فلما جلس في المركبة وخلا بنفسه عادت إليه هواجسه وراجع في ذاكرته ما مر به من الأهوال في ذلك الليل، وأخذ يمني نفسه قبل كل شيء بمشاهدة شيرين لأنه لم يصدق قول أبيها أنها هربت، وإذا تحقق هربها إلى مناستير أو غيرها سافر إليها. وفكر في المهمة السياسية التي هو ذاهب بها، فلم يخامره شك في صدق عبد الحميد هذه المرة، إذ لولا صدق نيته في ذلك لم يطلق سراحه وهو أسير عنده ثم أطلق سراح أبيه، فاعتقد أنه صادق فيما قاله. على أنه استغرب التماس والده البقاء هناك يوما آخر فوق السنين التي قضاها في أعماق السجن، ولكنه حين آنس منه إصرارا التمس له عذرا أو غرضا، وإن كان قد خامره ريب من بقائه وأسف لتركه لئلا يحدث ما يوجب إعادته إلى السجن، وقال في نفسه: «لو لم يكن للسلطان غرض في إطلاقه فليس ثمة ما يكرهه عليه.»
قضى الطريق في مثل هذه الهواجس، وشغل عما يمر به القطار من التلال والأودية والغياض . ووصل إلى سلانيك في الضحى، فخرج من المحطة بسهولة بتذكرة أعطاه إياها ناظر محطة الأستانة.
ولما خرج من المحطة أخرج منديله من جيبه فإذا فيه ورقة مطوية لم يكن يعهدها هناك، ففضها فإذا هي بخط تذكر أنه خط والده، فقرأها فإذا هو يقول فيها: «احذر من مراقبة ناظم ورجاله السريين خوفا من معرفة مقر الجمعية، افعل ذلك ريثما آتيك.» فدهش وأخذ يفكر فيما بعث والده على هذه الكتابة، فبعثه ذلك على الشك في ناظم ولم يعبأ بما فيها من سوء الظن بالسلطان، ولكنه عزم على المحاذرة.
فأول ما خطر له أن يفعله في سلانيك أن يذهب إلى بيت خطيبته، ولما أطل على المنزل أخذ قلبه يخفق، وتصور أنه سيلاقي شيرين في المنزل فشعر بلذة أنسته متاعبه وأخطاره.
وصل إلى بيت الحبيبة فرآه مقفلا، فسأل الجيران عن أهله فقص عليه أحدهم خبر غياب شيرين منذ أيام وأن والدها سافر إلى الأستانة، وأما والدتها فقد سافرت إلى مناستير للبحث عنها عند بعض أهلها هناك. فأسقط في يده، وتذكر قول طهماز فوجده صادقا فوقع في حيرة واسودت الدنيا في عينيه، وحدثته نفسه أن يتبع الوالدة إلى مناستير لكنه عاد إلى التفكير في المهمة، فتذكر أن تلك الليلة موعد اجتماع الجمعية فعزم على الذهاب إليها وهو لا يخاف انكشاف أمرها للتدبير الذي دبروه في إخفاء مكانها، ولم يشأ أن يؤجل ذلك إلى مجيء أبيه، فذهب إلى الفندق الذي كان نازلا فيه التماسا للراحة فوجد رسولا من ناظم في انتظاره، وقال له إن حضرة القومندان يطلب مقابلته للترحيب به فصدقه وذهب إليه في قصره، فرحب به وهنأه برضى الذات الشاهانية عنه وعرض عليه ما يريد أن يخدمه به، فأثنى على فضله. ولولا الورقة التي وجدها في جيبه لوثق بقوله، لكنه اعتذر بأنه يطلب الراحة في هذا اليوم، فدعاه للنزول عنده فاعتذر ومضى إلى الفندق وهو يتوقع أن تتبعه الجواسيس، فلم يلاحظ شيئا من هذا القبيل. •••
ارتاح رامز في الفندق بقية يومه وهو يهيئ ما سيعرضه على الجمعية، حتى إذا كان العشاء مشى إلى قهوة تعود الأعضاء أن يتفرقوا في أطرافها قبل الاجتماع، ليتواعدوا على مكان الاجتماع وكيفية الوصول إليه.
وكانت الجمعية مؤلفة من عدد محدود لا يزيد على 12 عضوا هم لجنة الإدارة، عليهم رئيس يسمونه «المرخص» تحاشيا من تمييز بعضهم بالرياسة، وهؤلاء الأعضاء يتعارفون ويجتمعون غير متنكرين للمباحثة في أعمال الجمعية وإصدار الأوامر إلى الفروع. أما من ينضم إلى الجمعية غير هؤلاء فإنه لا يتأتى له أن يعرف أعضاء اللجنة معرفة شخصية، وإنما يعرف الشخص الذي يكون واسطة لإدخاله فيها، وذلك أن أحد أعضاء اللجنة إذا عرف شابا من العثمانيين آنس فيه ميلا إلى الحرية وحب الإصلاح قربه إليه، وتدرج في إطلاعه على وجود جمعية حرة تطلب الإصلاح، فإذا أحب الانتظام في سلكها وطلب إليه ذلك وعده بالنظر في طلبه ثم يخاطب اللجنة بشأنه، فإذا قبلته أعطته رقما يعرف به في سجلاتها ودعته للحضور في جلسة سرية تعينها له يحضرها أعضاء اللجنة متنكرين، فيدخل متهيبا ويقسم اليمين على الإنجيل أو القرآن والمسدس ويخرج. وهذا العضو الجديد إذا رأى صديقا له استحسن ضمه إلى الجمعية قدم طلبه على يد العضو الذي قدمه قبلا، وإذا قبل يأتي الطالب الجديد للجلسة السرية ويقسم اليمين ويخرج وهو لا يعرف غير صديقه الذي أدخله، وأما هذا فصار يعرف اثنين: أحدهما بعده والآخر قبله، وإذا أدخل اثنين أو ثلاثة أو أربعة فإنه يعرفهم وهم يعرفونه.
وهذا التحفظ قائم أيضا في العلاقة بين الجمعية المركزية وفروعها في الجهات، فإنها تتفرع أولا إلى شعب في المدن الكبرى، وللشعبة فروع يقال لها قولات، وكل شعبة أو قول مؤلف من لجنة إدارية لها رئيس وأعضاء مثل الجمعية المركزية. ومؤسسو الشعب أصلهم من الجمعية المركزية، وذلك أن أحد هؤلاء الأعضاء إذا رأى في نفسه الكفاءة لإنشاء شعبة في بلد من البلاد عرض مشروعه على اللجنة فتخول له إنشاءها، فينتقل إلى ذلك البلد ويجتمع بأناس يثق بحريتهم وصدقهم، ويؤلف معهم لجنة يخبرهم أنها فرع للجمعية المركزية، ولكنه لا يصرح لهم بأسماء أعضائها. ومتى تألفت الشعبة عملت على إدخال الأعضاء بالكيفية التي سنتها الجمعية المركزية، وهذه اللجنة لا تعرف من أعضاء الجمعية المركزية إلا الذي أسس الشعبة.
وهكذا يقال في إنشاء الفروع الصغرى، فإن أحد أعضاء لجنة من لجان الشعب يأخذ على عاتقه إنشاء فرع للشعبة، ويخرج للقرية ويؤلف لجنة من أهل ثقته لا يعرفون من أعضاء الشعبة إلا هو. وقس على ذلك.
وتختار الجمعية لنشر آرائها صحفا ينشئها أفراد منها يظهرون للناس وقد لا يظهرون.
صفحة غير معروفة