم إلى منزله الليلة للمفاوضة في بعض الشئون.»
فسأله السيد المحروقي: «وأين هو الآن؟»
قال: «هو في القلعة لاستعراض الجنود المسافرين الليلة إلى الحجاز، وقد تركته جالسا في قصر الباشا هناك بعد أن عزل هذا وتم الاستيلاء على القلعة وما فيها.»
فقال السيد المحروقي: «أبلغ تحياتي إلى البك، وسأكون في شرف مقابلته بعد ساعة إن شاء الله.»
فحنى السراج رأسه إجلالا، وتقهقر خطوات ثم خرج من الدار وركب جواده المنتظر بالباب ومضى عائدا إلى القلعة.
وعلى أثر ذلك نادى السيد المحروقي خادمه الأول، وأمره بإحضار ملابس الخروج الرسمية. فأحضرها له بعد قليل. وهي مؤلفة من فروة سمور تلف حول العنق ويرسل طرفاها على الكتفين. وعمامة كبيرة ملفوفة حول قاووق طويل تبدو قمته ظاهرة في أعلاها.
وكان السائس قد أسرج البغلة ووقف بها عند الباب استعدادا لخروج سيده عليها، فهم السيد عبد الرحمن بيد السيد المحروقي وقبلها، وسار معه حتى ركب البغلة ومضت به في الطريق إلى القلعة. فعاد هو إلى منزله ليبشر من فيه بما أشرق في قلبه من الأمل في إنقاذ ولده الوحيد العزيز.
وفي طريقه إلى المنزل، سمع المنادين يصيحون في الشوارع والحارات قائلين: «ليكن معلوما لديكم يا أهل مصر أن الجنود سيخرجون اليوم من القلعة بأمر مولانا علي بك ذاهبين إلى الجهاد، فادعوا الله أن ينصرهم ويعيدهم إلى البلاد سالمين غانمين.»
وكان الناس يسارعون إلى إغلاق دورهم ومتاجرهم، توقيا لما تعودوه في مثل هذه الحال من قيام الجنود بالسلب والنهب والاعتداء على الآمنين والآمنات دون خوف ولا حياء.
فلما وصل إلى المنزل، كانت زوجته قد سمعت نداء المنادين. فأمرت الخدم بإحكام إغلاق الباب مخافة اعتداء الجنود، ثم استأنفت العويل والنحيب جزعا على ولدها الذاهب معهم إلى الحرب.
وما كاد الخدم يسمعون طرقه الباب بشدة حتى أجفلوا، وساد الذعر كل من في البيت حتى خفتت أصوات زوجته والجواري. فلم يجد بدا من رفع صوته مناديا الخدم بأسمائهم ليعلموا أنه هو الطارق، فعرفوا صوته وسارعوا إلى فتح الباب وقد زايلهم الذعر والرعب، وبادرته زوجته سائلة عما تم في أمر مساعيه، فقص عليها ما كان من ركوب السيد المحروقي لمقابلة علي بك والتوسط لديه في شأن تسريح حسن من الجندية، وكتم عنها نبأ عزل الباشا. وما سمعه من السيد المحروقي عن شدة سطوة علي بك وغلظته حتى لا يقطع خيط أملها، وأخذ يهون عليها، ويتظاهر بالاطمئنان إلى انفراج أزمتهما، حتى عاودها بعض الاطمئنان وسكتت عن الصراخ والعويل. لكن قلبها لم يطاوعها على الصبر، فقالت له: «إن قلبي غير مطمئن، فلم يبق على سفر الجنود إلا قليل، وأرى أن تمضي أنت لتلحق بالسيد المحروقي، وتبقى معه حتى يخاطب علي بك في أمر ولدنا، وإذا اقتضى الإفراج عنه التضحية بكل ممتلكاتنا وأموالنا فيجب أن نضحي بها دون أي تفكير.»
وهم بأن يصارحها بخشيته اعتداء الجند عليه في الطريق؛ لأن علي بك موجود في القلعة بعد أن عزل الباشا وحل محله فيها. لكنه آثر أن يكتم عنها ذلك، ونهض متحاملا على نفسه، وغادر الدار مسرعا، بعد أن أوصى الخدم بأن يعودوا إلى إحكام إغلاق الباب، والتيقظ لكل طارئ حماية لهم ولمن فيه من أي عدوان.
الفصل الرابع
في مجلس علي بك الكبير
كان أهل القاهرة قد التجئوا جميعا إلى منازلهم وأحكموا إغلاق أبوابها، بعد أن أغلقوا متاجرهم وتركوا أعمالهم، ريثما يتم سفر الجنود.
ولم يعجب السيد عبد الرحمن لخلو الطريق من المارة حتى الحوذية والمكاريين، لعلمه بخشية الناس اعتداء الجنود، وما تعودوه هؤلاء من اغتصاب كل دابة يصادفونها في طريقهم بدعوى حاجتهم إليها في الجهاد. فمضى في طريقه إلى القلعة وقلبه يخفق بشدة مخافة أن يلقاه بعض الجنود ويسلبونه ثيابه وما معه من المال. وما زال سائرا وهذا حاله حتى بلغ القلعة، وهم بدخولها من «باب العزب» فإذا به يلمح شيخا يدخل منه راكبا جوادا، وتأمله جيدا فإذا هو السيد المحروقي نفسه، فعجب لتأخره عن الوصول إلى القلعة حتى تلك الساعة، ولم يدرك سر ركوبه جوادا بدلا من البغلة التي رآه ممتطيا إياها، ولاسيما أن المماليك لم يكونوا يسمحون لغيرهم بركوب الجياد.
فأسرع في مشيته حتى اقترب منه وناداه فالتفت إليه وعرفه، فأوقف جواده حتى لحق به وسأله عما أتى به، فقص عليه ما حدث منذ فارقه. وأخذ ينظر إلى الجواد كأنه يستفهم عما دعا السيد إلى ركوبه بدلا من بغلته، فأدرك هذا غرضه وقال له: «إن بعض الجنود الأجانب - قبحهم الله - اعترضوا طريقي، وأبوا إلا أخذ البغلة بما عليها، ولم أنج منهم إلا بمعجزة، وبعد أن أبلغ الخادم الأمر إلى واحد من المماليك اتفق مروره في ذلك الوقت ... وأخبره بذهابي إلى القلعة لمقابلة علي بك بدعوة منه، فجاء المملوك وانتهر من وجدهم من الجنود وهددهم بالقتل ففروا هاربين، وكان زملاؤهم قد فروا قبلهم بالبغلة وما عليها، فجاءني المملوك بهذا الجواد وهو من جياد علي بك فركبته وواصلت المضي في طريقي حتى جئت كما ترى.»
فهنأه السيد عبد الرحمن بالسلامة، واعتذر إليه مما لحق به من الإهانة بسبب خروجه في مثل ذلك اليوم لإنجاز المهمة الخاصة به، فقال السيد المحروقي: «هكذا قدر الله. ولا راد لما قدره، ولا ذنب لك في الأمر. فقد كان علي أن أحضر إلى هنا تلبية لدعوة علي بك. وعلى كل حال نحمد الله على اللطف فيما جرت به المقادير. ولعل الخير في هذا التأخير.»
ثم أشار إليه أن يتبعه عسى أن يستطيع الدخول معه إلى مجلس علي بك، ويعرض عليه بنفسه مظلمته، وحينئذ يتدخل هو في الأمر، ويلتمس إنصافه. فوافق على ذلك شاكرا.
ولما وصلا إلى الساحة الداخلية في القلعة، وجداها قد امتلأت بجماعات من الجند، من مختلف الأجناس والأزياء، وقد علت ضوضاؤهم وهم يتأهبون للخروج. فأخذ السيد عبد الرحمن يتفقدهم لعله يرى ولده بينهم. ولكنه لم يستطع الاهتداء إليه بين جموعهم المختلطة بين مماليك وأتراك ومغاربة ومصريين وأروام وشوام وغيرهم، ولكل جماعة منهم علم خاص، وقائد من جنسهم، وأبرزهم المغاربة بطراطيرهم المصنوعة من جلد السمور، وعباءاتهم المزركشة بالذهب، والإنكشارية بطراطيرهم المدلاة أطرافها على ظهورهم. وفي مقدمتها فوق الجبهة ريشة تنتهي عند أعلاها بشعبتين، وقد تمنطق كل منهم فوق قبائه (قفطانه) بحزام عريض. والمماليك في زيهم المعروف، المؤلف من القباء المزركش، والمنطقة العريضة يتدلى السيف من جانبها الأيمن، ويبدو الخنجر تحتها من أمام، والعمامة الأنيقة ملفوفة على قاووق طويل. •••
ما كاد حراس القصر الجدد يلمحون السيد المحروقي قادما على جواده حتى خفوا إلى استقباله بتحيات الإجلال والتعظيم، لعلمهم بمكانته الممتازة عند مولاهم علي بك، فضلا عما عرفوا من علمه وفضله وتقواه. وبعد أن عاونه بعضهم على الترجل، ساروا بين يديه حتى اجتاز الباب وخلفه السيد عبد الرحمن وقد حسبوه تابعا للسيد المحروقي فتركوه يدخل معه.
ولما وصلا إلى باب القاعة الكبرى حيث مجلس علي بك، أدرك السيد عبد الرحمن أنها القاعة التي قابل فيها الباشا في الصباح، فقال في نفسه: «سبحان محول الأحوال.» ثم رأى الستر المسدل على الباب قد رفعه أحد الحاجبين الواقفين هناك، فدخل السيد المحروقي لا يلوي على شيء وعاد الحاجب فسدل الستر كما كان. فهاب الدخول خيفة أن يمنعه الحاجب، وخشي في الوقت نفسه أن يطيل الوقوف بالباب فيدعو هذا إلى الريبة في أمره وربما أوذي بسبب ذلك، فكر راجعا حتى بلغ الباب الأول، ووقف مع خادم السيد المحروقي المنتظر بالجواد هناك. وتشاغل بالحديث معه.
وعلم الخادم من حديثه أنه راغب في حضور مجلس علي بك، وأن السيد المحروقي نفسه هو الذي أشار عليه بذلك، فقال له: «إن هذا أمر ما أسهله يا سيدي، وما عليك إلا أن ترضي الحاجبين ببضعة أرباع من النقود، فتجد الستر مرفوعا وتدخل بكل اطمئنان.»
وسرعان ما وافق السيد عبد الرحمن على هذه الفكرة فعاد إلى باب القاعة. حيث حيا الحاجبين ووضع في يد كل منهما بعض المال، فردا تحيته بأحسن منها، ورفع أحدهما الستر فدخل القاعة بسلام، ثم تمهل في سيره وهو يجيل عينيه في المجلس. فإذا به يرى علي بك جالسا على متكأ مرتفع في صدر القاعة، مرتديا الجبة والعمامة ذات القاووق. وقد تمنطق بحزام عريض برز منه على الصدر خنجر مقبضه من الذهب المحلى بالجواهر. فهاب منظره لطول شاربيه ولحيته، واتساع صدره وجبهته، ولما يبدو في نظراته من دلائل الجرأة والذكاء وغلظة القلب. وكاد يهم بالرجوع لولا أن رآه مشغولا بالحديث مع الجالس عن يمينه وفي إحدى يديه سبحة طويلة يقلب حباتها بأصابعه. وفي يده الأخرى مذبة من شعر الخيل.
وأدرك السيد عبد الرحمن أن هذا الجالس عن يمين علي بك هو صهره محمد بك أبو الذهب قائد الحملة الذاهبة إلى الحجاز، وكان في مثل ملابسه. ثم تأمل بقية من في المجلس، فعرف أكثرهم، وبينهم المعلم رزق كاتب علي بك ومدير حسابات حكومته، وكثير من أمراء المماليك، والسادة الأشراف يتوسطهم السيد المحروقي. لكنه لم يعرف شابا رآه جالسا إلى يسار علي بك مرتديا ملابس فخمة غريبة تشبه ملابس الإفرنج، ثم تذكر ما سمعه من السيد المحروقي عن المستشار الذي اتخذه علي بك لنفسه من أهل البندقية واسمه روزيتي، فقال في نفسه: «لا بد أن يكون هو هذا الشاب.»
وما تقدم السيد عبد الرحمن خطوات وهو يختلس النظر إلى علي بك حتى رفع هذا رأسه فخيل إليه أنه ينظر إليه ولا يلبث أن يرتاب في أمره فيأمر بقتله أو سجنه، فارتجفت ركبتاه خوفا، وحدثته نفسه مرة أخرى بالرجوع، ثم تذكر ولده الوحيد والخطر الذي هو فيه، فهانت عليه الحياة، وسرعان ما خلع نعليه، ثم نزع عمامته وأمسكها بيده وتقدم مسرعا حتى جثا بين يدي علي بك وصاح قائلا: «أمان أفندم أمان. مظلوم وحياة رأس مولانا العادل علي بك.»
فبهت من في المجلس، والتفت إليه علي بك متفرسا في هيئته وسأله: «ماذا جاء بك إلى هنا؟ ومم تتظلم؟»
قال: «إني يا مولاي تاجر في وكالة الليمون، وليس لي غير ولد واحد تعبت في تربيته حتى أتم تعليمه في الأزهر ، والتحق بالبيمارستان المنصوري لدراسة الطب. لكنهم أخذوه وتركوني وأمه في حياة خير منها الممات!»
فقال له علي بك: «من هم الذين أخذوه؟ ولماذا؟»
فرفع السيد عبد الرحمن رأسه وقال بصوت مختنق والدموع تنهمل من عينيه: «لا أدري يا مولاي من أخذوه، ولكني علمت أنهم ساقوه إلى القلعة ليسير مع الجند الخارجين للحرب. وهو لا يقوى على القتال والأسفار.»
فالتفت علي بك إلى من في المجلس كأنه يستطلع رأيهم، فسارع السيد المحروقي إلى الكلام وقال: «إني أعرف هذا التاجر، وهو رجل طيب مخلص للحكومة، وابنه من طلبة العلم النجباء.»
فقال علي بك: «كيف أخذوه وقد أمرت بألا يجند أحد من طلبة العلم؟»
فقال السيد المحروقي: «لعل أمره التبس عليهم؛ لأنه بعد أن درس علوم الدين واللغة في الأزهر التحق بالبيمارستان المنصوري لدراسة الطب كما ذكر أبوه الآن.»
ففكر علي بك هنيهة ثم قال: «على أي حال لا وجه للتظلم من تجنيده، فالجهاد في سبيل الحرمين الشريفين واجب على جميع المسلمين. وهم أولى بهذا الأمر من الجنود الغرباء الذين تطوعوا للذهاب في حملة الحجاز.»
فقال السيد المحروقي: «لقد نطق مولانا بالصواب، ولكني أرجو أن تسع رحمته هذا التاجر المسكين؛ إذ ليس له ولد آخر.»
فبدأ الغضب في وجه علي بك وقال محتدا: «ما هذا؟! هل كل أهل هذه البلاد مساكين ضعفاء لا يقوون على الجهاد؟ لا. لا. لقد رفضت عشرات من أمثال هذه الدعوى، ولا يمكن أن أستثني أحدا من القيام بواجب الجهاد للدفاع عن شريف مكة.»
فعاد السيد عبد الرحمن إلى البكاء والتوسل، والتفت السيد المحروقي إلى علي بك وقال: «لا أشك في صواب رأي مولانا، ولكني ألتمس من فضله وحلمه إكرام شيبتي هذه بإطلاق سراح ذلك الغلام، وأنا كفيل بأنه يقوم لمولانا بخدمات نافعة أخرى إن شاء الله.»
فقال علي بك: «قلت لك إنني قررت ألا أستثني أحدا من أهل هذه البلاد؛ لعلمي بأنهم يتهربون من الجهاد. لكني إكراما لك سأطلق سراح ذلك الولد على أن يحل أبوه محله في الحملة ويدفع عشرين كيسا.»
فخشي السيد المحروقي أن يراجعه في ذلك فيثور غضبه من جديد ويعدل عن هذا الاستبدال، وقد يأمر بأخذ الولد وأبيه معا إلى الحرب. فالتفت إلى السيد عبد الرحمن وهو لا يزال جاثيا بين يدي علي بك وقال له: «انهض وقبل يد الأمير جزاه الله خيرا، ثم سارع إلى إعداد عدتك للسفر مع الحملة الليلة، وهات معك العشرين كيسا المطلوبة. لإطلاق سراح ولدك.»
فلم يسعه إلا الطاعة، ونهض فقبل يد علي بك، ثم انصرف عائدا إلى منزله، حيث أخبر زوجته بما كان، ففرحت بنجاة ولدهما، وجزعت لحلول أبيه محله في الحملة، لكن السيد عبد الرحمن هون عليها الأمر، وأسر إليها أنه سيعمل على التخلف عن الحملة حالما تصل إلى الشام، وهناك يقيم بعكا في انتظارها ومعها ولدهما حسن بعد أن يبيعا ما بقي من ممتلكاتهما في مصر، دون أن يشعرا بذلك أي إنسان غير خادمه الخاص.
فخف جزعها ووافقته على هذا الرأي، ثم نادى خادمه الخاص وأسر إليه ما تم الاتفاق عليه، موصيا إياه بأن يبذل جهده في إتمام ذلك ثم يصحب زوجته وولده إلى عكا، فقبل الخادم يده باكيا واعدا بتنفيذ الوصية. ثم حمل الأكياس المطلوبة وسار خلفه بعد أن ودع من في المنزل إلى القلعة حيث سلم الأكياس، وتسلم ولده، ثم ودعه وحل محله في الحملة، وعاد حسن مع الخادم إلى المنزل، لتنفيذ وصية أبيه في الخفاء. •••
لبث حسن مقيما مع أمه بالمنزل يومين بعد سفر الحملة وفيها أبوه. ثم أخذ بعد ذلك يتردد إلى متجر أبيه في وكاله الليمون، متظاهرا بحلوله محله في البيع والشراء، لكنه في الحقيقة كان يبيع كل ما استطاع بيعه، دون أن يشتري شيئا، حتى كاد أن ينتهي من بيع كل ما في المتجر.
وفي الوقت نفسه أخذت أمه في بيع أمتعة المنزل إلا ما خف حمله وغلا ثمنه من الحلي والملابس وغيرها. كما باعت المنزل نفسه لأحد الجيران. وسافر الخادم إلى الريف ومعه توكيل من السيد عبد الرحمن ببيع كل ممتلكاته هناك، فأخذ في بيعها معتزما التعجيل بذلك ليعود بثمنها إلى القاهرة ويصحب حسنا وسالمة أمه في الفرار إلى عكا للحاق بسيده هناك.
وفيما كان حسن جالسا في غرفته بالمنزل بعد أيام وهو يطالع بعض الكتب المخطوطة في الطب، وأمه مشغولة بإعداد حليها وبعض الأمتعة الثمينة الخفيفة في صندوق صغير استعدادا لمغادرة مصر، سمع طرق عنيف على باب المنزل، ثم توالى الطرق وتعالت الضوضاء في الخارج، وجاء بعض الخدم يهرعون إلى حسن في غرفته وقالوا: «إن الطارقين جماعة من العساكر المماليك وهم يسبون ويلعنون ويهددون بحرق المنزل بمن فيه.»
فبغت حسن وامتلأ قلبه رعبا وفزعا، وكذلك كان شأن أمه، وكل من في المنزل من الخدم والجواري. ثم ازداد فزعهم؛ إذ سمعوا صوت مقذوف ناري أطلقه أحد المماليك الهاجمين على المنزل، وأعقبه صوت مطارق تهوي على الباب لتحطيمه واقتحام المنزل بالقوة، فلم يجد حسن بدا من فتح الباب واستقبال القادمين لعل في ذلك ما يخفف من حدتهم وشرهم. فما كاد الخدم يفتحون الباب حتى تدفقت منه جموع العساكر شاهرين السيوف والخناجر والعصي والمسدسات، وأخذوا في نهب كل ما فيه، وشد وثاق من يصادفهم من الرجال والنساء مع الضرب والإهانة.
ولم تمض ساعة حتى كان المنزل قد أقفر وساده الخراب، وساق المماليك حسنا وأمه ومن معهما من الخدم والجواري إلى القلعة موثقين مهانين، كما حملوا كل ما كان فيه من الأمتعة والآنية وغيرها إلى هناك بعد أن استبقوا لأنفسهم ما وجدوه من المال والحلي وما إليهما من الأشياء الثمينة النادرة.
وهناك في القلعة سيق الجميع إلى مجلس علي بك في القصر الذي اتخذه مقرا لمجلسه منذ عزل الباشا، فلما وقعت عينه عليهم وهم يبكون ويستجيرون به مما لحقهم من العدوان، صرخ فيهم غاضبا وقال: «هكذا يجب أن يكون جزاء الخونة والأنذال، وإذا كان كبيرهم قد فر هاربا من المعسكر بعد أن رأفنا به وقبلناه في الحملة بدلا من ولده، فعما قريب يقبض عليه وينال ما يستحقه من القتل بعد أن ننزل به أشد العذاب!»
ثم أمر ببيع الجواري والأمتعة والآنية بالمزاد، وبأخذ الخدم إلى السجن ريثما يبت في أمرهم، وأشار إلى حسن وسالمة وقال لأعوانه المحيطين به: «أما هذان فجزاؤهما بعد الضرب والإهانة وبيع ممتلكاتهما على مشهد منهما، أن يؤخذ هذا الولد الخائن فيوضع في كيس ومعه حجر ثقيل فيه ثم يلقى في النيل ليهلك غرقا. وأما أمه هذه فتؤخذ لتسند إليها أحقر أنواع الخدمة وأقساها، كي تقضي بقية حياتها في تعب وشقاء!»
وهنا ضجت سالمة والجواري بالندب والعويل، وجثا حسن وأمه بين يدي علي بك، وهما بتقبيل قدميه، وهما يستغيثان به ويتضرعان إليه أن يرثي لحالهما ويشفق عليهما من ذلك المصير الرهيب؛ لأنهما لا ذنب لهما في فرار السيد عبد الرحمن من المعسكر. فلم يكن من علي بك إلا أن نظر إليهما وعلى فمه ابتسامة التشفي والغبطة بالانتقام، ثم أعرض بوجهه المخيف عنهما، وأمر أعوانه بأن ينفذوا ما أمر به. فبادروا إلى تنفيذه في الحال.
الفصل الخامس
الحرب بين روسيا وتركيا
خرجت الحملة التي أعدها علي بك الكبير من القلعة، يتقدمها البكوات أمراء المماليك على جيادهم المطهمة وهم في أزيائهم الفخمة، وعلى رأسهم محمد بك أبو الذهب قائد الحملة وصهر علي بك. وخلف هؤلاء الفرسان المماليك الجنود بأسلحتهم الكاملة. وعددهم حوالي خمسة آلاف، وفي ركاب كل منهم تابعان يرتديان السراويل القصيرة، وفي يد كل منهما عصا. ووراءه جموع غفيرة من الجنود غير النظاميين بين مصريين وأتراك وهنود وشوام وسودانيين وأحباش ويمنيين وغيرهم من مختلف الأجناس والألوان، تتبعهم أرتال من الجمال والبغال والحمير تحمل المؤن والذخائر والمدافع والخيام.
وضمت الحملة غير هؤلاء جميعا حوالي ألفين من السراجين الذين يقومون بتدبير شئون خيل البكوات المماليك، كما ضمت مئات من باعة الأطعمة والطبالين والزمارين، والمرتزقة.
وودعها علي بك باحتفال ليلي كبير، دعا إليه كبراء البلاد وعلماؤها، وعرضها فيه أمامهم بين دق الطبول والنفخ في الأبواق، وإضاءة المشاعل، وما إلى ذلك من ضروب الزينة والتكريم.
وأمضت الحملة بقية ليلتها في منطقة المطرية بالقرب من مسلتها الأثرية المشهورة. ثم استأنفت سيرها بعد الفجر بقليل، وما زالت سائرة بمعداتها وأحمالها بين حل وترحال، حتى بلغت مدينة الصالحية، فأمر محمد أبو الذهب بك بالاستراحة هناك يومين.
وكان السيد عبد الرحمن منذ خروج الحملة من حدود القاهرة لا يفتأ يفكر في الوسيلة التي تكفل خلاصه منها، وقد رأى في عدم انتظام الجند الذين يسير معهم فيها ما قوى أمله في ذلك الخلاص. فلما حطت الحملة رحالها في الصالحية وجد الفرصة سانحة لتنفيذ ما اعتزمه، انتظر حتى انتصفت الليلة الثانية للحملة هناك وأوى زملاؤه في الخيمة إلى فراشهم بعد أن أمضوا السهرة في ضجة وصخب، ثم تسلل خارجا من المعسكر وظلام الليل يستره. فلما جاوزه دون أن يشعر أحد به، تنفس الصعداء وشعر بأن حملا ثقيلا قد أزيح عن كاهله. ثم انطلق في الطريق الذي جاء منه مع الحملة حتى بلغ حظيرة مهجورة كان أصحابها قد أخلوها خوفا من أن ينهب الجند دوابهم وماشيتهم، فلجأ إليها بما يحمل من متاع وزاد، وبقي فيها خائفا يترقب حتى سمع أذان الفجر، ثم تلاه صخب الجند وضجتهم استعدادا للرحيل، فاشتد خفقان قلبه مخافة أن ينكشف أمر فراره، ولم يعاوده الاطمئنان إلا بعد أن أخذت ضجة الحملة تخفت وتتضاءل حتى لم يعد يصل إلى سمعه المرهف شيء منها. فغادر مخبأه ومشى على حذر في عكس الاتجاه الذي سارت فيه، حتى وصل إلى أحد مضارب الأعراب في تلك المنطقة، فاشترى منهم هجينا ركبها وجعل في رحله عليها ما يكفيه أياما من الزاد والماء، ثم انطلق بها قاصدا بلدة العريش؛ حيث أقام بها بضعة أيام حتى علم بأن قافلة ستخرج من هناك قاصدة عكا في اليوم التالي، فاندمج فيها راكبا هجينه. •••
وصلت القافلة وفيها السيد عبد الرحمن إلى عكا، فأخذ يبحث عن منزل يقيم به في انتظار وصول أسرته، وفيما هو في ذلك علم أن حاكم المدينة واسمه الشيخ ضاهر العمري متحالف مع علي بك، وقد تعاهدا على الخروج من طاعة الدولة العلية. فخشي إن هو بقي في عكا أن يقبض عليه الشيخ ضاهر ويعيده إلى حليفه علي بك في مصر. ولم تكن عكا إذ ذاك سوى قلعة كبيرة محكمة التحصين، وسكانها قليلون أكثرهم من حاميتها. ولم يكن لديه علم بأن أمر فراره قد انكشف وبلغ إلى علي بك في مصر، فكان من أمره مع ولده وزوجته وسائر أهل منزله ما كان.
واستقر رأيه أخيرا على أن يبقى في عكا متنكرا في زي المغاربة الذين يمارسون الطب الروحاني والتنجيم وكتابة الأحجبة والتعاويذ. وبقي على تلك الحال أشهرا، وهو يتفقد القادمين إلى المدينة برا وبحرا عسى أن تكون أسرته بينهم. ولكنها لم تأت، ولم يقف على أي نبأ عنها.
وفي ذات يوم، خرج إلى الميناء كعادته يترقب القادمين إليه. فإذا بسفن شراعية كبيرة يبدو من هيئتها أنها سفن حربية قد ملأت الميناء، وعلم ممن لقيهم من أهل المدينة هناك أن الملكة كاترينة قيصرة الروس هي التي أرسلت هذه السفن للتجول في البحر الأبيض المتوسط وتقديم المساعدة لعلي بك في مصر والشيخ ضاهر في عكا؛ تشجيعا لهم على نبذ طاعة الدولة العلية والخروج عليها؛ نظرا إلى أنها في حرب مع روسيا. فعاد إلى الخان الذي يقيم به وهو يفكر في وسيلة مأمونة تمكنه من الرجوع إلى مصر والوقوف على ما أخر قدوم أسرته إليه حسب الاتفاق.
وفي صباح اليوم التالي توجه إلى سوق المدينة لشراء ما يحتاج إليه في رحلته إلى مصر، فإذا بجماعة من الجنود الروس الذين رآهم بالأمس في السفن القادمة إلى الميناء قد ملئوا السوق، وهم جميعا يرتدون السراويل الإفرنجية والواسعة، وعلى رءوسهم قبعات عالية من الفرو وما يشبهه، ومعهم أسلحتهم من البنادق والمسدسات والخناجر، فهاب منظرهم لضخامة أجسامهم وارتفاع هاماتهم واكتناز وجوههم، وأراد التحول من طريقهم، لكنهم سرعان ما التفوا حوله مبدين دهشتهم من زيه المغربي المخالف لأزياء أهل المدينة، وكلمه بعضهم بلغته الروسية فلم يفهم كلامه، ثم جاءه رجل كان بينهم يرتدي ملابس الإفرنج المدنية فكلمه بالعربية قائلا: «لا بأس عليك منهم ، فهم قد أعجبهم زيك ويريدون معرفة ما تبيعه مما تحمله في جرابك.»
فقال له: «ليس في الجراب ما يباع، ولكن فيه كتبا سحرية أستعين بها على قراءة الطوالع ومعرفة ما يخبئه المستقبل، وهذه صناعتي التي ورثتها عن آبائي وأجدادي.»
وكان الترجمان من أهل قبرص، وسمع بالمغاربة الذين يزاولون التنجيم والطب الروحاني وضرب الرمل وما إلى ذلك، فأخبر الجنود الروسيين بذلك، وشد ما كانت دهشتهم، ثم أعربوا للترجمان عن رغبتهم في مشاهدة شيء من السحر الذي يقوم به هذا المغربي، فنقل إليه رغبتهم. وسرعان ما جلس السيد عبد الرحمن وأخرج من جرابه أوراقا وجلودا مختلفة الألوان والأحجام نشرها أمامه، وفي بعضها رسوم غريبة، كما أخرج صرة بها بعض الرمل وفتحها، ثم أخذ بأنامله رسوما وأشكالا مختلفة على الرمل، وأعقب ذلك بأن أخرج من منطقته دواة نحاسية مستطيلة، تناول قلما من خزانة متصلة بها، وغمس طرفه في الدواة ثم كتب به كلمات بلغة غير معروفة على ورقة بيضاء في حجم الكف، متظاهرا بأنه يكتب ما علمه من أوراقه ورمله. وأخيرا رفع وجهه والتفت إلى الترجمان وقال: «إذا صح ما علمته بوساطة العلوم التي حذقت أسرارها بالوراثة والرياضة الروحية، فهؤلاء أتباع ملكة عظيمة تحكم بلادا بعيدة واسعة، وسيكتب لها النصر بوساطتهم على عدو خطير لها.»
فأعجب الترجمان القبرصي بهذا الجواب وعده دليلا على حذق المنجم وبراعته، وما كاد ينقله إلى البحارة الروسيين حتى كانوا أشد إعجابا به، ثم أجزلوا مكافأة السيد عبد الرحمن ورغبوا إليه بوساطة الترجمان أن يصحبهم إلى سفنهم الراسية في الميناء ليطلع زملاؤهم من الضباط والجنود على غرائب علمه وفنه. فوعد بأن يوافيهم إلى الميناء في اليوم التالي ومعه بقية الأدوات اللازمة له. ثم غادر السوق عائدا إلى الخان وفي عزمه أن يحتال للبقاء في تلك السفن حتى تقلع وتصل إلى أحد السواحل المصرية التي تعتزم السير إليها، فينزل هناك، ويسهل عليه الذهاب إلى القاهرة لمعرفة ما تم في أمر أسرته.
وفي صباح اليوم التالي غادر الخان ولم يترك فيه من أمتعته إلا ما ليس في حاجة إليه، ثم أخذ طريقه إلى الميناء، فما كاد يبلغه حتى بصر به بعض الجنود الذين لقيهم في السوق فعرفوه بزيه المغربي والجراب الذي يحمله على كتفه، فنادوه وصعدوا به إلى سفينة الأميرال أورلوف قائد أسطولهم، وقدموه له ولمن معه من الضباط، فكان سرورهم عظيما بما تنبأ به لهم من الأمور العامة والخاصة، وما زال هناك موضع إكرام الضباط والجنود حتى اعتزم الأسطول الرحيل، فرغبوا إليه في البقاء معهم لينفعهم بعلمه وفنه، فقبل على أن يتركوه ينزل بأي مدينة يمرون عليها. •••
أقلعت الحملة الروسية من ميناء عكا في جو هادئ جميل، فمضت سفنها تشق عباب البحر باسطة أشرعتها، ووقف السيد عبد الرحمن في زيه المغربي على ظهر السفينة التي ركب فيها يتأمل الساحل السوري حينا، والأفق الممتد على مدى النظر من الجهة الأخرى حينا، ثم يطلق لفكره العنان فيتخيل أنه وصل إلى داره في القاهرة ولقي ولده وزوجته فلم يعرفاه أول الأمر؛ لتنكره في ذلك الزي الغريب، ثم ما كادا يعرفانه حتى غمرهما السرور مثله، وراحوا جميعا يبكون من فرط فرحتهم باللقاء بعد طول الغياب.
على أنه كان لا يلبث أن يتذكر تأخرهما عن موافاته في عكا، فتتقاذفه الهواجس، ويكاد قلبه يثب من صدره خشية أن يكونا قد أصيبا بسوء، ثم تنهل الدموع من عينيه على غير إرادته فيسارع إلى مسحها بمنديله، مستعينا على بلوغ غايته بالتزام الكتمان.
وبعد خمسة أيام، كانت سفن الأسطول تسير خلالها مجتمعة حينا ومتفرقة حينا آخر، لاحت سواحل مصر من بعيد. فوقف السيد عبد الرحمن على حافة السفينة التي هو فيها يتشوق إليها وقلبه شديد الخفقان، وود لو أن جناحين يطير بهما إلى القاهرة لرؤية ولده وزوجته. وخطر بباله أنهما قد يكونان في هذا الوقت في طريقهما إلى عكا حيث تواعدوا على اللقاء، فندم على تعجله الرجوع إلى مصر، لكنه تجلد وصبر حتى يصل ويقف على الحقيقة.
وحانت منه التفاتة إلى السفينة القريبة من السفينة التي يركب فيها، فوجد على ظهرها جنودا من الأرناءوط - الألبانيين - وقد عرفهم بأزيائهم التي يرتدي مثلها مواطنوهم في مصر، وهي مؤلفة من القباء (القفطان) الأبيض القصير، ويسمونه «التنورة»، وسيقانهم مكسوة بالجلد، وعلى أكتافهم عباءات قصيرة، وفوق رءوسهم طرابيش طويلة مثنية إلى الخلف وتتدلى منها «أزرار» طويلة.
فعجب من وجود هؤلاء بين الأسطول الروسي، ثم علم من الترجمان القبرصي أن الأسطول يضم حوالي أربعة آلاف منهم، جيء بهم لاستخدامهم في الحرب البرية إذا اقتضى الأمر ذلك.
وبعد قليل وصلت السفن إلى ميناء دمياط وقد طوى البحارة أشرعتها استعدادا لرسوها هناك. وشاهد السيد عبد الرحمن أفواجا من الدمياطيين على الساحل يتطلعون إلى السفن الغريبة القادمة في دهشة واضطراب. ثم ما كادت السفن تلقي مراسيها، حتى جاء كتخدا سردار المدينة (وكيل المحافظ) لتحية أميرال الأسطول، بالنيابة عن علي بك، وإبداء الاستعداد لمده بما يحتاج إليه من المؤن والماء وغيرهما من المعدات. وعقب انصراف الكتخدا، ذهب السيد عبد الرحمن إلى الأميرال فقبل يديه مودعا مستأذنا في النزول إلى البر، فأذن له ومنحه مكافأة أخرى، كما منحه مثلها كثيرون من ضباط الأسطول وجنوده.
الفصل السادس
الست نفيسة المملوكية
أخذ أعوان علي بك حسنا من القلعة على مشهد من أمه وهم يضربونه ويسبونه، وساروا به إلى مصر العتيقة لإغراقه في النيل هناك؛ تنفيذا لأمر مولاهم، فلم تطق المسكينة صبرا على رؤية وحيدها يساق إلى ذلك المصير الرهيب، وأغمي عليها بعد أن قطعت شعرها وشقت ثوبها وجرحت خديها وعينيها من شدة اللطم والعويل، فحملها بعض الجنود ومضوا بها إلى قصر علي بك عند بركة الأزبكية، حيث سلموها لقيمة القصر، وأبلغوها أمر علي بك بأن تلحق بالجواري الخادمات.
وكانت تلك البركة حينذاك تشغل مكان حديقة الأزبكية وما يحف بها من الأبنية الآن، فكان يحدها من الشرق حارة النصارى، ومن الغرب بساتين وغياض - هي التي صارت حي الإسماعيلية فيما بعد - ومن الجنوب منطقة المقس؛ حيث يقع الآن حي التوفيقية وما بعده، ومن الشمال منطقة العشماوي؛ حيث محافظة القاهرة، وهناك كان يقوم قصر علي بك الكبير.
وكانت المياه تأتي البركة من النيل عبر منطقة المقس السالفة الذكر، وتزداد في أيام الفيضان، مارة بقنطرة يقال لها قنطرة الدكة ما زال مكانها معروفا حتى الآن، فتنعكس على تلك المياه أضواء القصور المشيدة حول البركة لسكنى الأمراء والأعيان، وتكسبها جمال رونق وحسن منظر وبهاء، ولاسيما في ليالي الصيف والخريف؛ إذ يطيب السهر والسمر في تلك القصور وتزداد أنوارها، فتنعكس في الإبداع.
ولما أفاقت سالمة من إغمائها، ووجدت نفسها بين عشرات من جواري الخدمة بالقصر، تذكرت ما نزل بها من الفواجع والنكبات فعادت إلى البكاء، متضرعة إلى الله أن يعجل بموتها كي تلحق بوحيدها الذي أخذوه ليغرقوه في النيل. وعبثا حاول الجواري تعزيتها وتوصيتها بالصبر في محنتها، فأمضت النهار دون أن تذوق شيئا من الطعام والشراب ولم تنقطع عن الندب والعويل، غير مبالية ما يتهددها بسبب ذلك من التعذيب والإمعان في التشفي والانتقام.
وكان لعلي بك في ذلك القصر زوجة رائعة الجمال اسمها نفيسة، وقد اشتهرت بكمال العقل وحسن الرأي، والبر والرحمة بالفقراء والضعفاء (وهي التي تزوجها مراد بك فيما بعد وبقيت حية إلى ما بعد الحملة الفرنسية، وأشارت الصحف الإفرنجية بمكانتها ومبراتها، ولاسيما حمايتها لكثير من الإفرنج وإيواؤهم في دارها خلال الاضطرابات).
فلما سمعت بقصة سالمة، أرسلت تدعوها إلى مقابلتها في إحدى حجراتها الخاصة بالقصر، وأحسنت استقبالها، ثم أشارت إليها بالجلوس على وسادة بجانبها، وقالت لها: «علمت أنك ممتنعة عن الأكل مستغرقة في الحزن، وأنت فيما أرى سيدة عاقلة مؤمنة، فكيف تلقي بنفسك إلى الهلاك بالاستسلام للحزن واليأس؟»
فبقيت سالمة ساكتة مطرقة والدموع تنحدر من عينيها، وأدركت نفيسة أن المسكينة لا تقوى على التجلد. فازدادت حنوا عليها ودنت منها ومرت بيدها على رأسها مترفقة، وقالت لها: «اصبري يا أختاه، فالصبر مفتاح الفرج، والله لا يضيع أجر الصابرين.»
فتنهدت سالمة تنهدا عميقا، ومسحت دموعها، وقالت: «من لي بالصبر يا سيدتي وقد أخذوا ولدي الوحيد من بين يدي ليلقوا به في النيل، ومن قبل ذلك أخذوا أباه إلى الحرب ، فهرب وهام على وجهه في الطرقات، ولا أدري أحي هو أم ميت؟ ولو أنه بقي على قيد الحياة فلن يتورعوا عن إلحاقه بولدنا دون رحمة ولا إشفاق!» قالت ذلك وعادت للبكاء.
فتأثرت الست نفيسة ولم تتمالك نفسها عن البكاء معها، ثم أخذت تعزيها وتحاول تخفيف مصائبها والترفيه عنها بما جبلت عليه من رقة العاطفة وطيبة القلب وحب الخير.
ولم يسع سالمة رغم فداحة خطبها إلا أن تستأنس بلطف هذه السيدة ونبلها وسمو خلقها، وهمت بيديها لتقبلهما شاكرة، فلم تمكنها من ذلك وقالت لها: «هذا أقل ما يجب يا أختي، وإني أدعو الله أن يوفقني إلى ما يخفف كربك، فهو مفرج الكروب ورحمته وسعت كل شيء.»
فقالت سالمة: «جزاك الله خيرا يا سيدتي، ولا أراك مكروها في عزيز لديك.» وعادت إلى إطراقها وقد أخذها العجب من أن تكون مثل هذه السيدة الفاضلة الكاملة الحنون قرينة لجبار عنيد غضوب مثل علي بك، ولكنها قالت في نفسها: «كل شيء نصيب، ولله في خلقه شئون.»
وكانت الست نفيسة في ذلك الوقت مرتدية ملابس البيت المؤلفة من ثوب حريري رقيق مشقوق من أعلى الصدر، وفوقه قباء من المخمل مشدود إلى خصرها بمنطقة من الحرير الدمشقي الثمين، وفوقه معطف فضفاض واسع الكمين يتدلى منهما طرفا كمي قميصها الشفاف، وقد تحلت بعقود وأساور من مختلف اللآلئ والجواهر، وتدلى من أذنيها قرطان هما جوهرتان كبيرتان. وهي مكتنزة الجسم ناصعة البياض مع حمرة خفيفة، واسعة العينين رقيقة الشفتين مستقيمة الأنف وضاحة الجبين، ذهبية الشعر قد ضفرته ضفيرتين أرسلت إحداهما على صدرها والأخرى على ظهرها، وغطت أعلاه بإكليل مرصع، فبدت غاية في الجمال والجلال.
ولاح لسالمة بصيص من الأمل في إنقاذ ابنها من الموتة الشنيعة التي حكم عليه بها علي بك، فهمت بأن تترامى على قدمي الست نفيسة وتتضرع إليها أن تتوسط لتحقق لها هذا الأمل، ولكنها رأتها تنهض من مجلسها وتصفق منادية جاريتها الخاصة (منورة)، فنهضت سالمة ووقفت بين يديها ساكنة حتى جاءت الجارية، وتلقت من سيدتها كلمات أسرت بها إليها، ثم انصرفت حانية رأسها سمعا وطاعة. •••
كانت السيدة نفيسة قد علمت بما أمر به زوجها علي بك من إلحاق سالمة بخدمة القصر وإلقاء ولدها في النيل، فاستنكرت الأمر فيما بينها وبين نفسها. ثم ازداد تأثرها حين علمت بامتناعها عن الطعام والشراب وانقطاعها للبكاء والعويل، فلما قابلتها بعد ذلك ورأت بنفسها ما هي عليه من سقم واكتئاب وزهد في الحياة، حدثتها نفسها بأن ترسل من عندها رسولا إلى الجند الذين كلفوا إغراق ابنها، آمرة إياهم بالعدول عن ذلك، ولكنها رأت الانتظار حتى يعود علي بك إلى القصر وتتوسط لديه في الأمر، مخافة أن يغضب لإقدامها على ذلك دون إذنه، وقد يؤدي به الغضب إلى الانتقام منها بذبحها أو إلقائها في النيل، أو طردها من القصر مطلقة مهانة على أهون تقدير.
ولم يكن لديها شك في أنه يحبها ويؤثرها على كل نسائه وجواريه، ولكنها كانت - مع ذلك - لا تأمن حدة غضبه، وتعلم أنه سريع الانتقام لا يطيق أن يخالف أحد أي أمر يصدره. هذا إلى علمها بأن المماليك جميعا لا يرعون حرمة النساء ولا شيء عندهم أسهل من الطلاق.
على أنها خشيت كذلك أن تتأخر عودته إلى القصر فتضيع فرصة إنقاذ الفتى البريء المظلوم، وتذهب نفس أمه المسكينة حسرات عليه، فنادت خادمتها الخاصة الأمينة (منورة)، وأسرت إليها أن تسارع إلى إرسال من يلحق بالجنود ويبلغهم رغبتها في العفو عن الفتى وإطلاق سراحه ومعاونته على الفرار من مصر إلى سوريا أو غيرها من البلاد المجاورة في الحال.
وفيما هي تتحدث مع سالمة عقب انصراف منورة وتكرر النصح لها بالصبر وألا تيأس من الفرج بعد الشدة، وصل إلى سمعها وقع أقدام تقترب من الغرفة، فأجفلت الست نفيسة وامتقع لون وجهها، وطالعت سالمة في نظراتها وحركاتها معاني القلق والاضطراب والخوف، فأدركت أن القادم علي بك، وأن زوجته الرحيمة الطيبة القلب تخشى غضبه لسماحها لها بدخول غرفتها، فهمت بالخروج تفاديا لشره، لكنها ما كادت تصل إلى باب الغرفة حتى دخل منه علي بك، فلم تتمالك قواها لهول المفاجأة وسقطت على الأرض مغمى عليها.
وعرفها علي بك حين وقعت عينه عليها، فحمي غضبه والتفت إلى زوجته التي خفت إلى ملاقاته محاولة ملاطفته، وقال: «ما هذا يا نفيسة؟ ما الذي جاء بهذه الخائنة إلى هنا وقد أمرت بأن تسند إليها أحقر أنواع الخدمة؟»
فتكلفت الابتسام، وتجلدت لتخفي اضطرابها، وقالت له: «إنها يا مولاي لم تأت إلا بطلب مني؛ إذ سمعت بأنها كادت تقتل نفسها حزنا على ما آل إليه أمرها، وامتنعت عن تناول الطعام، فدعوتها لأخاطبها في ذلك.»
فنظر إليها شزرا، وقال محتدا: «كادت تقتل نفسها؟ ما شاء الله! لعلها اشتاقت إلى ولدها المدلل الجبان حسنا. سأرسلها إليه الآن!»
ثم أشار إلى بعض الجواري أن يخرجن سالمة من الغرفة ويسلمنها إلى بعض حرس القصر ليلقوا بها في النيل، فسارعن إلى تنفيذ الأمر. •••
أفاقت سالمة من إغمائها، فوجدت نفسها محمولة على أيدي بعض جواري القصر الحبشيات والتركيات، وما علمت بما أمر به علي بك حتى صاحت قائلة: «مرحبا بالموت ما أعذبه وأحلاه! ولاسيما أنه سيقربني من ولدي وفلذة كبدي العزيز.»
وتذكرت ما لقيته من لطف الست نفيسة وحنانها ولطف مواساتها، فخشيت أن تكون قد نالها سوء بسببها، وسألت الجواري في ذلك، فلما اطمأنت إلى نجاة السيدة الفاضلة من شر غضب زوجها، تنهدت تنهد الارتياح، وقالت للجواري وهن ينظرن إليها راثيات لحالها باكيات: «أشكركن يا أخواتي العزيزات على عواطفكن الرقيقة النبيلة، وكل ما أرجوه الآن أن تسرعن بي إلى النيل حيث ينتظرني ولدي العزيز، وأن تبلغن سيدتكن الكريمة أني لن أنسى فضلها ونبلها حتى ألقى الله، فأضرع إليه أن يجزل مكافأتها ويكتب لها السعادة في الدارين.»
وكان لكلامها أكبر الأثر في نفوس الجواري، فلم يستطعن إمساك دموعهن رثاء لحالها وإعجابا بوفائها الدال على طيب عنصرها، فعرجن بها إلى إحدى الغرف المخصصة لهن في القصر، وجئن إليها ببعض الطعام راجيات منها أن تتناوله، فاعتذرت من عدم استطاعتها إجابة طلبهن، وكررت لهن الشكر.
وأخيرا مضت إحداهن إلى قيم القصر، فأبلغته أمر علي بك بإلقاء سالمة في النيل، وروت له قصتها باختصار. فلما رأت التأثر باديا في وجهه، انتهزت هذه الفرصة، وتضرعت إليه أن يعمل على إنقاذ تلك المسكينة المظلومة، ولاسيما أن الست نفيسة تعطف عليها وترثي لما أصابها في ولدها وزوجها ومالها، ولا شك في أنها تسر بإنقاذها من ذلك المصير. فوعدها ببذل جهده في هذا السبيل، ثم نادى بعض الحرس ممن يثق بهم، واتفق معهم على التظاهر بأخذ سالمة من القصر لإلقائها في النيل خارج القاهرة، ثم إطلاق سراحها هناك والنصح لها بالفرار إلى الريف أو الاختفاء في أي مكان منعزل، وألا يشعروا بذلك أي إنسان.
فقالوا: «سمعا وطاعة.» ثم خرجوا بها من القصر، وهي لا تكاد تقوى على السير لفرط ضعفها وحزنها، ولا تعلم شيئا مما اتفق عليه قيم القصر مع أولئك الجنود.
ولما بلغوا مصر العتيقة، كان الليل قد سدل نقابه، ولكن سالمة أدركت أنهم يسيرون بحذاء النيل هناك، من انعكاس ضوء النجوم على صفحة الماء، فتذكرت ابنها ولم تملك عواطفها فانفجرت باكية، وكانت قد بقيت صامتة مطرقة طول الطريق، فحسب الجنود أنها تبكي خوفا من إغراقها تنفيذا لأمر علي بك، وهمس كبيرهم في أذنها قائلا: «لا تبكي يا سيدتي ولا تخافي، فإننا لن نمسك بأي سوء، وسنطلق سراحك عما قليل لتمضي إلى أي مكان شئت وتختفي فيه.»
فصاحت سالمة قائلة: «تطلقون سراحي؟ من قال لكم هذا؟ كلا يا سيدي، لست راغبة في الحياة، فهيا عجلوا بموتي ولكم الشكر!»
فبغت الجنود، وعجبوا لإيثارها الموت ورغبتها في التعجيل به بدلا من أن تطير فرحا بالنجاة، وعاد كبيرهم فقال لها: «لعلك لا تصدقين أننا سنطلق سراحك ولا نغرقك في النيل؟»
فقالت: «سواء عندي أكنتم صادقين أم ساخرين، وليس أحب إلي من أن أغرق الآن لألحق بولدي الذي أغرقتموه هنا قبلي ولم ترحموا شبابه، ولا اتقيتم الله في قتله ظلما وعدوانا بلا أي ذنب جناه!»
فأدرك الجنود أنها أم الفتى الذي سمعوا بأن علي بك أمر بإغراقه في الصباح، وازدادوا رأفة بها ورثاء لمصابها، ثم أخذوا في تعزيتها متنصلين من تبعة إغراق ابنها، وأكدوا لها أنهم سيطلقون سراحها ويعاونونها على الاختفاء تنفيذا لرغبة الست نفيسة، فلما سمعت ذلك صدقتهم وازدادت تقديرا لفضل السيدة البارة الكريمة الرحيمة، لكنها قالت لهم: «جزاها الله وجزاكم أحسن الجزاء، غير أني لا أريد الحياة بعد قتل ولدي وفقد أبيه، فأرجو منكم أن تقتلوني أيضا وتريحوني من العذاب الذي أنا فيه!» •••
ما زال الجنود سائرين بسالمة وهم يحاولون تعزيتها وإقناعها بالتزام الصبر والرضوخ لمشيئة القدر، حتى وقفوا بها أمام بناء هناك في مصر العتيقة، ثم مضى كبيرهم إلى باب صغير مصفح بالحديد، يوصل إليه من ممر منحدر، فطرقه طرقا عنيفا متواليا، أعقبه صوت ضعيف مرجف منبعث من الداخل يسأل: «من الطارق؟» ما كادوا يجيبونه بأنهم من الجنود حتى سارع إلى فتح الباب وفي يده مصباح زيتي خافت الضوء، فدخلوا وسالمة وراءهم، وهي تعجب من أمر ذلك المكان، وبابه الحديدي الضيق ذي المفتاح الخشبي الغليظ، وما زالوا سائرين في زقاق ضيق على جانبيه أزقة أخرى مثله، والبواب الشيخ العجوز يتقدمهم بمصباحه، حتى بلغوا بابا صغيرا آخر طرقوه ففتح لهم ودخلوا وهي معهم، ثم سمعت كبير الجنود يسأل البواب الجديد: «أين الرئيس؟ إننا نريد مقابلته في أمر خاص.» فمضى البواب وغاب قليلا ثم عاد ومعه رجل في مثل لباسه وسنه. وبعد أن تبادل الرجل مع كبير الجنود بضع كلمات لم تتبينها، ولكنها أدركت من إشارتهما إليها أنها خاصة بها، عاد الرجل من حيث أتى، ثم أقبل بعد حين ومعه سيدة استقبلتها مرحبة، ثم قادتها إلى حجرة صغيرة خالية إلا من فراش بسيط ومصباح زيتي صغير، وأشارت إليها أن تستريح فيها حتى الصباح. وبعد أن جاءتها ببعض الطعام وإناء به ماء، تركتها راجية لها نوما طيبا هانئا، وأغلقت باب الحجرة وانصرفت. فبقيت سالمة ساعة تتقاذفها الهواجس والأفكار، ولم تجد في نفسها قابلية لتناول الطعام رغم أنها لم تذق شيئا منذ وقت طويل، فاكتفت بجرعة من الماء، وتمددت بثيابها على الفراش الموضوع في الحجرة، فما لبثت قليلا حتى أخذها النعاس، ولم تستيقظ لفرط ما قاسته من الجهد والحزن وعديد المفاجآت إلا قرب ظهر اليوم التالي.
ولم تكن هذه الحجرة إلا إحدى حجرات دير كنيسة مار جرجس، ورهبانه جميعا من اليونانيين. ولليونان يومئذ امتيازات كثيرة في مصر لكثرة جاليتهم فيها، ولحاجة المماليك إليهم في الطب وتجارة الرقيق وغيره، وصنع السفن وقيادتها. ولم يكن بالدير راهبات سوى راهبة جاءت من اليونان لتمضية بضعة أشهر في مصر، هي التي استقبلت سالمة ومضت بها إلى تلك الحجرة.
وبجانب هذا الدير تقوم أديار أخرى كثيرة للأقباط والأروام، ومن بينها دير أبي سرجة، ودير المعلقة، ويحيط بها جميعا سور أشبه بأسوار الحصون؛ إذ كان ذلك البناء كله حصنا فيما مضى، وفيه حاصر العرب أقباط مصر حين جاءوا لفتحها بقيادة عمرو بن العاص.
أما الجنود الذين جاءوا بسالمة، فانصرفوا عائدين أدراجهم بعد أن أوصوا بها رئيس الدير خيرا، وطلبوا إليه أن يبقيها في مأمن عنده؛ لأن حياتها مهددة بالخطر، فلم يسعه إلا القبول.
ولما وصلوا إلى الباب الخارجي وجدوه مفتوحا، والبواب ليس في مكانه هناك. فعلموا أنه فر خوفا منهم كما فعل أكثر الرهبان الذين صادفوهم داخل البناء، وأوجسوا خيفة من أن يكون أحد هؤلاء قد ظن أنهم آتون للنهب والسلب، كما كان يحدث في ذلك الحين، فذهب ليشكوهم إلى المعلم إبراهيم الجوهري أو المعلم رزق، وهما يومئذ ملجأ القاصدين وذوي الحاجات من أقباط مصر، لتوليهما الكتابة عند علي بك، وحصولهما بسبب ذلك على كثير من سعة النفوذ والسلطان، فضلا عن الثراء الوفير.
وكان أن تسلل الجنود خارجين من الباب، ثم أغلقوه وراءهم وعادوا إلى القصر دون أن يشعر أحد من أهله بشيء مما قاموا به.
الفصل السابع
الشيخ المجذوب
بقي السيد عبد الرحمن أياما في دمياط بعد وصوله إليها مع الأسطول الروسي، ثم وجد سفينة نيلية تستعد للسفر منها إلى القاهرة حاملة مقادير كبيرة من الأرز، فاتفق مع أصحابها على أن يأخذوه معهم. وفي الموعد المحدد لإقلاع السفينة كان قد صعد إليها بأمتعته، وبينها طبل صغير وعصا مصبوغة، وعدد من الأجراس الصغيرة، وصرة بها قطع مختلف ألوانها من الملابس القديمة، ثم اختار لنفسه مجلسا في أحد جوانب السفينة وقبع فيه وبجانبه أمتعته بعد أن خلع عنه الزي المغربي الذي كان متنكرا فيه، معتزما التنكر في زي آخر.
وما أقلعت السفينة حتى انطلقت بها الريح في الاتجاه المطلوب، وسر بذلك ملاحوها، فاجتمعوا على ظهرها بعمائمهم الكبيرة المرسلة أطرافها على أقفيتهم، وبسراويلهم الفضفاضة المشدودة على القدمين، وأخذ بعضهم في الغناء بمصاحبة المزمار والنقر على الدفوف. كما أخذ بعضهم يتلهون بتسلق سارية الشراع أو حمل الأثقال، بينما التجار يتلهون بمشاهدة هؤلاء وهؤلاء، أو الاستمتاع بمناظر السفن الأخرى وما يحف بالشاطئين من زروع وأشجار وفلاحين يعملون في الحرث والري وغيرهما من أعمال الحقول.
أما السيد عبد الرحمن فكان في شغل عن ذلك كله بالتفكير في أمر ولده وزوجته، فتارة تحدثه نفسه بأنهما أصيبا بعد سفره بسوء على أيدي المماليك، وتارة يخيل إليه أنهما ذهبا إلى عكا بعد مغادرته إياها. وأخيرا نهض ومضى إلى حافة السفينة فتوضأ ثم عاد إلى ركنه المختار فصلى ودعا الله أن يقيه وأسرته الضر ويجمع شملهم في أمان واطمئنان. ثم عكف على إعداد الزي الجديد الذي رأى أن يتنكر فيه بدلا من زيه المغربي، فرفع جبته بالقطع الملونة الصغيرة، وثبت فيها الأجراس الصغيرة والجلاجل، ثم ارتداها واستعاض عن العمامة بطرطور طويل بعد أن نفش شعر رأسه وأرسله على وجهه فاختلط بلحيته، وعلق الطبل الصغير على صدره. ثم نهض فغادر مكانه والعصا الملونة في يده، وأخذ يتجول في أنحاء السفينة وهو يقرع الطبل، والأجراس والجلاجل تصلصل متأثرة بحركته، فلم يبق على ظهر السفينة من لم يلفته منظره العجيب، وراحوا جميعا يتسابقون إلى التبرك به والإصغاء إلى الكلمات المبهمة التي يتمتم بها؛ إذ اعتقدوا أنه من المجاذيب المكشوف عنهم الحجاب!
وما أتم السيد عبد الرحمن جولته الأولى حتى كان قد اطمأن إلى إتقان تنكره، ثم استمر يقوم بمثل هذه الجولة على السفينة مرات في اليوم والتجار والبحارة يزدادون تيمنا به ويتنافسون في العمل على مرضاته، حتى رست السفينة في ميناء بولاق، فغادرها وهو على تلك الهيئة، وانطلق يتجول في الأسواق والأزقة متظاهرا بالانجذاب، فلم تمض ساعة حتى كان يسير وخلفه جمهور كبير من الصبيان والمتعطلين والمارة على اختلافهم، وهم بين ساخر منه، ومتبرك به، وما زال سائرا حتى بلغ الحارة التي بها منزله، فجلس ببابها متظاهرا بالرغبة في الاستراحة، وهو إنما يريد صرف الجمهور السائر خلفه؛ ليتفرغ بعد ذلك لتفقد أهل منزله والوقوف على حقيقة حالهم.
ومر به أحد الفقهاء، فرثى لحاله وأمر الناس فانصرفوا عنه، ثم مد يده إليه ببعض الدراهم فلم يقبلها، وقال له متظاهرا بالبله والانجذاب: «لا حاجة بي إلى دراهم، ولا آخذها حتى لا تغضب أمي وتضربني!»
فابتسم الفقيه واعتقد أنه من أهل الصلاح والتقوى، فطلب إليه أن يرافقه إلى بيته، فهز رأسه إشارة الرفض.
وعرض عليه الفقيه أن يأتيه ببعض الطعام، فرفض أيضا، لكنه أشار إليه بوضع يده على فمه أنه يريد ماء، فانطلق الفقيه إلى أبواب الحارة، وجاءه من عنده بقلة ملأى بالماء، فاكتفى برشفات منها وأعادها إليه، ثم تظاهر بأنه يريد النوم، ولكنه خشي على طبله أن يخطفه الصبيان، فطلب الفقيه من البواب أن يخلي له مكانا بجانبه وراء الباب لينام فيه آمنا، وبادر البواب بإجابة الطلب وهو فرح فخور.
ومضت ساعات والسيد عبد الرحمن متظاهرا بالنوم خلف باب الحارة، وكلما سمع وقع أقدام خارجة أو داخلة اختلس النظر نحو الباب لعل القادم ابنه أو أحد خدم المنزل، فلما لم يمر به أحد منهم عاوده قلقه، ولم يطق صبرا بعد ذلك، فهب من مرقده فجأة، وأخذ يقفز ويتمتم بكلمات غير مفهومة، ثم هم بطبله فعلقه على صدره فوق مرقعته، وأحكم وضع طرطوره الطويل على رأسه، وتناول عصاه الملونة، ومشى في الحارة وهو يقرع الطبل فيختلط دويه بصليل الأجراس والجلاجل التي في مرقعته، وما زال سائرا بهذه الحالة حتى وصل إلى منزله وقد أوشكت الشمس أن تغرب، فوجد الباب مغلقا، وسمع أصواتا منبعثة من الداخل لا عهد له بها، فاشتدت به الوساوس والهواجس، وهم بطرق الباب، لكنه آثر الانتظار بعض الوقت، فجلس بقربه مستمرا في قرع طبله والصلصلة بأجراسه، وأهل الحارة يمرون به ضاحكين منه متيمنين بوجوده فيها، وهم يحسبونه من المجاذيب أهل الكشف.
وبعد قليل فتح الباب وخرج منه شيخ وقور عرف السيد عبد الرحمن أنه زميل قديم له من التجار في وكالة الليمون، وهم بأن يناديه، فإذا بالتاجر يقصده من تلقاء نفسه ويحاول إعطاءه بعض الدراهم، فرفض أخذها متظاهرا بالغضب، وأفهمه بالإشارة أنه في حاجة إلى الطعام والنوم، فأخذ التاجر بيده وعاد به إلى المنزل حيث أدخله حجرة الجلوس في الطابق الأرضي، وأمر الخادم بأن يأتيه بالطعام ويهيئ له منامة، ثم استأذن في الخروج سائلا إياه أن يذكره بدعواته الطيبات، وانصرف بعد أن أوصى الخادم بالسهر على خدمة الشيخ المبارك وتلبية كل ما يطلبه. •••
ما كاد السيد عبد الرحمن يدخل منزله مع زميله التاجر الذي وجده ساكنا فيه حتى أدرك أن نظام المنزل قد تغير إلى حد كبير، ولم يجد في طريقه إلى حجرة الجلوس أي أثر لأحد من أهله أو خدمه، فتسارعت دقات قلبه، وكاد يجهش بالبكاء، لكنه تجلد حتى لا يفتضح أمره، وصبر إلى أن انصرف زميله التاجر، ثم جاءه الخادم بالطعام، فتظاهر بالغضب، وأمر بإعادته، ثم هم بحمل طبله وعصاه وطرطوره، ورفع صوته قائلا وهو يتظاهر بأنه يحدث نفسه: «لا. لا. هذا مستحيل.»
فوجم الخادم، وخشي أن يترك المجذوب يغادر المنزل فيغضب سيده، فاقترب من السيد عبد الرحمن وهم بتقبيل يده قائلا: «ما الذي أغضبك؟ اطلب ما شئت فإني في خدمتك.»
فقال له: «أنا لا آكل طعاما، ولا أنام في منزل خلا من أصحابه.»
ففهم الخادم أن الشيخ المجذوب عرف بالإلهام قصة الظلم الذي أوقعه المماليك بأصحاب المنزل الأولين، فمال على يده وقبلها في خشوع وإجلال وقال: «رحمهم الله يا سيدي، ورحمنا جميعا من الظلم والاضطهاد.» ثم تضرع إليه ألا يغادر المنزل، وأن يطلب الطعام الذي يريده فيحضره له في الحال؛ حتى لا يغضب سيده ويطرده.
فتكلف السيد عبد الرحمن الضحك ساخرا، وقال للخادم: «كيف يطردك؟ أهو الذي طرد من كانوا في المنزل من قبل؟»
فقال الخادم: «كلا يا سيدي، إن علي بك هو الذي طردهم، وجردهم من أملاكهم؛ لأن عميدهم خالف أمره وهرب من الحملة التي أرسله فيها إلى الحجاز.»
قال: «ألم تعلم أين ذهبوا بعد ذلك؟»
فتنهد الخادم أسفا وحزنا وقال: «لم يكن للرجل إلا ولد واحد، أخذوه وأغرقوه في النيل!»
فأجفل السيد عبد الرحمن وخارت قواه فجأة، فجلس متهالكا وقد سقط الطرطور عن رأسه، وانفجر باكيا، والخادم يعجب من أمره ولا يعلم أنه إنما يبكي ولده الوحيد، ثم اعتدل في جلسته متجلدا وسأل الخادم: «وماذا صنعت المسكينة أم ذلك الغلام؟»
فقال الخادم: «أمر علي بك بأخذها إلى قصره لتعمل فيه مع الجواري الخادمات، وأحسب أنها ما زالت هناك حتى الآن.»
فشعر السيد عبد الرحمن بأن الأرض تدور به، ولم يعد يقوى على الكلام، فتظاهر بأنه رضي المبيت في المنزل وطلب من الخادم ترك الطعام في الحجرة ليأكله متى شاء، فقبل الخادم يده وخرج.
وما خلا السيد عبد الرحمن إلى نفسه في الحجرة حتى أطلق لعينيه عنان البكاء، وأخذ يندب ولده وزوجته، وبقي كذلك وقد أغلق باب الحجرة من الداخل حتى سمع أذان الفجر، ففتح باب الحجرة وأيقظ الخادم النائم أمامه، وأخبره بأنه يريد الخروج للصلاة في المسجد، فأوصله حتى الباب الخارجي وفتحه له، ثم قبل يديه وودعه راجيا أن يتفضل بتشريف المنزل بزيارته من حين لآخر؛ لتحل بركته على من فيه، فوعده بذلك وانصرف لا يلوي على شيء.
وما زال سائرا ووجهته قصر علي بك، فبلغه وقد أشرقت الشمس وانعكست أشعتها على بركة الأزبكية، فبدا منظرها بديعا يجذب القلوب والأبصار، لكنه كان في شغل عن ذلك بما هو فيه من المصائب والنكبات. وما وقعت عليه أعين حرس القصر وخدمه حتى دعوه إليهم ملتمسين بركته ودعواته، وحاول بعضهم نفحه ببعض المال فرفض أخذه طبقا للخطة التي اتخذها لنفسه، فجاءوه بالطعام راجين منه أن يأكل منه إكراما لخاطرهم، فتناول قليلا منه، ثم أخذ يتردد إليهم أياما فيجد منهم الإكرام والاحترام، وهو يتلطف ويحتال لاستطلاع ما تم في أمر زوجته، حتى علم أخيرا بأن علي بك أمر بأن تلحق بولدها غرقا في النيل، وأن الجنود ساقوها من القصر إلى مصر العتيقة؛ حيث نفذوا ذلك الأمر، وكان هذا في مساء اليوم الذي أغرق فيه ولدها هناك! •••
ضاقت الدنيا كلها في وجه السيد عبد الرحمن، بعد أن فشلت آماله وتحقق مصرع ولده وزوجته، ففكر في الانتحار تخلصا من حياته الشقية المعذبة، لكن نفسه التقية لم تطاوعه على ارتكاب هذه المعصية، فسلم أمره لله، واعتزم أن يقضي ما بقي من عمره هائما على وجهه، وهو بملابس المجاذيب، يسد رمقه بما يجود به عليه الناس من الطعام كلما جاع، وينام في المكان الذي يتفق وجوده فيه حين يشعر بحاجة إلى النوم.
وبقي كذلك في القاهرة أسابيع، حتى أصبحت شخصيته الجديدة معروفة في جميع أحيائها، وأهلها كلهم يتيمنون بطلعته ويلتمسون بركته ودعواته، والسعيد منهم من يتاح له أن يقدم له طعاما فيتناول قليلا منه، أو يحظى بنومه بالقرب من منزله؛ إذ إنهم علموا بالتجربة أنه لا يقبل مالا من أحد، ولا ينام إلا في الطريق!
وكثيرا ما كانت قدماه تقودانه إلى شاطئ النيل في مصر العتيقة، فيجلس هناك بالقرب من مينائها الذي ترسو فيه المراكب التجارية كما هو الشأن في ميناء بولاق، فإذا رآه التجار المجتمعون هناك تفاءلوا بوجوده خيرا، وتسابقوا إلى خدمته التماسا لبركته، وفيهم كثيرون من زملائه في وكالة الليمون لكنهم كانوا لا يعرفونه؛ لتغير هيئته ولعلمهم بأن زميلهم قد غادر البلاد المصرية كلها فرارا من ظلم المماليك. أما هو فكان يعرفهم وتذكره رؤيتهم ما كان فيه من نعمة سابقة ومكانة تجارية مرموقة، فتتجدد أحزانه وتهيج أشجانه، ولا يعزيه إلا أن يسرح بصره في النيل الممتد أمامه متخيلا أن زوجته وولده لا يلبثان أن يخرجا إليه من أعماق النهر؛ حيث ألقى بهما الجنود، ويقضي الساعات الطوال مناجيا طيفيهما وهو يضحك تارة ويبكي تارة أخرى، ولا يزال كذلك حتى ينال منه التعب فيتمدد على الشاطئ متوسدا طبله محتضنا عصاه ويسلم عينيه للنوم؛ حيث يستأنف تلك المناجاة فيما يراوده من الأحلام!
وفيما هو هناك ذات يوم وقد أخذته سنة من النوم، إذا به يستيقظ على صوت رجل يناديه قائلا: «يا سيدي الشيخ. يا سيدي الشيخ.» فلما تطلع إلى الرجل الذي يناديه وجده مرتديا جلبابا مهلهلا، وعلى رأسه عمامة ملفوفة حول «لبده»، وعلى وجهه آثار الجهد والإعياء، فأدرك أنه من أهل الصعيد الذين يعملون في شحن البضائع ونقلها، وسأله عما يريد، فقال الرجل: «سألتك بالله يا سيدي أن تقرأ الفاتحة وتدعو الله أن يجمعني بمن فرق بيني وبينهم.»
فتأثر السيد عبد الرحمن بما بدا من اللهفة والأسى في لهجة الرجل، وتذكر أنه يشكو مثل شكاته، فجلس وأخذ في قراءة الفاتحة والدموع تنهمل من عينيه، فتشاءم الرجل وانتظر حتى فرغ من القراءة ثم سأله: «هل على الغائبين من بأس يا سيدي الشيخ؟»
وخيل إلى السيد عبد الرحمن أن صوت الرجل ليس جديدا عليه، فمسح دموعه بطرف مرقعته وتفرس في وجهه؛ فإذا هو علي خادمه الخاص، فعجب من ارتدائه ملابس أهل الصعيد، ومن تغير هيئته إلى حد كبير، وهم بأن يناديه باسمه، لكنه لم يتمالك عواطفه فانفجر باكيا.
وفهم علي أن بكاء الشيخ المجذوب دليل على أنه ألهم ألا أمل في عودة الغائبين الذين خاطبه في شأنهم، فلم يتمالك عن البكاء هو الآخر، وقال له: «لماذا تبكي يا سيدي الشيخ؟ إذا كنت قد تحققت ألا أمل في اجتماعي بمن فقدتهم فأخبرني.»
فأجابه وهو ما زال يبكي قائلا: «إن الموتى لا يعودون يا علي.» ثم نهض وهم به يعانقه وقد ازداد نشيجه وعلا نحيبه، ولما وجده ذاهلا لم يعرفه بعد أمسك بيده وأجلسه بجانبه، وقال: «ألم تعرفني بعد يا علي؟ إن حسنا ووالدته قد أغرقا هنا في هذا النيل.»
وهنا تحقق علي أن الشيخ المجذوب ليس سوى سيده عبد الرحمن نفسه، فارتمى عليه وأخذ في تقبيل يديه وكتفيه باكيا معولا وهو يقول: «سيدي عبد الرحمن ... سيدي عبد الرحمن.»
فطلب منه ألا يرفع صوته لئلا يفطن أحد إلى أمرهما، ثم نهضا وانطلقا إلى مكان منعزل بعد الميناء، وجلسا يتحادثان، فروى علي أنه سافر إلى الريف بأمر سيده حسن ووالدته؛ حيث باع الأرض التي كانت لسيده عبد الرحمن هناك، واستغرق ذلك أسابيع، وفيما هو في طريق عودته إلى القاهرة للسفر معهما إلى عكا طبقا لما تعاهدوا عليه، علم بأن المماليك اعتقلوهما واستولوا على المنزل وكل ما فيه، فتنكر في زي أهل الصعيد وجاء إلى القاهرة ليرى ما تم في أمرهما، وفيما هو خارج من الميناء بعد مغادرته السفينة التي جاء فيها، سمع التجار والملاحين يتحدثون عن شيخ مجذوب صاحب كرامات مشهورة، وعلم منهم أن هذا الشيخ موجود بالقرب من الميناء على شاطئ النيل، فوافاه هناك ليتبرك به ويسأله في أمر سيده حسن ووالدته، لعله يكشف له عما انتهى إليه أمرهما.
فأخبره السيد عبد الرحمن بما كان من أخذهما إلى مجلس علي بك في القلعة، ثم إغراقهما بأمره في النيل بعد الإهانة والتعذيب، ثم قال له: «والآن لم يعد يحلو لي العيش بعد أن فقدت أهلي ومالي، هذا إلى أني لا آمن إذا بقيت في القاهرة أن ينكشف أمري، ولو كنت أعلم الغيب لبقيت في حملة الحجاز، أو بقيت في عكا ولم أرجع إلى هذه البلاد التي عاث فيها المماليك الفساد، ولم يتقوا الله في العباد.»
وأمضيا ساعات وهما يتبادلان الحديث ويبكيان، ثم قال علي: «أرى أن نبقى في القاهرة متنكرين كما نحن الآن، وما دام كل منا لم يعرف الآخر أول الأمر، فلن يستطيع أحد من المماليك وأعوانهم كشف حقيقة أمرنا، وهذا هو المال الذي بعت به أرضك التي كانت في الريف، فتصرف فيه كما شئت.» قال هذا وأخرج من ثيابه صرة فيها ذلك المال ومد بها يده إلى سيده، فرفض هذا أخذها وقال: «ما حاجتي إلى المال يا علي؟ إنني لولا خوف الله لألقيت بنفسي في قاع النيل لألحق بحسن ووالدته.»
فقال علي: «معاذ الله يا سيدي أن يرتكب مثلك جريمة الانتحار، وإن قلبي ليحدثني بأن الله - جل شأنه - أكرم وأرحم من أن يجزيك بغير الخير على تقواك وبرك بعياله الفقراء وصبرك على عنت أولئك الحكام الظالمين. ومن يدري فلعل سيدي حسنا ووالدته ما زالا على قيد الحياة، فإننا لم نتحقق قتلهما بعد، فلنصبر ونواصل البحث، وإني خادمك المطيع لا يمكن أن أتركك لحظة حيثما تتوجه، سواء أبقيت هنا في القاهرة، أم آثرت الرحيل عنها إلى أي بلد آخر.»
فهم به السيد عبد الرحمن وقبله شاكرا له حسن وفائه وإخلاصه، ثم نهضا وانطلقا إلى المدينة فبلغاها وقد آذنت الشمس بالمغيب، وما زالا سائرين حتى بلغا الجامع الأزهر، فجلسا بالقرب من أحد أبوابه، وتبلغا بما تيسر من الطعام، ثم تدثر السيد عبد الرحمن بمرقعته وتوسد طبله، وتمدد علي بالقرب منه على الأرض، وما لبثا قليلا حتى راحا في النوم، ولم يستيقظا إلا على أذان الفجر تنطلق به أصوات المؤذنين من الجامع الأزهر والمساجد القريبة منه ملعلعة في الفضاء. •••
مضى السيد عبد الرحمن وعلي خادمه يتجولان في الشوارع المحيطة بالأزهر، وكانت الشمس قد أشرقت منذ ساعة، لكنهما وجدا الشوارع مقفرة من المارة، وجميع المتاجر والمنازل فيها مغلقة الأبواب، فقال السيد عبد الرحمن: «لا يمكن أن تقفر الشوارع من المارة وتغلق أبواب المتاجر والمنازل حتى هذه الساعة إلا لأمر خطير، وأكبر ظني أن الجنود خارجون من القلعة اليوم لسبب من الأسباب.»
وما أتم جملته حتى رأيا بعض الأهلين قادمين نحوهما مهرولين مذعورين، فلما وقعت أنظارهم على السيد عبد الرحمن وهو في زي الشيخ المجذوب صاحوا به قائلين: «ادع الله ينقذنا من هذا الكرب.» ثم مضوا في طريقهم لا يلوون على شيء، ووجهتهم الجامع الأزهر.
فتحقق أنهم ذاهبون إلى الجامع الأزهر للاحتماء فيه من جنود المماليك، ولم يجد من يسأله عن سبب خروج الجنود من القلعة، فقال لعلي: «يحسن أن نعود إلى الأزهر نحن أيضا، لنعلم ممن سبقونا إليه فيم خروج الجنود اليوم.»
فوافقه علي، وما كادا يدخلان الجامع حتى وجداه قد امتلأ بمئات من الناس أكثرهم من أصحاب الحرف والباعة والمكاريين ومعهم حميرهم، وعلما أن الجنود خارجون في حملة جديدة لفتح الشام.
وبعد قليل، أقبل جماعة من الجنود الإنكشاريين، فدخلوا الجامع الأزهر وأخذوا في ضرب اللاجئين إليه وسلبهم ما معهم من الأموال والأمتعة والسلع، ولم يتركوا دابة من دواب المكاريين إلا أخذوها، مدعين أنهم يحتاجون إليها في جهادهم. ولبثوا هناك ساعة يعتدون على أولئك المساكين الآمنين ثم انصرفوا، فأغلق اللاجئون أبواب الأزهر؛ مخافة أن يعودوا أو يجيء غيرهم من الجنود فينالهم على أيديهم اعتداء فظيع آخر. ولبثوا هناك خائفين مترقبين حتى غربت الشمس، وعلموا بأن الجنود غادروا القاهرة في حملتهم الجديدة، ففتحوا أبواب الجامع وخرجوا للاطمئنان على متاجرهم ومنازلهم وأهلهم، وبقي منهم في الجامع كثيرون أغلبهم من العلماء والطلاب ومشايخ الطرق. فقال السيد عبد الرحمن لخادمه: «لا داعي لخروجنا فلنبق ليلتنا هنا، وعند الصباح يفعل الله ما يشاء.»
فقال علي: «لقد نطقت الصواب يا سيدي.» ثم انتحيا ناحية في صحن الجامع، وجلسا يتحدثان حتى صليت العشاء، وجاء جماعة من الفقهاء والطلبة فالتفوا حول السيد عبد الرحمن وراحوا يشكون إليه ظلم المماليك للناس، ويسألونه أن يدعو الله أن يكشف الضر عن عباده ويأخذ الظالمين بذنوبهم، فكان يجيبهم بما يدخل الاطمئنان إلى قلوبهم، ويذكرهم بأن الله ليس بغافل عما يعمل الظالمون، ولكنه يؤخرهم ليوم يأخذهم فيه أخذ عزيز مقتدر.
وفي الصباح هم السيد عبد الرحمن وخادمه بالخروج من الأزهر؛ فإذا بالسيد المحروقي يدخله في جماعة كبيرة من العلماء والأشراف، فتذكر السيد عبد الرحمن ما كان من أمر توسط صديقه الشريف الكبير لدى علي بك للإفراج عن ولده حسن، فلم يتمالك عواطفه وهطلت الدموع من عينيه فعاد إلى الجلوس في الأزهر، معتزما أن يقابل ذلك الصديق على حدة، وأن يكشف له عن حقيقة أمره، ويستشيره فيما ينبغي أن يصنع بعد أن استولى علي بك وجنوده على أمواله وأملاكه وقتلوا ولده وزوجته.
ولم يمض إلا قليل، ثم إذا بالسيد المحروقي يرسل في طلبه من تلقاء نفسه، وذلك أن بعض الفقهاء الذين جاءوا معه حدثوه حين رأوا الشيخ المجذوب في الجامع بما عرفوا من كراماته وأحواله، فرغب في استطلاع أمره بنفسه.
فنهض السيد عبد الرحمن، ومضى إلى حيث كان السيد المحروقي جالسا بين أولئك العلماء والأشراف يتشاورون فيما ينبغي اتخاذه لوقف المماليك عن ظلمهم. ولما وصل إلى هناك وقف قريبا من مجلسهم بحيث يرونه، فدعوه إلى المجيء إليهم، ولكنه هز رأسه إشارة الرفض، ثم أشار بيده إلى السيد المحروقي ليخاطبه على حدة، فنهض هذا من المجلس، وانتحى به ناحية، وأصغى لما سيقوله فإذا به يقول: «إني لست بشيخ مجذوب، ولا شيء لي بالانجذاب، وإنما أنا صديقك القديم عبد الرحمن التاجر السابق في وكالة الليمون، وقد تنكرت في هذا الزي خوف الظلم والعدوان.»
ثم روى له حكايته باختصار والدموع تنهمل من عينيه، فبكى السيد المحروقي تأثرا، ثم قال: «لا تيأس يا صديقي، فقد علمت أن ولدك لم يقتل، وأن الله قيض له الست نفيسة زوجة علي بك فأنقذته من المصير الرهيب الذي حكم به عليه زوجها، وعاونته على الفرار إلى سوريا أو غيرها من البلاد المجاورة، أما والدته فعلمت أن علي بك أمر بإغراقها في النيل، ولكنني علمت أيضا أن الست نفيسة زوجته كانت قد أرسلت في طلبها قبل ذلك وأحسنت استقبالها ومواساتها، ولعلها أن تكون قد عملت على إنقاذها أيضا.»
فتجدد الأمل في صدر عبد الرحمن، وشكر صديقه السيد المحروقي على هذه المعلومات، ثم حياه وانصرف عائدا إلى خادمه علي فزف إليه تلك البشرى، وقررا السفر إلى سوريا في أقرب وقت للبحث عن حسن هناك.
الفصل الثامن
رسول من عكا
تركنا حسنا وقد أخذه بعض الجنود المماليك من حرس علي بك، على مشهد من أمه في القلعة، ليمضوا به إلى النيل ويغرقوه فيه، تنفيذا لأمر مولاهم.
فلما وصلوا به إلى مصر العتيقة، استولوا على قارب وجدوه راسيا على الشاطئ هناك قرب الميناء، وأنزلوه فيه وهو يبكي ويتوسل إليهم دون جدوى، ومعه كيس كبير من الخيش وحجر ثقيل أرغموه على حمله في الطريق، لكي يضعوه معه في الكيس حتى لا يطفو بعد قذفه في الماء.
وفيما هم يهمون بحل القارب، لاحت منهم التفاتة إلى إحدى السفن الراسية في الميناء، فوجدوا العمال ينزلون منها براميل أدركوا من هيئتها أنها ملأى بالنبيذ أو الزبيب، وزيف لهم الشيطان أن يستولوا على شيء مما فيها ليحتسوه في القارب احتفالا بتنفيذ أمر علي بك. ومضى أحدهم لإنجاز هذه المهمة، فلما عاد بعد قليل إلى القارب وجد فيه مع زملائه مملوكا من الحرس الخاص بقصر علي بك، فظن أنهم رأوه اتفاقا هناك، فدعوه إلى مشاركتهم النزهة والشراب. ثم ركبوا جميعا في القارب وانطلقوا به في عرض النيل، وما زالوا في شرب ولهو، وحسن قابع في ركن من القارب وقد مل انتظار الموت، وتمنى أن يعجلوا بقذفه في النيل. إلى أن سمع كبيرهم ينهض فجأة ويصدر أمره بالاتجاه نحو الشاطئ الشرقي، فلم يخالجه شك في أن لحظة إغراقه قد حانت، ونطق بالشهادتين، ثم تجلد وتطلع إليهم؛ ليريهم أنه لا يهاب لقاء الموت ويؤثره على الحياة في عهد حكمهم الفاسد الظلوم. وشد ما كانت دهشته إذ رآهم منصرفين عنه إلى ما هم فيه من سكر وضحك وغناء، ثم ازدادت دهشته حين وصل القارب إلى الشاطئ فأنزلوه أمامهم منه، ثم ابتسم كبيرهم وقال: «لقد كتب لك عمر جديد، وهذا هو جبل المقطم أمامك، فعليك أن تدور حوله حتى تبلغ الطريق المؤدي إلى سوريا فامض فيه قدما دون أن تلوي على شيء، وإياك أن يشعر بفرارك أحد!»
ولم يصدق حسن سمعه، بل لم يصدق عينيه حين سارع كبير الجنود على أثر ذلك بفك قيوده وأغلاله وإعطائه صرة من المال يستعين بها في رحلته، وبقي واقفا في ذهول حتى دفعه الرجل بقوة في الطريق الجبلي الممتد أمامه ، فاندفع يعدو فيه وصوت الرجل يلاحقه وهو يحثه على زيادة العدو، حتى انقطع الصوت بعد قليل، فخفف من عدوه والتفت فلم يجد أحدا غيره في تلك المنطقة الجبلية المقفرة، وقد زاد في وحشتها ما سادها من ظلام المساء، وما اعتمل في صدره من شتى الهواجس والانفعالات.
على أنه لم يجد بدا من مواصلة السير، وما زال يعدو تارة ويمشي الهوينى تارة حتى نال منه الجهد والإعياء، وسمع نباح الكلاب من بعيد، فخشي أن يتقدم نحوها فيكون هناك خطر عليه، وآثر المكث حيث هو حتى الصباح، فارتمى على الأرض، وحاول النوم فلم يستطعه لفرط خوفه وقلقه، وبقي كذلك حتى لاح ضوء الفجر فنهض واستأنف سيره حتى مر عند الظهر بمضارب لبعض الأعراب، فعرج عليها وحصل على حاجته من الماء والطعام، كما حصل على ثياب عربية استبدل بها ثيابه للتنكر، ثم مضى في طريقه حتى وجد أعرابيين يقودان جملين، وعلم منهما أنهما في طريقهما إلى الصالحية ليصحبا من هناك قافلة ذاهبة إلى سوريا، فانضم إليهما وهو يحمد الله على هذا التوفيق؛ لأنه كان يخشى السير منفردا، فضلا عن أنه لا يعرف الطريق.
وفي الصالحية، اشترى لنفسه جملا وما يحتاج إليه من الزاد خلال الرحلة، ثم انضم إلى القافلة، وقد اطمأن إلى النجاة. ولكن القافلة ما كادت تخرج من البلدة حتى دهمها جماعة من فرسان المماليك، فاستولوا على ما فيها من الجمال والأحمال بحجة أن علي بك يحتاج إليهما فيما هو قائم به من الجهاد. وعبثا حاول التجار أن يثنوا العساكر عن هذا الأمر؛ إذ هددهم هؤلاء بالقتل، واضطروهم إلى العودة إلى الصالحية؛ تمهيدا لإرسالهم إلى القاهرة. •••
كان هم حسن بعد أن رأى ما حل بالقافلة أن ينجو بنفسه؛ حتى لا يعود إلى القاهرة فينكشف أمره هناك، فانتهز فرصة اشتغال الفرسان المماليك بإحصاء السلع التي كان التجار في القافلة ذاهبين بها إلى الشام، وترك جمله بما عليه واختبأ وراء أكمة هناك حتى انتهى الفرسان من إحصاء تلك السلع، وساقوا القافلة عائدين بها إلى الصالحية. فلما ابتعدوا نهض من مخبئه ومشى في طريق الشام الذي كانت القافلة سائرة فيه.
وما زال يجد في سيره وليس معه سلاح ولا طعام ولا ماء حتى ولى النهار وبدأ الظلام ينشر جناحيه على الصحراء الممتدة أمامه، وكانت قواه قد خارت من فرط ما عاناه من الخوف والاضطراب مع العطش والجوع، فجلس على أكمة من الرمل ونظر إلى ما حوله فلم يجد سوى الرمال ينطبق عليها الأفق من جميع الجهات، فازداد قلقه وندم على مسيره وحده، وتذكر ما اضطره إلى ركوب هذا المركب الوعر، وما لحق بأسرته من الظلم والإهانة والتشريد والتعذيب، فأخذ يندب حظه مجهشا في البكاء.
ولما اشتد الظلام، ازداد شعوره بالخطر المحدق به، حتى نسي عطشه وجوعه، وخيل إليه أن ما حوله من السهول التي سادها الظلام والسكون قد امتلأت بوحوش كاسرة قادمة لافتراسه، فاقشعر بدنه وأخذته الرعدة وتسارعت دقات قلبه، وحاول النهوض فلم تقو ساقاه على حمله، فتمدد في مكانه، وأخذ يتلو ما تيسر من آيات القرآن ويبتهل إلى الله أن يقيه السوء، ويبعد عنه الهواجس.
وفيما هو كذلك، وصل إلى أذنه الملتصقة بالأرض صدى وقع أقدام مسرعة، فهب من مرقده مذعورا، وتلفت إلى مصدر الصوت ممعنا النظر على ضوء النجوم، فلاح له شبح قادم من بعيد، وما لبث الشبح أن اقترب منه فإذا هو هجين مسرع فوقه راكب لم يتبين هيئته، ثم لاح له بضعة أشباح أخرى مماثلة كأنها تطارد ذلك الهجان.
وما هي إلا لحظة حتى كان الجميع عند سفح الأكمة التي يجلس فوقها حسن، وتبين أن هؤلاء المطاردين يرتدون ملابس الأعراب، فأدرك أنهم من اللصوص قاطعي الطريق، ثم تحقق هذا؛ إذ سمع أحدهم يصيح بهم قائلا بعد أن لحقوا بالهجان الأول: «هيا لقد وقع الكلب فاقتلوه واستولوا على ما معه!» فانبطح على الأرض وعيناه تحملقان في اتجاه المعركة ليرى ما تنتهي إليه، وقلبه يخفق خوفا من أن يشعر بوجوده أحد اللصوص.
ولم يطل انتظاره؛ فإن الهجان الأول ما لبث أن سقط عن ظهر هجينه، فهم به مطاردوه واستولوا على سلاحه وملابسه ما عدا القميص والسروال، ثم تركوه ممددا على الأرض وساقوا هجينه أمامهم بما عليه من أمتعة وغيرها، وعادوا من حيث أتوا، وحسن يتابعهم بنظراته حتى ابتعدوا وابتلعهم الظلام. وهنا نهض من مخبئه وهو يحمد الله على نجاته، وهم بالابتعاد عن هذا المكان الذي قتل اللصوص فريستهم فيه، لكنه سمع أنينا صادرا من جهته، فعلم أنه ما زال فيه رمق من الحياة، وتحركت في نفسه عاطفة الشفقة ولاسيما بعد أن تصور أنه كان معرضا لمثل ذلك المصير، فزايله خوفه وسارع إلى المصاب المحتضر، لعله أن يخفف عنه آلام الاحتضار، أو يعلم من هم أهله فيعمل على إبلاغهم وصيته إن أراد أن يوصي إليهم بشيء.
ولما وصل إيه، وجده قد كف عن الأنين فظن أنه مات، ولم يتمالك عواطفه فبكى تأثرا بمصرع الرجل بعيدا عن أهله في ذلك القفر الموحش، ومال على جثمانه يفحصه ليتحقق موته قبل أن يواريه التراب كما قرر بينه وبين نفسه. وشد ما كان اغتباطه؛ إذ وجد أن الرجل ما زال حيا، لكنه مصاب بجرح في رأسه يسيل منه الدم، فسارع إلى إخراج منديله وأخذ يمسح ذلك الدم، ثم عصب له رأسه، وأخذ يحرك جسمه ويربت وجهه حتى أفاق من غشيته وتحرك وعاد إلى الأنين، فاستمر في تنبيهه ومواساته سائلا إياه عن موضع ألمه. وما زال كذلك حتى استطاع الرجل أن يتكلم وعلم منه أنه يشكو من الألم في ساقه، فقال له: «لا بأس عليك يا أخي، ولسوف تشفى عاجلا بإذن الله.»
ثم حل حسن عمامته، وبحث عن خشبة ليجبر له ساقه بها، فوجد في مكان المعركة عصا مكسورة، وسرعان ما أخذ منها ثلاث قطع جعلها حول ساقه المكسورة متوازية، ولف العمامة عليها لفا محكما، وكان قد تعلم صنعة التجبير في البيمارستان المنصوري، ثم أمسك بيد المصاب وأجلسه برفق مسندا رأسه إلى صدره، وراح يشجعه ويطمئنه على نفسه، والرجل يعجب لصنيعه ويتمتم بشكره وهو ما زال بين الغيبوبة والصحو .
وأشرقت شمس اليوم التالي، وحسن مستمر في إسعاف الرجل والترفيه عنه بالعبارات الرقيقة، وقد استأنس به وإن يكن جريحا، واعتزم ألا يفارقه حتى يطمئن إلى نجاته.
وبعد قليل استطاع الرجل أن يسترد بعض قواه، ونظر إلى حسن في ضوء النهار وإلى الجبيرة التي صنعها له، فاطمأن إليه وذهب عنه الروع، وهمس وعيناه تدمعان تأثرا بما رأى من مروءته وأريحيته قائلا له: «جزاك الله عني خيرا يا سيدي، إني مدين لك بحياتي.»
فقال له حسن: «إنني ما قمت لك إلا بأقل ما يجب علي، وأنت الآن في حاجة إلى الراحة، وثق بأنني لن أتركك حتى تبلغ مأمنك إن شاء الله.»
ثم نهض حسن وبحث فيما حولهما من السهل حتى وجد موضعا مستويا عند سفح أكمة قريبة، فحمل صاحبه إلى هناك وفرش له عباءته وأرقده عليها، وأشار عليه بأن يستريح قليلا ريثما يجد وسيلة ينقله بها إلى الصالحية، فقال الرجل: «لن أنسى فضلك ما حييت، وإن اسمي عماد الدين، وقد جئت من عكا حاملا رسالة من حاكمها الشيخ ضاهر الزيداني إلى علي بك حاكم الديار المصرية، والحمد لله على أن هذه الرسالة بقيت معي ولم يستول عليها اللصوص الذين سلبوني مطيتي وسلاحي وأمتعتي وما كان معي من مال، فهل لي أن أتشرف بمعرفة اسم سيدي، وكيف ساقك الله لإنقاذي من الموت في هذا القفر بالليل؟»
فقال: «إني من أهل مصر واسمي حسن، وكنت عازما على السفر إلى عكا في مهمة خاصة، فخرج علي لصوص آخرون كثيرون واستولوا على راحلتي وأمتعتي، ولم أنج بحياتي من بين أيديهم إلا بمعجزة، وكأنما نجاني الله لكي أشهد ما وقع لك هنا، وأسارع إلى إسعافك بالعلاج عقب انصراف المعتدين الآثمين، فنحن إذن شريكان في الغربة والبأساء، ولكن لا بأس عليك إن شاء الله.»
فعجب عماد الدين من أمر هذا الاتفاق الغريب، وقال له: «هذه إرادة الله، وإنه ليسعدني أن ألقاك في عكا لعلي أستطيع أن أرد لك هناك بعض جميلك، وأكون أكثر سعادة إذا لم يكن لديك ما يمنع ذهابنا إليها معا، بعد أن نمضي إلى القاهرة وأؤدي الرسالة إلى علي بك.»
فسكت حسن ولم يدر بم يجيب؛ إذ تذكر ما أصابه وأسرته على يد علي بك، فهاجت أحزانه ولم يستطع إخفاء الدموع التي تسابقت تجري على خديه.
ولم يخف ما به على عماد الدين، فاشتد عجبه وسأله: «أهذه أول مرة قصدت فيها إلى عكا أم لك معرفة بها من قبل؟»
وكان حسن في هذه اللحظة يفكر في أبيه، وفيما وعده وأمه به من أنه سينتظرهما في عكا، فتلاحقت دموعه على غير إرادة منه، ثم تجلد ولاح له أن عماد الدين قد يكون لديه نبأ عن أبيه، فقال له: «الواقع أنني كنت قاصدا عكا لأول مرة، وقد سبقني إليها أبي، وتواعدنا على أن ألحق به.»
قال: «وكيف تذهب وحدك في طريق لا تعرفه؟»
فسكت حسن حائرا، وخاف أن يكشف حقيقة أمره فيقع في مصيبة أخرى، وزاد هذا في شوق عماد الدين إلى استطلاع الأمر، فقال له: «إنني صرت لك أخا بل خادما منذ أنقذت حياتي، ولا شك أن ما يهمني يهمك، ولعلي أوفق إلى القيام لك بخدمة.»
ولم يجد حسن بدا من النزول على رغبة الجريح الصديق، فتنهد وقال له: «إن حكايتي يبكي لها الصخر الأصم!» ثم رواها له من أولها إلى آخرها.
فتأثر عماد الدين كل التأثر وقال له: «حقا، إن حكايتك تدعو إلى الأسى والأسف، ولكن لا حيلة فيما وقع، اللهم إلا الصبر. فاصبر وكن على يقين من أن الله سيثيبك على صبرك، ولك علي عهد الله وميثاقه لأكونن في خدمتك ما حييت.»
فشكره حسن، وتفقد جروحه فوجد ألا خطر منها، كما علم منه أنه ارتاح قليلا من الآلام التي كان يشعر بها في ساقه، فحمد الله على ذلك، وبشره بعاجل الشفاء. وما زال يسامره بالأحاديث والأماني حتى لاح لهما جمل قادم من بعيد، وفوقه راكب بملابس الأعراب، فاستعاذ عماد الدين بالله من أن يكون القادم لصا قاطع طريق، وبدا عليه الاضطراب، فابتسم حسن في وجهه مطمئنا وقال له: «إن الذي نجانا فيما مضى قادر على أن ينجينا فيما هو آت.» ثم نهض وصعد إلى الأكمة التي كان جالسا عليها بالأمس، ثم خلع ثوبه وأخذ يلوح به في الهواء ليراه الجمال القادم.
وبعد قليل كان الجمال قد رأى الثوب الملوح به، فحول عنان جمله إلى جهته وما زال يحثه حتى وصل إليهما، فترجل وسلم ثم سألهما: «ما خطبكما أيها الصديقان؟»
فاطمأن كل منهما لحسن لهجته وأدبه، وقال له حسن: «إننا من القاهرة، وكنا في عكا نحمل إلى حاكمها رسالة من علي بك حاكم مصر، وفي عودتنا من عكا قطع علينا الطريق هنا بعض لصوص البدو، واعتدوا على أخي هذا وجرحوه. فإذا تفضلت بنقله على جملك إلى أقرب قرية من هنا، كنا لك من الشاكرين.»
فقال الأعرابي: «إني رهن أمركما، ومنزلي غير بعيد من هنا، فأنا أحق بشرف الضيافة.» ثم اقترب من عماد الدين وتأمل الضماد على رأسه والجبيرة على ساقه، وقال متعجبا: «إن مثل هذه الإسعافات لا يحذقها إلا طبيب.»
فاحمر وجه حسن خجلا، وبادر عماد الدين إلى الإجابة قائلا: «من فضل الله ونعمته أن أخي درس الطب في البيمارستان المنصوري على يد طبيب مغربي كبير.»
فالتفت الأعرابي إلى حسن وهش في وجهه وقال: «الحمد لله. نحن إذن أهل وإخوان، فإن جدي - رحمه الله - كان طبيبا ومغربيا أيضا.» ثم أناخ الجمل وتعاون مع حسن على حمل عماد الدين إلى متنه وشداه إلى الرحل مستلقيا على ظهره، ثم عاد ثلاثتهم إلى قرية الأعرابي، فبلغوها بعد ساعات، ونزل حسن وعماد الدين بمنزل الرجل ضيفين مكرمين إلى أن التأم جرح عماد الدين، والتأمت عظمة ساقه المكسورة، أو كادت بفضل العلاج الذي قام حسن به، فاستأذنه عماد الدين في أن يركب هجينا يذهب عليها إلى القاهرة فيؤدي الرسالة إلى علي بك، ثم يعود إليه بعد ستة أيام على الأكثر. فاستحسن الفكرة، وودعه والأعرابي مضيفهما، سائلين له السلامة في الذهاب والإياب.
أمضى حسن الأيام الستة الأولى بعد ذهاب عماد الدين إلى القاهرة، يغالب الهواجس وتغالبه، فلما كان اليوم السابع أخذ ينتظر عودته منذ طلعت الشمس حتى غروبها، فلما لم يعد في موعده، قلق وتعاظمت هواجسه وظنونه ومخاوفه، وعبثا حاول مضيفهما الأعرابي تخفيف قلقه، فلم يتناول في العشاء إلا لقيمات رغم أنه لم يتناول أي طعام طول النهار، ثم جفا النوم عينيه طول ليلته. فلما أصبح تجدد أمله في عودة عماد الدين، وبقي ينتظره عند مدخل القرية نهاره كله وجانبا من الليل، لكنه لم يأت أيضا، فيئس حسن وخاف أن يكون صاحبه قد وقع مرة أخر في أيدي قاطعي الطريق فأعدموه، وقرر أن ينهض عند الفجر فيمضي إلى القاهرة متنكرا ليقتفي أثر عماد الدين ويقف على جلية أمره، وأفضى بما اعتزمه إلى صاحب المنزل، فوافقه وأعد هجينا خفيفة ليستقلها، وجلس معه بعد العشاء ليسامره كعادته ثم يودعه.
وفيما هما في ذلك، أقبل عماد الدين، فتعانقوا وتصافحوا وكان اغتباطهم جميعا باللقاء عظيما.
ثم روى عماد الدين ما أخره فقال: «لقد علمت حين وصولي إلى القاهرة أن علي بك غادرها في حملة إلى الصعيد لمحاربة قبيلة الشيخ همام، فاضطررت إلى انتظاره حتى رجع وأديت إليه الرسالة، فأكرم وفادتي وغمرني بالعطايا والهبات، ثم حملني رسالتين: إحداهما للشيخ ضاهر حاكم عكا ردا على رسالته، والأخرى لأسلمها للأميرال لسمبيكو قائد الأسطول الروسي الموجود الآن في ميناء الإسكندرية؛ وذلك لظن علي بك أنني سأعود عن طريق البحر؛ إذ هو أقرب. وقد رأيت أن آتي إليك أولا حتى لا تقلق، ولكي أعرض عليك أن نسافر إلى عكا بحرا من الإسكندرية، فالطريق البحري أكثر أمنا، فما قولك؟»
فوافق حسن على ذلك الاقتراح؛ حبا في صحبة عماد الدين؛ وتفاديا لخطر اللصوص في الطريق الصحراوي؛ ولتأخره عن الموعد المضروب للقائه بأبيه هناك.
الفصل التاسع
في الإسكندرية
كان عماد الدين قد جاء معه من القاهرة بالعطايا والهبات التي نفحه بها علي بك، فنزل للأعرابي مضيفهما عن بعضها ردا لجميله، ثم اشترى هجينتين ركب إحداهما وركب حسن الأخرى، وما زالا يجدان السير في الحوف الشرقي حتى أتيا الفرع الشرقي للنيل، فقطعه إلى الدلتا، فالفرع الغربي للنيل وما وراءه حتى وصلا إلى الإسكندرية أخيرا، فباعا الهجينتين لبعض الأعراب هناك، ثم نزلا بفندق قرب الميناء، على أن يبيتا فيه ليلتهما، فإذا أصبحا مضيا إلى الميناء وزارا الأسطول الروسي لتسليمه رسالة علي بك، ثم بحثا عن سفينة ذاهبة إلى الشام فركباها إلى عكا.
ولم تكن الإسكندرية في ذلك الحين سوى مدينة صغيرة، أهم ما فيها أنها على البحر، وإن فيها مرفأين: أحدهما للمسلمين وتقف فيه السفن العثمانية والمصرية، وموضعه المكان المعروف برأس التين، والآخر للنصارى في الموضع المعروف بالمينا القديمة. فلما كان صباح اليوم التالي مضى عماد الدين وحسن إلى الميناء الجديد؛ حيث قيل لهما إن الأسطول الروسي فيه، فلم يجدا هناك أية سفينة، وعلما بأن هياج البحر بسبب النوء الشديد اضطر السفن إلى الابتعاد إلى عرض البحر خوفا من الغرق في الميناء، ولاسيما أن سفنا كثيرة تحطمت وغرقت فيه منذ أيام، وسألا: متى ينتظر أن يهدأ البحر وتعود سفن الأسطول إلى الميناء، فقيل لهما: «إن هذا لا ينتظر قبل يومين.» فعادا إلى الفندق آسفين وأمضيا يومهما في تفقد المدينة. وفي صباح اليوم التالي رأى عماد الدين أن يترك حسنا في الفندق ريثما يمضي هو إلى الميناء للسؤال عن الأسطول، وفيما هو واقف هناك يتطلع إلى سفن الأسطول الراسية في عرض البحر، وهو يرتدي الملابس السورية المؤلفة من القباء (القفطان) الحريري وفوقه الجبة، وعلى رأسه الكوفية والعقال، وفي يده غليون طويل يدخن فيه التبغ، دنا منه بحار من الإسكندرية يرتدي السروال الفضفاض المشدود على الساقين، وعلى رأسه عمامة أرسل طرفها على قفاه، وسأله قائلا: «أراك تكثر من التطلع إلى سفن المسكوف، فهل يهمك الوصول إليها؟»
فقال عماد الدين: «إن معي رسالة أريد تسليمها إلى أميرال الأسطول.»
قال: «وممن هذه الرسالة؟» فقال: «من علي بك الكبير.»
فبغت البحار، وتأدب في وقفته بعد أن كان يكلم عماد الدين ويداه خلف ظهره وغليونه في فمه، وقال له: «إذا كان إبلاغ الرسالة لا يحتمل التأجيل إلى غد فإني على استعداد لإبلاغها الآن!»
فعجب عماد الدين وقال: «وكيف تستطيع ذلك والبحر ما زال هائجا كما ترى!»
قال: «إن أمواج البحر تعرفني وتعرف قاربي، فلست أخافها مهما تكن غاضبة ثائرة، ولكني لا أذهب في هذه المهمة إلا إذا نقدتني عليها كيسا كاملا (خمسمائة قرش)!»
فضحك عماد الدين وقال: «كيس كامل؟ هل حسبت أنني علي بك نفسه حتى أستطيع دفع هذا الأجر؟!» قال هذا وغادر الميناء عائدا إلى الفندق مؤثرا الانتظار حتى اليوم التالي، ودخل الغرفة التي ترك حسنا فيها فلم يجده هناك، وعلم أنه خرج منذ قليل، فقال في نفسه: «لعله استبطأ عودتي فخرج ليروح عن نفسه عناء الانتظار بالتنزه على شاطئ البحر.» ولبث ينتظره في الفندق حتى حان موعد الغداء دون أن يرجع، فأوجس خيفة عليه؛ لعلمه بحكايته وبأنه لا يعرف أحدا في المدينة، وخرج يبحث عنه هنا وهناك، فلما لم يجده بعد ساعات من البحث، عاد إلى الفندق لعله سبقه إليه من طريق آخر، فعلم أنه لم يأت إليه بعد، وخاطب في شأنه صاحب الفندق فقال له هذا: «لا خوف عليه إلا أن يكون قد سار إلى جهة قلعة رأس التين؛ لأن فيها بعض الجنود المماليك والإنكشارية وهم لا يتورعون عن إنزال الأذى بأي إنسان، بل لا يتورعون عن القتل إذا كان لهم من ورائه نفع بسيط!» •••
انتظر عماد الدين في الفندق على نار حتى صباح اليوم التالي، ثم خرج من الفندق قاصدا إلى الجمارك لمقابلة مديرها وطلب مساعدته في البحث عن حسن. وكان صاحب الفندق هو الذي أشار عليه بذلك؛ لأن مدير الجمارك يومئذ شامي مثله واسمه أنطون فرعون، ولا يقل نفوذه عن نفوذ أعظم الأمراء، ولاسيما أنه - فضلا عن كبر منصبه - ذو ثروة طائلة، وقصره الفخم الجميل على الشاطئ لا يخلو من الحفلات التي يدعو إليها الكبراء من الأجانب والوطنيين.
فلما وصل إلى إدارة الجمارك، علم أن المدير لم يحضر بعد، فوقف ينتظر قدومه هناك، وبعد ساعة رأى موظفي الإدارة وعمالها في هرج ومرج، ثم اصطف أكثرهم عند مدخلها ووقفوا متأدبين، فعلم أن المدير قادم، وانتظم في جملة المستقبلين. وما لبث المدير أن أقبل في زي فخم تحفه الهيبة والأبهة والوقار، فهم كبار الموظفين بتقبيل يده، ففعل عماد الدين مثلهم، ثم تبعه حتى بلغ حجرته الخاصة وهم بدخولها، فناداه عماد الدين بلهجته الشامية قائلا: «سيدي المدير.» فالتفت إليه وسأله «ما حاجتك؟» فقال: «أرجو أن يتنازل السيد بدقيقة أروي له فيها ما دفعني إلى المجيء هنا.»
فأشار إليه بأن يتبعه إلى الحجرة، وإذن له في الجلوس وطلب له قهوة، ثم لم يكد يسمع حكايته عن فقد زميله وخوفه أن يكون الإنكشارية قد نالوه بسوء، حتى طمأنه وقال له: «هذه مسألة بسيطة، وسأرسل الآن نائبي إلى قلعة رأس التين، فإذا كان الجنود الذين فيها قد اعتقلوا صاحبك طمعا في ماله أو في أن يفتديه أهله بالمال، أخرجه النائب من السجن وجاءنا به معززا مكرما.»
فوقف عماد الدين وقبل يد المدير قائلا: «جزاك الله أحسن الجزاء، وهكذا المروءة والشهامة.»
فقال: «هذا أقل ما يجب.» ثم صفق، فلما جاء الحاجب أمره بأن يبلغ النائب أمره بالذهاب إلى قلعة رأس التين، والسؤال عن شاب اسمه حسن يظن أن الجنود اعتقلوه هناك، فإذا وجده أبلغ الأغا رئيس الجنود أنه من أتباعه، وجاء به.
فحنى الحاجب رأسه سمعا وطاعة وانصرف. والتفت المدير إلى عماد الدين وسأله: «كيف حال الشام الآن؟ وهل الشيخ ضاهر الزيداني ما زال حاكما في عكا؟»
قال: «نعم يا سيدي، وهو الآن بسبيل الاستيلاء على بلاد الشام كلها؟»
فهز المدير رأسه عجبا وقال: «ما شاء الله! الشيخ ضاهر يحكم بلاد الشام كلها؟ هل تعرف تاريخه جيدا؟»
فقال عماد الدين: «سيادتكم أدرى.»
قال: «لقد أخبرني أبي بأنه عرفه منذ كان غلاما يعيش مع أبيه الشيخ عمر الزيداني وقبيلته البدوية في جهة بحيرة طبرية، ولما توفي أبوه آلت إليه رياسة القبيلة، وحاربه أولاد العظم حكام دمشق لما رأوه يحاول توسيع سلطانه، لكنهم لم يستطيعوا قهره، وأخذ في التجارة مستعينا بأعوانه الكثيرين من البدو، فجمع ثروة كبيرة، وما لبث أن استولى على عكا وانتزعها بلا حرب سنة 1749 من يد الأغا الذي كان يحكمها باسم والي صيدا، ثم حصنها وبنى له شمالها قصرا أشبه بالحصن، ولم تجد الدولة العلية بعد ذلك بدا من منحه سنة 1768 لقب «شيخ عكا وأمير أمراء طائفة المتاولة وقومندان الناصرة وطبرية وصفد وشيخ الجليل»، ولم أعد أسمع عنه شيئا منذ ذلك الحين.»
فقال عماد الدين: «إنه فتح مدينة صيدا، وأقام عليها واليا اسمه «الدنكزلي». ولما نشبت الحرب بين الدولة العلية وروسيا انحاز إلى الروسيين متحدا في ذلك مع علي بك هنا في مصر، ولا يخفى عليكم أن الأسطول الروسي في ميناء الإسكندرية الآن. ولست أخفي عليكم أني جئت من عكا برسالة من الشيخ ضاهر إلى علي بك، وقد كلفني هذا حين قابلته في القاهرة منذ أيام حمل رسالة منه إلى أميرال الأسطول الروسي هنا.»
فقال المدير: «يلوح لي من هيئتك ولهجتك في الحديث أنك من الدروز اللبنانيين، فما الذي أدخلك خدمة الشيخ ضاهر؟»
قال: «إن أسرتي ملت كثرة المنازعات بين الأمراء الشهابيين حكام لبنان، فانضمت كغيرها إلى الشيخ ضاهر.»
وما زالا في مثل هذا الحديث حتى عاد النائب ومعه حسن، فنهض عماد الدين وقبل يد المدير، وكذلك فعل حسن، ثم استأذنا في الانصراف شاكرين، فأذن لهما وانصرفا. •••
سار حسن مع عماد الدين إلى الفندق، وقص حسن في الطريق قصة اعتقال المماليك إياه، ذاكرا أنهم استولوا على كل ما كان يحمله من النقود وطمعوا في المزيد، فسألوه عن أهله ليرسلوا إليهم لكي يفتدوه من السجن، فلما أخبرهم بألا أهل له في الإسكندرية ولا في غيرها من الديار المصرية لم يصدقوه، وأبقوه في السجن حتى يرشد عن أهله وهددوه بالقتل إن لم يفعل. فلبث في السجن خائفا يترقب حتى جاء نائب مدير الجمارك وخاطب الأغا في شأنه فأفرج عنه في الحال.
وباتا ليلتهما في الفندق، ثم سارا إلى الميناء في الصباح فوجدا السفن الروسية قد عادت إليه، فاكترى عماد الدين قاربا أوصله إلى سفينة الأميرال حيث سلمه رسالة علي بك، ثم عاد إلى حسن وأخذا في البحث عن سفينة ذاهبة إلى السواحل السورية إلى أن وجدا سفينة تجارية كبيرة تعتزم الذهاب في الغد إلى بيروت رأسا، فحجزا لهما مكانا فيها، على أن يقطعا المسافة القريبة من بيروت إلى عكا برا، ثم عادا إلى الفندق فأعدا أمتعتهما للسفر، وما أشرقت شمس اليوم التالي حتى كانا في السفينة وهي تمخر عباب البحر ناشرة أشرعتها، ومرت قبل مغادرتها المياه المصرية بميناء دمياط فحملت منه مقادير كبيرة من الأرز، ثم استأنفت رحلتها قاصدة إلى بيروت فأشرفت عليها بعد بضعة أيام.
الفصل العاشر
في جبل لبنان
أعجب حسن حين أشرفت السفينة على بيروت بسلسلة جبال لبنان الشامخة المكسوة بالثلوج والأشجار، ولاحظ أن مدينة بيروت تحيط بها تلال مرتفعة عنها، فقال لعماد الدين: «إن هذه التلال المرتفعة خطر على المدينة؛ إذ يستفيد بها العدو الذي يغزوها برا ويتسلط عليها بسهولة.»
فقال عماد الدين: «صدقت يا أخي، ولكن المدينة بها - عدا القلاع البحرية، كقلعة الميناء الداخلة في البحر، وقلعة الخارجية، وقلعة شويخ - برج هائل شرقيها، هو الذي يبدو أعلى أبراجها جميعا، ويقال له «برج الكشاف»، وهو يشرف على كل الجهات، وبجانبه برج آخر صغير ليست له أهمية كبيرة، كما أن بها من الغرب برجين كبيرين هما: برج أم دبوس، وبرج طاقة القصر. وكان للمدينة فيما مضى سور تهدم بمضي الزمن، لكن أبوابه ما زالت سليمة وفيها مراكز دفاعية لا بأس بها.»
ولمح حسن غربي المدينة تلا مرتفعا داخلا في البحر وعليه الأشجار والزروع، ووراءه سهل ممتد من الرمال، فلما سأل عنه عماد الدين أجابه هذا بقوله: «هذا رأس بيروت، وهو يمتد إلى مدينة صيدا.» ثم أشار إلى تل في الجهة الشرقية وقال له: «هذا تل الأشرفية، وهو أكثر أغراسا، وليس وراءه إلا الجبل كما ترى.»
فأشار حسن إلى أبراج متفرقة بين البساتين والغياض على رأس بيروت وتل الأشرفية وقال: «أليست هذه الأبراج للدفاع أيضا؟»
فقال عماد الدين: «إنها أبراج، لكنها للسكنى وليست للدفاع، وقد بناها بعض الأمراء والأعيان في عهود متفرقة ليسكنوها في فصل الشتاء، وقلما يسكنها غير القادرين لوقوعها خارج المدينة وتعرضها للغزو وسطو اللصوص وقاطعي الطريق.»
وكانت السفينة قد ألقت مراسيها، فغادراها إلى المدينة حيث طافا ببعض أسواقها الضيقة، وأعجب حسن برصف شوارعها ونظافتها. وبعد أن وضعا أمتعتهما في فندق قرب سوق الحدادين، أخذ عماد الدين حسنا وأراه قيسارية الأمير حاكم لبنان السابق وغيرها من القيساريات.
فقال حسن: «هل الشيخ ضاهر هو حاكم بيروت الآن؟»
فقال عماد الدين: «لا، بل هي تابعة للأمير يوسف شهاب الدين، ومثلها طرابلس وصيدا وصور، على أن الأمير يوسف والشيخ ضاهر متفقان في الخفاء على محالفة الروسيين. ومما يذكر أن والي المدينة الذي يحكمها باسم الأمير يوسف الآن هو أحمد بك الجزار الذي كان فيما مضى من أمراء علي بك في مصر، ثم وقع بينهما نفور، ففر إلى الآستانة خوفا على حياته من علي بك، ثم جاء إلى هذه البلاد فرتب له الأمير منصور نفقة من جمرك بيروت، وبقي كذلك حتى جاء الأسطول الروسي الذي رأيناه في الإسكندرية فخرب المدينة وهدم أسوارها، ونهب جنوده متاجرها ومنازلها بتحريض من الشيخ ضاهر؛ طمعا في إخضاع الأمراء الشهابيين لسلطانه أيضا، وظلوا يحاصرونها حتى بعث الأمير منصور إلى الشيخ ضاهر يوسطه لدى الروسيين في فك الحصار عنها في مقابل أن يدفع لهم مبلغا كبيرا من المال، فتم الصلح بينهم على ذلك، ثم جاء الأمير يوسف فولى الجزار على بيروت، وأحسب أن هذا لا يلبث قليلا حتى يخرج عليه؛ فقد تركته حين سافرت من عكا والأمير متغير عليه؛ لما بلغه من أنه يبني الحصون ويعد معدات الدفاع في المدينة، ويسخر الناس في تلك الأعمال.»
فقال حسن: «أسأل الله ألا تنشب الحرب بينهما ونحن هنا، ويا حبذا لو نعجل بالرحيل إلى عكا؛ لتفادي الأخطار؛ ولكي أبحث عن أبي هناك.»
فوافقه عماد الدين على ذلك، ثم انطلقا عائدين إلى الفندق. وفي الطريق تفرج حسن على الغياض المحدقة بالمدينة من الجنوب، وفيها أغراس التين والمشمش واللوز وغيرها، وعلى باب الدركاه، وبرج الكشاف، وباب المصلى المؤدي إلى قصر الحكومة؛ حيث يقيم أحمد بك الجزار. فلما اقتربا من القصر قال عماد الدين: «يحسن أن نعجل بالابتعاد عن هذه المنطقة؛ فإن الجزار قد يأمر بقتلنا لأدنى شبهة تخالجه في أمرنا، وقد أسرف في سفك الدماء حتى صار له من اسمه أكبر نصيب، وتروى عنه في ذلك أحاديث تقشعر لها جلود الأسود، أذكر منها أنه داعب إحدى سراريه مرة بقطع أذنها بخنجره! وما أحسبه إن علم بأني من رجال الشيخ ضاهر إلا معجلا بالفتك بي.»
ثم جدا في السير حتى وصلا إلى الخان ودخلا غرفتهما؛ حيث أخذا يعدان أمتعتهما للرحيل، وبعد أن استراحا قليلا قال عماد الدين: «سأذهب إلى صاحب الفندق لأخبره باعتزامنا السفر، وأستعين به على اكتراء جملين نركبهما إلى عكا.»
فقال حسن: «حسنا تفعل، وأسأل الله التوفيق.»
وطال انتظار حسن رجوع عماد الدين من هذه المهمة، فقلق وغادر الغرفة قاصدا إلى غرفة صاحب الفندق ليبحث عن عماد الدين هناك، فوجدهما جالسين على دكة فيها يتهامسان، وما وقع نظر عماد الدين عليه حتى ناداه وأشركه معهما في الحديث، فإذا بصاحب الفندق يقول: «ما أظن أن الخروج من المدينة ممكن في هذه الأيام، فالأحوال مضطربة، والأمير يوسف في طريقه إلينا على رأس حملة قوية من جنوده لتأديب أحمد بك الجزار، وقد أمر هذا بإغلاق أبواب المدينة ومنع الدخول إليها والخروج منها.»
فبغت حسن، وانقبضت نفسه، وبدت على محياه علائم التذمر والاستياء، فقال له صاحب الفندق: «لا تتذمر يا بني، واحمد الله على أنكما لم تحاولا الخروج من المدينة قبل علمكما بهذا النبأ الخطير.» ثم ناوله غليونه وفيه تبغ مشتعل، وقال له: «إن الأمر لله يفعل ما يشاء، وهذه الدنيا لا يدوم فيها حال، وقد مضى علي أربعون سنة أعمل في هذا الفندق، ومر علي كثير من الأهوال التي يشيب لها الولدان، فكم غزا اللبنانيون وأهل البلاد المجاورة هذه المدينة من البر! وكم سطا عليها القرصان والجنود الأجانب من البحر! وما أكثر الحكام الذين استبدوا في حكم أهلها من مسلمين ونصارى! وقد تولى حكمها مرة رجل نصراني يقال له «أبو عسكر الجبيلي»، فعاث فيها الفساد وأسرف في القتل والتعذيب والإرهاب، وغره شيطان الظلم والقوة، فظن أن لن يقدر عليه أحد، وأمعن في طغيانه وتجبره، فقاسينا منه الأمرين، وأصابني من اضطهاده وعنته بلاء كثير، ثم ذهب كما ذهب قبله وبعده كثيرون من أمثاله، وسبحان من له الدوام!»
فقال حسن: «وما ظنك بمسألة الجزار هذه؟ هل يطول أمرها؟»
قال: «إن نبأ قدوم الأمير يوسف وجيشه لم يصل إلى المدينة إلا منذ ساعات، وقد علمت به قبل أن يعلم به الجزار نفسه؛ إذ سمعته من الرسول الذي حمله عند مروره بالفندق في طريقه إلى قصر الحكومة، وعما قريب نرى ما يكون من شأن الفريقين.» •••
في صباح اليوم التالي، استيقظ حسن وعماد الدين على ضجة كبيرة في الفندق وخارجه، فنهضا مذعورين وهما يحسبان أن الحرب نشبت بين الأمير يوسف والجزار، ولكنهما ما لبثا قليلا حتى تبينا من أصوات المنادين في الطرقات أن الأمر انتهى بالمصالحة، وأن الجزار خارج في موكبه لمقابلة الأمير يوسف في السهل الرملي المعروف باسم «المصطبة» وكتابة عهد الصلح، فقال حسن: «الحمد لله الذي كشف عنا الضر.» ثم التفت إلى عماد الدين وقال: «ألا ترى أن نخرج لمشاهدة مجلس الصلح؟»
فقال عماد الدين: «إنني طوع إرادتك، ولكننا تأخرنا عن الوصول إلى عكا كثيرا، فلنذهب إلى صاحب الفندق لعله يستطيع أن يكتري لنا جوادين نركبهما في رحلتنا، ثم نعجل بالرحيل، فأبوك لا بد قد سئم طول الانتظار في عكا، كما أني لا آمن أن يغضب علي الشيخ ضاهر.»
فقال حسن: «لقد نطقت الصواب، فهيا بنا إلى صاحب الفندق.»
ولما بحثا عن صاحب الفندق علما أنه ذهب إلى المصطبة لمشاهدة الصلح، فاستقر رأيهما على اللحاق به ومباحثته في أمر اكتراء الجوادين هناك.
وفيما هما سائران بالقرب من قصر الحكومة، سمعا ضجة صادرة من جهته، وشهدا كثيرين من الأهلين يعدون في طريقهم إليه، فأدركا أن الجزار خارج في موكبه، ووقفا حتى مر الموكب بجماعة من الجنود المغاربة يتقدمونه لإفساح الطريق، ويعقبهم كوكبة من الفرسان، يتوسطهم الجزار على جواد أصيل سرجه من الديباج المذهب، وهو يلبس سراويل فضفاضة من الجوخ السميك، وعلى كتفيه الجبة، وعلى رأسه القاووق المملوكي الطويل تحت العمامة، وفي منطقته خنجر، وإلى جانبه سيف معقوف، وفي يده مذبة من شعر الخيل مقبضها من العاج، ومن خلف هؤلاء الفرسان فرقة صغيرة من الجنود الأتراك المشاة، ومعهم الطبول والأبواق.
فلما مر الموكب تبعه عماد الدين وحسن حتى جاوز المدينة وساحة السور ووصل إلى المصطبة، وهي أرض رملية بها بعض الأشجار من الصنوبر والصبير، وفيها أقيمت خيمة الأمير يوسف تحيط بها خيام الحاشية والجنود.
وترجل الجزار حينما اقترب من خيمة الأمير، ومشى مسرعا حتى دخلها، وحيا الأمير في أدب واحترام، ثم هم بيده فقبلها، وكان هذا جالسا على وسادة في صدر الخيمة، وهو يرتدي الجبة والقباء وعلى رأسه العمامة، فلما رأى الجزار جاءه معظما مستعطفا، خفت حدة غضبه عليه وقال له: «لماذا لم تكف عن ترميم الحصون؟»
فقال: «حاش لله أن أخالف أمر الأمير، ولكن البنائين كانوا قد أوشكوا أن ينتهوا من ذلك قبل وصول الأوامر.»
فقال الأمير يوسف: «على كل حال، أريد أن يقف كل عمل من هذا القبيل، وأن تخلي المدينة.»
فقال الجزار: «سمعا وطاعة، وأرجو أن يتفضل الأمير بإمهالنا بضعة أيام للقيام بما يريد.»
قال: «إننا نمهلك أربعين يوما، على أن تتم خلالها إخلاء المدينة والخروج منها.»
فحنى الجزار رأسه موافقا، ثم مال على يد الأمير فقبلها، وغادر الخيمة متأدبا، ثم عاد بموكبه إلى القصر.
ولما عاد عماد الدين وحسن إلى الفندق، اجتمعا بصاحبه، وطلبا إليه أن يعاونهما على اكتراء دابتين تحملانهما إلى عكا، فوعدهما بذلك، لكنه لم يستطع تحقيق مطلبهما إلا بعد يومين؛ إذ وجد مكاريا لديه جوادان، واستطاع أن يقنعه بحمل حسن وعماد الدين عليهما إلى عكا لقاء أجر كبير. •••
ودع حسن وعماد الدين صاحب الفندق، وسارا يقصدان الخروج من باب الدركاه، والمكاري خلفهما ومعه الجوادان يحملان أمتعتهما، فلما اقتربا من الباب وجداه مغلقا، وسألا البواب عما دعا إلى إغلاقه فقال لهما: «لا أدري، ولكن الأمر صدر بذلك من مولانا الوالي.»
فوقفا مبهوتين، ثم سألا البواب: «هل أبواب المدينة كلها أغلقت؟» فقال: «نعم.» ثم حانت من عماد الدين التفاتة إلى يمين الباب فوجد العمال عاكفين على ترميم السور، فقال لحسن: «إن الجزار يستعد للدفاع، وما أحسبه إلا قد اعتزم البقاء في المدينة.»
فقال حسن: «علينا إذن أن نحتال للخروج منها قبل أن تنشب الحرب بينه وبين الأمير، فكيف نستطيع ذلك؟»
فأخذ عماد الدين بيد حسن، وانتحى به ناحية وأسر إليه قائلا: «لا حيلة لنا في الخروج بالجوادين والأمتعة، والرأي عندي أن نكتفي بما خف حمله، ومتى صرنا خارج المدينة دبرنا وسيلة للركوب.»
فقال: «لكن كيف نخرج من المدينة؟»
فأشار إلى بناء كبير بالقرب من باب يعقوب وقال له: «إن هذا البناء دير لجماعة من القسس يقال لهم المرسلون الكبوشيون، والسور وراء الدير مباشرة، فإذا نحن دخلنا الدير وقصصنا على رئيسه قصتنا فقد يسمح لنا باجتياز السور من هناك.»
قال: «افعل ما تريد، فإني لا أخالفك في شيء.»
فعادا إلى المكاري، وطلبا إليه أن يعود بالأمتعة إلى الفندق ويسلمها لصاحبه، ونفحاه ببعض المال فعاد لتحقيق طلبهما شاكرا، ومضيا هما إلى الدير عبر الزقاق الضيق الذي يؤدي إليه، فلما بلغا بابه طرقاه، فأطل أحد الرهبان برأسه من فتحة فوق الباب وسأل: «من الطارق؟» فقال عماد الدين: «غريبان من المساكين يريدان الالتجاء إليكم.»
فغاب الراهب قليلا ريثما استأذن رئيس الدير، ثم عاد وفتح الباب ودعاهما إلى الدخول، ثم أغلقه كما كان وقادهما إلى حجرة وجدا فيها قسيسا يرتدي قباء من الجوخ شد وسطه فوقه بحبل، وعلى رأسه «طاقية» صغيرة سوداء مستديرة، وفي قدميه نعل شدت أصابعهما إليها بسيور من الجلد.
فهم عماد الدين بيد القس فقبلها بأدب واحترام وهو يقول : «أسعد الله صباحك يا حضرة البادري.» وكان هذا هو اللقب الذي يطلق على رهبان تلك الطائفة.
فرد البادري تحيته بمثلها، بلغة عربية سقيمة، وأشار إليهما بالجلوس على وسادتين في الحجرة فجلسا وهو يفحصهما بنظراته؛ مخافة أن يكونا قد جاءا بدسيسة من الجزار.
وقبل أن يسألهما عما دعاهما إلى الالتجاء إلى الدير، قال عماد الدين: «جئنا لنتضرع إليك؛ كي تنقذنا من هلاك محقق، فنحن غريبان جئنا من عكا، وأردنا الرجوع إليها فوجدنا أبواب المدينة مغلقة بأمر واليها، وفي تأخرنا عن العودة إلى بلدتنا خطر كبير علينا وعلى أهلنا فيها، فضلا عن خطر بقائنا في هذه المدينة.»
فقال البادري: «وماذا نستطيع أن نصنع، والوالي لا يمكن أن يقبل فتح الأبواب ما دام قد أمر بإغلاقها؟»
فأخذ عماد الدين يشرح له المساعدة التي يطلبانها محاولا اجتذاب قلبه بما عهد فيه من اللباقة والإجلال والتعظيم، فتأثر البادري بتوسلاته وقال له: «لا بأس، سأدخلكما إحدى الغرف المطلة على خارج السور، لتنجوا من نافذتها حينما ينتصف الليل ويسود الظلام.»
فقبلا يده شاكرين، وظلا يسامرانه بالأحاديث بعض الوقت، ثم مضيا إلى الغرفة التي اختارها لهما فدخلا وأغلقا عليهما الباب بعد أن زودهما البادري ببعض الطعام والشراب، ولبثا ينتظران حتى ينقضي النهار ويسود الظلام؛ ليفرا إلى خارج السور.
الفصل الحادي عشر
حصار بيروت
انتظر عماد الدين وحسن في غرفة الدير حتى انتصف الليل، ثم نهضا فقفزا من نافذتها إلى سطح سور المدينة، ولم يكن بينه وبينها أكثر من متر، فلما استقرا فوقه بقيا حينا لا يتحركان، وقد أرهفا السمع وراحا يتأملان السهل الممتد خارج السور في ضوء النجوم، فلما أطمأنا إلى أن ليس هناك من يشعر بهما، همس عماد الدين في أذن حسن قائلا: «إن السور مرتفع عن الأرض كثيرا، وفي الوثوب من هنا خطر كبير.»
فخفق قلب حسن جزعا وسكت حائرا، على أن عماد الدين سرعان ما عمد إلى كوفيته فنزعها عن رأسه وكتفيه، كما نزع منطقته وطلب إلى حسن أن ينزع عمامته ففعل وناوله إياها، فوصل بعضها ببعض بحيث صارت حبلا طويلا، ربط أحد طرفيه بمنطقة حسن، ثم طلب إليه أن يدلي نفسه من فوق السور إلى الأرض خارجه، بينما أمسك هو ببقية الحبل وأخذ يرخيه قليلا قليلا حتى وصلت قدما حسن إلى الأرض في الوقت الذي أفلتت يد عماد الدين الطرف الآخر من الحبل، فبغت وجزع؛ لأنه كان يعتزم بعد ذلك أن يثبت ذلك الطرف بأعلى السور ثم يتدلى ممسكا بالحبل حتى يصل هو الآخر إلى الأرض.
على أنه حمد الله على وصول صديقه إلى الأرض بسلام، ولم يشأ أن يضيع الوقت في التردد والتفكير، فأخذ يزحف فوق السور وهو يتطلع إلى الأرض حتى وصل إلى موضع رأى الأرض أقرب إليه لارتفاعها نسبيا، فأمسك بصخرة ناتئة في السور، مدليا جسمه نحو تلك الأكمة المرتفعة، ثم أفلت الصخرة تاركا جسمه يسقط عموديا فوق الأكمة، فأحدث ارتطامه بها صوتا مدويا أيقظ الحراس النائمين بباب يعقوب، فخفوا إلى مصدر الصوت ليروا ما هناك، وسرعان ما انقضوا عليه كالذئاب، وحملوه إلى داخل السور وهو يئن من الألم؛ إذ كانت السقطة قوية لم تتحملها ساقه التي كسرت من قبل في المعركة التي دارت بينه وبين قاطعي الطريق، وما وصلوا به إلى مقرهم خلف الباب حتى كان قد وقع في إغماء عميق، فأخذوا يرشون وجهه بالماء حتى أفاق، وراح يصرخ من فرط الألم لكسر ساقه، لكنه أدرك وهو يجيل نظره بينهم أنهم لم يشعروا بهرب حسن، فكان هذا أكبر عزاء له، وما زال يستنجدهم ويستثير شفقتهم حتى رثوا لحاله ورضوا أن يبعثوا بأحدهم في طلب طبيب لتضميد جروحه وتجبير ساقه المكسورة.
وكان البادري رئيس الدير قد شعر هو ووكيله بالضجة التي حدثت عند باب يعقوب، فأدركا أن الضيفين اللذين هربا إلى خارج السور من الدير وقعا في أيدي الحراس، وفيما هما يتداولان في ذلك، سمعا طرقا على الباب ثم جاءهما البواب وأخبرهما أن أحد الحراس يطلب طبيب الدير لإسعاف رجل وقع على الأرض من فوق السور فانكسرت رجله، فنهض الوكيل ومضى إلى الباب فأطل من الكوة التي فوقه على الحارس المنتظر وسأله متجاهلا: «لمن تريدون طبيب الدير؟»
فقال الحارس: «نريده لإسعاف رجل قبضنا عليه خارج السور بعد أن سقط من فوقه وهو يحاول الخروج من المدينة.»
فأدرك الوكيل أنهم لم يقبضوا إلا على أحد الضيفين، وأراد أن يحتال لإنقاذه، ولإنقاذ الدير في الوقت نفسه من غضب الجزار، فقال للحارس: «إن هذا الخائن الذي قبضتم عليه لا يستحق الشفقة، فهو من خدم الدير الذين نرسلهم لابتياع المؤن من لبنان، وكان الرئيس قد غضب عليه لخيانته وحبسه في غرفة بأعلى الدير، فحاول الفرار من النافذة، لكنه وقع في شر أعماله.»
فجازت حيلة الوكيل على الحارس واعتقد أن المصاب المقبوض عليه من خدم الدير، فقال: «على كل حال، إنه الآن يئن من فرط الألم؛ إذ كسرت ساقه، ولا بأس بأن يسعفه طبيب الدير، ثم نبعث به في الصباح إلى مقر الوالي فيلقى جزاءه كما يريد رئيس الدير.»
فقال الوكيل: «إذا لم يكن بد من تطبيبه، قياما بواجب الإنسانية، فالأفضل أن نعيده إلى الدير، وسأستأذن الرئيس في ذلك، فإذا قبل لحقت بك لإحضار ذلك الخائن المصاب.» ثم أغلق الكوة وعاد إلى رئيس الدير، فأخبره بالحيلة التي عمد إليها؛ إنقاذا لذلك الغريب المسكين؛ ولإبعاد الشبهات عن الدير، فاغتبط الرئيس بذلك وقال: «لقد حاولنا إنقاذه أولا حبا في عمل الخير، ولا شك أن إنقاذه الآن أوجب لأنه جريح.»
وكان الحارس قد عاد إلى زملائه، وأنبأهم بما علمه من أن المصاب كان محبوسا في الدير لخيانة ارتكبها فيه، ثم جاءهم وكيل الدير بعد قليل، وأكد لهم صحة تلك الرواية، ثم طلب منهم معاونته على حمل المصاب وإعادته إلى الدير، فقال الجاويش رئيس الحراس: «لكننا لا بد لنا من تبليغ أمره إلى حضرة الوالي؛ لأننا اعتقلناه خارج السور بعد صدور الأمر بعدم الخروج من المدينة أو دخولها.»
فقال وكيل الدير: «إننا أشد رغبة منكم في الانتقام من هذا الخائن، وسنتولى إبلاغ الأمر إلى الوالي فيما بعد.» وما زال يحاورهم ويموه عليهم حتى أقنعهم بإعادة المصاب إلى الدير، فتعاون بعضهم على حمله، ومضوا به والوكيل معهم حتى أدخلوه الدير وأرقدوه على وسادة في إحدى الغرف ثم انصرفوا.
وخشي وكيل الدير أن يبلغوا الأمر إلى الجزار، فعاد إلى جاويشهم وانتحى به ناحية، ثم شكره على همته ويقظته، ومد إليه يده بصرة من النقود قائلا: «إن رئيس الدير بعث بهذا إليك تقديرا لشهامتك، ويرجو أن تقبله بركة منه.»
فتناول الجاويش الصرة ووجهه يفيض بالغبطة والابتهاج، وصافحه الوكيل مودعا وهو يقول: «وقد طلب مني الرئيس أن أبلغك رجاءه ألا يبلغ أمر ذلك الخادم الخائن إلى جناب الوالي؛ لأنه يرغب في محاكمته بحسب قوانين الدير.»
فقال الجاويش: «حسنا، ليكن جناب الرئيس مطمئنا، فسأحقق طلبه هذا إكراما لإنسانيته.»
فعاد الوكيل إلى الدير مغتبطا بنجاح مسعاه، ولم يكن رئيس الدير بأقل منه اغتباطا بذلك، ثم أشرفا على علاج عماد الدين من جروحه وكسر ساقه، وأعدا غرفة لإقامته بالدير حتى يتم شفاؤه. •••
كان حسن بعد أن وصل إلى الأرض خارج سور المدينة، قد شعر بإفلات الحبل الذي تدلى بوساطته من عماد الدين، فوقع في حيرة، ولم يدر ماذا يفعل، ثم لاح له أن يربط حجرا بأحد طرفي الحبل ويقذف به إلى عماد الدين فوق السور، ولكنه لم يستطع أن يرفع صوته لينبئه بهذه الفكرة مخافة أن يسمعه الحراس. وفيما هو في حيرته هذه، رأى عماد الدين في ضوء النجوم قد دلى جسمه محاولا الهبوط من فوق السور، ثم سمع صوت اصطدامه بالأرض وصرخته متألما، فخف إلى مكانه لنجدته، لكنه ما لبث أن سمع ضجة الحراس وهم يفتحون الباب، وأيقن بأن عماد الدين لن يفيده شيئا أن يبقى بجانبه حتى يقبض عليهما معا، فاستقر رأيه على النجاة بنفسه من أيدي الحراس، وابتعد مسرعا من ذلك المكان، وهو لا يدري أين يتوجه، ولا يكاد يتبين الطريق.
وما زال مجدا في سيره حتى نال منه التعب والخوف بعد حوالي نصف ساعة، فوقف ليستريح، وأخذ يتفرس فيما حوله فوجد أنه في أرض رملية مرتفعة، وقمم جبال لبنان الشامخة تبدو إلى الشرق، تتخللها أضواء متفرقة كأنها فصوص من الماس أو نجوم ترصع الفضاء، ثم رأى القمر بازغا في ربعه الأخير فاستأنس بضوئه، ولبث في جلسته قليلا حتى ارتفع القمر في الأفق، فأدرك على ضوئه أنه بالقرب من المصطبة التي حدثت فيها المقابلة بين الأمير يوسف والجزار، وذكرته الأكمة التي جلس عليها بالليلة التي التقى فيها بعماد الدين قرب الصالحية فساوره القلق عليه وهاجت أحزانه ولم يتمالك عن البكاء.
وبعد قليل، تجلد ونهض فولى وجهه شطر الأضواء المنبعثة من المنازل والمغارات القائمة فوق الجبال الشاهقة الممتدة أمامه، وما زال سائرا في تلك السهول الرملية حتى صادف تلا مرتفعا فصعد إلى قمته وتفرس فيما حواليه، فرأى نورا يبدو قريبا منه، فهبط من التل واتجه إلى مصدر ذلك النور، فلم يبلغه إلا بعد ساعة، فأدرك أنه قرب من البحر؛ إذ سمع هديره، ثم تأمل البناء المنبعث منه ذلك النور، فإذا هو منعزل والسكون يخيم عليه، فدار حوله حتى وجد بابا صغيرا، فدنا منه وقرعه ويده ترتعش قلقا وخوفا، فسمع صوتا من الداخل يقول: «من بالباب؟» فقال: «رجل غريب.»
وبعد قليل، فتح الباب، وظهر خلفه شيخ عجوز في زي القسس وقال له: «مرحبا بك.» ثم أدخله وأغلق الباب وتقدمه إلى غرفة صغيرة بها مصباح زيتي خافت الضوء، وليس فيها من الأثاث سوى حصير فوقه وسادة صغيرة، فترامى عليها متهالكا من فرط التعب، وقال للقس: «عفوا يا سيدي، فأنا في تعب لا مزيد عليه.»
فقال القس: «لعلك في حاجة إلى الطعام.» فسكت عن الجواب، ولكن القس فهم أنه جائع، فغاب عنه قليلا ثم عاد إليه ومعه ما تيسر من الطعام وقلة بها ماء، ثم انصرف وتركه وحده في الغرفة، فأكل وشرب وتمدد على الحصير، فما لبث أن أدركه النوم ولم يستيقظ إلا وقد طلع النهار.
وعلم بعد ذلك أن البناء الذي أوى إليه هو مغارة النبي إيليا، وهي بمثابة كنيسة يؤمها كثير من النصارى اللبنانيين للصلاة والتبرك ، والوفاء بالنذور.
الفصل الثاني عشر
فتح بيروت
تركنا السيد عبد الرحمن وقد اعتزم مغادرة القاهرة قاصدا إلى عكا ومعه علي خادمه الخاص، للبحث عن حسن هناك.
وكان قد عرف الطريق إليها من قبل، فقال لعلي: «إن الطريق لا يخلو من خطر ومشقة، ولكني أعرفها جيدا منذ كنت أذهب إلى الشام للتجارة، وقد قطعتها في المرة الماضية بسلام عقب فراري من حملة الحجاز.»
فقال علي: «إني رهن إشارتك وعلى استعداد لأن ألقي بنفسي في البحر أو النار فداء لك، فهيا بنا إلى هناك على بركة الله.»
قال: «بورك فيك من صديق مخلص، وأرى أن نذهب إلى عكا متنكرين، فأعود أنا إلى زي الطبيب المغربي الذي عرفت به هناك، وتتنكر أنت في زي مساعد لي يحمل الجراب الذي به أدوات التنجيم والتنبؤ وضرب الرمل وما إليها؛ ولكي تقوم بمعاونتي حين أضطر إلى فتح المندل.»
فقال: «لقد نطقت بالصواب يا سيدي.»
ثم انطلقا حتى بلغا أول بلدة في الطريق وهي مدينة بلبيس، فابتاعا منها ما يحتاجان إليه من الملابس والأدوات لذلك التنكر، ثم اشتريا هجينين ركباهما إلى العريش، ومن هناك أخذا طريقهما إلى سوريا، فالتقيا بالحملة التي كان علي بك قد أرسلها بقيادة صهره محمد بك أبي الذهب لفتح غزة، ووجدا أن الحملة قد حاصرتها من جميع الجهات تمهيدا لذلك الفتح.
فقال السيد عبد الرحمن: «أرى أن نعدل إلى طريق آخر نصل منه إلى يافا، حتى نكون بمأمن من أن يكشف أمرنا أحد من رجال أبي الذهب.» فاستحسن علي هذا الرأي، وتحولا بهجينيهما إلى طريق آخر يؤدي إلى يافا، وما زالا في حل وترحال حتى بلغاها بسلام، فوجدا أهلها يستعدون للدفاع وهم في خوف من مجيء الحملة المصرية.
وبعد أن استراحا قليلا في يافا، واصلا رحلتهما إلى عكا، فأقاما بها أسبوعين، وهما يبحثان عن حسن في كل مكان يظنان أنه يقصد إليه، فلم يقفا له على أثر.
وعلما وهما في عكا أن حاكمها الشيخ ضاهر الزيداني أرسل كثيرا من الجند مزودين بالأسلحة والمؤن ، وعلى رأسهم بعض أولاده لمساعدة الحملة المصرية في غزواتها، وفقا للمعاهدة بينه وبين علي بك.
فقال السيد عبد الرحمن: «لا أرى أن نبقى هنا بعد الآن؛ إذ لا فائدة من البقاء، وفيه علينا خطر، ولعل الأوفق أن نذهب إلى بيروت.»
قال: «كما تريد.» ثم سارا من هناك قاصدين إلى بيروت، ومرا ببلدتي صور وصيدا؛ حيث بحثا عن حسن فيهما أيضا فلم يجداه، وما كادا يصلان إلى قرب بيروت حتى وجدا السفن الروسية قد ملأت ميناءها، وأخذت تطلق عليها مدافعها إجابة لطلب الشيخ ضاهر، وكان الأمير يوسف قد أرسل إليه يستنجده لإخراج الجزار من المدينة، واتفقا على الاستعانة بالأسطول الروسي الذي كان مرابطا في قبرص حينذاك، في مقابل خمسة وعشرين ألف قرش، وجعل الأمير موسى ابن الأمير منصور شهاب رهنا عند الأميرال الروسي حتى يدفع ذلك المبلغ.
وكان الجزار قد أتم بناء السور المتهدم، وأحكم تحصين المدينة، فأخذ الأسطول الروسي يضربها من البحر حتى هدم جانبا كبيرا من السور والأبراج، ثم نزل جنوده وحاصروها من البر، ولكن الجزار صمد في دفاعه فبقي الحصار بضعة أشهر حتى مل الروسيون، وعادوا يضربون المدينة بمدافعهم من البحر.
وفي ذلك الحين وصل السيد عبد الرحمن وخادمه إلى بيروت، فلما وجداها على هذه الحال، قال السيد عبد الرحمن: «ماذا نصنع الآن؟ وهل تظن أن حسنا يمكن أن يكون داخل المدينة مع من فيها من المحصورين؟»
فقال علي: «علم ذلك عند الله، وإذا كان سيدي حسن محصورا فيها فإن الله قادر على أن يحفظه سالما.»
فقال السيد عبد الرحمن: «إني عرفت أميرال الأسطول الروسي منذ جئت عكا للمرة الأولى، وأرى أن نذهب لمقابلته لعلنا نفيد من ذلك شيئا.»
قال: «هذا رأي حسن.» ثم سارا إلى معسكر الروسيين خارج المدينة، ورفعا علما أبيض دليل المسالمة، فلما قبض عليهما الجند وسألوهما عما يريدان، طلب السيد عبد الرحمن مقابلة الأميرال، فساقوهما إلى خيمته.
وما كاد الأميرال يرى السيد عبد الرحمن في زي الطبيب المغربي حتى عرفه فرحب به وسأله: «أين كنت منذ فارقتنا؟»
فقال: «قمت بجولة في الديار المصرية لمزاولة مهنتي، ثم عدت إلى بيروت فإذا بكم تحاصرونها ومعسكركم قريب مني، فجئت لأؤدي لكم واجب التحية وأكون أنا وتابعي في خدمتكم وحمايتكم.»
فتنبه الأميرال إلى وجود تابع مع السيد عبد الرحمن، وقال مداعبا: «يلوح لي أن مهنة التنجيم رائجة في مصر؛ لهذا عدت من هناك ومعك تابع!»
فضحك السيد عبد الرحمن وقال: «يكفيني أن أنال رضاءكم السامي.» ثم أخذ في ملاطفة الأميرال وإطرافه بالملح والفكاهات إلى أن قال الأميرال: «لقد جئنا في المرة الماضية ونحن في نزهة بحرية لطيفة، أما في هذه المرة فنحن في حرب وضرب، وعما قليل نضرب المدينة الضربة الأخيرة، فإما أن يخرج منها الجزار وإما أن ندكها على رأسه.»
فضحك السيد عبد الرحمن وقال: «ما دمتم تحاربون جزارا فالأمر أهون من أن يحتاج إلى إطلاق المدافع ودك الحصون، ويكفي أن تهددوه بالذبح فيستسلم في الحال!»
فأعجب الأميرال بهذه المداعبة وحسبها تلميحا من الطبيب المغربي إلى قرب استسلام الجزار، فمضى يجاذبه أطراف الأحاديث، والسيد عبد الرحمن يضمن كلامه ما يدخل السرور والأمل في النصر القريب إلى قلب الأميرال.
وفيما هو في ذلك، جاء بعض الجنود الروسيين ومعهم رجل عربي قالوا إنه من أهل المدينة وقد هرب منها وقصد إلى المعسكر الروسي، مدعيا أن لديه رسالة يريد تبليغها إلى الأميرال نفسه.
والتفت الأميرال إلى الرجل وأخذ يتأمله مليا، ثم قال له على لسان الترجمان: «يلوح لي أني رأيتك قبل الآن.»
فقال الرجل: «نعم يا مولاي، لقد تشرفت بمقابلتكم في الإسكندرية حين كان أسطولكم راسيا في مينائها، وقد ...»
فقاطعه الأميرال وقال: «نعم، نعم ... قد تذكرت الآن، فأنت الرسول الذي حملت إلينا هناك رسالة من علي بك في القاهرة، أليس كذلك؟»
قال: «نعم يا مولاي.»
قال: «وماذا جاء بك إلى بيروت إذن؟»
قال: «إني من رجال الشيخ ضاهر الزيداني في عكا، واسمي عماد الدين، وقد أرسلني إلى مصر برسالة منه إلى علي بك، فلما بلغتها وتسلمت الرد عليها، كلفني علي بك حمل رسالته إليكم في الإسكندرية، وحينما أردت الرجوع إلى عكا لم أجد سفينة ذاهبة إليها، فركبت سفينة وجدتها قادمة إلى هنا على أن أقطع المسافة من بيروت إلى عكا على جواد أو جمل، وما وصلت إلى بيروت ودخلتها حتى أغلق الجزار أبوابها ومنع الخروج منها والدخول إليها، فبقيت هذه الفترة الطويلة في خطر القتل بنيران مدافعكم من جهة، وبيد الجزار من جهة أخرى إذا هو علم بأني من رجال الشيخ ضاهر.»
فعجب الأميرال من هذا الاتفاق العجيب وقال لعماد الدين: «وكيف استطعت الاختفاء كل هذا الوقت الطويل؟»
فقال عماد الدين: «يرجع الفضل في ذلك إلى جماعة من الرهبان المسيحيين، يقيمون بدير لهم على سور المدينة عند باب يعقوب، فقد آووني في الدير وتكلفوا بأمري منذ لجأت إليهم محتميا من ظلم الجزار وغدره، وما خاطرت بحياتي اليوم وخرجت من المدينة إلى هنا إلا لكي أرد لهم بعض جميلهم علي، وذلك أني وجدتهم يبحثون عن رسول يبعثون به إليكم كيلا تضربوا ديارهم بمدافعكم؛ لأنهم ليسوا من الأعداء، فتطوعت لإبلاغ هذه الرسالة.»
فأعجب الأميرال بشهامته وسأله: «أين يقع دير القوم؟» فقال: «هو هذا البناء الظاهر من هنا قرب باب يعقوب.» وأشار بيده إلى الدير.
فأصدر الأميرال أمره إلى قائد مدفعيته بأن يجتنبوا ضرب ذلك الدير، ثم أمر بأن تعد خيمة ينزل بها عماد الدين والطبيب المغربي وتابعه، وأن يصرف لهم ما يكفيهم من الطعام والشراب وكل ما يحتاجون إليه إلى أن يقضي الله في أمر المدينة بما يشاء. •••
كان عماد الدين منذ وقعت عيناه على السيد عبد الرحمن قد لاحظ شدة التشابه بينه وبين صديقه حسن، فخفق قلبه حزنا على فراق ذلك الصديق وانقطاع أخباره عنه. كما تذكر ما علمه منه من أن أباه سبقه إلى عكا، فرجح عنده أن هذا الطبيب المغربي ليس سوى السيد عبد الرحمن والد حسن الذي يبحث عنه.
وما استقر المقام به في الخيمة مع الطبيب المغربي وتابعه وجلسوا لتناول الطعام معا، حتى التفت إليهما وقال: «هل لي أن أسأل من أين جاء السيدان إلى هذه المدينة؟»
فقال السيد عبد الرحمن مقلدا لهجة المغاربة في كلامهم: «جئنا من المغرب، وصناعتنا التطبيب والتنجيم.»
فقال عماد الدين: «أي تطبيب؟ وأي تنجيم يا أخي؟ لقد أكلنا معا عيشا وملحا فلا ينبغي لنا أن يموه بعضنا على بعض.»
فاستعاذ السيد عبد الرحمن بالله من شر هذه الأسئلة المحرجة، ولاسيما بعد أن سمع محدثه يذكر للأميرال أنه من رجال الشيخ ضاهر، وأنه حمل رسالة منه إلى علي بك في مصر، وحمل من هذا رسالة إلى الأميرال، على أنه تجلد حتى لا يفضحه خوفه وقال: «لم أذكر لك إلا الحق يا سيدي، فإذا لم تصدقني فاسأل الأميرال فهو يعرفني منذ بضعة أشهر، وقد صحبته في سفينته من عكا إلى دمياط.»
فابتسم عماد الدين، ورجح لديه أن ظنه في محله، ثم أراد أن يمضي في امتحان محدثه، فقال له: «أكنت في دمياط؟ حسنا ... لقد وضح لي الآن سر المشابهة بين سحنتكما ولهجتكما في الحديث بسحنة أهل مصر ولهجتهم رغم محاولتك تقليد اللهجة المغربية.»
فازداد خوف السيد عبد الرحمن، ولكنه جاهد ليخفي خوفه وقال: «إن تابعي هذا أقام في مصر زمنا طويلا، وكانت أمي من مصر، فضلا عن ترددي إليها كثيرا لمزاولة مهنتي.»
فضحك عماد الدين ساخرا وقال: «أليس غريبا أن تغادرا مصر لمزاولة مهنتكما في غيرها في حين أنها أوسع رزقا، وأهلها أكثر حاجة إلى الكحل وغيره مما في جرابكما.»
فأخذ السيد عبد الرحمن يبتلع ريقه بصعوبة لجفاف حلقه من إحراج محدثه إياه بأسئلته، وخشي أن يطول سكوته فيزداد الرجل ريبة فيه، فقال له: «إن الله هو الرزاق، وقد تعودنا التنقل من بلد إلى بلد، والحل والترحال بيد الله.»
فضحك عماد الدين وقال: «نعم كل شيء بيد الله، ولكنه - جل شأنه - جعل لكل شيء سببا، فما هو السبب الذي جعلك تترك مصر إلى مدينة محاصرة من جميع الجهات؟!»
وهنا لم يطق علي خادم السيد عبد الرحمن صبرا على هذه الأسئلة المحرجة المتلاحقة، فقال لعماد الدين: «ما هذه الأسئلة كلها يا سيدي؟ هل رأيتنا طلبنا منك رزقا أو سألناك أي سؤال؟»
فضحك عماد الدين ساخرا وقال له: «إن كنت قد أكثرت من الأسئلة فما ذلك إلا لأنني من رجال الشيخ ضاهر حليف علي بك حاكم مصر، وقد يكون في خروجكما منها بلا سبب معقول ما يضر بمصلحتهما، فأسئلتي قانونية كما تريان.»
فاغتاظ السيد عبد الرحمن من خشونة خادمه وإغلاظه القول لعماد الدين، وبادر إلى انتهاره ترضية لهذا قائلا: «ومن أقامك محاميا عني؟ إن أسئلة السيد كلها من حقه أن يسألها، وإذا صح ظني فهو إنما يريد أن يستفزنا ليحفزنا إلى أن نظهر له ما نعرف من فنون التنجيم وغيرها.»
وهنا كان عماد الدين قد انتهى من تناول الطعام، فالتفت إلى السيد عبد الرحمن وقال له: «أما فنون التنجيم فما أحسب أن في الدنيا من هو أعلم مني بأسرارها وخفاياها، مع أني لا أحمل جرابا، وليس معي كتاب ولا أنا مغربي، فهل تريد أن أقدم لك دليلا عمليا على ذلك؟»
فسبق علي إلى الرد على عماد الدين وقال متحديا: «هذا هو الجراب، وفيه كل أدوات التنجيم ومعداته، فأرنا فنك لعلنا منك نستفيد!» قال هذا ونهض، فجاء بالجراب ووضعه بين يدي عماد الدين، ولكن هذا نحى الجراب جانبا وقال: «لا حاجة بي إلى مثل هذه الأدوات.» ثم التفت إلى السيد عبد الرحمن وقال له: «هل أقول ما علمته بفني عنك؟»
فأوجس السيد عبد الرحمن خيفة من هذا التحدي، لكنه لم يسعه إلا أن هز رأسه موافقا وقال: «قل ما عندك.»
فقال عماد الدين: «إن اسمك عبد الرحمن، فهل هذا يكفي أم أقول أيضا؟»
فأجفل السيد عبد الرحمن وعلي، وأخذ كل منهما ينظر إلى الآخر، وفي نظراتهما دلائل العجب والاضطراب، فتجاهل عماد الدين واستأنف كلامه فقال: «وقد تركت مصر يا سيد عبد الرحمن في جمع كبير من مختلف الأجناس والألوان، ثم تخلفت عنهم في الطريق واتجهت إلى جهة أخرى للقاء بعض الأعزاء، وبينهم ابنك حسن!»
وهنا كان السيد عبد الرحمن وعلي خادمه قد بلغت دهشتهما أشدها فوقفا ينصتان ذاهلين، وبينما مضى عماد الدين في الكلام قائلا: «ولكنك لم تجد الأعزاء الذين ذهبت للقائهم، فرجعت إلى مصر متنكرا في زي طبيب مغربي، وكان رجوعك من طريق البحر.»
فلم يتمالك السيد عبد الرحمن عواطفه بعد ذلك وانفجر باكيا، ثم هم بيدي عماد الدين يحاول تقبيلهما وهو يقول له: «كفى كفى يا سيدي، وما دمت مطلعا على حقيقة أمرنا فأتوسل إليك بحق من تحب أن ترثي لحالنا ولا تفضحنا.»
فبدا التأثر في وجه عماد الدين وقال له: «طب نفسا وقر عينا يا سيد عبد الرحمن، واعلم أن ابنك حسنا بمنزلة أخي، بل هو أعز كثيرا؛ لأني مدين له بحياتي.»
فصاح السيد عبد الرحمن قائلا: «ابني ... ابني حسن ... هل رأيته يا سيدي؟ بالله أخبرني أين هو؟» ثم رمى بنفسه عليه وأخذ يقبل كتفيه وهو يبكي وينتحب، وكذلك فعل علي خادمه، فبكى لبكائهما عماد الدين، ثم أخذ في مواساتهما والتخفيف عنهما، وروى لهما حكايته مع حسن من أولها إلى آخرها، فلما انتهى من ذلك قال له السيد عبد الرحمن: «ألا تظن أن حسنا بعد أن هرب من بيروت قد ذهب إلى عكا ليبحث عني فيها؟»
فقال: «هذا ما أرجحه، وعلى كل حال ثق بأني لن يهدأ لي بال حتى يجمع الله شملنا به سواء أكان في عكا أم في غيرها.»
وفيما هو في ذلك؛ إذ وصل إلى أسماعهم صوت الأبواق تدوي في المعسكر، ثم ما لبثوا أن سمعوا أصوات المدافع منطلقة من البر والبحر على المدينة، فخيل إليهم أن السماء ستنطبق على الأرض وخرجوا من الخيمة مهرولين؛ فإذا الجو قد امتلأ بالدخان والغبار، فأدركوا أن الأميرال قد نفذ ما توعد به من ضرب المدينة ضربته الأخيرة، فلم يسعهم إلا الرجوع إلى الخيمة والانتظار فيها حتى تنجلي المعركة ويروا ما يكون.
وفي صباح اليوم التالي وقف عماد الدين ومعه السيد عبد الرحمن وعلي خادمه أمام خيمتهم ينظرون إلى بيروت ويأسفون لما نالها من الهدم والتخريب.
وفيما هم كذلك شاهدوا هجانا قادما من الجهة الغربية قاصدا إلى المعسكر، فلما مر بخيمتهم عرف عماد الدين أنه من زملائه رجال الشيخ ضاهر فناداه، وما كاد الرجل يراه حتى بغت وترجل عن هجينه وراح يعانقه ويقبله قائلا: «أين كنت يا أخي؟ لقد أقلقتنا بطول غيابك.»
فقال عماد الدين: «إن حكايتي يطول شرحها، وسأقصها عليك في وقت آخر، فقل لي أنت فيم قدومك الآن؟»
فقال الرجل: «إن الجزار كتب إلى الأمير يوسف شهاب بأنه مستعد لتسليم المدينة على أن يؤذن له بالخروج منها بأصحابه وأمواله آمنا. فكتب الأمير إلى الشيخ ضاهر راجيا أن يتوسط لدى الأسطول الروسي كي يكف عن ضرب المدينة ويرفع عنها الحصار، فأجاب الشيخ ضاهر طلبه، ثم أرسلني برسالة إلى الأميرال؛ ليبعث معي بفرقة من الجنود لتسليم المدينة إلى الأمير يوسف.»
ثم مضى الرسول إلى خيمة الأميرال فأبلغه رسالة الشيخ ضاهر، فأمر هذا بتنفيذ ما جاء فيها.
ولم تمض ساعة حتى خرج الجزار وأعوانه من المدينة، وقد كسا وجوههم الخجل لما أصابهم من الفشل والانكسار، ورغم الخراب الذي عم المدينة أخذ أهلها في الاحتفال برفع الحصار عنها وخروجها من حكم الجزار.
وفي مساء اليوم نفسه عاد جميع الجنود الروسيين إلى سفينتهم في البحر، معتزمين الرحيل بعد أن أدوا مهمتهم، وعرض الأميرال على السيد عبد الرحمن أن يصحبه في سفينته كما صنع في المرة الماضية، فاعتذر شاكرا، ثم سار هو وعلي خادمه ومعهما عماد الدين إلى صيدا فوصلوا إليها بعد مسير حوالي عشر ساعات على شاطئ البحر بالهجين، وهناك ودعهما عماد الدين على أن يسير هو جنوبا قاصدا إلى عكا، بينما يسيران هما شرقا قاصدين إلى دمشق عبر جبال لبنان؛ وذلك كي يبحثوا جميعا في تلك المناطق، ثم يكون لقاؤهم جميعا في عكا بعد شهر.
الفصل الثالث عشر
فتح دمشق
ركب السيد عبد الرحمن وعلي خادمه الخاص هجينهما وسارا من صيدا وهما لا يزالان في زيهما المغربي قاصدين إلى دمشق.
وبعد المسير ثلاثة أيام قاصدين تارة على ربى لبنان، وهابطين تارة في سهوله وأوديته، وصلا إلى سهل البقاع المشهور بخصبه، وهو واقع بين جبل لبنان من الغرب وجبل الشيخ من الشرق، فمكثا هناك يوما للاستراحة، ثم استأنفا رحلتهما فقطعا وادي الحرير، ثم وادي القرن المشهور يومئذ بكثرة من فيه من اللصوص وقاطعي الطريق.
وأخيرا دخلا دمشق من باب الجابية، ونزلا بأحد فنادقها حيث باتا فيه ليلتهما واستراحا قليلا من عناء رحلتهما الشاقة، وفي الصباح غادرا الفندق وأخذا يطوفان بأسواق المدينة وشوارعها، وأمضيا في ذلك طول النهار وهما يمعنان النظر في كل غريب يصادفهما لعله أن يكون ضالتهما، ثم عادا إلى الفندق في المساء فتناولا فيه عشاءهما، وأمضيا بعض الوقت يرسمان الخطط ويختاران أحسنها للبحث عن حسن.
وفيما هما جالسان في اليوم التالي بأحد المقاهي، يحتسيان القهوة وأمام كل منهما نارجيلة يدخن فيها التمباك، اقترب منهما أحد أهل المدينة وقد لفت نظره زيهما المغربي وحياهما في أدب ولطف، ثم بدأهما بالحديث قائلا: «لعل دمشق أن تكون قد أعجبت السيدين الكريمين.»
فقال السيد عبد الرحمن: «الحق أنها مدينة عامرة جميلة، وقد وجدنا من لطف أهلها وكرم أخلاقهم ما أنسانا مشاق الأسفار والشوق إلى الوطن والأهل.»
فقال: «ومتى كان وصولكم إليها؟»
قال: «وصلنا منذ يومين.»
فقال: «أهلا وسهلا ومرحبا بكما، لقد شرفت المدينة كلها بزيارتكما لها، ويا حبذا لو أن هذه الزيارة كانت ودمشق في ظروف عادية، إذن لطابت لكما الإقامة بها و...»
فقاطعه علي وقال: «هل المدينة الآن في ظروف غير عادية؟»
فتنهد الدمشقي، وهز رأسه أسفا وقال: «ليس هناك إلا الخير بإذن الله.» وسكت.
فقلق السيد عبد الرحمن وقال: «إنك رجل كريم الأخلاق يبدو عنصرك الطيب في ملامح وجهك وحديثك، ونحن غريبان عن المدينة كما ترى، فهلا صرحت لنا بما طرأ على المدينة لنكون على بينة من الأمر؟»
فقال الدمشقي: «لقد كانت دمشق إلى ما قبل سنوات مدينة آمنة مطمئنة ينعم نزلاؤها جميعا بالراحة والهدوء والسعادة، ثم تبدل الحال بعد ذلك غير الحال، ولكن الله قادر على أن يعيد الأمور إلى نصابها.»
فازداد قلق السيد عبد الرحمن وقال: «قد سمعنا أن أولاد العظم ولاة هذه البلاد من أحرص الحكام على إقامة العدل والسهر على الرعية، وكان هذا مما حملنا على المجيء لزيارة دمشق، فهل ما سمعناه ليس حقا؟»
فعاد الدمشقي إلى التنهد وهز رأسه أسفا واكتفى بأن قال: «إن ما سمعتموه هو الحق يا سيدي، فالباشا - والحمد لله - لا يدخر جهدا في سبيل أمن البلاد وسعادتها.»
فقال السيد عبد الرحمن: «إذن ماذا هناك؟ لعل الوفاق ليس تاما بين الباشا وبين الأمير يوسف، أو لعل الشيخ ضاهر الزيداني قد امتدت أطماعه إلى هنا؟»
فقال الدمشقي: «لا هذا ولا ذاك، ولكن النكبة جاءتنا من الخارج، ولعلك تسمع بالمماليك الذين يحكمون الديار المصرية وكبيرهم الآن علي بك؟»
فأجفل السيد عبد الرحمن عند سماعه اسم علي بك، وتذكر ما ناله من النكبات على يديه، فقال وهو يشرق بدموعه: «نعم سمعت بأولئك المماليك وكبيرهم المذكور، ولكن ما علاقتهم بهذه البلاد؟»
فقال الدمشقي: «لقد أرسل علي بك هذه الحملة لفتح هذه البلاد والاستيلاء عليها، وسمعنا أن هذه الحملة كثيرة العدد والعدة، ويتولى قيادتها محمد بك أبو الذهب صهر علي بك، وقد استولت على سواحل سوريا وما فيها من السفن بمساعدة الشيخ ضاهر الزيداني، كما سمعت بأنها فتحت طبريا ونابلس وغيرهما، وبأنها الآن في طريقها إلى هنا؛ ولهذا فالباشا وأهل المدينة كلهم في قلق عظيم، ولعلكما مررتما بأسوار المدنية وشاهدتما ما يجري فيها من أعمال الترميم والتحصين استعدادا للدفاع.» •••
استعاذ السيد عبد الرحمن بالله من شر هذا الخطر الجديد، وتذكر هو وعلي خادمه تلك الليلة التي قضياها في الجامع الأزهر مع اللاجئين إليه فرارا من الجنود الخارجين في تلك الحملة، ثم أراد معرفة الأسباب التي أدت إلى إرسالها، فقال لمحدثه الدمشقي: «وما الذي دعا علي بك إلى مد عدوانه إلى هذه البلاد، هل وقع خلاف بينه وبين الباشا هنا؟»
فقال الدمشقي: «لم يحدث أي شيء يدعو إلى هذا العدوان، ولكن ذلك المملوك الجبار الطاغية تمرد على الدولة العلية وطرد الباشا ممثلها من مصر، ثم لم يكفه هذا فبعث بصهره هذا القادم إلينا لفتح الحجاز بحجة الانتصار لشريف مكة وتأديب الخارجين عليه. وعلى كل حال ما أرى إلا أن الدوائر ستدور على الباغي بإذن الله، وسوف ندافع عن بلادنا تحت راية مولانا الخليفة المعظم، وما النصر إلا من عند الله، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.»
وتحقق السيد عبد الرحمن من بعد ما سمعه من الدمشقي في المقهى، أن في بقائه في دمشق أكبر الخطر على حياته، ولكنه قال لنفسه: «كيف أغادر هذه المدينة قبل استكمال البحث عن ولدي فيها؟» وبقي صامتا يفكر في هذا الأمر وكله حيرة وقلق واضطراب.
ولم يسع خادمه الوفي إلا أن يشاركه حيرته فبقي صامتا هو الآخر، وإن استقر رأيه على أن يتبع سيده كظله إلى كل مكان يحل فيه، ليكون عونا له في كل ملمة، ويفديه بحياته إذا اقتضى الأمر ذلك.
أما الدمشقي فأدرك ارتباكهما، وحسب أنها خائفان لأنهما غريبان، فمال على السيد عبد الرحمن وربت كتفه متلطفا وقال: «لا تخف يا سيدي؛ فأنت وصاحبك في حمانا، وثق بأن كل دمشقي لا يتأخر عن تقديم حياته وكل ما يملك فداء لضيفه، وإذا تنازلتما بترك الفندق الذي تنزلان به لتقيما معي بمنزلي حتى يقضي الله بما شاء في أمر الحرب المنتظرة، فإني أعد ذلك شرفا لي وحسن حظ.»
فأعجب السيد عبد الرحمن بمروءة الرجل وشهامته ولطف عباراته مما يدل على طيب عنصره وكرم أخلاقه، وشعر كأنما أزيح عن صدره حمل ثقيل، فالتفت إليه وعيناه مغرورقتان بدموع التأثر وقال: «بورك فيك يا سيدي وفي أهل دمشق جميعا، إنكم حقا لأهل لكل كرامة وفخار، وأعتقد أن الله ناصركم على أولئك الباغين.»
ثم نهض مستأذنا في الانصراف بعد أن شكر له أريحيته وكرمه وعرفه اسمه واسم علي، كما عرف أن اسمه هو سليمان، فألح عليهما في قبول دعوته إياهما إلى الإقامة بمنزله، ولما رأى إصرارهما على البقاء في الفندق أعطاهما عنوان منزله ليقصدا إليه في أي وقت، ثم نهض ليوصلهما إلى الفندق ويطوف بهما خلال ذلك بعض أسواق المدينة وشوارعها.
وما زال الثلاثة سائرين وهم يتبادلون الأحاديث حتى وصلوا إلى باب توما، فخرج بهما سليمان إلى ما هنالك من غياض وبساتين، وداروا حولها حتى نهر بردى، فما كادوا يشرفون عليه حتى شاهدوا أهل القرى في تلك المنطقة يعدون متصايحين وهم يسوقون أمامهم ماشيتهم ووجهتهم المدينة، وسمعوا بعضهم يقولون: «جاء المماليك ... جاء المماليك.»
فعلم السيد عبد الرحمن أن جيش أبي الذهب وصل إلى حدود المدينة، ولم يسعه إلا الرجوع هو وخادمه مع صديقهما الدمشقي إلى المدينة؛ حيث أغلقت أبوابها بعد قليل، وخرج جنود حاميتها إلى الأماكن المعدة للدفاع فوق الأسوار، وفي الأبراج والحصون، وتحصن كثيرون في القلعة، ولجأ الأهلون إلى المنازل خائفين مترقبين.
وباتت دمشق تلك الليلة ساهرة تتقلب على أحر من الجمر، وما أصبح الصباح حتى دوت المدافع، وتسامع الناس بأن المدينة توشك أن تسقط في أيدي الغزاة الفاتحين؛ فقد جاءوها بجنود لا قبل لها بهم، مزودين بأقوى الأسلحة المعروفة في ذلك الحين، وانضم إلى الحملة المصرية جنود كثيرون من المتاولة والزيادنة والصفديين بقيادة أولاد الشيخ ضاهر.
ولم تمض بضعة أيام حتى دخل الفاتحون المدينة وانتشروا في أنحائها للنهب والسلب، وكانت قلعتها ما زالت صامدة للحصار، ولكنها ما لبثت أن سلمت هي الأخرى بعد قليل. •••
لجأ السيد عبد الرحمن وخادمه إلى إحدى الحجرات في الفندق الذي نزلا به، وهما بملابس المغاربة. فلما مضت ساعات بعد فتح المدينة، وخفت حدة النهب الذي قام به الجنود والفاتحون، قال علي لسيده: «ألا تأذن لي في الخروج لتفقد الحالة خارج الفندق، عسى أن نجد فرصة مواتية لمغادرة هذه المدينة؛ حتى لا نقع في يد أبي الذهب؟»
فقال السيد عبد الرحمن: «لا أرى أن تخرج الآن، فالجنود ما زالوا يملئون الطرقات، وقد يصيبك شيء من شرهم وطغيانهم، كما أني لا أستطيع أن أغادر دمشق إلا بعد أن أجد حسنا فيها أو أتحقق أنه ليس هنا.»
وبعد ساعة أخرى، لم يطق علي صبرا على الانتظار في مخبئهما، فنهض وأتم ارتداء ملابسه المغربية وحمل الجراب على كتفه؛ تأهبا للخروج وهو يقول: «ما أظن الجنود يطمعون في أسلاب مغربي في مثل هيئتي هذه.» ثم خرج من الفندق على أن يستكشف الحالة ويعود بعد قليل.
وما كاد أن يصل إلى الشارع حتى وجد أكثر المتاجر قد حطمت أبوابها ونهب الجنود ما كان فيها، كما وجد أن سكان المنازل ما زالوا في قلق وخوف واضطراب، فحدثته نفسه بالرجوع، لكنه خجل من أن يكون جبانا إلى هذا الحد، وواصل السير حتى بلغ منعطفا إلى يمينه في ذلك الطريق، فوقف مترددا بين الدخول في هذا المنعطف وبين المضي في الطريق الذي هو فيه.
وفيما هو كذلك سمع صوت رجل يدعوه باسمه، فأجفل وخفق قلبه بشدة؛ مخافة أن يكون مناديه جنديا من جنود المماليك، ثم زايله بعض خوفه؛ إذ تذكر أنه متنكر في زي مغربي فلا يمكن أن يعرفه لأول وهلة أي أحد من عارفيه.
وقبل أن يلتفت ليرى من ناداه، كان هذا قد وصل إليه وألقى عليه التحية، فإذا به سليمان الدمشقي الذي تعرف إليه هو وسيده في المقهى يوم مجيء الحملة، فرد تحيته بمثلها معربا عن سروره بلقائه.
فقال سليمان: «أين السيد عبد الرحمن؟» قال: «هو في الفندق.»
قال: «هيا بنا إليه، فعندي له أنباء سارة.»
فانبسطت أسارير وجه علي، وقال له: «سرك الله يا أخي دائما، ما هي هذه الأنباء؟»
فقال: «ستعلمها عما قليل حين نصل إلى الفندق.»
فلم يسعه إلا السكوت وانطلق عائدا إلى سيده في الفندق، لكن الفضول غلب عليه بعد بضع خطوات فعاد يقول لسليمان: «هل هذه الأنباء خاصة بالمماليك الذين فتحوا المدينة اليوم؟»
فقال له: «اصبر يا سيد علي، وستعرف كل شيء بعد حين.»
وكان السيد عبد الرحمن ما برح جالسا في الحجرة والهواجس تدور في رأسه، فلما وقعت عيناه على سليمان وهو داخل عليه مع علي، نهض مستبشرا بقدومه وابتسامه، وبعد أن تبادلا العناق والقبلات، أجلسه بجانبه، وراح ينظر إلى وجهه مندهشا مما يلوح عليه من دلائل الغبطة والابتهاج، وأراد أن يسأله عن السبب لكنه خجل، وأدرك سليمان ذلك منه، فقال له: «لماذا لا تسألني عما دعاني إلى الابتهاج في مثل هذه الظروف؟»
فقال: «خشيت أن أكون طفيليا فأثقل عليك، ولا شك في أنك صاحب فضل وهمة، فهات ما عندك، بارك الله فيك.»
الفصل الرابع عشر
أثر الحبيب
قال سليمان الدمشقي لصديقه عبد الرحمن: «لقد علمت بأمر لم يعلمه أحد من أهل المدينة بعد، ولو علموه لتبدل كدرهم واضطرابهم سرورا واطمئنانا.»
فأراد عبد الرحمن استطلاع هذا الأمر واستبشر بمنظر صديقه؛ إذ كان يتكلم وأمارات الابتهاج تلوح على وجهه، فقال له: «هل لك أن تتكرم بإطلاعي على هذا الأمر.»
فقال: لما فتح المماليك المدينة وتسلموا القلعة، فر الوالي ولم يعد يستطيع الإقامة خوفا على حياته، ثم بعث إلى محمد أبي الذهب قائد الحملة المصرية يطلب إليه الاجتماع لعقد شروط التسليم حسب المعتاد، فأجابه إلى ذلك، وكنت ممن ذهبوا مع الوالي إلى مكان الاجتماع، وكان محمد أبو الذهب جالسا هناك متعجرفا منتفخا نفخة النصر، وبين يديه أصحاب مجلسه من الأمراء المماليك، فلما دخل عليه الباشا وقف له تأدبا، غير أن مخايل الكبرياء كانت تلوح على وجهه.
وكان لي صديق حميم بين رجال الباشا الذين وقفوا في انتظاره خارج الباب بعد أن ترجل عن جواده، فأسررت إليه أن ينتبه لما يدور بين الأميرين؛ لنرى شروط التسليم، ولبثت بعيدا أنتظر ارفضاض المجلس، وبعد قليل رفع الستر وخرج جميع الأمراء المماليك الذين كانوا في مجلس محمد أبي الذهب، ولم يبق إلا هو والباشا، فاستغربت ذلك وقلت: «لعل في الأمر شيئا.» وما خرج الباشا من عند أبي الذهب وركب جواده حتى سارعت إلى صاحبي وسألته عما كان، فقال لي: «أبشر يا سليمان، لقد فرجها الله.» فقلت: «وكيف كان ذلك؟» قال: «إن عثمان باشا سأل أبا الذهب بعد أن خلا إليه: باسم من نكتب معاهدة التسليم؟» فقال أبو الذهب: «نكتبها باسم علي بك صاحب مصر.» فضحك عثمان باشا، وقال: «أتفتح البلاد وتتجشم خطر الحروب والأسفار ويكون الفخر لذلك الجالس على عرشه في القاهرة؟! وهب أنه أمير البلاد وأنت من قواده، فكيف تخرج من طاعة خليفة رسول الله سلطان البرين وخاقان البحرين لتكون في طاعة بعض أمرائه النابذين طاعته؟! إن مولانا السلطان مصطفى خان لأجدر بالطاعة، ولاسيما أنه لم يأت معك ولا من الأمير ما يدعو إلى غير ذلك، وسيان عندي أن تكتب شروط التسليم باسمك أو باسم علي بك، ولكني أرى أن ليس من مصلحتك في شيء أن تذعن لأمر علي بك وتخالف أمر السلطان، في حين أن علي بك لا يفضلك بشيء، وقد فتحت له الحجاز والشام وهو جالس في القاهرة بين سراريه ومماليكه وخدمه وحشمه، وليس يخفى عيك أن فخر الفتح لا يعود على أمثالك من القواد العظام بقدر ما يعود عليه هو دون أن يتجشم في سبيل ذلك أي عناء، وهكذا يذهب كل تعبك أدراج الرياح، ثم تكون في الوقت نفسه عرضة لغضب مولانا السلطان وانتقامه، فضلا عن مخالفة الشرع؛ لأنكم إنما تحاربون لتنصروا الإفرنج على المسلمين، وإنما ساعدتكم ملكة المسكوف، لكي تنال بغيتها وتنتصر على المسلمين في بلاد الروملي. وهب أنكم فتحتم الشام والحجاز، فأين هذه البقعة الصغيرة من المملكة العثمانية الواسعة الأطراف؟ وأين جنود الحجاز والشام من الجيوش العثمانية المظفرة التي فتحت العالم بسطوتها وبطشها وشجاعة قوادها؟»
فمال محمد أبو الذهب إلى الإذعان، واستشار الباشا فيما يفعل، فأشار عليه بأن يقلع عن الانقياد إلى علي بك ويعود إلى طاعة خليفة رسول الله وظل الله على الأرض سلطان البرين وخاقان البحرين، وبذلك ينال فخرا عظيما وينجو من الأخطار ومشاق الأسفار.
فصمت أبو الذهب قليلا وأطرق مفكرا، ثم رفع رأسه وقال: «لقد نطقت بالصواب.» ثم طلب إليه عثمان باشا أن يقسم على السيف والكتاب ليكونن مخلصا للدولة العلية ويكف عن حربها، ففعل.
فقال عبد الرحمن لسليمان الدمشقي: «وماذا تم في الأمر بعد ذلك؟»
قال: «إنني عدت إلى معسكر المصريين على أثر هذا الذي سمعته، فرأيت خيمة الأمير مغلقة، والجنود المصريين في هرج ومرج، لكنهم قد كفوا عن الأذى. ثم دنوت من خيمة محمد أبي الذهب، واسترقت السمع دون أن يشعر بي أحد، فسمعته يخاطب أمراءه قائلا: «إنكم تشكون مشقة الأسفار وأخطار الحروب، وما أرى إلا أن علي بك يريد إعدامنا بهذه الكتب التي يبعث بها إلينا لكي نقذف بأنفسها في أتون الحرب، وكأنما جبلنا من تراب وجبل هو من تبر؛ ولذلك لا يشفق على حياتنا ولا على نسائنا وأولادنا الذين تركناهم في مصر لنسير في بلاد الله، بينما هو يعيش منعما بين حريمه وسراريه.»
ثم استطلع رأيهم، ففوضوا الرأي إليه فقال: «أرى أن نعود إلى بيوتنا ونكف عن الحرب وعن نبذ طاعة مولانا السلطان، وها أنا ذا أقسم لأحافظن على هذا العهد.» فردد هذا القسم، ولم يسعني بعد هذا إلا أن أسجد شكرا لله على نجاتنا من حكم المماليك، ثم أسرعت لأطلعك على ذلك.» •••
كان سرور عبد الرحمن عظيما بما سمعه من صاحبه الدمشقي، ولم يتمالك أن رفع يديه إلى السماء وقال: «تباركت يا رب، ولك الحمد. ها قد انقلب الظالمون على أعقابهم وستقوم الفتن بينهم فيبيد بعضهم بعضا.»
ثم التفت إلى سليمان وقال له: «إنكم من أهل هذه المدينة، ونجاتها تهمكم أكثر مما تهمني، ولكني أؤكد لك يا أخي أن فرح أهل دمشق كافة لا يوازي فرحي بحبوط مسعى هؤلاء المماليك!»
وسكت وقد ملأت الدموع عينيه، فلم يجرؤ سليمان على مخاطبته وبقي صامتا يتأمل حركاته، ثم عاد عبد الرحمن إلى الحديث فقال: «اعذرني يا أخي إذا رأيت في هذا الضعف؛ لأن هؤلاء المماليك نغصوا عيشي وشتتوا شملي واغتصبوا أملاكي وأموالي وأبعدوا عني ولدي.»
واغرورقت عيناه بالدمع.
فتعجب سليمان، وود لو يقف على تفصيل ذلك فقال: «لا شك في أن هؤلاء القوم قد أمعنوا في الظلم والفساد، ولسوف ينالون جزاء أعمالهم، ولكن هلا أطلعتني على تفصيل أمرهم معك لعلي أستطيع مساعدتك؟»
فأراد عبد الرحمن الكتمان، ثم رأى أن في الإدلاء بقصته إلى صديقه الدمشقي ما قد يفرج كربه، فتنهد وقال: «آه يا أخي! لقد كنت أوثر كتمان هذا الأمر، ولكنني آنست منك مروءة وإخلاصا فملت إلى الشكوى إليك؛ تمثلا بقول القائل:
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة
يواسيك أو يسليك أو يتوجع»
وقص عليه حكايته من أولها إلى آخرها، فلما انتهى من ذلك قال سليمان: «والله إن حكايتك لمما يتفطر له القلب، فهل أنت مؤمل أن تجد ولدك هنا؟»
قال: «لولا الأمل ما تجشمت الأخطار ومشاق الأسفار.»
قال: «إذن هيا ننزل إلى المدينة لعل الله أن يفتح لنا باب الفرج أو يأتينا بأمر من عنده.»
فنهضوا وخرجوا إلى الأسواق وإذا بأهل المدينة قد غمرهم الفرح؛ إذ سمعوا مناديا ينادي بالأمان وعودة الناس إلى أعمالهم؛ لأن جند المماليك عائدون من دمشق.
فتحقق عبد الرحمن صحة رواية صديقه، فقال له: «أرى أن نذهب خارج المدينة حيث يجتمع الناس لمشاهدة عودة الجنود المصريين، فلعلي أجد ولدي بينهم»، فوافقه على ذلك، وسارا حتى خرجا إلى حيث معسكر أبي الذهب، فإذا بالمماليك والمغاربة يقوضون الخيام ويحملون الأثقال، وأهل دمشق ينظرون إليهم ويعجبون لهذا الانسحاب السريع. ولم يأت الغروب حتى سارت الحملة عائدة من حيث أتت.
أما عبد الرحمن فكانت عيناه شائعتين في الجماهير لعله يشاهد ولده حسنا، ولكنه لم يقف له على أثر.
ولبث بضعة أيام في المدينة يواصل البحث عنه حتى يئس من لقائه، فودع صديقه الدمشقي وأخبره بأنه اعتزم السفر، فتأثر هذا وحزن لحبوط مسعاه، ثم قال له: «إني والله لن يهدأ لي بال حتى أعلم بوجود ولدك، وقد عرفت شكله وملامحه وسأراقب من أراهم من الغرباء، فلعلي أقف على خبره فأبلغك ذلك، ولكن أين تكون؟»
فقال عبد الرحمن: «إني ذاهب إلى عكا الآن، ولا أعلم أين تسوقني المقادير.»
قال: «ألا ترجو أن تعود إلى مصر بعد ذلك؟» قال: «لا أدري.»
قال: «إن الله يدبر الأمر كيف شاء، وهو لطيف بعباده رحيم خبير.»
وعلى أثر ذلك سار عبد الرحمن مع خادمه على جملين في قافلة كانت سائرة إلى صيدا على أن يسيرا من هناك إلى عكا. •••
ما زالت القافلة تواصل سيرها وعبد الرحمن وخادمه فيها، وبعد أن قطعت القافلة بضع مراحل قال خادم عبد الرحمن له: «أتأذن لي في كلمة؟» قال: «قل ما بدا لك يا علي.»
فقال: «إننا أينما نتوجه نجد عدونا أمامنا، وقد تركنا مصر فرارا من ظلم علي بك، فإذا جئنا عكا كنا في خوف من الشيخ ضاهر العمر؛ لأنه حليفه، وعلى هذا لا نستطيع الظهور هناك، ثم إن العثور على سيدي حسن أمر لا نقوى عليه إلا بمساعدة الحكومة، فهلا فكرنا في وسيلة نتقرب بها إلى الشيخ ضاهر هذا.»
فقال عبد الرحمن: «إني إذا ذهبت إليه بنفسي وأطلعته على أمري، أخشى أن يأمر بقتلي.»
فقال علي: «خطرت لي فكرة إذا أذن لي مولاي أطلعته عليها.»
قال: «قل ما بدا لك.»
قال: «أرى أن تلتمس مساعدة الأميرال الروسي قائد السفن الروسية في البحر المتوسط، فقد آنست منه ميلا إليك يوم كنا في ضواحي بيروت، ولو أنك سألته أن يعطيك توصية إلى الشيخ ضاهر العمر ما أظنه يأبى ذلك، ولا شك في أن الشيخ ضاهر يعمل بها لما بينهما من التحالف، فما رأيك؟»
فتهلل وجه عبد الرحمن استبشارا بهذه الفكرة وقال: «بورك فيك يا علي. لقد نطقت بالصواب، وليس أفضل لنا من هذه التوصية لدى الشيخ ضاهر، لكن كيف نعرف مكان العمارة الآن؟»
قال: «إذا وصلنا إلى مدينة صيدا نستفهم عن مكانها ونسير إليها والاتكال على الله.» قال: «حسنا.» ثم تذكر فقد ولده فعاد إليه قلقه وقال: «آه يا حسن! هل يقدر لي أن ألقاك؟»
فقال علي: «صبرا يا سيدي، إن قلبي يحدثني بأننا لا نلبث أن نلتقي به؛ إذ قد تحقق لدينا من ذلك الشهم عماد الدين أنه لا يزال على قيد الحياة، ولعله الآن في عكا؛ لأننا لم نجده في دمشق، وإذا كان هناك فسيلتقي به عماد الدين ويخبره بأمرنا فيبقى هناك في انتظارنا.»
فقال عبد الرحمن: «كل شيء بيد الله . وأرى أن هذه القافلة بطيئة السير وأحمالها ثقيلة، فالأفضل أن نسبقها.»
قال: «لا يا سيدي؛ لأننا لا نأمن المسير وحدنا في الطريق، فاللصوص فيه كثيرون من البدو وغيرهم، ولا بد لنا من مرافقة القافلة؛ إذ نكون في أمن معها.»
قال: «حسنا، ولكن هناك أمرا آخر قد أهمني كثيرا.»
قال: «ما هو؟»
قال: «رأيت في الحلم يوم خروجنا من دمشق كأني لقيت سيدتك في ثياب سوداء، فقالت لي عبارة لا أزال أذكرها وهي «إني لا أزال حية أنتظرك، فمتى تأتي إلي؟» فتذكرت ما وعدني به السيد المحروقي بمصر من أنه سيطلعني على أمرها إذا لم يتحقق قتلها، فكيف نستطلع حقيقة ذلك؟»
فقال: «إذا شئت فإني أذهب إلى مصر، متى وصلنا إلى عكا، وأسأل السيد المحروقي في ذلك الأمر، عسى الله أن يحقق أملك.»
قال: «بورك فيك يا علي، ولعل الله قد قضى بجبر قلوبنا بعد ما قاسيناه من العذاب.»
وبعد مسيرة بضعة أيام وصلا إلى صيدا، فدخل عبد الرحمن المدينة وسار توا إلى البحر، فإذا بالعمارة الروسية راسية في الميناء، فاكترى قاربا وقصد إلى دارعة الأميرال وطلع إليها، فسر الأميرال بلقائه وبش في وجهه، أما هو فأظهر الانقباض، فسأله الأميرال عن أمره، فطلب أن يخاطبه على انفراد، فخلا إليه في غرفة هناك، حيث قص عليه عبد الرحمن قصته وطلب إليه أن يوصي به الشيخ ضاهر العمر، فرد عليه قائلا: «هذا أمر هين، وسأعطيك كتابا آخر إلى علي بك.»
ثم أمر بأن يكتب له كتابان: أحدهما إلى الشيخ ضاهر، والآخر إلى علي بك يؤكد فيهما التوصية به، ثم ختم الكتابين بخاتمه وسلمهما لعبد الرحمن قائلا: «مهما يصبك من ضيق فإنا نفرجه عنك.» فقبل عبد الرحمن يده وخرج شاكرا. ثم ركب في قارب وعاد إلى صيدا فإذا بعلي ينتظره على الشاطئ، فلما رآه أسرع إليه وسأله عما تم، فأخبره بما كان فسر كثيرا، ثم عاد إلى الخان وباتا تلك الليلة على أهبة السفر. وفي صباح اليوم التالي ركبا من صيدا يريدان عكا. •••
استيقظ حسن من نومه في تلك الحجرة الصغيرة على صوت الناقوس يدعو الناس إلى الصلاة، فنهض وخرج من الدير إلى حيث وقف على مرتفع، وأخذ ينظر إلى ما حوله فإذا هو محاط بسهول من الرمال يحدها من الغرب البحر الذي لا ينفك يدمدم ليلا ونهارا، ومن الشرق جبل لبنان وما في سفحه من الغياض والبساتين والقرى.
ولما عاد الراهب من الصلاة قال لحسن: «هيا بنا لأريك المغارة التي كان يبيت بها النبي إيليا؟» ثم قاده إلى باب صغير فتحه، ونزل به بضع درجات إلى مغارة صغيرة فيها صورة صغيرة على قماش، فقبلها الراهب قائلا: «هذه هي صورة النبي إيليا صاحب العجائب والمعجزات.»
فقال حسن: «إنه - عليه السلام - مشهور بالكرامات والعجائب.» ثم حانت منه التفاتة إلى ركن من أركان تلك المغارة، فشاهد رجلا مضطجعا، فقال: «من هذا النائم؟» فأشار إليه الراهب أن يسكت، فسكت وقد استولت عليه الرهبة من منظر تلك المغارة ومنظر ذلك الراهب المسن بما عليه من اللباس الخشن.
ولما خرجا قال له الراهب: «إن ذلك الرجل الذي رأيته نائما مصاب بروح شريرة، وقد جاء ونام في هذه المغارة لتخرج منه تلك الروح.»
ثم عادا إلى مسطبة مشرفة على البحر، وجاء الراهب بغليون ملأه تبغا وأشعله له، فأخذ حسن يدخن ثم قال للراهب: «ألا تستغرب مجيئي إليكم وأنا لست مسيحيا؟»
قال: «إن هذا المكان يا ولدي يأتيه الزائرون من سائر الطوائف والملل بغير استثناء.»
قال: «وكم تبعد مدينة صيدا من هذا المكان؟»
قال: «مسافة يوم تقريبا، والطريق على شاطئ البحر ومعظمها في الرمال.»
قال: «وهل يستطيع الرجل أن يسير منفردا؟»
قال: «قد يستطيع ذلك، ولكن الطريق لا يخلو من الخطر ولاسيما في هذه الأيام.»
فقال: «ما الداعي لزيادة الخطر الآن؟»
قال: «الداعي إلى ذلك كثرة خطايانا وعدم سيرنا على مقتضى أوامر الله سبحانه وتعالى، حتى اختلف حكامنا وقام الخصام بينهم ونشبت الحروب؛ فإن صيدا تابعة لحكومة لبنان ولكنها دخلت في حوزة الشيخ ضاهر العمر الزيداني والي عكا، وهذا الرجل قد نبذ طاعة الدولة العلية وطمع في السلطة، وقامت بين رجاله ورجال الأمير يوسف حاكم لبنان حروب كثيرة في أماكن مختلفة، وفي السنة الماضية جاء ذلك الأمير الشهابي بجند من لبنان ومن عسكر الدولة لفتح صيدا، فأخرج منها الدنكزلي حاكمها من قبل الشيخ ضاهر، وبعد حصار أسبوع جاءت المراكب الروسية التي هي في هذا البحر بإيعاز من الشيخ ضاهر وضربت جنود الأمير يوسف بالقنابل وشتتتها. أما هذه السفن - ومن بينها خمس سفن كبار - فإنها مرسلة من كترينة ملكة المسكوف لمساعدة الشيخ ضاهر في كل ما يريد؛ وذلك لأنها حليفته ضد الدولة العلية.»
فقال حسن: «إذن الطريق خطر ولا يستطيع المرء أن يسير وحده فيه؟»
فضحك الراهب حتى اهتزت لحيته ثم قال: «بل لا يستطيع نفر من الناس أن يسيروا في هذه الأصقاع آمنين من الخطر، وترانا لذلك في ضيق شديد.»
فقال حسن: «حقا إن هذا لمما يضيق عليكم؛ إذ يقل عدد الوافدين من الزوار وغيرهم.»
فقال الراهب: «ليس ذلك فقط ما نشكوه، ولكن من عاداتنا ومثلنا في ذلك جميع الأديرة، أن نبعث كل سنة وفدا من الرهبان يطوفون البلاد المجاورة والبعيدة لجمع النذور التي ينذرها أصحابها باسم صاحب هذا الدير - قدس الله سره - لكننا في هذه الأيام لا نستطيع إرسال أحد، وقد مضت علينا بضع سنين لم نرسل أحدا إلى أن كانت هذه السنة فبعثنا بعض رجالنا يطوفون البلاد لجمع النذور، وقد مضى عليهم بضعة أشهر دون أن يرجعوا، فترانا من أجل ذلك في قلق عظيم عليهم لئلا يكونوا قد أصيبوا بسوء من اللصوص في الطريق بعد نهب ما جمعوه من هذه النذور.»
فقال حسن: «لقد أخطأتم إذن يا سيدي بإرسالهم.»
قال الراهب: «إننا لم نرسلهم إلا بعد أن رأينا إرسالهم ضروريا؛ لأننا نرسلهم أيضا للأديرة الأخرى في الأقطار البعيدة لجمع المساعدات، وللطائفة الأرثوذكسية أديرة عديدة في أماكن مختلفة فيساعد غنيها فقيرها.»
فقال حسن: «ولكن ألا تخافون وأنتم في هذه البرية من أن يسطو عليكم اللصوص أو قاطعوا الطرق؟»
فقال: «قلما خفنا ذلك؛ لأن الله يحرس أماكن العبادة.»
فقال حسن: «وهل للمسلمين مكان مثل هذا في هذه الأنحاء؟»
قال: «إن لهم مقاما قديم العهد جدا على مقربة منا، يقال له مقام الشيخ الأوزاعي، وقد مرت عليه أجيال عديدة، والزائرون من المسلمين يقصدونه كما يقصدون هذا الدير.»
فتاقت نفس حسن لزيارة ذلك المقام؛ لأنه كان يقرأ كثيرا عن كرامات الشيخ الأوزاعي، فقال: «هل هو بعيد من هنا؟»
قال: «لا ... فهو لا يبعد إلا مسافة تدخين غليون.»
قال: «هل يمكنني الذهاب إليه؟»
قال: «نعم إذا مشيت على هذا الرمل مشرقا، فإنك تشرف عليه حالا، وهو قائم في قرية يقال لها قرية منتوش.»
فقال: «ألا ترسل معي أحدا من خدم الدير.»
قال: «لك ذلك.» ثم نادى أحد الخدم فجاء وسار مع حسن حتى أشرفا على قرية صغيرة في وسط تلك الرمال، ثم وصلا إليها، فإذا هي غاية في الصغر، وفي جانب منها قبة فيها ضريح، فسار حسن توا إلى المقام وقرأ الفاتحة، ثم تذكر ما جاء من أجله إلى تلك الديار فانقبضت نفسه وتذكر أباه ووالدته، فأخذ يصلي ويتضرع إلى الله تعالى ألا تحبط مساعيه.
وبعد أن أتم الصلاة والدعاء، أعطى خادم الضريح بعض المال، ثم عاد وقد انبسطت نفسه وتجددت آماله بلقيا والديه، رغم ما كان يظن من قتل والدته، وأحس كأنه أصبح في عالم غير الذي كان فيه.
فلما عاد إلى الدير رأى عند بابه جمالا كأنها قادمة من سفر طويل، فتوسم الخير وأسرع إلى الدير، فلقيه وكيله منبسط الوجه قائلا: «نحمد الله يا ولدي، أن وفدنا قد عاد من سفره بخير.» وقاده إلى غرفة من غرف الدير ليريه إياهم، فوجدهم جالسين والشمس قد لوحت وجوههم والأسفار قد أنهكتهم، ورأى بين أيديهم كيسا علم أن فيه التحف التي أتوا بها.
فجلس إليهم وأخذ يسألهم عن الأمن في الطريق فقال أحدهم: «إن أشد الطريق خطرا ما بين مصر والشام.»
فقال: «هل وصلتم إلى مصر؟»
قال: «نعم ذهبنا إليها، وعدنا منها بخير.»
فقال: «وهل أهل مصر ينذرون لهذا الدير أيضا؟»
فقال الوكيل: «قلت لك يا ولدي إننا نرسل هؤلاء ليس لجمع النذور فقط، ولكن لجمع المساعدات من الأديار الأخرى، وهناك بقرب القاهرة دير يوناني، وبعض الأديار القبطية تعودنا تلقي المساعدة منها.»
فتأوه حسن لتذكره تلك البلاد التي فقد فيها والديه، وقال: «عسى أن تكونوا قد نلتم ما أردتم؟»
فقال أحد الرهبان القادمين: «إننا لقينا في دير مار جرجس أكثر مما نلناه من سواه، وقد وقع لنا فيه اتفاق غريب مع راهبة من راهباته، وذلك أننا نزلنا هناك، وبعد أن أتتنا الرئيسة بالمساعدة المعتادة، جاءتنا راهبة يظهر أنها ليست يونانية مثل بقية الراهبات هناك؛ إذ كلمتنا باللغة المصرية، ولما علمت بأننا قادمون من الشام بكت ثم أخرجت من جيبها عقدا من الكهرمان الثمين وقالت: «إني أقدم هذا العقد لمقام النبي إيليا، وإذا وجدت ضالتي فسيكون علي نذر آخر كبير.»
فتعجبنا من قولها، وأردنا الاستفهام منها، فأومأت الرئيسة إلينا ألا نسألها فسكتنا، ثم لما خلونا إلى الرئيسة أسرت إلينا أمرا لا يمكننا ذكره، ولكننا صلينا من أجلها صلاة خاصة وتضرعنا إلى الله أن ينيلها مرامها؛ لأننا رأيناها منكسرة القلب، عسى أن يستجيب الله دعاءنا.»
فأحس حسن بانقباض، وصمت. أما الراهب فأخرج من جيبه عقد الكهرمان وقدمه لوكيل الدير لينظر إليه، فما رآه حسن حتى خفق قلبه، وتأمله فإذا هو عقد والدته بعينه، وظهرت على وجهه أمارات الدهشة، فتعجب الحاضرون من ذلك ولبثوا ينظرون إليه وهو يتأمل العقد ويقبله، ثم رفع رأسه إلى الراهب وقال له وقد شرق بدموعه: «هل رأيت صاحبة هذا العقد في ذلك الدير؟» قال: «نعم.»
فقال حسن: «هل تحققت وجهها جيدا؟»
قال: «لم أتحققه تماما، ولكنني علمت من مجمل ملامحها ومن الوشم الذي على صدغها أنها من أهل مصر.»
فقال حسن وقد وثب من مكانه: «هل عاينت الوشم الذي على صدغها؟ أهو ثلاث نقط متوازيات؟»
فنظر الراهب إلى حسن متعجبا وقال: «إن الوشم الذي على وجهها كان على هذه الصورة حقيقة، فكيف عرفت ذلك؟»
قال حسن: «هي والدتي.» ثم أخذ في التأوه والبكاء، فبهت الجميع، ثم قص حسن على الرهبان قصته، فعلموا أن أباه هو ضالة تلك السيدة، وأنها تعتقد أن ابنها قتل وليس على قيد الحياة.
فدنا أحد الرهبان من حسن وطلب الانفراد به، فلما انفردا قال له: «بما أني قد عرفت أن تلك السيدة هي والدتك، فأخبرك بأن السر الذي أسرته إلى الرئيسة إنما هو حكاية فقدكما، وقد أوصتني بأن أبحث لها عن أبيك وأخبرها، فهل تعرف عنه شيئا؟»
فقال حسن: «وهل ذكرت لك شيئا عن ولدها؟» قال: «لا.»
قال: «ذلك لأنها قد تحققت قتلي.» ثم أخذ في البكاء.
فقال له الراهب: «خفف عنك يا ولدي وأخبرني بما تعرفه عن أبيك؟»
قال: «لا أعرف عنه سوى أنه جاء إلى عكا هاربا من وجه حكامنا المماليك، وأنا الآن لم أصل إلى تلك المدينة، وقد كنت عازما على المسير إليها منذ أيام، ولكن خطر الطريق حال بيني وبين ما أريد.»
ثم صمت وأطرق مفكرا في ذلك الاتفاق العجيب، وبعد قليل رفع رأسه وقال: «من لي بأن أطير إلى القاهرة وأشاهد تلك الوالدة المسكينة وأعلمها بأني لا أزال على قيد الحياة، لا شك أنها حالما تراني تقع في دهشة وربما أصابها جنون؛ لأنها رأت بعينها الجلادين يقودونني بحبل ليغرقوني في البحر، وكيف تحلم بأني لا أزال حيا وهي لو علمت ذلك لطارت إلي بأجنحة الشوق، فكل همها الآن لقاء أبي.» ثم رفع يديه نحو السماء ودعا الله قائلا: «يا رب العالمين، أسألك بجاه سيد المرسلين ألا تحرمنا من الاجتماع مرة ثانية في بيت واحد، إنك جابر قلوب المستضعفين.»
فقال الراهب: «آمين يا رب آمين.» ثم خرجا إلى حيث كان الباقون. وعلم حسن أن لا بد من الانتظار حتى تمر قافلة فيصحبها إلى هناك؛ لأن الطريق لا يخلو من الخطر، فلم يسعه إلا الانتظار على نار. •••
خرج عبد الرحمن من صيدا مع خادمه برفقة جماعة يريدون عكا، فمروا بمدينة صور التي كانت منذ القدم أعظم مدن سوريا قوة وثروة، ومكثوا فيها يوما ثم ساروا منها يريدون عكا، فمروا بالناقورة وهي جبل صخري مرتفع واقع على شاطئ البحر، يخترقه طريق يصعب سلوكها؛ لوعورتها وتعرضها لهجمات اللصوص، وإذا نظر المار فيها إلى أسفل الجبل هاب ارتفاعه عن البحر وسمع صوت الأمواج تلطم قاعدته، وإذا نظر فوقه خيل له أن الجبل سيسقط عليه. فقطعوا ذلك الجبل بسلام وما زالوا يجدون السير ليصلوا إلى المدينة قبل الغروب؛ مخافة أن تغلق أبوابها قبل وصولهم. لكنهم أمسى عليهم المساء قبل أن يدخلوها، وكانوا بقرب بابها الشرقي فقال التجار: «نخشى إذا سرنا إلى المدينة أن يكون الباب مغلقا، فلنبت الليلة هنا، وفي الغد ندخل المدينة.» فنصبوا خيامهم وباتوا ليلتهم ساهرين؛ مخافة أن يعتدي عليهم أحد.
وكان عبد الرحمن وخادمه أكثر الجميع حذرا، فقضوا معظم الليل جالسين، ولما أصبح الصباح دخلوا المدينة جميعا، فسار عبد الرحمن توا إلى الخان الذي كان قد نزل به في المرة الأولى، فتلقاه صاحبه بالترحاب وأخلى له غرفة من غرفه، فمكث بها ذلك اليوم للاستراحة والاستعداد لمقابلة الشيخ ضاهر وعرض كتاب الأميرال عليه، وكان يخاف حبوط مسعاه، فكان تارة يفضل كتمان أمره حتى يقابل صديقه عماد الدين، وطورا تحدثه نفسه بالمسارعة إلى مقابلة الشيخ ضاهر، فلبث في المدينة وهو بلباس المغاربة أسبوعا، وأخذ يجول في أسواقها ويسير إلى مقر الحكومة لعله يلقى عماد الدين، لكنه لم يقف له على أثر، فاعتزم الانتظار حتى يلقاه ويستشيره في أمر الكتاب.
ثم سمع أن الشيخ ضاهر خرج في فرقة من رجاله لمحاربة بعض اللبنانيين في بعض الجهات، فلبث ينتظر عودته وهو يسعى جهده في البحث عن عماد الدين وحسن، فمضى شهر ومعظم الشهر الثاني دون أن يعلم شيئا جديدا حتى كاد ييأس، ثم ذهب يوما إلى قصر الشيخ ضاهر وقد التف ببرنسه وخادمه يحمل له الجراب إيذانا بأنه طبيب مغربي يكتب الحجاب ويكتب الكتاب ... إلخ. فلما أشرف على القصر عند الزاوية الشمالية لسور المدينة تعجب لهول منظره؛ لأنه رآه أشبه بالقلاع لعلو أسواره ومتانة بنائه، وفيما هو يتأمل ذلك البناء وقد هم بالدخول رأى أحد الجند قادما وعرف أنه الهجان الذي ذهب إلى بيروت برسالة الشيخ ضاهر إلى الأميرال الروسي، وكذلك عرفه الجندي فحياه وسأله عن أمره فقال: «إني أزاول مهنة الطب هنا.» وأخذ علي يطنب للجندي في مدح مهارة سيده في تلك المهنة، وسأله عبد الرحمن عن عماد الدين فقال: «إنه سار برفقة الشيخ ضاهر ولا يلبث أن يعود.»
فمكث عبد الرحمن في المدينة أسبوعا آخر، وفي الأسبوع التالي سمع الناس يتحدثون بقرب مجيء الجند، وخرجت الموسيقى والعساكر لملاقاتهم إلى خارج المدينة، فمكث هو في الخان حتى تحقق عودتهم، فخرج مع خادمه إلى قصر الشيخ ضاهر لعله يلقى صديقه عماد الدين، وهناك لقيه الهجان، فأخبره أن عماد الدين مصاب بجرح ويقيم بمنزله على السور، فقال: «أذهب إليه لعلي أطببه فأكافئه بعض المكافأة على فضله.» وسأل الرجل عن بيته فسار به إلى طابية من الطوابي المبنية على السور، وهناك دخل غرفة شاهد فيها عماد الدين ممددا في الفراش، لكنه ما كاد يراه حتى نهض كأنه لا يشكو ألما وسلم عليه وأجلسه بجانبه، أما علي فبقي خارجا.
ولما استتب بهم المقام سأله عبد الرحمن عن حسن فقال: «لقد مررت بكل السواحل ولم أقف له على خبر، فلعله أبطأ في الطريق. وأنت ماذا فعلت؟» فقص عليه القصة من أولها إلى آخرها.
فقال: «وهل أتيت بتوصية إلى الشيخ ضاهر؟» قال: «نعم، ولكنني لا أزال خائفا منه.»
قال: «وهل تستطيع التطبيب حقا؟» قال: «نعم.» فقال: «إني مصاب بجرح خفيف، ولكنني سأشيع أني تألمت منه كثيرا، وأنك قد شفيتني بمهارتك، وعند ذلك تتقرب من رجال الشيخ ضاهر، وأنا أعلم أن ولده ناصيف مصاب بجرح خفيف أيضا في ساعده، وقد قتل طبيبه هذه المرة، فإذا شفي على يدك نلت حظوة في عينيه وربما عينوك طبيبا للقصر، وعند ذلك تتمكن من استخدام الشيخ ضاهر في البحث عن ولدك.» ثم أفهمه الكثير من عادات ناصيف وطباعه، وأعطاه مقدارا من مرهم البيلسان في قارورة لكي يستعمله في تطبيبه.
وأخذ منذ ذلك الحين يتظاهر بتثاقل المرض عليه، وأشاع في القلعة أنه ظفر اتفاقا بطبيب مغربي أظهر في تطبيبه مهارة كبرى حتى شفي، فذاع ذلك بين الجند والأمراء في القلعة والقصر حتى بلغ الشيخ ضاهر وأولاده، فبعث ناصيف وهو في فراشه إلى عماد الدين، فلما ذهب إليه سأله قائلا: «سمعت بطبيب مغربي قد شفاك من مرضك بعد أن ثقلت وطأته عليك، فهل ذلك صحيح؟»
قال: «نعم يا سيدي.» وأخذ يطنب في مدح مهارة طبيبه وفراسته إلى أن قال: «وهو ليس طبيبا فقط، ولكنه عالم بالفراسة ويعالج الداء بدواء واحد فقط وتظهر النتائج بسرعة.» فطلب منه أن يدعوه إلى مقابلته.
فذهب عماد الدين وأتى بعبد الرحمن بعد أن أخبره بكل شيء، فدخل وحيا، فقال له الشيخ ناصيف: «قد سمعنا بمهارتك في الطب، فجئنا بك لتطبيب جرحنا، فهل أنت واثق بنفسك.» قال: «إن الشفاء من عند الله، وأرى أني بمعونته تعالى أستطيع شفاءك.»
فأعجبه كلامه فقال: «هذا ساعدي وهذا جرحي، فما هو الدواء عندك للجروح؟»
قال: «إن البلسم أحسن الأدوية له، وعندي منه قارورة أحضرتها معي من بلاد الغرب لم أستخدمها في شفاء جرح غير جرح عماد الدين، فإذا أذن لي مولاي طببته بها.» قال: «افعل.»
فنادى عبد الرحمن خادمه عليا فجاءه بالقارورة ففتحها، وأخرج من الجراب ريشة صغيرة من ريش النعام غمسها في المرهم ومسح بها الجرح بعد غسله، ثم لفه بعصابة وقال: «يشفيك الله يا سيدي بإذنه تعالى.» وما زال يتردد عليه حتى شفي تماما وقال له: «إني معجب بك أيها الطبيب، فهل أنت في هذه الديار من قديم؟» فقال: «لم آت إليها إلا حديثا، ولكني طببت كثيرين وشفوا على يدي بإذن الله؛ لأنه هو الشافي، وقد رافقت أمير المراكب الروسية مدة وسرت معه في السنة الماضية من هنا إلى مصر، وقد أعجب بي وأعطاني كتاب توصية للأمير الجليل الشيخ ضاهر.»
فقال: «وأين كتاب التوصية هذا؟»
قال: «هو في جيبي.» وأخرجه وناوله إياه، فأخذه وقرأه فسر جدا وقال: «إن لهذا الأمير صداقة وطيدة مع أبي، ولا أشك في أنه حالما يقرأ كتابه، ويسمع مني عن مهارتك في الطب سيعينك طبيبا في القصر؛ لأن طبيبنا قتل في الحرب هذه المرة.»
فهم عبد الرحمن بيد ناصيف وقبلها وقال: «إني على كل حال من عبيد مولانا.»
فأخذ ناصيف الكتاب، وطلب منه أن يعود إليه في الغد، فلما جاء في الموعد قال له: «إن أبي يريد أن يراك.» قال: «سمعا وطاعة.» وسار خلفه إلى القاعة التي يجلس فيها الشيخ ضاهر، فوجده جالسا في صدرها بعمامته وجبته وقفطانه، وكان طاعنا في السن أشيب الشعر عريض اللحية غليظ الحاجبين متجعد الوجه، واسع العينين حادهما سريع الحركة مع كبر سنه؛ لأنه كان إذ ذاك في نحو التسعين من العمر، ولكنه كان في نشاط الشبان يركب الخيل كأحسن الفرسان، وكان ذا هيبة ووقار. وقد جلس على وسادة ثمينة بقرب نافذة مشرفة على البحر، وإلى جانبه وزيره إبراهيم الصباغ المسيحي في أفخر ما يكون من اللباس، وهو يقرب سنا منه، وإلى كل من الجانبين بقية أعضاء المجلس من الأمراء والمشايخ.
وكانت القاعة مفروشة بالبسط والسجاد، وفي يد الشيخ ضاهر «شبق» طويل مرصع بالقصب، حلي طرفه الأعلى بقطعة من الكهرمان، وقد أخذ يدخن ما فيه من التبغ وينفخ الدخان في الغرفة، وكذلك كان يفعل الصباغ.
فعجب عبد الرحمن لعظم هيبة ذلك الرجل التي زانها الشيب وحدة النظر، وهم بيده فقبلها وقبل يد الصباغ، وكان قد سمع عن تقربه من الشيخ ضاهر ونفوذه لديه حتى أصبحت أزمة الأحكام في يديه وأصاب مالا طائلا، ولم تبق فوق يده في الحكومة يد؛ لأن الشيخ ضاهر لم يكن يأتي عملا إلا بمشورته، ثم وقف أمامهما متأدبا، فأشار إليه الشيخ ضاهر أن يجلس فجلس.
فخاطبه الشيخ ضاهر قائلا: «أأنت الذي جاء بكتاب الأميرال أورلوف؟» قال: «نعم يا سيدي.»
فقال: «وكيف وصلت إليه؟ وماذا كنت تعمل في معيته؟»
قال: «كنت في عكا منذ سنة أو أكثر، فسار بي بعض رجاله إليه، فلبثت في معيته وقتا أضرب له الرمل وأستخرج له الأسرار والمغيبات.»
قال: «وهل لك اطلاع على ضرب الرمل والتنجيم؟» قال: «نعم يا سيدي.»
قال: «أريد أن أمتحنك بسؤال، فإذا عرفته نلت مقاما رفيعا وكنت من حاشيتي، وإذا أخطأت جوزيت جزاء صارما لا يقل عن القتل، فما رأيك؟»
فخفق قلب عبد الرحمن وخاف أن يقع في مكروه؛ لأنه لم يكن قد مارس من ضرب الرمل شيئا غير أنه كان يشاهد الرمالين في مصر مذ كان تاجرا، وكان يلاحظ أعمالهم، وقد قرأ شيئا عن تلك الصناعة حتى أحب ممارستها.
وكأن الله قدر له ذلك إذ ذاك حتى ينتفع به في هذا الوقت، ولما خاطبه الشيخ ضاهر في هذا الأمر لم يمكنه إلا إجابة طلبه؛ لأن رفضه يثبت كذبه على أهون سبيل، بينما إجابته قد يترتب عليها نجاح مشروعه. فتشدد وقال: «نعم يا سيدي بإذن الله تعالى.»
فصمت الشيخ ضاهر برهة وكل من في مجلسه شاخص إلى ما يريد الاستفهام عنه، وعبد الرحمن مختلج القلب ومرتعد الفرائص، ولكنه أسلم أمره إلى الله وقال في نفسه: «إما أن أعوم وإما أن أغرق، والاتكال على الله.» فنظر إليه الشيخ ضاهر قائلا: «يهمني أن أعرف سبب رجوع محمد بك أبي الذهب عن دمشق بعد فتحها بغير داع يوجب ذلك، وهذا أمر قد شغل قلوبنا في هذه الأيام، فهل يمكنك معرفته؟»
فاستبشر عبد الرحمن بالفرج؛ لأنه كان يعرف سبب ذلك الانسحاب معرفة جيدة، فاشتدت عزائمه وأشرق وجهه ونظر إلى الشيخ ضاهر وقال: «إن استخراج ذلك السر يحتاج إلى مندل، والأسرار عند الله يهبها من يشاء من عباده.»
فقال الشيخ: «اضرب لنا مندلا الآن وأنت جالس بيننا.» وأراد بذلك أن يبقيه ويتحقق صدقه.
فقال عبد الرحمن: «أفي هذه القاعة يا سيدي؟ إن ضرب المندل يحتاج إلى أوعية كثيرة وإلى نار وبخور ومياه.»
قال: «لا بأس، اطلب ما تريد فنأتيك به.»
قال: «أعطوني وعاء كبير واملئوه ماء نقيا.» فجاءوه به، ثم طلب كانونا به نار، وشيئا من البخور النقي فجاءوه بكل ذلك، فقال: «لا ينقصني إلا غلام لم يبلغ رشده، ولكنني قد صحبت خادما تدرب على مساعدتي في هذا الفن، وهو يستطيع ما لا يستطيعه الغلام الحدث غير البالغ الذي اعتاد ضاربو المندل استخدام مثله في هذه الأحوال؛ لأنني وجدت بالاختبار أن الأحداث يتعبون ضارب الرمل بما يستولي عليهم من الخوف مما يشاهدونه أثناء العمل من المناظر الغريبة، أما خادمي فقد اعتاد هذا.»
فقال الشيخ: «وأين هو خادمك؟»
قال: «في منزلي، فأذن لي في أن أسير لإحضاره وجلب بعض المواد اللازمة في هذا العمل.» فأذن له وكلف عماد الدين أن يسير برفقته لئلا يفر أو يتواطأ مع خادمه، فسار الاثنان حتى أتيا المنزل، فقال عماد الدين: «ها أن باب الفرج قد فتح لك بإذن الله.»
ثم أفهم عبد الرحمن عليا ما يفعله عند فتح المندل، وعادوا جميعا إلى قاعة الشيخ ضاهر، فجلس بجانب الكانون، وفتح كتابه وألقى في النار قطعة من البخور وأخذ في القراءة والدعاء كما يفعل المنجمون، ووقف علي بجانب وعاء الماء، والشيخ ضاهر ورجاله شاخصون بأبصارهم وكأن على رءوسهم الطير.
وبعد أن أتم القراءة قال لعلي: «ما ترى يا غلام في هذا الماء؟»
فتأمل علي في الوعاء ثم تراجع كأنه رأى شيئا مخيفا، فقال له عبد الرحمن: «لا تخف وقل ما تراه.»
قال: «أرى يا سيدي خياما عديدة منصوبة في سهل خارج المدينة عالية الأسوار، وأعلاما عديدة مختلفة الأشكال، وأرى في وسط تلك الخيام خيمة كبيرة أمامها رجلان بسلاح كامل كأنهما حاجبان.»
فقال عبد الرحمن: «أدخل الخيمة وانظر ما فيها.»
فأمعن علي نظره كأنه يدقق في البحث عن شيء وقال: «أرى بساطا كبيرا مفروشا في أرض الخيمة، وعليه رجلان: أحدهما لابس قاووقا عليه عمامة ولباسه فاخر كأنه أمير كبير، والآخر يظهر من ملابسه أنه وال كبير، وعلى رأسه عمامة وعلى كتفيه فروة سمور، وأرى بينهما سيفا وكتابا أظنه المصحف الشريف، وقد جعل الرجل الأول يده فوقهما.»
فقال عبد الرحمن: «اسمع ما يقول وأخبرنا به.»
قال: «اسمعه يقول: «أقسم بالله العظيم والنبي محمد سيد المرسلين وخاتم النبيين وبرأس مولانا السلطان خليفة رسول الله، أن أنبذ طاعة علي بك وأعصي أوامره، وأعود إلى طاعة مولانا أمير المؤمنين الخليفة الأعظم وأحارب بسيفه وأذب عن حقوقه، ولا أعرف سلطانا سواه، وإن حنثت في هذا اليمين، كنت مخالفا للشريعة مجردا من الذمة والشرف، وأستحق القتل بهذا السيف!» ...»
فبغت الشيخ ضاهر وارتجفت لحيته في وجهه، وكذلك كان شأن جميع رجاله، ولم يعد يستطيع صبرا فقال: «تبا له من خائن!» ثم جعل يده على حسامه وهزه كأنه يهدده.
فأومأ إليه عبد الرحمن وقال: «اصبر قليلا يا سيدي لعلي أرى شيئا آخر.»
ثم التفت السيد عبد الرحمن إلى علي وقال له: «وماذا ترى أيضا؟»
فتظاهر علي باشتداد خوفه واضطرابه وقال: «أمهلني قليلا يا سيدي، ريثما يهدأ روعي وأستطيع التثبت من المناظر التي تبدو لي.»
فقال له: «هدئ من روعك، ولا تخف من شيء ما دمت بجانبك، ثم أمعن نظرك فيما أمامك وأخبرني بما ترى.»
قال وهو يرتعد متظاهرا بأنه ما زال خائفا: «أرى يا سيدي أن الرجل الذي يرتدي الفرو قد نهض ثم خرج وركب منصرفا.»
فقال: «حسنا، وماذا ترى غير ذلك؟»
قال: «أرى جماعة من الكبراء، على رءوسهم العمائم، ويتدلى السيف إلى جانب كل منهم فوق جبته، وها هم أولاء قد دخلوا الخيمة الكبيرة التي خرج منها الباشا.»
فقال السيد عبد الرحمن: «أدخل معهم في الخيمة وانظر ماذا يصنعون.»
قال: «أرى الرجل الأول ما زال جالسا وأمامه المصحف والسيف، وقد أشار إلى الداخلين بالجلوس فجلسوا وأخذ يحدثهم.»
فقال: «وماذا يقول لهم، أصغ جيدا لكلامه، واحذر أن يفوتك منه شيء.»
قال: «أسمعه يقول لهم: «ما زال علي بك يبعث إلينا بأوامره المتشددة، كي نواصل الأسفار والحروب وتكبد المشاق والأخطار، وهو ناعم بالعيش في قصره بين حريمه وسراريه، ويستأثر وحده بثمرة جهادنا وتعبنا، فما قولكم؟» ...»
ثم تململ علي في مجلسه متظاهرا بالتعب، فقال له السيد عبد الرحمن: «امض في الاستماع لما يدور بين القوم من الأحاديث، وأخبرنا بم أجابوه.»
فتنهد علي، ثم استأنف تفرسه في الإناء وقال: «لقد تشاوروا فيما بينهم، ثم فوضوا الرأي له مؤكدين أنهم أطوع له من بنانه في كل شيء، ثم عززوا ذلك بأن وضعوا أيديهم على المصحف والسيف اللذين أمامه، وأقسموا ليكونن رهن إشارته، وهذا هو يثني على همتهم ويقول لهم: «إن علي بك يريد أن تذهب أعماركم في الحروب والفتوحات في سبيل تحقيق مطامعه التي لا تقف عند حد؛ ولهذا أرى أن نرجع إلى مصر وكفى ما قاسيناه من الغربة وأخطار الحروب حتى الآن، فإذا لم يعجبه ذلك فليس له عندنا إلا هذا.» وأشار إلى السيف الذي أمامه.»
وكان الشيخ ضاهر مرهفا سمعه لتتبع كل ما يقوله علي، فلما سمع عبارته الأخيرة على لسان أبي الذهب، لم يتمالك عواطفه وأخذ ينتفض من شدة التأثر، ثم نهض وجرد سيفه وراح يهزه بقوة قائلا: «ويل لك يا أبا الذهب! ويل لك يا خائن!»
وهنا تظاهر كل من علي والسيد عبد الرحمن بأن الجهد قد نال منهما، وطلبا ماء للشرب فجيء لهما به، وبعد أن شربا جلسا يمسحان عرقهما وهما يلهثان تظاهرا بالتعب والإجهاد.
ودنا الشيخ ضاهر من السيد عبد الرحمن وسأله: «أأنت واثق من صحة ما رواه غلامك؟» فأجابه بقوله: «نعم يا سيدي، إنني واثق بصدقه كل الثقة؛ فهو لم يرو لي إلا الصدق منذ استخدمته حتى الآن، ثم إني أضع نفسي رهنا عند مولاي حتى يتحقق الأمر بالوسيلة التي يراها.»
فقال الشيخ ضاهر: «الحق أني جد معجب ببراعتك في الطب والتنجيم؛ ولهذا ستكون من حاشيتي منذ الآن، للانتفاع بعلمك في أي وقت.»
فهم السيد عبد الرحمن بيد الشيخ ضاهر وقبلها وقال: «إني عبد مولانا، ولا شيء أحب إلي من هذا الشرف العظيم.»
ثم أمر الشيخ ضاهر بأن يخصص له مسكن خاص في القلعة، وأن تخلع عليه أثمن الخلع، ويجاب كل طلب له، وسر السيد عبد الرحمن بهذا لعله ينفعه في البحث عن ولده وزوجته، لكنه خشي أن ينكشف أمره إذا لاح للشيخ ضاهر أن يمتحنه بفتح مندل آخر، وأخيرا لم يسعه إلا الرضا بما كان مسلما أمره لله فيما يكون، ثم التمس من الشيخ ضاهر أن يأذن له في إبقاء خادمه معه، فأذن له في ذلك.
الفصل الخامس عشر
خروج علي بك من مصر
أمضى السيد عبد الرحمن وعلي خادمه أياما في القلعة وهما موضع الإكرام والاحترام من كل من فيها، ثم جاء عماد الدين بعد ذلك فاجتمع بهما وأخذوا يتجاذبون أطراف الحديث في مختلف الشئون، إلى أن قال عماد الدين للسيد عبد الرحمن: «يجب أن تنتهز الحظوة التي نلتها لدى الشيخ ضاهر للبحث عن حسن.»
فقال السيد عبد الرحمن: «إن هذا أهم ما يشغل بالي، ولكني أخشى أن أخاطب الشيخ ضاهر في ذلك فتقل ثقته بي وتحدثه نفسه بأني لو كنت بارعا في التنجيم حقا لاستطعت الاهتداء إلى مقر ولدي، فما رأيك أنت؟»
قال: «ولماذا تخاطب الشيخ ضاهر نفسه في هذا الأمر؟ يكفي أن تتصل بحراس أبواب المدينة، وتكلفهم أن يبلغوك أمر أي شخص غريب صفته كذا وكذا يدخل المدينة أو يخرج منها، وتذكر لهم أوصاف حسن.»
فقال: «هذا رأي صائب، وسأعمل به في أقرب وقت.»
وفي صباح اليوم التالي خرج السيد عبد الرحمن وعلي من القلعة. وطافا بكل أبواب المدينة موصيين حراسها بإبلاغهما في القلعة أمر أي غريب تنطبق عليه أوصاف حسن، وذكراها لكل منهم بالتفصيل.
ثم تذاكرا أمر سالمة، فقال علي لسيده: «أرى وقد داخلنا شيء من الاطمئنان على سيدي حسن، أن تبقى أنت هنا حتى يأذن الله بلقائه عما قريب، وأمضي أنا إلى مصر فأبحث هناك أمر سيدتي والدته.»
فقال السيد عبد الرحمن: «لقد نطقت صوابا، وغدا أستأذن في سفرك على أنك ذاهب إلى مصر لإحضار بعض الأدوات والمعدات والعقاقير اللازمة لإتقاننا مهنة التنجيم والطب.»
وكان الشيخ ضاهر عند حسن ظن السيد عبد الرحمن وزيادة؛ فإنه ما كاد يعلم منه برغبته في إيفاد خادمه إلى مصر لذلك الغرض حتى وافق وأظهر ارتياحه التام ، ثم نادى كاتب سره وأمره بأن يبلغ أمره بتزويد خادم الطبيب بكل ما يحتاج إليه في سفره من مئونة ومال، وأن تسير في ركابه كوكبة من الفرسان لحراسته في الطريق ذهابا وإيابا، مع إعطائه كتاب توصية إلى علي بك صاحب مصر لتسهيل مهمته باعتباره من حاشيته وأتباعه.
ولم يسع السيد عبد الرحمن إلا أن يقبل يد الشيخ ضاهر شاكرا، ثم خرج من عنده فقابل عليا وبشره بما كان. وفي اليوم التالي كانت معدات السفر كلها قد أعدت فودعه طالبا له التوفيق، وعاد إلى القلعة ينتظر ما تأتي به الأقدار.
أما علي فما زال يجد السير ليل نهار حتى وصل إلى يافا مع ركبه، فاستراحوا فيها يوما، واشترى من هناك ملابس شامية استبدل بها ملابسه المغربية، ثم واصلوا رحلتهم إلى غزة فالعريش فالصالحية، وكان السفر قد أجهدهم فقرر الاستراحة هناك يومين أو ثلاثة ثم يواصلون السفر إلى القاهرة.
وفيما هم في الصالحية، شاهدوا عند العصر غبارا عاليا إلى الغرب منها قد حجب الأفق وكاد يحجب الشمس، ثم ما لبثوا أن علموا بأنه غبار جيش المماليك أعوان علي بك، وقد خرج به من مصر هاربا من وجه صهره أبي الذهب، ووجهته عكا للاحتماء فيها بالشيخ ضاهر حليفه.
فقال علي لنفسه: «هذا ما كان متوقعا منذ عاد أبو الذهب من دمشق حانقا معتزما التمرد والغدر.» ثم مضى رفقاؤه فوقفوا لمشاهدة موكب الحاكم الهارب المطرود، فإذا بالموكب يضم أخلاطا من الرجال والنساء والأولاد، بين مشاة وركبان، وعلي بك في مقدمتهم على جواده، وقد ازداد وجهه عبوسا وتجهما، ولكن الذل والانكسار غالبان على هيئته، فقال علي: «هذه نهاية كل جبار عنيد، وسبحان المعز المذل!» ثم تذكر كتاب التوصية الذي يحمله إليه من الشيخ ضاهر، فرأى أن يسلمه له وإن لم يكن في ذلك ما يفيده شيئا بعد أن أصبح الأمر في مصر لأبي الذهب، فدنا من علي بك ولوح له بالكتاب، فأوقف هذا جواده وتناول الكتاب منه سائلا: «ما شأنك وماذا تريد؟»
فقال: «إني من أتباع الشيخ ضاهر الزيداني في عكا، وهذا كتاب منه إلى مولاي.»
ففض علي بك الكتاب وقرأه ثم طواه وجعله في منطقته، وأشعل غليونه وأخذ ينفث الدخان من فيه في غضب يحاول كبته فلا يستطيع، ثم أخذ يسأل عليا عن أحوال الشيخ ضاهر ومدى قوة جنده وما إلى ذلك، وأخيرا قال له: «إني ذاهب إلى عكا للقاء مولاك، وستجد في القاهرة ما تريد إن شاء الله.» ثم همز جواده واستأنف الموكب سيره، فعاد علي إلى رفقائه، وأقنعهم بأن ينضموا إلى موكب علي بك عائدين معه إلى عكا، ثم واصل هو سيره إلى القاهرة للبحث هناك عما تم في أمر سيدته. •••
لبث حسن مقيما بكنيسة النبي إيليا في ضواحي بيروت منتظرا مرور قافلة ذاهبة إلى عكا ليصحبها إليها، ولكن انتظاره طال حتى مل الإقامة بتلك المنطقة، كما ضعف أمله في بقاء أبيه في عكا حتى ذلك الوقت، ولاسيما أنه لا يستطيع الظهور فيها وحاكمها الشيخ ضاهر متحالف مع علي بك في مصر، فلن يتأخر عن القبض عليه وإرساله إليه إن هو وقف على حقيقة أمره.
وكانت هواجسه تشتد كلما تصور أن أباه راجع إلى مصر ليرى ما أخره ووالدته عن اللحاق به إلى عكا، وأنه علم هناك بما أمر به علي بك من إغراقه في النيل وأخذ والدته للخدمة في قصره.
وفيما هو جالس يقطع الوقت بالتحدث مع قسيس الكنيسة، علم منه بما كان من قدوم أبي الذهب لفتح دمشق ثم رجوعه إلى مصر واستيلائه على مقاليد الحكم فيها بعد طرد علي بك منها، فكان سروره بذلك النبأ عظيما وقال: «هذه عاقبة الخيانة والظلم، ولسوف يلقى علي بك ما هو أمر وأدهى.»
فقال القسيس: «على كل حال، ما أظن أن أبا الذهب يكون أعدل حكما من علي بك.»
قال: «هذا رأيي أيضا، فأبو الذهب قد نشأ في بيت علي بك، وتلقى عليه مبادئ الظلم والاستبداد وسفك الدماء والدسائس، وبرع في كل هذا إلى أن أولاه مولاه كل ثقته وزوجه بابنته، ولكن الله - جل شأنه - يسلط بعض الظالمين على بعض، وكما دالت دولة علي بك على يد أبي الذهب، تدول دولة هذا على يد آخر قريبا بإذن الله.»
فقال القسيس: «نسأل الله أن يمحق الظالمين جميعا، على أني ما زلت أوجس خيفة على أبي الذهب من علي بك نفسه؛ لأن مجيء هذا إلى الشيخ ضاهر حليفه في عكا إنما هو للاستنجاد به وبالأسطول الروسي المتحالف معهما، وأكبر الظن أنهما سيسارعان إلى نجدته ومعاونته على استرداد حكم مصر من يد أبي الذهب، وهذا لن يقوى على دفعهم مجتمعين.»
فقال حسن: «نسأل الله أن يبيد دولة المماليك جميعا؛ فإن التاريخ لم يشهد حكاما في مثل جبروتهم وظلمهم.»
فأمن القسيس على دعائه وقال: «إنه لا يهد أركان الممالك كالظلم والانغماس في اللهو والفجور، ولعل حكم علي بك كان أقل جورا وفسادا من حكم أسلافه الذين سبقوه من المماليك.»
فتنهد حسن وقال: «كان هذا صحيحا في أول أمره، لكنه ما لبث قليلا حتى فاق بظلمه كل من سبقوه، فكم خرب من بيوت كانت عامرة! وكم سفك من دماء، وانتهك من حرمات!» ثم غلبته عواطفه فأخذ في البكاء حزنا على ما أصابه وأسرته من ظلم علي بك.
فأخذ القسيس يعزيه ويحاول الترفيه عنه إلى أن قال له: «لعلك راغب في السفر إلى عكا، وقد علمت اليوم من قريب لي أنه ذاهب إليها بعد يومين في صحبة وفد من اللبنانيين بعث به الأمير يوسف شهاب إلى الشيخ ضاهر، فإذا شئت فإني أوصي قريبي هذا بأن يهيئ لك مكانا معهم.»
فهم حسن بيد القسيس وقبلها شاكرا. وفي اليوم التالي مضى به القسيس إلى قريبه السالف الذكر، وأوصاه به خيرا، فهيأ له هذا جوادا وزادا، وألحقه بقافلة الوفد اللبناني، فسارا فيها آمنا حتى وصل إلى عكا بعد العصر بقليل. •••
ما كاد حسن يدخل المدينة من الباب الشرقي حتى استوقفه حارس الباب وأخذ يتفرس فيه، ثم سأله عن اسمه وإلى أين هو ذاهب، فارتبك حسن ولم يدر كيف يجيب، فقال له الحارس : «إن لدي أمرا بحجزك وإرسالك إلى مولانا الشيخ ضاهر في القلعة.»
فأجفل حسن وملئ قلبه رعبا وفزعا؛ لعلمه بتحالف الشيخ ضاهر مع علي بك، ثم تجلد قليلا وقال للحارس: «إني غريب عن هذه المدينة، وليس فيها من يعرفني أو أعرفه، فلعل شخصا غيري هو المطلوب.»
فقال الحارس وهو يشير إليه بالجلوس بجانبه قرب الباب: «كلا، بل أنت الشخص المطلوب نفسه، ولا شك عندي في ذلك؛ إذ تنطبق على هيئتك جميع الصفات التي ذكروها لي.»
فلم يبق لدى حسن أدنى شك في أن أمره قد انكشف، وأن الأمر بالقبض عليه ليس سوى تمهيد لتسليمه إلى علي بك، فلم يتمالك عن البكاء حزنا وأسفا على سوء حظه الذي أوقعه في يد ذلك الظالم من جديد.
ورق الحارس لحالته ولم يدر سبب بكائه، فقال له: «لا داعي للبكاء والجزع يا سيدي؛ فإن رسول الشيخ ضاهر الذي أبلغني وصفك وهيئتك وطلب حجزك وإرسالك إلى القلعة أوصى بإرسالك إليها معززا مكرما، وأعتقد أنك ستكون هناك أكثر حظا من الإعزاز والإكرام.»
فقال حسن: «أي إعزاز وأي إكرام يا سيدي؟! إنني أتوسل إليك بكل عزيز لديك أن تطلق سراحي لأرجع من حيث أتيت؛ فإني لم أقترف أي ذنب، ولا رغبة لي في الذهاب إلى القلعة.»
فقال الحارس: «لو أنني خليت سبيلك، لقبض عليك غيري، فقد علمت أن الأمر الذي صدر في شأنك أبلغ إليهم جميعا، واعلم أن الشيخ ضاهر ورسوله ليسا في القلعة الآن؛ إذ خرجا للقاء علي بك القادم إلينا من مصر، ولن يعودا إلا غدا، وستكون عندي في ضيافتي معززا مكرما حتى يرجع الجميع إلى القلعة، ولن يكون إلا ما تحب إن شاء الله.»
الفصل السادس عشر
اجتماع الشمل
وصل علي خادم السيد عبد الرحمن إلى القاهرة، وقد استبدل بملابسه الشامية ملابس مصرية حتى لا يستغشه أحد، وقد وجد الناس فيها بين شامت بعلي بك ومتوجس خيفة من أبي الذهب.
وأخذ طريقه عقب وصوله إلى دار السيد المحروقي رأسا؛ إذ رأى أنه خير من يسأله في شأن سيدته دون أن يكون في ذلك خطر عليه، فلما بلغ الدار وطرق الباب فتح له أحد الخدم وسأله عما يريد، ثم أخبره بأن السيد مسافر إلى خارج القاهرة منذ حين ولن يعود قبل شهرين.
فسقط في يد علي، لكنه لم يجد بدا من الانتظار حتى يرجع السيد من سفره، على أن يبحث هنا وهناك خلال ذلك، عسى أن يعلم شيئا عن مصير سيدته.
ولم يسفر بحثه عن نتيجة، فبقي في حيرة وقلق إلى أن عاد السيد المحروقي فخف إلى مقابلته، وما كاد يكشف له عن حقيقة أمره ومهمته حتى قلب السيد كفيه عجبا وأسفا وقال: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لقد وقفت على المخبأ الذي لجأت إليه سيدتك بعد أن أنقذت الست نفيسة زوجة علي بك حياتها، وكانت مختبئة في بعض الأديار، فلما قامت الثورة بين علي بك وصهره أبي الذهب، انتهزت هذه الفرصة وسعيت إلى إخراج سيدتك من الدير، وأرسلتها مع بعض رجالي الأمناء إلى عكا للبحث عن السيد عبد الرحمن زوجها هناك، وقد بشرتها بأن ابنها قد نجا أيضا بفضل الست نفيسة، وفر إلى سوريا.»
فعجب علي لهذا الاتفاق، وقال: «جزاكم الله خيرا يا سيدي على كل حال، وهو القادر جل شأنه على أن يجمع شملهم ويسعدهم بالأمن والطمأنينة بعد كل هذا الذي نالهم من ظلم علي بك الذي نال جزاء ظلمه وخروجه من طاعة السلطان، فأخرج من مصر مذموما مدحورا.»
فهز السيد المحروقي رأسه أسفا وقال: «حقا، لقد طغى علي بك وتجبر ولم يقف في مطامعه عند حد، ولكنه مع هذا كان خيرا من أبي الذهب، فهذا وإن تظاهر بإعادة البلاد إلى حوزة الدولة العلية دولة الخلافة، يسعى في الخفاء لكي يأخذها لنفسه، وليس في مصر من يحبه؛ لما عرف عنه من الميل إلى الغدر والخيانة.»
فقال علي: «وماذا يرى السيد في استنجاد علي بك بالشيخ ضاهر حاكم عكا والأسطول الروسي الموجود فيها الآن، وهو يضم ثلاثة آلاف من الجنود الألبانيين (الأرناءوط ) للهجوم من البر، عدا من فيه من الجنود البحريين؟»
فقال السيد المحروقي: «مهما يكن من أمر، فلا شك في أن الدولة الروسية لا تعاون هؤلاء الجهلة حبا في معاونتهم، ولكنها تفعل ذلك، لتحارب بهم الدولة العلية وتشغلها بما يقومون به من فتن ودسائس وثورات داخلية.»
قال: «وهل ترون أن أبقى في القاهرة أم أعود إلى عكا لأخبر سيدي بما كان والبحث عن سيدتي هناك؟»
فقال: «إن سفرك وحدك لا يخلو من الخطر، فانتظر هنا إلى أن تصحب قافلة أو حملة ذاهبة إلى هناك.» ثم أمر بإعداد غرفة خاصة له في منزله يقيم بها، ودعا الله أن يختم مأساة أسرة صديقه السيد عبد الرحمن بما يسعدها وينسيها ما قاسته من شقاء وعذاب. •••
عاد السيد المحروقي إلى داره بعد أيام، فدعا إليه عليا خادم السيد عبد الرحمن وقال له: «لقد جاءت الأنباء بقدوم علي بك إلى الصالحية في جيش كبير من الألبانيين التابعين للأسطول الروسي ومن جنود الشيخ ضاهر حليفه، وقد تغلبوا هناك على جنود أبي الذهب، ودخلوا البلدة فاتحين، وقد جند أبو الذهب جيشا كبيرا واعتزم الخروج به إلى الصالحية لصد علي بك. وعلمت أن هذا عاد من عكا مريضا لا يستطيع الإشراف على المعارك.»
قال: «وكيف أقدم على المجيء للحرب وهو مريض؟»
قال: «لم يكن راغبا في المجيء قبل أن يشفى، ولكن أبا الذهب احتال لاستقدامه وهو في هذه الحالة من المرض والضعف ليسهل عليه صده، وكانت الحيلة التي استخدمها لذلك أن كتب إليه على لسان المعلم رزق الذي كان كاتبا لحساباته ومن خاصة مستشاريه، وبقي في مصر بعد خروجه منها، مستمرا في الدعاية له ومكاتبته سرا. وقال أبو الذهب لعلي بك في هذا الكتاب الموقع عليه بإمضاء المعلم رزق: «عليك أن تعجل بالقدوم لمحاربة أبي الذهب، فلا شك في أن أهل القاهرة وجميع أحزابها يودون عودتك وينتظرونك بفارغ الصبر»، إلى غير ذلك مما يحبب إليه القدوم. وقد نجحت الحيلة، وجاء علي بك إلى الصالحية وأخذها، ولكني لا أدري عاقبة الأمر على كل حال؛ فإن أبا الذهب مسافر غدا في حملة لمحاربة علي بك في الصالحية، فإذا أفقت الحملة إلى قرب الصالحية فيمكنك التحول من هناك إلى حيث تشاء؛ إذ تكون قد وصلت إلى مأمنك، والرأي لك.»
فقال علي: «وكيف يمكنني مرافقة الحملة وأنا لست منها، فقد يستغشونني؟»
قال: «يمكنك مرافقتها بصفتك بائع مأكولات.»
فاستحسن علي الرأي، وأخذ يعد ما يلزم لسفره، واشترى طبقا كبيرا من خشب جعل عليه بعض أنواع المأكولات، وتزيا بزي الباعة وانخرط في سلك الحملة، وساروا يريدون الصالحية. •••
بقي حسن في ضيافة حارس باب عكا، في انتظار عود الشيخ ضاهر. وفي صبيحة اليوم الثالث وصلت البشائر بقدومه مع علي بك ورجالهما، فخرج الناس بالطبول للاحتفال بملاقاة القادمين، وجلس حسن إلى نافذة مطلة على السهل خارج القلعة لعله يشاهد الاحتفال؛ فإذا بالغبار يتكاثف عن بعد، ثم انقشع عن خيالة يتقدمهم اثنان عرف أنهما الشيخ ضاهر وعلي بك؛ لما في لباسهما من الزخرف وما أحدق بهما من الحاشية، وكل منهما على جواده كأنه أسد، ثم تذكر أنه محجور عليه بأمر الشيخ ضاهر وربما حكم عليه بالقتل أو الحبس، فانقبضت نفسه، ولكنه اشتغل بمشاهدة الموكب وهو يدخل القلعة. فدخل أولا الأميران وحاشيتهما على خيولهم، ثم تقاطر الناس أفواجا، وفيهم الرجال والنساء والأولاد في الزي المصري، فتذكر والدته وهاجت أشجانه واشتد اشتياقه إليها، وأخذ ينظر إلى النساء لعله يستأنس بمنظرهن لمشابهتهن لها بالزي. وفيما هو يتأملهن وقع نظره على واحدة منهن تشبهها قامة ومشية، فخفق قلبه لها واستأنس بها، وجعل يمعن نظره فيها، وكانت كلما اقتربت من الباب ازداد استئناسه بها حتى ترجح لديه أنها هي بعينها، فازداد خفقان قلبه وطارت عيناه شعاعا تطلعا إليها، وود لو أنها ترفع نظرها إليه لعله يتحقق ظنه ويعرفها من وراء الإزار واليشمك، ولكنها كانت مطرقة كئيبة وإلى جانبها رجل عرف أنه من خدم السيد المحروقي، فأخذ يتردد بين الشك واليقين حتى دخلا الباب، فحدثته نفسه أن ينزل لملاقاتهما، وهم بذلك ثم خاف أن يمنعه الحراس، ولكنهم كانوا في شغل بملاقاة القادمين، فنزل حتى أتى الباب وأمعن نظره في المرأة والرجل، أما الرجل فحالما رآه عرفه لكنه لم يتحققه جيدا لما هو فيه من اللباس المغربي.
فتقدم إليه حسن وأمعن نظره فيه وفي المرأة حتى كاد يتحقق أنها والدته، أما هي فحالما وقع نظرها عليه رمت نفسها عليه وصاحت «ولدي.» وأغمي عليها، فهم بها وأمسك يدها وأخذ يخفف عنها ويقبل يديها ويدعوها باسمها، حتى أفاقت فضمته إليها وجعلت تقبله وتشكر الله على مشاهدتها إياه، والناس وقوف قد أدهشهم ذلك المنظر، خصوصا الحارس لما رأى من بكائهما ولهفتهما، ثم دخل بهما إلى غرفته وهما متعانقان والدموع تتساقط على خديهما، فلما جلسا أخذت سالمة تسأل حسنا عن أمر أبيه، فذكر لها أنه لا يعلم مقره، وقد جاء للبحث عنه ظنا منه أنه في عكا، وأخبرها أنه محجور عليه هناك لسبب لا يعلمه. فسألت الحارس عن سبب ذلك القبض، فقال: «لا أعلم يا سيدتي، ولكني أمرت من أحد رجال سيدي الشيخ ضاهر أن أقبض عليه.» فتذكر حسن صديقه عماد الدين فقال في نفسه: «لعلي إن وجدته أنتفع به في هذه المسألة.»
وكان حسن لا يعلم عن مكان عماد الدين شيئا بعد أن غادره في بيروت، فسأل البواب عنه فقال هذا: «ومن أين لك معرفته؟»
قال: «هو صديقي، عرفته منذ أشهر، فهل هو في المدينة؟»
قال: «نعم هو هنا، وقد أوصاني هو أيضا وشدد الوصية في القبض عليك.»
فانبسط وجه حسن ونهض واقفا من الفرح وقال: «إذن فالقبض علي لخير والحمد لله؛ لأن الرجل صديق وبيننا عهود وثيقة تقضي بمساعدة أحدنا الآخر.»
ثم التفت إلى البواب قائلا: «وأين عماد الدين الآن؟»
قال: «لا بد من أنه قدم مع القادمين، وعما قليل أسأل عنه وأستقدمه إليك.»
وبعد قليل، مضى الحارس فغاب قليلا ثم عاد ومعه عماد الدين، فما وقع نظر هذا على حسن حتى هم به وعانقه وأخذ يقبله ودموع الفرح تتساقط على خديه، ثم حانت منه التفاتة إلى أم حسن وهي جالسة هناك، فسأله عمن تكون، فقال: «هي والدتي، ولم يبق إلا أن يكتب الله لنا الاجتماع بأبي.»
فقبل عماد الدين يد السيدة سالمة وهنأها بالسلامة ولقاء حسن، ثم قال لهما: «إني أهنئكما وأهنئ نفسي بأن السيد عبد الرحمن في خير وأمان، بل هو الآن من أكابر المقربين إلى الشيخ ضاهر، وقد خصص له مسكن إلى جواره في هذه القلعة.»
فلم يتمالك حسن ووالدته من البكاء فرحا بهذه البشرى، ثم أشار عليهما بالذهاب معه إلى منزله والانتظار هناك حتى يأتي إليهما بالسيد عبد الرحمن، بعد أن يمهد لديه لهذا اللقاء حتى لا تضره المفاجأة. فنهضا وصحباه إلى منزله بعد أن ودع حسن حارس الباب وشكره على حسن ضيافته. •••
كان السيد عبد الرحمن قد أوى إلى حجرته عقب عودته إلى القلعة، فلما دخل عليه عماد الدين وجده مطرقا يفكر وعلائم القلق بادية في محياه.
فقال له: «فيم تفكر يا صديقي؟ ألا تحمد الله على ما نلت من حظوة لدى حاكم المدينة؟»
فقال السيد عبد الرحمن: «آه يا عماد الدين! إني لو أعطيت ملك الدنيا كلها ما أنساني ذلك حزني لفراق حسن ووالدته وانقطاع أخبارهما، وإني لأضرع إلى الله أن يعجل برجوع علي خادمي من مصر عسى أن يكون قد وقف على شيء عنهما هناك؛ فقد كاد اليأس من لقائهما يستولي على قلبي.»
فقال عماد الدين: «ولم اليأس يا سيدي؟ أليس الله بقادر على أن يجمعك بهما قبل رجوع علي من مصر؟»
قال: «إن الله قادر على كل شيء، ولكني أخشى أن يذهب عمري وأنا لا أزال أبحث عنهما.» وأخذت عبراته تتساقط على خديه.
فتأثر عماد الدين لبكائه وقال له: «لقد صبرت طويلا يا سيدي، والصبر مفتاح الفرج، وقد جئتك الآن مبشرا بنبأ فيه ما يسرك.»
فهب السيد عبد الرحمن واقفا وقال له: «ما هو هذا النبأ؟ قل يا ولدي، بشرك الله بكل خير.»
قال: «قد علمت الآن من مصدر وثيق الاطلاع أن حسنا جاء إلى عكا.»
فهم به السيد عبد الرحمن وقبله باكيا وهو يقول: «وأين هو؟ هل عرفه حراس أبواب المدينة فاحتجزوه؟»
قال: «نعم، عرفه أحدهم وهم بإرساله إلى هنا في القلعة تنفيذا لأمرك، ولكن ...»
فقاطعه سائلا: «ولكن ماذا؟ هل عليه من بأس؟»
فقال: «لا بأس عليه، لكنه شاهد بين القادمين من مصر مع علي بك جماعة من خدم صديق لكم هناك اسمه السيد المحروقي، وعلم منهم أنهم قادمون للبحث عنك وعنه ومعهم سيدة يهمها أمركما.»
فازداد بكاء السيد عبد الرحمن من شدة الفرح وقال: «لعلها سالمة، أليس كذلك؟»
فضحك عماد الدين وهم بالسيد عبد الرحمن فعانقه وقبله وقال: «نعم ... إنها هي بعينها يا سيدي، فهل أيقنت بأن الله قادر على كل شيء، وأنه لا يضيع أجر الصابرين؟!»
فسجد السيد عبد الرحمن شكرا لله، ثم نهض وعاد إلى معانقة عماد الدين وتقبيله وهو يقول: «لقد نفد صبري، فاعذرني يا ولدي، فأين هم الآن؟»
فقال له: «هيا بنا نذهب لمقابلتهم.» ثم اصطحبه إلى منزله فإذا بحسن وأمه ينتظران بالباب، وأخذ الجميع يتبادلون العناق والقبلات وهم لا يكادون يصدقون اجتماع شملهم بعد طول الفراق. •••
اتفق الجميع بعد ذلك على أن يبقى حسن وأمه في منزل عماد الدين، ويعود السيد عبد الرحمن إلى مسكنه في القلعة إلى أن يرجع علي خادمه من القاهرة.
وبعد أيام، قام علي بك بالعودة إلى مصر على رأس ذلك الجيش العرمرم الذي أعده له الشيخ ضاهر من بين رجاله ورجال الأسطول الروسي حليفهما، ثم جاءت الأنباء بهزيمة هذا الجيش على حدود مصر، ثم معاودته الكرة حتى دخل الصالحية فاتحا، وهناك خف إلى لقائه محمد بك أبو الذهب على رأس جيش عظيم، واستطاع أن يرده مرة أخرى، بعد أن أصيب علي بك وهو مريض في خيمته بطعنات عدة، فنقل إلى القاهرة أسيرا حيث مات متأثرا بجروحه، وخلا الجو لأبي الذهب.
وكان علي خادم السيد عبد الرحمن قد عاد إليه في عكا، وأنبأه بأن أبا الذهب في طريقه إليها للانتقام من الشيخ ضاهر الزيداني حاكمها، ثم لم تمض أيام حتى جاءت الأنباء بموت أبي الذهب فجأة في الطريق، ففرح بموته الجميع. وكان السيد عبد الرحمن قد جمع ثروة طائلة من عمله في خدمة الشيخ ضاهر، فقرر العودة بأسرته إلى مصر، وودعهم عماد الدين متعاهدا وإياهم على التزاور وتبادل المكاتبات.
واستطاع السيد عبد الرحمن بعد أشهر من عودته أن يسترد أملاكه ومكانته التجارية في وكالة الليمون، كما عاد حسن إلى إتمام دراسته الطبية في البيمارستان المنصوري، وعاش الجميع في سعادة واطمئنان.
صفحة غير معروفة