الانقلاب العثماني

جرجي زيدان ت. 1331 هجري
108

الانقلاب العثماني

تصانيف

ويلي الباش أغا من الخصيان طبقة المصاحبين، واشتهر منهم جماعة كبيرة كان لهم شأن في زمن عبد الحميد. •••

دخلت شيرين قصر القادين ج، فبهرها ما فيه من الرياش الفاخر الثمين، واستغربت كثرة من فيه من الخدم والخصيان والجواري، ومشى بها الأغا حتى أدخلها القصر، ونساؤه وجواريه يرفلن في الألبسة الفاخرة بلا حجاب ولا نقاب، وفيهن البارعات الجمال، ولا غرو فإنهن منتقيات من ألوف الجواري حملن للاتجار بالجمال وخصصن لرضى سلطان آل عثمان صاحب الشوكة والاقتدار في ذلك العهد، والناس يتسابقون إلى الارتزاق بما يرضيه.

لم يقع نظر شيرين على أجمل ممن هنالك، ولم تكن تجهل الغرض من جمعهن هناك فتألمت في نفسها، لكنها شغلت بالنظر إلى من بين يديها من الفتيات، كما شغلن بها وإن نفرن منها لأنها غريبة، وكن أكثر استئناسا بالعبيد والخصيان منهن بها رغم ما في وجهها من الدعة واللطف، إذ يندر أن يدخل تلك القصور أحد من الغرباء.

وصلت شيرين إلى قاعة في ذلك القصر كانت القادين ج قد اتكأت فيها على مقعد مكسو بالسجاد، وتمددت بغير كلفة أو حذر، وبين يديها المهرج المضحك وغيره من الخصيان الذين أتقنوا بعض أسباب اللهو من الألعاب ونحوها.

فلما أطل نادر أغا على تلك القاعة وشعر الجواري والخصيان بقدومه، تنافروا وتفرقوا في دهاليز القصر تهيبا من سيدهم وولي أمرهم. أما القادين فلما أنبئت بقدوم الباش أغا اعتدلت في مجلسها وابتسمت له، فدخل وحيا وأومأ إلى شيرين كأنه يقدمها لها وقال: «أقدم لك هذه الفتاة واسمها شيرين، وقد أمر مولانا البادشاه أن تكون ضيفتك مبالغة في إكرامها ورغبة في استئناسها.»

فتحفزت القادين للقيام إظهارا لاحترامها أمر الخليفة، وقالت: «كلنا عبيد أمير المؤمنين غارقون في نعمه وآلائه.» والتفتت إلى شيرين ومدت يدها فصافحتها وأمرتها بالجلوس، وقالت: «لقد أتيت أهلا ووطئت سهلا، انزلي على الرحب والسعة.»

فخجلت شيرين من هذا الإطراء، واستأنست بالقادين وكادت وحشتها تذهب. أما نادر أغا فإنه تحول عنهما وهو يقول للقادين: «لم تبق حاجة إلى التوصية بعد أن أخبرتك برغبة أمير المؤمنين.»

وحالما خرج تراجع الجواري من الدهاليز إلى الدار وهن يتضاحكن ويتغامزن وبينهن البارعات في الجمال، وقد أرخين شعورهن على غير كلفة، وبعضهن اختص بحمل ما تلهو به القادين لقتل الوقت؛ فإحداهن وكلت بتربية ببغاء جميل اللون أتقن التقليد، وأخرى تلاعب قطة جميلة من قطط أنقرة الحسنة الشعر الجميلة الألوان، وأخرى تحمل ورق اللعب أو غيره من أسباب اللهو. ولما رأين شيرين أخذن يتفرسن فيها ويتساءلن من عسى أن تكون وليس عليها ثياب الجواري أول قدومهن، ولا عهدنها في القصر من قبل، ولا هي كوزده ولا إقبال. على أنهن لبثن ينتظرن ما يبدو من أمرها وهن لاهيات مسرورات، إلا القادين فإنها مع ما أظهرته من البشاشة والاستئناس بضيفتها كانت الهواجس مستترة بين حناياها لما قام في نفسها من الشك في حب عبد الحميد لها، رغم ما أظهره بالأمس من رجوعه إلى سابق عهدهما. ولم يفتها أنه إنما أظهر ذلك تملقا لها حتى يقضي ما في نفسه، لكن حبها له كان يخدعها حتى تصدق دعواه وتتوهم أنه يحبها، وما زالت ترجو نيل بغيتها وتقديمها متى وضعت حملها، فإذا كان غلاما ارتفعت منزلتها.

أما شيرين فلما رأت ما يحدق بها من أسباب اللهو والقصف نفر قلبها من تلك الحالة، لكنها تجلدت وسكتت. وأحست القادين بوحشتها وهي تريد أن تتملقها للغرض المقصود من مجيئها خدمة لأغراض مولاها، فهشت لها وقالت: «أراك تحسين بالوحشة لأنك في وسط لم تتعوديه، لكنك لا تلبثين أن تألفيه. وقد سرني اختصاص أمير المؤمنين هذا القصر بنزولك فيه إذ جعلك ضيفة علي، وهذا من حسن حظي. وأرجو أن تتحققي سروري بقربك لما أقرأ في محياك من آيات اللطف والذكاء، فعسى أن تكوني سلوة لي في وحدتي. والآن ينبغي لي أن أبذل جهدي في تسليتك.» وأومأت إلى جارية جاثية بقرب مقعدها تلاعب قطة جميلة، فنهضت ودفعت القطة إليها فتناولتها القادين وأدنتها من خدها، وجعلت تتلذذ بنعومة شعرها إذا لمس خدها وهي تخاطب الجارية قائلة: «أحب أن أرى الخازنة.»

فأسرعت الجارية ثم عادت والخازنة وراءها، وهي امرأة كهلة كانت القادين تحبها وتثق بها وتعول عليها، وأصلها من ألبانيا وطن شيرين، وقد جيء بها إلى يلدز وشبت هناك وارتفعت حتى صارت خازنة القادين ج، وكانت هذه تقربها وتركن إليها بأسرارها وتعدها صديقة لها، فأحبت أن تستعين بها على اجتذاب قلب شيرين للغرض المقصود من نزولها هناك. فلما جاءت في تلك الساعة قدمتها إلى شيرين قائلة: «هذه خازنتي وصديقتي قطينة، وهي من بلدك لأن أصلها من جهات مناستير.»

صفحة غير معروفة