كانت تسمعه وهي واقفة وراء الباب تمسح الدم من بين فخذيها بفوطة مطبخ قديمة، تندهش لقدرته على تقمص دور الأب، أن ينفصل عما حدث ويعود إلى شخصيته القديمة، أرادت أن ترفع يدها وتصفعه على وجهه، لكن يدها امتدت وأمسكت يده، أرادت أن تقبل يده وتقسم له أنها فتاة شريفة لم يلمسها أحد قبله، لكن يدها تجمدت في الهواء، وقفت عاجزة عن الحركة، عاجزة عن النطق، تحس كأنما هي غير موجودة، أصبح وجودها عبئا عليها أكثر من وجوده. - واقفة كده ليه يا هنادي؟ ولعي السخان بسرعة عشان آخذ حمام، واغسلي ملاية السرير.
ارتجفت أصابعها وهي تشعل عود الكبريت، تدخله في ثقب السخان فينطفئ، تشعل عودا آخر فينطفئ، وأخيرا نجح العود الثالث في إشعال السخان.
رأته يمشي عاريا ويدخل الحمام، أسرعت إلى غرفة نومه، رأت بقع دمها فوق ملاءة سريره، نزعتها وكورتها في يدها كأنما تخفي جريمة، وفي الحوض دعكتها بالماء الساخن والصابون حتى تلاشت كأن لم تكن، سمعته يدندن تحت مياه الدش بلحن لا تعرفه.
جلست على البلاط في ركن المطبخ تحس بالبرودة مع الألم تنفذ إلى عظامها، والدم يسيل من بين ساقيها على البلاط الأبيض، دمها يلوث أرضه النظيفة كما لوث ملاءته البيضاء المكوية، ومياه الدش الغزيرة تغسل جسده الأبيض الناعم من رائحة دمها الفاسد، رائحة الدم تتبعها مثل ظلها، فوق الأسفلت في الميدان، والدم في السجن فوق الأسمنت، والدم في المستشفى، والدم في الزقاق وفي كل مكان، تضع وجهها بين يديها وتبكي من دون صوت، تخشى أن يسمع نشيجها وهو في الحمام، تفكر في أمها فيرتعد جسدها، خرج من الحمام وارتدى البذلة الأنيقة المكوية، وانتقى الجورب الذي ينسجم لونه مع لون ربطة العنق، يتحرك في البيت بخفة، يصفر فمه وهو يمشط شعره كأنما لم يحدث شيء منذ دقائق، وكأنما لم يحطم قلب فتاة صغيرة، وسوف يحطم قلب أمها المكدودة، قبل أن يخرج قال لها: اسمعي يا هنادي اللي حصل حصل، إحنا الاتنين كان لازم نفكر بعقل، لكن نعمل إيه للشيطان، غلطة وفاتت وربنا يغفر الذنوب جميعا إلا الشرك به، مش لازم حد يعرف اللي حصل، عشان سمعتك ومستقبلك.
في الخيم
تكورت أمها سعدية تحت الخيمة فوق الأسفلت، لم تعد تسمع الهتافات المطالبة بالقصاص من القتلة والمجرمين، وبسقوط النظام، لفت ذراعيها وساقيها حول نفسها لتتقي الرجفة التي شملت جسدها وعقلها وروحها، مثل الحمى تجتاحها رغبة ملتهبة في الانتقام الآن في هذه اللحظة من المجرمين جميعا، وعلى رأسهم هذا الرجل الذي يرتدي مسوح القديسين، والذي قضى على حلمها وحلم ابنتها في حياة فضلى، تفك ذراعيها وساقيها فيندفع جسدها خارج الخيمة صارخة اقتلوهم، اقتلوه. ثم يتهاوى جسدها إلى الأرض، تنتفض مثل الفرخة المذبوحة ثم يسكن جسدها من دون حراك، تتلفت حولها في ذهول، لا تعرف ماذا تفعل، ثم تنهض وتدخل الخيمة، تتكور فوق الأسفلت في جوار ابنتها تنشج من دون صوت، لم يكن أحد في الخيمة في أثناء النهار، فالجميع خرجوا في التظاهرات، الشباب والشابات من مختلف المهن والطبقات، والأطفال من مختلف الأعمار وكبار السن من النساء والرجال، ومنهم الكاتبة بدرية البحراوي، تركت بيتها مثل الآخرين وأقامت معهم في الخيمة، تهتف معهم: يسقط النظام.
أصبحت الخيام في ميدان التحرير الملجأ للكثيرين والكثيرات ممن ليس لهم بيوت أو ممن سئموا حياتهم في بيوتهم.
رقدت سعدية تنتفض من الكره المتراكم في جسدها منذ ولدت في الفقر والقهر والهوان، تحاول ابتلاع ريقها الجاف، في حلقها يتجمع الكره مع الرغبة في الانتقام كالغصة، تتحول المشاعر المكبوتة إلى ورح من اللحم يسد حلقها ويمنعها من التنفس، تشهق كأنما تختنق تخرج أنفاسها مثل صوت مشروخ بكلمات متقطعة ... إزاي يا رب تعمل فينا ده كله؟ فين العدل فين الرحمة؟
تذكرت سعدية ما حدث في حياتها، زوجها الحشاش في الغرزة، ابنها المريض يموت بين ذراعيها، ابنتها تنزف في عملية الإجهاض، الطابور الطويل أمام الحنفية في الزقاق، مفاصل ظهرها تئن فوق الأسفلت، تسري الكراهية من حلقها إلى عمودها الفقري، تمشي في عروقها مع الدم مثل رءوس الدبابيس، تنخس ظهرها وبطنها وذراعيها وساقيها.
آه يا رب! إزاي انخدعت في الراجل ده؟ شكله من بره ملاك ومن جوه شيطان؟ دخل السجن عشان الغلابة والمساكين؟ آه يا نصاب، نصبت على الناس كلها حتى على مراتك الأستاذة فؤادة الست الطيبة؟
صفحة غير معروفة