ويستطرد «زريق» في وصف أساليب العلاج المباشر لآثار النكبة بغية رفض الهزيمة وتقوية إرادة النضال: تعبئة جميع الموارد العسكرية والاقتصادية والسياسية وتحقيق أقصى قدر ممكن من وحدة الدول العربية وتعاونها في هذه الميادين، وإبداء الاستعداد للدخول في المساعي الديبلوماسية وقبول الحلول المعتدلة لكسب تأييد القوى العظمى. ولكنه يرتفع بعد ذلك إلى مستوى آخر من التحليل عندما يقول إن كسب المعركة القادمة لن يكفي لحل المشكلة الصهيونية والمسألة العربية في مجموعهما؛ إذ تحتم الضرورة إيجاد «كيان عربي قومي متحد وتقدمي» عن طريق ثورة أساسية في نظم الحياة العربية (ص41). ثم يرسم في صفحات قليلة مشروع رؤيته لأمة عربية لم توجد بعد وما زلنا نحلم معه بوجودها: أمة ذات أهداف موحدة، وإمكانات متحققة، توجه وجهها صوب المستقبل، وتفتح عينيها على النور، كما تفتح صدرها للخيرين من أي مكان يجيئون.
ويبدأ مؤلف «معنى النكبة» في تحديد معاني مصطلحاته، فأما القومي فلا ضرورة لتعريفه لأنه يستخدم عادة بمعنى «الوطني»، كما أن كلمة الأمة في العربية لا يمكن أن تشتق منها صفة مناسبة. ثم يشرح كلمة «متحد» التي يتصف بها الكيان العربي المأمول فيقول إن الجامعة العربية قد ثبت ضعفها الشديد بحيث تحتم الضرورة تأسيس دولة «اتحادية»، أي دولة «فيدرالية» ذات سياسات خارجية واقتصادية وقوات دفاعية موحدة (ص44). وأما الصفة الحاسمة التي تطلق على هذا الكيان العربي فهي «التقدمي». وهو يبدأ شرحه لهذه الكلمة التي طالما أسيء استخدامها، أو بالأحرى استغلالها، بأن ينصح الوطنيين أو القوميين بعدم التردد عن استخدامها لمجرد أنها تشيع على ألسنة وأقلام الاشتراكيين والشيوعيين، لأن التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والعقلي شرط أساسي لقيام الكيان العربي الجديد، بل إن القومية نفسها مستحيلة بغير هذا التقدم المواكب لحركة التاريخ وقوانين المجتمع . ويحدد «زريق» أربعة عناصر ضرورية لتحقيق التقدم: الميكنة والتصنيع، الفصل بين الدولة والمؤسسة الدينية، التدريب العقلي على العلوم الوضعية والتجريبية، تبني أفضل القيم العقلية والروحية التي وصلت إليها الحضارات الإنسانية واختبرت صحتها التجربة البشرية. ومن الوسائل الكفيلة بتحقيق هذه الأهداف بذل الجهود الوطنية لاستغلال الموارد القومية، ونشر المعرفة والتعليم، والتوسع في الحريات السياسية والاجتماعية والفكرية، والإصلاح الإداري (ص50)، ثم يؤكد أهمية الدور الذي ينبغي أن تؤديه النخبة المثقفة المخلصة في ريادة هذا التقدم، ويحبذ أن يتحد أعضاؤها في أحزاب وتنظيمات ذات «أيديولوجيات» أو منظومات فكرية موحدة.
ويعبر «زريق» عن لب فكرته عن التقدم عندما يقرر أن الهدف منها هو أن نصبح فعليا وروحيا، لا اسميا وماديا فحسب، جزءا من العالم الذي نعيش فيه، وأن نتكيف مع نظمه في الحياة والتفكير، ونتكلم لغته، ونقتبس المدنية الحديثة بماديتها وروحانياتها دون التخلي عن هويتنا والعناصر الباقية من تراثنا، ونسعى للتعرف على منابعه ووصل مصيرنا بمصيره (ص47). وإذا كان المؤرخ الكبير يدعو العرب للتواصل مع الحضارة والمدنية الحديثة، فلا يعني هذا رفض التراث القومي أو التخلي عنه. صحيح أن جزءا من هذا التراث مصيره إلى الزوال والنسيان، ولكن الجزء السليم والجدير بالبقاء هو الذي سيميزه العقل المتحرر المنظم الذي يجب علينا أن نأخذه من الحضارة الحديثة ونبني عليه ثورتنا (ص49).
تعرض «معنى النكبة» للنقد الشديد من جهتين على أقل تقدير: من الإسلاميين الذين احتجوا على مطالبته بالفصل بين الدولة والدين، متذرعين بالحجة المعروفة التي تقول بأن الإسلام، على العكس من المسيحية الأوروبية، لم يعرف السلطة الكنسية والكهنوتية التي اضطهدت الشعب والدولة، والعلم والحرية، كما أن ذلك الفصل معناه القطع بين الناس وبين تراثهم الروحي، وهدفه تشكيك الشباب في دينهم.
14
والحق أن «زريق» لا يدعو إلى علمانية تنكر الدين جملة أو تتجاهل تأثيره العميق في حياة الإنسان، وإنما يعترف بالقوة الروحية التي يهبها الدين للمؤمن، كما سبق له أن أكد أهمية الإسلام والرسالة المحمدية في تدعيم القومية والوعي القومي، وذلك في كتابه «الوعي القومي» الذي ظهر سنة 1939م في بيروت (ص111). صحيح أنه يرفض «الحرفية الدينية» على حد تعبيره، وهو كمؤرخ وأستاذ جامعي ليس في حاجة إلى من يذكره بأن الإسلام لا يعرف الاحتراف أو الاحتكار الديني ولا الكهنوت، ولكنه يرفض «الطائفية» الدينية التي تسببت - بعد الفراغ من تأليف كتابه بأربعة عقود - في حرب أهلية لا تزال آثار حرائقها المدمرة في لبنان ماثلة للعيان. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يمكن تلخيص النقد الموجه ل «معنى النكبة» في أنه لم يتعمق بحث المجتمع العربي للكشف عن أسباب النكبة، كما أن عناصر التقدم المختلفة التي يقترحها تشترط تغييرات اجتماعية لم يذكر عنها إلا القليل أو لم يذكر شيئا على الإطلاق. وهو - في رأي هؤلاء النقاد - يمكن تصنيفه مع المهادنين أو حتى مع الرجعيين لأنه، بالرغم من تأكيده المستمر لضرورة الثورة، لا يجعل للصراع الطبقي أي مكان في مشروعه عن التقدم.
15
والواقع أن هذه الانتقادات تبدو مشروعة لمن يقرأ الكتاب بعد أكثر من خمسين سنة من كتابته؛ إذ يدهش لافتقاره إلى التحليل الاجتماعي - الذي لم يكن قد عرف بعد بشكل علمي ومنهجي في البلاد العربية - بقدر ما يعجب بملاحظاته الجريئة والنافذة البصيرة عن مختلف جوانب الموقف العربي، وبمشروعه «اليوتوبي» عن كيان عربي موحد وتقدمي ليس من المستحيل أن يتحقق لو صحت إرادة العرب على التوحد في مواجهة التهديدات المتصاعدة بإبادتهم على كل المستويات المادية والمعنوية.
ومهما يكن من قصور الكتيب الشهير عن تقديم تحليل واف للبناء الاجتماعي والطبقي وتناقضاته التي كانت أحد أسباب النكبة، ومهما يكن من نفوره من استخدام كلمة الثورة خوفا من ظلالها الأيديولوجية التي يكرهها، (من المستغرب حقا في نظر من يطلع عليه اليوم أنه يفضل عليها كلمة «انقلاب» التي لم يكن يدري في ذلك الوقت أنها ستكون أصل الكوارث المتلاحقة منذ منتصف القرن الماضي في بعض البلاد العربية والأفريقية والآسيوية والأمريكية الجنوبية)، وعلى الرغم من التعميمات الغامضة والمشروعات التي ما زالت إلى اليوم أشبه بالآمال المستحيلة، فلا شك في أن الكتيب نفسه كان ولا يزال صرخة ضمير عربي عميق الجرح وصادق الرؤية والتنبؤ إلى حد مذهل، بقلم عالم عربي حر شجاع وشديد الإيمان بالعقلانية والتقدمية وبالوحدة والقومية العربية القائمتين على العلم والقيم والاستنارة، وذلك كله عن طريق التغيير الجذري والثوري الحاسم في كل ميادين الحياة والتفكير والعمل. وإذا لم يكن قد قدم برنامجا عمليا مفصلا للتغيير والإصلاح، فقد رسم الإطار الصالح للتساؤل والحوار، وحذر من الأخطار الكبرى التي تهدد اليوم - فعلا لا قولا - بتصفيتنا واقتلاعنا من جذورنا، وفتح الأعين والضمائر والعقول على مشكلاتنا الكبرى المزمنة. (18) ونأتي أخيرا إلى الأدب الذي أعلم تمام العلم مدى شغف الأستاذ شتيبات بالاطلاع على الأعمال الكبرى فيه، سواء من أدب بلاده أو من الأدب العربي. ذلك لأن المؤرخ لا يستغني - كما يعلم الجميع - عن الرجوع للأعمال الأدبية ليزداد وعيا وبصيرة بحقائق الحياة ومشاعر البشر وأفكارهم، وبهمومهم وطموحاتهم في حقب أو مواقف تاريخية معينة. وقد اختار من الأدب العربي الحديث روايتين تعكسان مرحلتين مهمتين أو أزمتين حاسمتين في مسيرتنا نحو مجتمع عربي متحد ومتقدم، إلى جانب ما تعبران عنه من قيم جمالية وإنسانية رفيعة. والرواية الأولى، وهي «أولاد حارتنا» لربان سفينة الرواية العربية نجيب محفوظ، (ويرجع بحثه عنها تحت عنوان «الله والفتوات والعلم» إلى سنة 1975م)، والثانية للروائي اللبناني الكبير توفيق يوسف عواد (ويعود بحثه عنها تحت عنوان «الطائفية في الرواية اللبنانية» إلى سنة 1984م). ونبدأ بعرض هذا البحث قبل أن نختم هذا التقديم برواية محفوظ التي طالما أثارت حولها عواصف الجدل. (19) من المعروف أن التدين بمعناه الأصلي المباشر يعني إيمان الإنسان بالله وبكل ما هو مقدس إيمانا باطنيا عميقا، كما يعني انتماءه إلى جماعة دينية محددة. وقد ظل انتماء المسلم إلى جماعة دينية على مدى أكثر من أربعة عشر قرنا دليلا على هويته، ومبدأ يقوم عليه نظام حياته الاجتماعية والسياسية والوجدانية. وينطبق الشيء نفسه على سائر الأديان السماوية والبشرية، إذ يبقى الانتماء إلى جماعة أو ملة أو نحلة أو طائفة دينية أمرا حاسما وموجها لحياة الإنسان وتفكيره ووعيه بذاته وعالمه الاجتماعي والطبيعي. وإذا كانت الكلمة الأخيرة، وهي الطائفة والمصدر المشتق منها وهو الطائفية، قد اصطبغت عبر التاريخ الإسلامي وغير الإسلامي، لا سيما في العصر الحديث وفي النصف الثاني من القرن العشرين، بظلال قاتمة توحي بالتطرف والتعصب، أو بالتزمت والمحدودية على حساب التسامح والمحبة والتعاون والتآخي الإنساني، فقد وصلت في كوارث الحرب الأهلية اللبنانية وغيرها إلى حد الدخول في دوائر الجنون والانتحار أو الاحتراق والتدمير الذاتي. (20) قدم توفيق يوسف عواد (الذي ولد سنة 1911م في إحدى القرى المارونية في لبنان ومات في حادث مروع في أثناء الحرب الأهلية) عدة مجموعات قصصية وروايتين هما الرغيف (1939م) وطواحين بيروت (1972م)، قبل اندلاع نيران جحيم الحرب الأهلية بقليل. وقد تلقى العلم في كلية القديس يوسف في بيروت، ثم واصل دراسته للحقوق في جامعة دمشق، مما أتاح له الاهتمام بقضايا العروبة وتجاوز دائرة الطائفة الدينية الضيقة (يدل على ذلك إشادته في «الرغيف» بمشاركة المسيحيين اللبنانيين في الكفاح العربي للاستقلال عن الدولة العثمانية). وقد عمل بعد إتمام دراسته أكثر من عشر سنوات بالصحافة والكتابة الأدبية، ثم دخل منذ سنة 1946م في دائرة العمل الديبلوماسي، وعمل سفيرا للبنان في عواصم عديدة، وظهرت الطبعة الأولى لروايته التي نتحدث عنها عن دار الآداب سنة 1972م وفي أثناء وجوده في طوكيو.
والشخصية الرئيسية في الرواية (وهي تميمة) فتاة شيعية من قرية «مهدي» إحدى قرى الجنوب اللبناني. بدأت شجرة عائلتها في التحطم والتفكك، فأبوها سافر إلى أفريقيا سعيا وراء رزقه فشاء سوء حظه أن يقبض عليه بتهمة التهريب، وشقيقها جابر الذي صار رب العائلة يستغل وضعه الجديد في غياب أبيه ليحيا حياة ماجنة تنزلق به إلى حافة الجريمة. وتصمم تميمة، على غير رغبة شقيقها، على استكمال دراستها العالية في العاصمة، وتصر بذلك على السير في طريق التحرر الذي لا يقودها إلى السعادة بل إلى الدوران مع «طواحين بيروت». فالصحافي التقدمي «رمزي رعد» يفتنها بسحره الأيديولوجي ويغويها فتستسلم له؛ ثم تتبين أنها لم تجن إلا الشوك من حماسه الثوري وتجربتها الجنسية معه، والمحامي الشيعي المرشح لدخول البرلمان «أكرم الجردي» يريد منها أن تكون عشيقته ويعدها بأن يتزوجها فيما بعد، لكنها ترفض أولا ثم تخضع لإرادته في مقابل أن يدبر لها وظيفة سكرتيرة في نقابة عمال الميناء.
صفحة غير معروفة