أبطال الرواية
شيرين ورامز
بين شيرين وصائب
اختفاء شيرين
رامز في السجن
الأستانة
السلطان عبد الحميد
في سبيل الدستور
السلطانة الوالدة
في قصر مالطة
صفحة غير معروفة
شيرين وعبد الحميد
جمعية الاتحاد والترقي
مدحت وسعيد
في حريم يلدز
العصابات الألبانية
إعلان الثورة
الفوز الأكبر
أبطال الرواية
شيرين ورامز
بين شيرين وصائب
صفحة غير معروفة
اختفاء شيرين
رامز في السجن
الأستانة
السلطان عبد الحميد
في سبيل الدستور
السلطانة الوالدة
في قصر مالطة
شيرين وعبد الحميد
جمعية الاتحاد والترقي
مدحت وسعيد
صفحة غير معروفة
في حريم يلدز
العصابات الألبانية
إعلان الثورة
الفوز الأكبر
الانقلاب العثماني
الانقلاب العثماني
تأليف
جرجي زيدان
أبطال الرواية
عبد الحميد خان:
صفحة غير معروفة
السلطان العثماني.
أحمد نور الدين:
ابن السلطان عبد الحميد.
نيازي بك:
من زعماء الأحرار.
أنور باشا:
من زعماء جمعية الاتحاد والترقي.
ناظم بك:
قائد جند سلانيك.
نادر أغا:
صفحة غير معروفة
رئيس أغوات يلدز.
شيرين:
فتاة تركية.
طهماز:
والد شيرين.
توحيدة:
والدة شيرين.
رامز:
من زعماء جمعية الاتحاد والترقي.
صائب:
صفحة غير معروفة
جاسوس عثماني.
سر خفية:
رئيس جواسيس السلطان.
القادين ج:
من جواري السلطان.
والدة سلطانة:
رئيسة دور الحريم.
فوزي بك:
أحد قواد الحرس الألباني.
سعيد بك:
صفحة غير معروفة
من زعماء جمعية الاتحاد والترقي.
شيرين ورامز
سلانيك أو سالونيك من أكبر مدن المملكة العثمانية، وقد اشتهرت بنيل الدستور على أيدي أحرارها. وهي واقعة على البحر، وسكانها نحو 150 ألفا، منهم ستون ألفا من اليهود، والباقون من الأتراك والأروام والمقدونيين والألبان وسائر الأجناس. والسبب في كثرة يهودها أنهم نزحوا إليها من إسبانيا، كما نزحوا إلى الأستانة وغيرها، ولا يزالون يتكلمون لغة الإسبان. وللمدينة رصيف عريض يمتد على شاطئ البحر قد غرست الأشجار على جانبيه، تحده المنازل الفخمة من جهة والبحر من الجهة الأخرى، وهو أجمل متنزهات سلانيك، يؤمه الناس ساعات النزهة في العربات أو الترام أو مشاة على الأقدام.
وفي سلانيك حديقة للبلدية هي أحسن متنزه لتمضية الأوقات في المنادمة والمحادثة، وهي كبيرة واسعة، فيها كل أنواع الأشجار والرياحين والأزهار، وفيها مطاعم ومقاه ومسرح، وتشبه إلى حد كبير حديقة بتي شان في الأستانة وحديقة الأزبكية في مصر، يقصدها طلاب التنزه أو اللهو نهارا وليلا، أفرادا وجماعات، وفيهم الشاب والشيخ والصبية والعجوز من مختلف الأديان والأجناس من الإفرنج واليهود والأتراك على تباين عاداتهم وأخلاقهم، فيجلس بعضهم إلى موائد يتعاطون المشروبات، ويتمشى بعضهم في طرقات الحديقة بين الأشجار، وكل منهم في شاغل بنفسه أو بعائلته وأولاده يراعيهم ويهيئ لهم ما يطلبون، أو يتحدثون بما يطيب لهم بلا مراقبة ولا حذر.
أما في زمن الاستبداد، على عهد عبد الحميد، فكان الناس إذا دخلوا الحديقة أو غيرها من أماكن الاجتماع لا يتخاطبون إلا همسا، خوفا من جاسوس أو واش يغتنم لفظة يسمعها فيبادر بنقلها إلى أولي الشأن فيعرض قائلها للموت أو السجن، وقد لا يكون لذلك القول غرض أو مغزى، ولكن الجاسوسية في زمن ذلك السلطان بلغت مبلغا لم يكن له مثيل في زمن من الأزمان، ولا سيما في أواخر أيامه إذ تبدأ روايتنا هذه.
ففي أصيل يوم من ربيع سنة 1907 كانت حديقة البلدية في سلانيك قد كستها الطبيعة حلة خضراء مزركشة بالأزهار والرياحين، وانتشر عبيرها وصفا الجو، وتقاطر الناس إليها من كل جهة وفيهم بالزي الإفرنجي أو التركي، والتركيات إذا أتين الحديقة اخترن ناحية منها منفردة يجلسن إليها حتى لا يكن عرضة لعيون المارين. وهناك تحت شجرة كستناء غضة الأغصان جلست امرأة متوسطة العمر على مقعد من مقاعد الحديقة، وإلى جانبها فتاة في مقتبل الشباب ذات جمال وأدب وذكاء وكمال. وكان لباس المرأتين تركيا لا يظهر منه إلا رداء بني اللون يكسو الجسم كله كالجبة الواسعة، وعلى الرأس خمار شفاف يكسوه كله إلا بعض الوجه. وكان شعر المرأة الكهلة مضفورا على النمط القديم، أما الفتاة فقد ضفرته على النمط الإفرنجي وغطته بالنقاب الشفاف. ولا يحتاج الناظر إلى إمعان كثير في وجهيهما ليتبين أن الفتاة ابنة الكهلة لشدة ما بينهما من المشابهة.
وكان في يد الفتاة جريدة فرنسية تطالع فيها وهي تحاذر أن يراها أحد، وقد طوتها طيات كثيرة حتى يصغر حجمها ولا ينتبه لها الناس، فتقرأ ما يظهر منها ثم تديرها لقراءة ما بقي. وكانت والدتها تنتظر أن تترجم لها ابنتها بعض المقالة التي تقرؤها، فلما طال انتظارها قالت بلسانها التركي: «ما بالك لا تقرئين يا شيرين؟»
فرفعت الفتاة رأسها ونظرت إلى ما حولها كأنها تحاذر أن يسمعها أحد، وقالت بصوت منخفض: «ماذا أقرأ يا أماه؟ إني أرى رامزا قد شدد اللهجة كثيرا هذه المرة.»
قالت: «أكنت تقرئين مقالة رامز؟ وكيف عرفت أنها له؟ هل وقعها باسمه؟ ألا يخاف الرقباء؟»
قالت بحذر وهدوء: «إنه لا يوقع المقالات باسمه، وإنما يرمز إليه بحرف
صفحة غير معروفة
A ، وكل مقالة في هذه الجريدة موقعة بهذا الحرف هي له، ولا يعلم ذلك أحد سواي وسوى صاحب الجريدة. ولو اطلع رجال الحكومة على فحوى هذه المقالة لأخذهم الغضب.»
قالت: «وما فحواها؟»
فاقتربت منها وقالت همسا: «إنه يشدد النكير على عبد الحميد ورجاله، ويهددهم بزوال ملكهم، ويحتج عليهم، وينسب إليهم الظلم والنهب. إنها لهجة شديدة، ولكنهم يستحقون أشد من ذلك.»
فقالت والدتها: «ولكننا نخاف على عزيزنا رامز من غدرهم.»
وكانت شيرين ذات جمال ساحر فتان وفي عينيها ما ينم على الذكاء وسرعة الخاطر وشدة عاطفة الحب. وكانت طويلة القامة مع اعتدال وتناسب، والصحة بادية في محياها، وقوة الإرادة ظاهرة حول فمها، لا ينظر إليها ناظر إلا هابها. وقد زادها العلم رونقا وطلاوة، لأنها تثقفت أحسن تثقيف، وهي تحسن التركية والفرنسية والرومية تكلما وكتابة. والفضل في ذلك إلى والدتها، فقد كانت من فضليات النساء وأقواهن عقلا، وقد ربت ابنتها على الحرية وصدق اللهجة، فشبت شيرين كبيرة النفس قوية العزيمة تكره الظلم والظالمين. وقد أحبت رامزا كاتب تلك المقالة وأحبها منذ الصغر، وهو ابن خالتها، وقد ماتت أمه وهو صغير فعني أبوه بتربيته، وغرس في قلبه حب الحرية وكره الظلم والظالمين.
وقد نشأت شيرين ورامز معا، فتحابا وامتزجت روحاهما، وتعاهدا على الاقتران، وكان هو من أرباب الأقلام يكتب الفرنسية كما يكتب لغته التركية، واشتهر بين معارفه بحب الحرية، فلم يجد سبيلا للعمل في الحكومة، وربما سعى له بعض ذوي النفوذ ليلحق بعمل ما فلا يلبث أياما حتى يخرج منه، وأخذ يعيش من مكاتبة الصحف التركية في الأستانة والفرنسية في باريس بتوقيع مستعار، وأكثر ما يكتبه في تلك الصحف انتقاد لأعمال الحكومة.
والكتابة لذيذة، وكانت تلذ رامزا على الخصوص، لأنه كان يجعلها وسيلة للاجتماع بشيرين، فإذا كتب مقالة وأعجبته قرأها لها وسمع ملاحظاتها عليها، وكثيرا ما كانت ترشده إلى الصواب في بعض الموضوعات، لأنه كان شديد الوطأة سريع الاندفاع فيقوده ذلك إلى التطرف، وكانت هي أعدل منه مزاجا وأربط جأشا فتنتقده وتباحثه، فيلذ له الرجوع إلى رأيها. أما المقالة التي كانت تقرؤها في ذلك اليوم فلم يكن قد أطلعها عليها قبل إرسالها فجاءت شديدة اللهجة.
فلما قالت لها أمها: «ولكننا نخاف على عزيزنا رامز من غدرهم»، ظهرت البغتة عليها كأنها انتبهت لشيء فاتها، وتصاعد الدم إلى محياها، ونظرت إلى أمها وقالت: «صدقت يا أماه، إن رامزا يعرض نفسه للخطر، ولو أطلعني على هذه المقالة قبل إرسالها لعدلت لهجتها. سأعاتبه على ذلك متى جاء. لكنه قد تأخر والشمس كادت تغيب!» قالت ذلك والتفتت إلى باب الحديقة فرأت الداخلين يتزاحمون وليس بينهم رامز. ثم وقع بصرها على شاب بهي الطلعة منتصب القامة رشيق الحركة تنجلي الحماسة في وجهه، ورأت أمها تنظر إليه وتبتسم، فقالت: «من هذا يا أماه؟ أراك تعرفينه.»
قالت: «ألم تعرفيه يا شيرين؟ هذا نيازي بك صديق رامز ورفيقه في المدرسة.»
قالت: «عهدته ضابطا.»
صفحة غير معروفة
قالت: «نعم، ولكن يظهر أنه جاء متنكرا.»
ولم تكد شيرين تعيد النظر إلى نيازي حتى خفق قلبها خفقة الغبطة، لأنها رأت رامزا بجانبه وقد قبض على ذراعه وجعل يقوده نحو تلك الشجرة ونيازي يلتمس التخلص والرجوع. ولما اقتربا من مجلس شيرين وأمها سمعتا نيازي يقول: «دعني يا رامز فقد اقترب موعد سفري.» ولكن رامزا أخذ يجره من ذراعه وهو يضحك ويقول: «دقيقة واحدة فقط.»
ووقع نظر نيازي على شيرين وأمها فأسرع إليهما وحيا الوالدة باحترام، ثم حيا شيرين تحية صديق قديم لأنها عرفته من قبل، وقد خطب إحدى صديقاتها من بنات مناستير. وتقدم رامز وألقى التحية، وابتدر شيرين بالاعتذار فقال: «لقد تأخرت ولكن الحق على صديقي نيازي»، وضحك.
فقال نيازي: «اسمحوا لي أن أودعكم الآن لأني جئت خلسة، ولا بد من رجوعي الليلة إلى بلدي، وإني أتأسف لضياع هذه الفرصة فإن هذه الجلسة تلذ لي كثيرا، ولكنني لا أحب أن أترك للقوم بابا للانتقاد حتى يأتي الله بالفرج.» وابتسم.
فقالت توحيدة والدة شيرين: «تسافر الليلة؟ إلى أين؟»
قال: «إلى مناستير يا سيدتي، ومنها إلى رسنة. استودعكم الله، إلى اللقاء. كم كنت أحب أن أبقى معكم! ولكن ...» قال ذلك وحياهم وانصرف.
وتقدم رامز نحو شيرين وهو يبتسم ابتسام الاعتذار وقال: «أظنني أقلقت بالك لتأخري، ولكنني شغلت بصديقي نيازي، وأنت تعلمين صداقتي القديمة له.» وخفض صوته وقال وهو يحاذر أن يسمعه أحد: «قد جاء اليوم لمقابلة بعض أعضاء الجمعية، فاجتمعنا بصديقنا الشهم أنور بك.» قال ذلك وهو يقعد على كرسي.
فقطعت شيرين كلامه قائلة: «هل أدخلتم نيازي أيضا في الجمعية؟»
قال: «أدخله أنور بك، وقد أحسن بذلك، لأن نيازي من خيرة الضباط أهل المروءة والنجدة، وممن يرجى نيل الدستور على أيديهم.»
ولما لفظ كلمة الدستور تنهد وانقبضت نفسه وأطرق، فأدركت شيرين ما جال بخاطره فقالت: «لا تتنهد، إن أباك سيأتي ولو طال غيابه.»
صفحة غير معروفة
فهز رأسه وقال: «يا حبذا ذلك! كيف أرجو رجوعه بعد دخوله ذلك القصر الجهنمي، وقد مضت سنوات ونحن لم نسمع عنه خبرا؟ إن أحدا من الأحرار الذين دخلوا يلدز الملعونة لم يرجع منها حيا، وما أحسبه إلا أغرق في البوسفور كما أغرق مئات قبله، لكنني سأنتقم له.» قال ذلك وصر بأسنانه وكاد الدمع يتناثر من عينيه.
فأحبت شيرين أن تشغله عن ذلك فقالت: «سامحك الله يا رامز على هذه المقالة! إنها النار المستعرة.»
قال: «إنها أقل ما يستحقه أولئك القوم الأنذال. قد آن الوقت يا شيرين ولا تلبثين أن تري الدماء تجري أنهارا.»
فأجفلت شيرين عند سماع قوله وتصاعد الدم إلى وجنتيها، وقالت: «إني أتمنى أن يظهر الحق ويزهق الباطل دون أن تجري الدماء.»
قال: «وأنا أتمنى ذلك أيضا، ولكنهم لا يريدون الإذعان، وهذا ناظم بك (وخفض صوته) قائد جند هذه المدينة وصنيعة ذلك الطاغية وأحد ياورانه قد تلقى الأوامر بالتشديد في البحث عن أعضاء جمعية الاتحاد والترقي، والقبض عليهم والتنكيل بهم بلا شفقة، لأن ظهور هذه الجمعية في سلانيك أدهشهم، وهم يبحثون عن زعمائها ليفتكوا بهم.»
فبغتت وتوردت وجنتاها، والتفتت إلى ما حولها كأنها تخشى أن تكون لتلك الشجرة آذان تسمعهم وتشي بهم وقالت: «صحيح؟! من قال لك ذلك؟»
قال: «جاءنا الخبر من جاسوس لنا في يلدز، وقد علمنا منه أن الرعب ملأ قلب عبد الحميد لما علم أن الضباط ينتظمون في هذه الجمعية المقدسة، وأيقن أن الجيش لا يلبث أن ينقلب عليه، فعمد إلى التنكيل بهم فاستقدم ناظم بك إليه ورفع رتبته وزاد راتبه وزوده بالأوامر المشددة للبحث عن رئيس الجمعية وأعضائها العاملين، ووعده بهبات جزيلة إذا هو استطاع كشفها.»
وهنا قالت له توحيدة والدة شيرين: «اسكت يا عزيزي، إن للشجر آذانا، وقاك الله كيد الكائدين!»
فقالت شيرين: «لله در أبيك! فلولاه لم تعمد الجمعية إلى هذه الخطة.»
قال: «بل لله در ذلك الثاوي في الطائف المقتول ظلما وعدوانا! إنها وصيته قبل موته أودعها أذن أبي فحملها إلى الأحرار، ولكن آه! أين أنت يا أبي؟! وأين بقية الوصية، لعلها تنفعنا اليوم؟»
صفحة غير معروفة
فقالت توحيدة: «يكفي يا بني. إن الحديث قد طال فاحتفظ بسرك، وإني أنبهك إلى شيء طالما نبهتك إليه، احذر أن تذكر شيئا من هذا القبيل أمام طهماز والد شيرين، فإنه ضعيف الإرادة بسيط القلب إلى حد لا يؤمن معه أن يستميله بعض الجواسيس ويعرف منه خبرك. إن طهماز قوي البدن لكنه ضعيف الإرادة.» قالت ذلك وتنهدت. •••
كانت الشمس قد غربت وأخذ خدم الحديقة في إنارة القناديل، والناس يتزاحمون دخولا وخروجا، ولاحت من شيرين التفاتة فرأت أباها قادما فصاحت: «هذا أبي قد جاء!»
قالت ذلك مظهرة البغتة لتنبه رامزا إلى قدوم أبيها، فالتفت رامز فرأى طهماز ومعه شاب يعرفه من أيام المدرسة حسن البزة قد أرخى لحيته على الطراز التركي، وعلى عينيه نظارة مذهبة، وقد ارتدى ثوبا أسود تعلوه «الستامبولينا» التي يلبسها الأتراك في المواقف الرسمية. ورأى طهماز يحادث الشاب ويلاطفه، فلما اقتربا منه تقدم رامز لملاقاة صديقه ورحب به وقدمه لشيرين ووالدتها قائلا: «صديقي صائب بك.»
فلما رأته شيرين نفرت منه وبان الانقباض في عينيها، لكنها تجلدت تأدبا وحنت رأسها احتراما. أما أبوها فكان كبير الجسم كبير الرأس، واسع الفم غليظ الشفتين معروفا بين أهله ومعارفه بقوة الساعدين، يلبس ثوبا واسعا أشبه بما يلبسه أهل الأناضول، وقد بلغ من قوته أنه يستطيع أن يرفع الرجل بيده الواحدة ويرميه إلى الأرض، وكان كثير الإعجاب بقوته، وهي الهبة الوحيدة التي وهبته إياها الطبيعة لأنه كان ضعيفا فيما خلا ذلك. وكان بطينا نهما لا تكاد تراه إلا وفي فيه شيء يمضغه، وكان ساعتئذ يأكل كعكة ابتاعها في الطريق. فلما دنا من امرأته وابنته ألقى التحية ببرود، ولم يسلم عليهما إلا ليقدم لهما صديقه صائب بك، فرحبتا به. فصفق صائب بك لخادم الحديقة طالبا أن يأتي ببعض المشروب، فاعتذر رامز بأنه لا يشرب شيئا وكذلك فعلت شيرين وأمها، فأبى إلا أن يفتح زجاجات البيرة والكازوزة ويدعوهم أن يشربوا فكان أكثرها من نصيب طهماز.
وفي أثناء ذلك اجتهد صائب بك أن يستلفت انتباه شيرين إلى حديثه بما أخذ يقصه من أحاديث نفوذه في دوائر الحكومة، وما أتاه من الجرأة على كبار المقربين مثل عزت باشا وتحسين باشا وغيرهما، وأنهم يخشون بأسه ويهابون جانبه، وأنه طالما انتقد رجال الحكومة على مسمع منهم.
على أن شيرين لم تزدد إلا نفورا منه، ثم تظاهرت أنها أحست بالبرد فوافقتها والدتها على ذلك التماسا للنهوض، فاستاء طهماز وقال: «ألم تشعروا بالبرد إلا الآن، وأنتم هنا من ساعات؟!» قال ذلك بخشونة تعودتا سماع مثلها منه، فلم تنبسا بكلمة.
أما صائب فالتفت إلى رامز وقال له: «إني لا أنسى الأيام التي قضيناها معا في المدرسة. إن أيام الصبا ألذ أيام الحياة. هل تذكر من كانوا معنا؟»
فلم ير رامز بأسا من مسايرته فقال: «كان معنا كثيرون، أذكر منهم نيازي و...»
فقطع صائب كلامه قائلا: «نيازي؟ أظنه الآن ضابطا في الجندية.»
قال: «نعم.»
صفحة غير معروفة
قال: «ولماذا لم تنتظم أنت فيها؟»
قال: «لأني لم أوفق إلى ذلك، وليس في استعداد لها على ما أظن.»
قال: «إذا شئت فإني أتوسط لك في خدمة، إن لم تكن في الجندية ففي غيرها. أنت تحب العلم والأدب، ولك معرفة جيدة باللغات، لأني أذكر تقدمك على أقرانك، فإذا شئت وجدت لك منصبا في المدارس أو في الداخلية أو غيرها. لا يثقل عليك أن تطلب مني كل ما تريده، إن هذا هين علي، ونحن أخوان لا تكليف بيننا، وقد وعدت سيدي طهماز بك برتبة ستأتيه بعد أيام قليلة.»
فلما سمعت شيرين ذلك شعرت كأن أحشاءها تتمزق، فوقفت وهي ترتعد وتظهر أنها ترتجف من شدة البرد، والحقيقة أنها ترتعد غيظا من ذلك الثقيل، فوقفت ووقفت والدتها معها ووقف رامز، فلم يجد صائب بدا من الإذعان، وضرب على المائدة بعصا قبضتها من ذهب تلمع في النور، فأتى الخادم (الجارسون) فدفع إليه ليرة عثمانية ولم ينتظر أن يرد إليه الباقي، فانحنى الجارسون إلى الأرض. ونهض صائب وطهماز، ومشوا يلتمسون الخروج من الحديقة، وقد دنا وقت العشاء وأخذ الناس ينسلون من الحديقة. •••
انصرف صائب على أثر خروجهم من الحديقة، بعد أن ودعهم وأطال النظر إلى شيرين وهي تتجاهله، وودعه طهماز وداع الصديق الحميم. أما رامز فرافق شيرين وأبويها، وفي أثناء الطريق خاطبته شيرين بالفرنسية وشكت له نفورها من صائب، وأوصته أن يبتعد عن صحبته، فقال: «وما الذي يهمني منه؟»
قالت: «إني شعرت بنفور منه، ورأيت الشر ينبعث من وراء نظارته، ولا يبعد أن يكون جاسوسا.»
قال: «فليكن ما شاء.»
وبعد قليل وصلوا إلى طريق عرج منه رامز إلى منزله بعد أن ودعهم، وقال لشيرين بالفرنسية: «إني ذاهب إلى المنزل لأكتب مقالة الليلة.» فقالت له: «سر في حراسة الله!» وتواعدا على أن يأتي في الغد ليقرأ لها ما كتبه ويتغدى معهم.
أما صائب فلم يفته ما أضمرته شيرين من بغضه فشبت الغيرة في قلبه، وركب مركبة سارت به إلى الفندق الذي كان نازلا فيه. وقضى معظم الطريق مستغرقا في الهواجس وقد أخذت شيرين بمجامع قلبه، وكان قد لمح إلى أبيها بإعجابه بها، فأظهر هذا ارتياحه لذلك طمعا فيما وعده به من الرتب.
ووصلت به المركبة إلى الفندق وهو لا يزال تائها في بحار الفكر، فلما وقفت انتبه لنفسه وتحول وهو يفكر في رامز وشيرين، وكلما تصور عيني شيرين ومبسمها خفق قلبه. وكان قد شاهدها مرارا من قبل وافتتن بجمالها فصبر حتى لقي أباها وملكه بأسلوبه ودهائه وصار له أمل في نيلها، فذهب معه وهو يرجو أن يرى منها انعطافا، فلما رآها تجافيه وتلاطف رامزا شبت نار الغيرة في قلبه.
صفحة غير معروفة
ولم يصل إلى غرفته في الفندق حتى كان رأيه قد استقر على التنكيل برامز، فأخذ يخلع ثيابه وهو يحدث نفسه قائلا: «أراها تستخف بي، وما علمت أني قادر أن أحرمها من ذلك الشاب المغرور الذي يعد نفسه من الأحرار. إنه يحسب أمره مجهولا وفاته أني أعلم الناس به، وأني أقدر بكلمة أخطها على أن ألحقه بقاع البوسفور، أليس عضوا في الجمعية السرية الناقمة على السلطان؟ ماذا يكون شأنه لو رفعت ذلك إلى أولي الأمر؟ إني فاعل الساعة.»
وكان قد فرغ من تبديل ثيابه، فتناول قرطاسا وقلما وأخذ يكتب تقريرا عن رامز وأعماله ضد الحكومة، وأنه من أعداء الذات الشاهانية. وقضى الليلة في كتابة ذلك التقرير، ثم خرج في الصباح مبكرا فقصد إلى ناظم بك ذي العلاقة المتينة بالقصر وقال له: «قد كشفت للذات الشاهانية عن شاب عنده كل أسرار الجمعية، وهذا تقريري الذي كتبته في هذا الشأن، فأطلب إليك باسم جلالة البادشاه أن تقبض عليه وتحبسه وتبعث إلى القصر بخبره تلغرافيا، وهذه صورة التلغراف: عثر صائب بك على أحد كبار أعضاء الجمعية الجهنمية، وقد قبضنا عليه وننتظر الأمر في شأنه ...»
فبعث ناظم بك إلى سامي بك رئيس البوليس ليقبض على رامز ويضبط أوراقه حالا، وأرشده إلى منزله، وبعث صائب بك بتقريره مسجلا إلى القصر.
وكان رامز قد قضى ليله في كتابة المقالة المشار إليها، وتأخر في الفراش فما شعر إلا والبوليس يحيط بمنزله، فأيقظوه ودخلوا الغرفة وقبضوا عليه وعلى خادمه، وجمعوا ما عنده من الأوراق فجعلوها في ظرف كبير وختموها وقادوه إلى القصر وحجزوه فيه، فتأكد رامز أنها فعلة صائب فلم ير بدا من الصبر.
أما صائب فكان على موعد مع طهماز في ذلك الصباح في أحد المقاهي، فذهب في الوقت المعين كأنه لم يفعل شيئا، فوجد طهماز في انتظاره، فقال له: «كيف فارقت رامزا؟»
فهز رأسه وقال: «فارقناه بعد ذهابك بقليل.»
فأصلح صائب نظارته على عينيه، وحك لحيته، ثم أخذ يلاعب عصاه بيده، وقال: «إنه شاب لطيف، لكنه كثير الغرور بنفسه، فعسى ألا يجر غروره ضررا عليه أو عليكم، لأن الجاهل عدو نفسه. وقد كنت ولا أزال راغبا في مساعدته إكراما لبيتكم، لأنه ينتسب إليكم على ما أظن.»
قال: «نعم، هو ابن أخت توحيدة، ولكنه كما قلت طائش.»
قال: «إذا كان طيشه يقتصر على ضرر نفسه فذلك هين.»
قال طهماز: «وما الذي يهمنا منه؟»
صفحة غير معروفة
قال: «أراه يحب التقرب منكم فوق القرابة التي ذكرتها.»
فضحك طهماز، وكان خادم المقهى قد أتاهما بالقهوة، فتناول الفنجان ونهل منه نهلة وقال: «يظهر أنه يطمع في شيرين، ولكنني لا أزوجها لرجل لا عمل له.»
فمد صائب يده إلى جيبه وأخرج علبة للسجائر مذهبة، وأخذ منها سيكارة مذهبة من أحد طرفيها ودفعها إلى طهماز وهو يقول: «إن شيرين تستحق رجلا نبيلا، فإنها والحق يقال كاملة الأوصاف.»
فتناول طهماز السيكارة بكف كالمدراة، وقال وهو يشعلها من عود قدمه له صائب بك: «وأنت كامل الأوصاف يا صائب بك»، وضحك.
فتنصل صائب بك من مغزى هذا التعريض وقال: «إني أجل الفتاة، وأراها تستحق من هو أحسن مني.»
فقال طهماز: «إنها لا تطمع في أحسن منك يا سيدي .»
فأجابه صائب بك: «كل شيء نصيب.» وأظهر أنه يريد تغيير الحديث تواضعا فقال: «قد أرسلت تلغرافا إلى صديقي عزت باشا أطلب منه رتبة تليق بشأنك، وإذا رأيت رامزا يرضى خدمتي فإني أوصي به ليحصل على منصب.»
فأعجب طهماز بأريحية صائب وقال: «سأخاطبه في ذلك لعله يرضى، وهو مدعو عندنا للغداء، تعال لنتغدى معا.» فقبل صائب الدعوة شاكرا.
بين شيرين وصائب
باتت شيرين تلك الليلة ونفسها تحدثها بشر تتوقعه. وكذلك شأن المرأة، فإنها كثيرا ما يدلها شعورها على أمور لا يدركها الرجل إلا بإعمال الفكر والقياس العقلي، أما هي فتشعر وتحكم بناء على شعورها بلا برهان، ويصدق حكمها في أكثر الأحيان.
صفحة غير معروفة
قضت معظم الليل في الهواجس وما طلع النهار حتى أخذت تنتظر مجيء رامز، وقد سرها خروج أبيها مبكرا ليحلو لهما الاجتماع، ولم يكن وجود والدتها يعكر عليها صفو ذلك الاجتماع لأنها كانت مستودع أسرارها، وهي تحب رامزا حبا كثيرا وتعده بمنزلة شيرين لأنه ابن أختها.
ودقت الساعة العاشرة ولم يأت رامز، فزادت دقات قلب شيرين، وصارت تنتقل من النافذة إلى الشارع، ومن الباب إلى الدهليز، ثم تعود فتقعد، فإذا سمعت مشيا نهضت تظن رامزا قادما مع أنها تعرف خطواته دون خطى سائر الناس، ولكن القلق أذهب رشدها. فلما دقت الساعة الحادية عشرة ذهبت إلى والدتها، وكانت تساعد خادمتها في شئون المطبخ ليكون الطعام حاضرا في الظهر، وإلا غضب زوجها وأسمعها كلاما فظا. فلما رأت شيرين داخلة بادرتها قائلة: «هل أتى رامز؟»
فكان لهذا السؤال وقع شديد انفجرت له عواطفها فقالت: «لا، لم يأت»، وغصت بريقها.
فاستغربت توحيدة اضطرابها وقالت: «لم يفت الوقت، إن الظهر لا يزال بعيدا، لا تقلقي.»
قالت: «أعلم ذلك، ولكن ...» وسمعت حركة في الدار فأصغت فإذا هي خطى أبيها، فأملت أن يكون رامز معه، فخرجت لملاقاته فوجدت أباها وحده داخلا يتمايل عجبا بقوته وقد زادته مواعيد صائب بالرتب إعجابا بنفسه، فلما أقبل على شيرين حيته فرد التحية وابتدرها قائلا: «ألم يحضر الغداء؟ أين والدتك؟»
قالت: «هي في المطبخ تعده.» وهمت أن تسأله عن رامز فغلب عليها الحياء، فذهبت إلى والدتها وحرضتها على سؤاله.
فخرجت توحيدة من المطبخ وهي تجفف يديها بمئزرها وتصلح ذيل ردائها، وتأمر الخادم أن يهيئ المائدة لأن الطعام قد أعد، لعلمها أن ذلك يشرح صدر زوجها، فقابلها ضاحكا فقالت: «ألم يأت رامز معك للغداء؟»
قال: «لم أره اليوم.»
قالت: «دعوته أمس للغداء معنا، وها هي ذي الساعة قد دقت الثانية عشرة ولم يأت!»
قال: «لعله استغرق في النوم وبعد قليل يأتي، لا تخافي.»
صفحة غير معروفة
قال ذلك وهو يحل سيور حذائه، وقد أسرع إليه الخادم يساعده.
فلما سمعت شيرين قوله «لا تخافي» أدركت أنه يقول ذلك تهكما، فالتفتت إلى والدتها فرأتها تفهم مرادها، فقالت توحيدة: «لست خائفة، وما الباعث على الخوف؟»
قال: «أما الباعث على الخوف فإنه موجود، لأن رامزا يتعرض لأمور كثيرة لا تعنيه ولا تنفعه وقد تضره، وإذا خاطبه أحد في سبيل مصلحته استخف به.»
ففهمت شيرين أنه يشير إلى حديث أمس، وأن أباها ناقم على رامز استخفافه بصائب، فتحولت من بين يدي أبيها إلى غرفة قريبة، وجلست تسمع صوته ولا تراه، فسمعت والدتها تقول له: «هذا شأنه، وهو يعرف حسابه.»
فقال بصوت عال: «ولكن تردده إلى بيتنا يوقع الشبهة علينا.»
فعلمت توحيدة أن الكلام مع زوجها في هذا الشأن أصبح عبثا بعد أن رفع صوته، وقد تعودت طباعه وعرفت كيف تتجنب غضبه لأنها كانت عاقلة حكيمة، والمرأة إذا عاشرت زوجها زمنا طويلا يجدر بها أن تعرف ما يرضيه وما يغضبه، فسكتت توحيدة وأظهرت أنها مشغولة في المطبخ، فلحقت بها شيرين والدمع ملء عينيها وصاحت بها: «أماه! يا أماه، إن قلبي على مثل الجمر ...!»
فأشارت بأصبعها على فمها أن «اسكتي»، والتفتت إلى الخادم وأمرته أن يذهب إلى مسكن رامز يسأل عنه، فذهب الخادم مسرعا وما عتم أن عاد وقص عليهم أن ناظم بك أرسل جندا للقبض عليه، وأخذه مع أوراقه إلى القصر.
فلم تتمالك شيرين أن لطمت خدها وقالت: «ويلاه! إن قلبي دلني على شر متوقع منذ أتانا ذلك الجاسوس، وها قد صدق ظني.»
أما والدتها فأخذت تخفف عنها لئلا يسمعها أبوها الذي كان في غرفة المائدة واقفا يتناول قدحا من الكنياك قبل الطعام، فلما سمع التهامس صاح بصوت كالرعد: «ما بالكم؟! ماذا جرى؟! هل أتى رامز؟»
فأسرعت إليه توحيدة وقالت: «إن ناظم بك قبض عليه وسجنه وصادر أوراقه.» قالت ذلك وهي تفرك يديها حسرة وأسفا.
صفحة غير معروفة
فضحك طهماز وقال: «هذا ما كنت أخافه عليه لتهوره، ولكن لا تخافي إن صديقي صائبا يقدر أن يخرجه من السجن، لأن ناظم بك يراعي جانبه لنفوذه، وسيأتي صائب بك بعد قليل فقد دعوته للغداء معنا.» •••
وكانت شيرين منزوية في غرفتها، وقد استغرقت في البكاء لعلمها بالخطر الذي يهدد حبيبها، وهي تعلم أعمال رامز ضد عبد الحميد، فأيقنت من تلك اللحظة أن رامزا مقتول لا محالة، فأخذت تندبه. فلما سمعت أباها يطمئن أمها ويذكر صداقة صائب لناظم تنفست الصعداء لحظة، ثم تذكرت أن صائبا أصل هذه المصائب فعادت إلى البكاء. ولكن والدتها أظهرت التصديق، فدخلت عليها وجعلت تخفف عنها قائلة: «يقول أبوك إن صديقه صائبا ينقذه بكل سهولة، وبعد قليل يأتي ونسأله.» قالت ذلك وأمسكت بيد شيرين كأنها تشغلها عن البكاء وهي تعتقد اعتقاد ابنتها، ولكنها أرادت تخفيف حزنها، وهي خائفة عليها لعلمها أن بين أوراق رامز أوراقا لها لا تقل خطرا عن أوراقه، لأنها كثيرا ما كانت تساعده أو تكاتبه بمعنى الحرية والنقمة على عبد الحميد ورجاله.
فاجتذبت شيرين يدها من يد أمها، وغطت بها عينيها وهي تقول: «تسألون صائبا إنقاذه وهو الذي أوقعه، دعيني ... لا أغير اعتقادي فإن قلبي قد دلني.»
وبينما هما في ذلك إذ سمعا وقع حوافر أفراس وقفت عند باب منزلهم، وهرع الخادم لاستقبال القادم، وكان هو صائب بك.»
فقالت توحيدة: «أتى الرجل. تجلدي وقومي للغداء لعله قادر على إنقاذه، وعهدي بك حكيمة واسعة الصدر، فما لي أراك تغيرت؟! لا يبعد أن يكون له نفوذ عند أولئك لأنهم من طينة واحدة. قومي، تجلدي.»
فنفرت وهي تهز رأسها هز الإنكار قالت: «قد فارقني جلدي، دعيني ولا تطلبي مني أن أرى هذا الشيطان وآكل معه، أأستبدله برامز؟!» ونهضت وأخذت تحل أزرارها وهي تقول: «إني مريضة لا أستطيع الجلوس.»
فاستحسنت والدتها أن تمكث شيرين في الفراش لئلا يشاهدها أبوها على هذه الحال فيغضب، وخرجت هي لملاقاة الضيف والترحيب به مراعاة لحق الضيافة وخوفا من غضب زوجها وأملا في النفع على يده، فوجدته قد دخل الدهليز وأخذ يضع عصاه الذهبية على الحامل، فلما رآها أسرع إليها متأدبا وحياها بلطف وانحناء وقد قبض على قفازه بيده الأخرى، ثم تقدم إلى طهماز فحياه وتلطف معه. فدعتهما توحيدة إلى غرفة الاستقبال وهي مفروشة على الطراز الإفرنجي فدخلا، وجعلت توحيدة ترحب به وتجامله.
واجتذبت شيرين يدها من يد أمها، وغطت بها عينيها.
ثم افتتح طهماز الحديث عن رامز قائلا: «إن خوفنا على رامز كان في محله، وقد بلغني أنهم قبضوا عليه في صباح اليوم وأخذوه إلى السجن، ألم تعلم بذلك؟»
فأظهر صائب البغتة وقال: «هل الذي قبضوا عليه اليوم هو رامز؟! كنت عند ناظم بك منذ ساعة وأخبرني بالقبض على رجل من أعضاء الجمعية السرية، ووجدوا معه أوراقا مريبة أرسلوها إلى يلدز، كما أرسلوا تلغرافا بخبرها، ولم يخطر لي أن الرجل هو صديقي رامز، لا حول ولا قوة إلا بالله!»
صفحة غير معروفة
وكانت غرفة شيرين بجانب حجرة الاستقبال، فكانت تسمع كل كلمة من الحديث، فسمعت أباها يقول: «ولكن رامزا ابننا، وأنا أعد نفسي بمنزلة أبيه، وهو أيضا صديقك، ألا تقدر على تخليصه من هذه الورطة؟»
فقال وهو يمشط لحيته: «لو أخبرتموني في الصباح لكان ذلك هينا علي، أما الآن وقد بلغت أخباره القصر وأرسلت أوراقه إلى الأستانة، فكيف السبيل إلى إنقاذه؟»
قال طهماز: «أنت تقدر يا بك.»
فأطرق صائب حينا يفكر ثم قال: «أما إخراجه من سجن سلانيك فقد أصبح مستحيلا، لكنني أبذل جهدي لتخفيف جرمه في الأستانة إذا أمكن، ولكنه سامحه الله لم يدع بابا للمصالحة، أخبرني ناظم بك أن بين أوراقه ما يدخل كثيرين في الخيانة معه، وفيهم امرأة.»
فلما سمعت توحيدة قوله صعد الدم إلى وجهها وظهرت البغتة عليها، لعلمها أن هذه المرأة إنما هي ابنتها وأنها واقعة في الفخ لا محالة، ولكنها تجلدت وأصغت لعلها تسمع شيئا جديدا، وودت لو أن ابنتها مستغرقة في النوم حتى لا تسمع ذلك. ونهضت تظهر أنها تريد مخاطبة الخادم لإعداد المائدة ودخلت إلى غرفة ابنتها، فرأتها مستلقية وقد أصاخت بسمعها، فحالما أقبلت عليها قالت شيرين: «لقد سمعت كل شيء.»
قالت: «هل سمعت آخر فقرة؟»
قالت: «تعنين اتهام امرأة مع رامز؟ نعم، سمعت ذلك، وهذا عزائي الوحيد، لأني عند ذلك أحمل إليه فإما أن نموت معا وإما أن نعيش معا، هل أنا خير منه؟»
فيئست أمها وازداد حزنها لأنها كانت تحسب اتهام ابنتها، والأمل في النجاة على يد صائب، مما يجعلها تلين وترضى بمخاطبته لعله ينقذها. ولا شك في أنها تحب رامزا ولكن حبها لابنتها في المكان الأول، فقالت: «نعم، يشق علينا وقوع عزيزنا رامز في الخطر، ولكن هل نلقي بأيدينا إلى التهلكة؟ وإذا كان في إمكاننا تخليصك فكيف لا نفعل؟ ولعلنا ننجي رامزا أيضا.»
فقطعت شيرين كلامها قائلة: «تريدين إنقاذي على يد هذا الجاسوس؟ وهل صدقت زعمه أنه لم يكن يعلم وهو الذي وشى به؟ أنا لا أريد نجاتي على يده، بل أريد أن يؤكد تهمتي لأشارك رامزا في حظه.» قالت ذلك واستلقت على سريرها وغطت وجهها بزندها، فتركتها والدتها وتوجهت إلى المطبخ وأمرت الخدم بإعداد المائدة، وأتت إلى زوجها فوجدته يتهامس مع صائب وهو يضحك، فلما رآها سألها عن الطعام فقالت: «تفضلوا إلى المائدة.»
فنهضوا فغسلوا أيديهم، وصائب يتوقع أن يرى شيرين قادمة إلى المائدة، فلما جلسوا ظل كرسيها فارغا فقال: «إني لا أرى شيرين معكم، أرجو أن تكون في خير حال.»
صفحة غير معروفة
فقالت والدتها: «إنها تشكو صداعا أليما لم يفارقها من الصباح.»
فقالت طهماز: «ادعيها، لا بأس عليها!»
قالت: «ألححت عليها كثيرا، وأنا آتية من عندها الساعة، فلم تقدر أن ترفع رأسها، واستولى عليها البكاء من شدة الألم.» قالت ذلك حذرا من أن ينهض أبوها فيراها باكية ويتهمها بشيء آخر.
فقال صائب: «لا بأس عليها! هل علمت بحادث رامز؟ لا شك أنها تأسف كثيرا له. سامحه الله! ما كان أغناه عن تلك الأعمال الصبيانية.»
وكان الطعام قد حضر وصب في الأطباق، واستغرق طهماز في الالتقام والمضغ فوضع صدر دجاجة كما هو في فيه، ولما سمع كلام صائب هم أن يجاوبه ولكن فمه مملوء، فاستمهله بأصابعه ريثما يبلع بعض اللقمة، ثم قال وهو يقطع الخبز ويهيئ لقمة أخرى: «كثيرا ما نصحته فلم ينتصح. إن شبان هذا الزمان لا يعجبهم العجب، لا يعجبهم سلطاننا - أيده الله - مع أنه من أحسن سلاطين آل عثمان، هل كان عبد العزيز أحسن منه؟ إنه لا يفوته وقت الصلاة مطلقا، وفي الأستانة ألوف من الناس عائشون من بقايا مطبخه، فلو أقفلت يلدز الآن لمات هؤلاء جوعا. ثم كيف يستطيعون مقاومة خليفة الرسول؟ كان ينبغي أن يكون لهم عبرة بالذين تقدموهم من أمثالهم الشبان المغرورين وكيف كانت عاقبة أمرهم، ماذا ينالهم من هذا العناد غير العذاب؟ ألا يرضون أن يعيشوا كما عاش آباؤهم وأجدادهم؟» وقد اختصر طهماز خطبته البليغة لئلا تضيع عليه لقمة وعاد إلى الأكل.
فقال صائب: «أنا لا ألوم الأحرار على التشكي من الخلل فإنه موجود، لكنني ألومهم لاستعمال العنف في مساعيهم كعمل المكايد لقتل الخليفة أو أعوانه والكتابة الشديدة في الجرائد الأجنبية. هذا لا يفيد، ولا بد من استعمال التؤدة.»
وكانت شيرين تسمع قوله، وتكاد تثب من السرير لتجاوبه، لكنها صبرت نفسها وسكتت. •••
ولما فرغوا من الطعام تناولوا القهوة، ونهض صائب للانصراف فودع طهماز وزوجته ودعا لشيرين بالسلامة، وركب عربته وانصرف.
ودخل طهماز لمشاهدة ابنته فرآها نائمة فتركها وذهب للقيلولة، ولم تمض بضع دقائق حتى ملأ شخيره البيت. أما توحيدة فلم تنم لما تولاها من القلق على ابنتها، فضلا عن خوفها على رامز.
وفي الأصيل نهض طهماز، وبعد أن تناول القهوة نادى امرأته إلى غرفته فأتت وهي تقول في نفسها: «ما الغرض من هذا الطلب يا ترى؟» فلما دخلت عليه دعاها للجلوس إلى جانبه فجلست، فقال لها: «بعد قليل يأتي صائب بك، ماذا نقول له؟»
صفحة غير معروفة