ونهض سعيد لمساعدة الرئيس في ترتيب الأوراق ومعرفة أولها وآخرها، وعرف الرئيس خط مدحت فقبله وقال: «هذا خطه رحمه الله!» وعاد إلى الترتيب ثم قال: «إن هذه الوصية مكتوبة على عجل، فأسطرها متقطعة أشبه بالمفكرات منها بالوصية، فأبدأ بما على ظهرها»، وقلب الورقة وقرأ: «الدستور، اطلبوه بالسيف.»
فلم يتمالك أنور أن صاح: «حسن ! بالسيف، بالسيف!» فنظر إليه الرئيس بلطف كأنه يوبخه على مقاطعته، ولم يكن أنور بك ممن يقاطعون بل هو من أعلم الناس بالأصول والقواعد لحفظ النظام، ولكنه سر بمطابقة قول مدحت لرأيه فغلب عليه فرحه فقال تلك الكلمة. أما الرئيس فعاد إلى القراءة فقرأ: «سأذهب ضحية طلب الحرية، ولكنني فرد لا تذهب بذهابه تلك الروح التي أخذت تدب في أنفس العثمانيين وتنتشر في الشبيبة العثمانية، ولا بد أن تزداد انتشارا كل يوم، فموت واحد من الأحرار أو عشرة أو مائة لا يستطيع أن يقف في سبيلها. ولذلك أكتب هذه الأسطر أخاطب بها تلك الروح الممثلة في الشبيبة العثمانية. اثبتوا في طلب الحق فإنكم ستنالونه. لا بد من نيل الدستور لأنه حق، وإن طال الأمد على ضياعه. ولكنني أرشدكم إلى أمور عرفتها بالاختبار الشخصي، ولو عرفتها قبل الآن لم تصل أيدي الظالمين إلي ولا أفلت الدستور من يدي، ولكني وثقت ورفقت فذهب سعيي بين الرفق والثقة، فاحذروا. وهذه وصيتي بالاختصار، فإن الوقت لا يساعدني على التطويل، وأنا مطلوب للوقوف أمام تلك المحكمة الظالمة، ولا ألبث أن يحكم علي بالقتل أو النفي. فأكتب مختصرا:
أولا:
علموا الأمة، رقوا العامة، إن الجهل سبب كل علة. ولا أعني التعليم المدرسي كالصرف والنحو والحساب، ولا الطب والهندسة والقضاء. وإنما أعني تربية الشبان وتدريبهم على الحرية الشخصية واستقلال الفكر وبث روح الوطنية في نفوسهم. وهذا يقتضي تعليم المرأة فإنها روح الأمة، فإذا ارتقت وتثقفت نشأ أبناؤها على مثالها، فالأمة التي نساؤها مثقفات راقيات ينشأ أبناؤها أهلا للحرية ولو لم يتعلموا، فإن القصد التربية، وهذه لا تثبت إلا إذا غرست في الصغر. فأولى وصاياي ترقية الشعب وتدريبه على روح الحرية، ولو كان لهذه الأمة التعسة شيء من ذلك الآن لما رضيت بحل مجلس «المبعوثان» وقتل الدستور وأنصاره، وهي نائمة لا ترفع صوتا ولا تجرد سيفا.
ثانيا:
احذروا الشقاق بين العناصر والأديان. إن الدستور العثماني يحتاج إلى هذه الوصية أكثر منه إلى سائر الوصايا، وذلك لاختلاف العناصر والمذاهب في بلادنا. دعوا التعصب الجنسي أو المذهبي واتحدوا في العثمانية، لا تذكروا الإسلام والنصرانية واليهودية، ولا التركي والعربي والرومي والبلغاري والألباني، غضوا الطرف عن هذه الاختلافات لأنها أكبر سلاح يحاربكم به أعداء الحرية الظالمون، هم يفرقون بين العناصر والمذاهب ليستتب الأمر لاستبدادهم ويأمنوا اجتماع الأيدي على مقاومتهم. كلكم مظلوم وكلكم موتور، إن الظلم لا يخص طائفة دون أخرى ولا مذهبا دون آخر، فاتحدوا.
ثالثا:
اجعلوا معولكم في الدفاع على الجندية، ألفوا الجمعيات السرية وأدخلوا الجند فيها، الجند هم الأمة وبأسيافهم يحمى الدستور وتستقر الحرية. إن لم يكن الجند معكم فسعيكم في سبيل الحرية يذهب عبثا، بالجند حاربنا هذا الطاغية، ولو كانت الجندية معنا لفعلنا كما نشاء، لا تفلح أمة في طلب حق من حكومتها إن لم يكن الجند نصيرها، ويشترط أن يكون متعلما مثقفا. عولوا على الضباط، فإن العساكر يجعلهم الجهل أتباعا لكل ناعق، أما الضابط المتعلم ذو الفضيلة فإنه سيف قاطع. اجعلوا معولكم على الضباط المتعلمين فهم وحدهم يدركون معنى الحرية، وهم وحدهم يحمونها بأسيافهم.
وهنا حدثت تمتمة، ولو أتيح للسامعين الكلام لصاحوا: «لتحي الجندية!» ثم عاد الرئيس إلى القراءة فقال:
رابعا:
صفحة غير معروفة