فصافحتها شيرين وتفرست فيها فرأت الجمال لا يزال باديا في محياها وملامح الألبانيين ظاهرة فيها، فأحست بارتياح لرؤيتها، وتحركت لتهيئ لها مجلسا فإذا بالقادين تخاطبها قائلة: «قد دعوتك لأعرفك إلى ضيفتنا ولكي تساعديني في تهيئة ما يسرها، فدبري ما ترينه.»
فذهبت قطينة ولم يمض يسير حتى جاء المهرج فدنا من القادين ورفع يده بالتحية العسكرية، ثم أشار بعينيه نحو شيرين إشارة استفهام مع مداعبة، فقالت له القادين: «هذه ضيفتنا، ينبغي لنا أن نسرها وننسيها الوحشة، فإذا كنت لا تستطيع ذلك فامض بسلام.»
فأدار عمامته حتى مالت على أذنه اليمنى وقال: «أول الكلام خصام؟ إن لم يعجب هذه الجميلة كلامي فلا بد أنها تضحك من رشاقة قوامي وحسن هندامي . ولكن إذا أمرت مولاتنا بمن يغنين أو يرقصن كان ذلك أدعى إلى السرور.»
فأعجبها ذكر الرقص والغناء فأشارت إلى الخازنة إشارة خاصة، فغابت هذه قليلا ثم جاءت ومعها فتاة طويلة القامة في زي خاص بالراقصات وحول زنديها الأساور والدمالج، تحمل دفا تنقر عليه وترقص، ومعها عوادة أخذت تسوي عودها وقد جلست الأربعاء على البساط، وجعلت تنقر نقرا يناسب حركات الرقص. وبذلت كل واحدة جهدها في إتقان ما عهد إليها، والقادين تلاطف شيرين بالحديث عن حركات الرقص أو ألحان الغناء وأكثره من اللحن التركي والروسي، وشيرين تظهر امتنانها من ذلك التلطف. لكن القادين أدركت بفراستها أن ذلك لم يشغلها عن هواجسها، فأشارت بإخراج القوم وقالت لشيرين: «يظهر أنك لم تطربي لهذه الأنغام، إن عندنا جارية تقلد كل أصوات الحيوانات الأهلية كالديك والكلب والماعز وغيرها.» وأومأت إلى جارية سوداء هناك فسمعت شيرين صوتا كأنه صياح الديك، فأجفلت والتفتت إلى جهة الصوت فرأت جارية قادمة تحمل ببغاء فظنتها تحمل ديكا، فلحظت القادين أنها تتوهم ذلك فقالت: «أظنك تحسبين ديكا يصيح؟ إنه صوت تلك الجارية.» وأشارت إليها فجاءت وهي تقلد الديك في مشيتها، ثم غيرت مشيتها إلى ما يشبه الكلب وأخذت في العواء، ثم قلدت الفرس والحمار، وقد علت القهقهة فشاركتهم شيرين، ولكن ذلك كله لم يصرفها عن التفكير في رامز ورغبتها في معرفة مكانه، وكانت لما رأت رغبة القادين في مؤانستها قد عزمت على استخدامها في استطلاع خبره أو الوصول إليه.
ولم تكن القادين من المنهمكات في اللهو أو اللعب مثل سائر نساء القصر، ولكنها قلدتهن فيما يرغبن فيه من القصف، ولو تركت لنفسها لكانت أقرب إلى الرزانة والتعقل والدهاء، ولكن للوسط تأثيرا في الأخلاق والأطوار، وما دار النساء في يلدز إلا ملهى لعبد الحميد لا يأتيه إلا إذا أراد أن يلهو، فتتجه الأفكار إلى هذا الغرض. وما بالك بنساء لا عمل لهن غير الأكل والشرب وهن في الغالب جاهلات؟ ففيم يقضين أوقاتهن إن لم يكن في اللعب والغناء والرقص وتربية السنانير والطيور ، والتعلل بالأكل والمضغ أو الأحاديث الفارغة عن الجان والعفاريت؟! ذلك كان شأن النساء في يلدز إلا القادين ج فإنها كانت أقربهن إلى الرزانة والتعقل، فأدركت أن شيرين لم يفرحها ذلك العمل فأمسكت بيدها وأنهضتها وهي تقول: «هلم بنا إلى غرفتي.» •••
نهضت شيرين ومشت حتى دخلت دهليز القصر، وشاهدت ما هناك من التحف الثمينة والفرش الوثير، وتذكرت أن عند عبد الحميد اثنتي عشرة قادين لكل منهن قصر مثل هذا بفرشه وأثاثه وخدمه وخصيانه، غير قصوره الأخرى وغير ما في يلدز من منازل الحاشية والياوران والمشايخ وغيرهم، وناهيك بالحراس الألبان. فلم تعد تستغرب ما كانت تسمعه من الأحرار في عرض انتقادهم من أن في تلك القصور خمسة آلاف من النساء والجواري والخصيان والياوران، وسبعة آلاف جندي من الألبان، وأن نفقاتها 35 ألف جنيه في الشهر، وأنهم يهيئون كل ليلة 1700 مائدة تفرق في القصور وغيرها، ويبقى من الأطعمة ما يقتات به مئات ثم يوزع باقيه في بعض العائلات.
فلما تصورت ذلك أسفت لما يتنعم به الظالمون من أموال المظلومين، وعجبت كيف يسود رجل سفاح كعبد الحميد فيقبض على رجل حر نزيه كرامز وأمثاله. وأحست عند تذكرها رامزا بقشعريرة، وانتفض جسمها خوفا عليه لئلا يكون قد أصابه سوء، وعزمت على أن تخاطب القادين بشأنه في أول فرصة. فلما وصلتا إلى غرفة القادين الخاصة دعتها هذه إلى الجلوس على مقعد مطعم بالعاج بين يدي سرير مذهب يحيط به الستائر المطرزة، وقد فرشت تلك الغرفة بأحسن ما تفرش به غرف الرقاد من السجاد والستائر. وفي صدر الغرفة موقد التدفئة وعليه ساعة مذهبة.
فجلست شيرين على المقعد بجانب نافذة تطل على الحديقة الداخلية وتشرف على البوسفور عن بعد، وجلست القادين إلى جانبها وهي ترحب بها وتتلطف في مجاملتها، ثم دعتها إلى تبديل ثيابها وهمت بأن تطلب من الأوسته باشي إعداد بدلة فاخرة، فاعتذرت شيرين بأنها تشعر بتعب وربما بدلت ثيابها بعد ذلك. وجلست إلى النافذة وأطلت إلى الحديقة فرأت ما يسرح هناك من الطيور وأكثرها من الحمام، فاستغرقت في هواجسها وانقبضت نفسها وتلألأ الدمع في عينيها، والقادين تراعيها وتتوقع فرصة تفتتح بها الحديث، فلما رأت انقباضها قالت: «ما لك يا عزيزتي؟ إني أراك منقبضة النفس، وإذا كان دخولك هذا القصر قد ساءك فإني لا أحملك على البقاء فيه قهرا.»
فخجلت شيرين من هذا التوبيخ اللطيف وابتسمت وقد توردت وجنتاها من الحياء، وقالت: «العفو يا سيدتي، إني هنا منذ بضعة أيام ولم أشعر بأنس وراحة كما شعرت في هذا اليوم منذ رأيتك. والحق أنك معدن اللطف والأنس.»
فقالت: «إذن ما لي أراك منقبضة النفس على هذه الصورة؟»
صفحة غير معروفة